Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
لم تبدأ هذه الاكتشافات على البر الرئيسي، بل على الجزر الموجودة في البحر الكاريبي. ورغم أنه اتضح فيما بعد أنها ليست جزءا من آسيا، فقد سميت المنطقة بأكملها جزر الهند الغربية إشارة إلى اعتقاد كولومبوس؛ فهو إجراء يهدف لإثبات أنه وصل إلى أرض على أي حال، فبعد قضائه شهرين في البحر، بدأ الطعام والماء ينفدان في رحلته الاستكشافية، وكانت الروح المعنوية آخذة في الانهيار. ترجاه الملازمون البحريون في السفن الثلاث التي كان أسطوله الصغير يتكون منها؛ «سانتا ماريا» و«نينا» و«بينتا»، أن يغير مساره ويعود إلى أوروبا، فرفض كولومبوس. حصد ثمار مثابرته هذه في غضون أسابيع؛ إذ رسا على جزيرة أطلق عليها اسما مناسبا هو سان سلفادور. واصل في اتجاه الجنوب الغربي ووصل إلى الساحل الشمالي لكوبا (التي اعتقد أنها اليابان، ثم أطلق عليها سيبانجو). غير اتجاهه وانحرف نحو الشرق، ورسا على جزيرة أطلق عليها اسم إسبانولا أو هيسبانيولا (هي حاليا هايتي وجمهورية الدومينيكان). في هذا الوقت كانت سفينته الأساسية، سانتا ماريا، جنحت وتركها من عليها. ظلت مجموعة من الرجال على إسبانولا بينما عاد كولومبوس إلى إسبانيا في أوائل عام 1493 على متن السفينة نينا ومعه السفينة بينتا، ولقي ترحيبا حافلا.
مع ذلك، لم يتوان وأبحر في شهر أكتوبر من العام نفسه نحو الغرب مرة أخرى، فكانت روح السعي تسري في دمه، لا لسبب إلا الفضول واكتشاف طريق جديد للتجارة مع كاثاي. اكتشف جوادالوبي وأطلق عليها اسمها (جوادلوب)، ثم اكتشف بورتوريكو في طريقه إلى إسبانولا، وهناك وجد رجاله قد ذبحوا، ثم انتقل إلى موقع آخر وأسس مدينة إيزابيلا، أول مدينة أوروبية في الأمريكتين. أبحر غربا ووصل عندها إلى الساحل الجنوبي لكوبا، الذي سار عليه حتى وصل إلى البر الرئيسي لآسيا. وعند اتجاهه نحو الجنوب وصل إلى جزيرة أخرى أطلق عليها اسم سانتياجو (أصبحت جامايكا فيما بعد). عاد في النهاية إلى إسبانيا، على متن أول سفينة بنيت على الإطلاق في الأمريكتين. لم يكن استقباله حماسيا كما أراد، وفي عام 1498 انطلق مرة أخرى. اتخذ هذه المرة طريقا جنوبيا، ورسا على جزيرة سماها ترينيداد. أكد فيما بعد لأنصاره أن مصب النهر الذي كان يقع أمام مينائه هو دلتا نهر الجانج (كان حوض نهر أورينوكو في فينزويلا). في أثناء عودته إلى إسبانولا، بدأت الأمور تسوء بشدة؛ فقد تمرد الرجال وقبض على كولومبوس فرانسيسكو بوباديلا، الذي أرسله فرديناند وإيزابيلا من أجل حل المشكلات الموجودة فيما أصبح يسمى الآن العالم الجديد (مونودس نوفوس)؛ فقد توصل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا إلى استنتاج أن كولومبوس كان قائدا بحريا عظيما لكنه حاكم سيئ. هذه المرة عاد كولومبوس إلى إسبانيا مكبلا بالأغلال.
لم يردعه هذا وتمكن من استرجاع قدر من كرامته ورحل مرة أخرى في عام 1502. ومن إسبانولا أبحر إلى سانتياجو، ثم انحرف نحو الجنوب الغربي ورأى أرضا فيما يعرف حاليا بهندوراس. سار على طول الساحل جنوبا حتى وصل إلى بنما (مقاطعة «المانجو»)؛ حيث أسس مدينة بيلين (بيت لحم). ترك فيها أخاه بارتولومي مع فريق من 80 رجلا، أما هو فتوجه شمالا إلى إسبانولا، وفي عام 1504 عاد إلى إسبانيا، وقد أصبح في الثالثة والخمسين من عمره ويعاني من ألم المفاصل. أصيب كريستوبال في الواقع بخيبة أمل كبيرة؛ فهو لم يحصل على التكريم ولا الثروة التي كان يشعر بأنه يستحقها، وبعد عامين في بلد الوليد لقي حتفه. كان مؤمنا حتى النهاية بأنه عثر على طريق غربي إلى جزر الهند الشرقية (ولولا شريط الأرض الضيق الذي يربط القارتين، أمريكا الشمالية بالجنوبية، ربما تمكن بالفعل من النجاح في هذا). كان أبناء بلده هم من تشككوا فيه، ومع ذلك فقد قدروا اكتشافه عن طريق نقل عظامه إلى إسبانولا، وهي توجد هناك في كاتدرائية سانتو دومينجو حتى يومنا هذا.
ربما كان كولومبوس أكثر المستكشفين فضولا وإصرارا في العصر الحديث، لكنه لم يكن الأول؛ فقد بدأ البرتغاليون استكشاف ساحل أفريقيا قبل قرن من الزمان تقريبا، في 1418، بينما كان الأدميرال الصيني، على الجانب الآخر من العالم، تشنج خه، يبحث في المحيطات الشرقية عن أراض جديدة يتاجر معها.
22
ما استغله كولومبوس كان عزم وإصرار بعض الرجال على العثور على ما يبحثون عنه بالرغم من كل الصعوبات. فتظهر مثل هذه الرحلات أن البحث عن آفاق جديدة لا بد أن يكون مصحوبا بكثير من الإقدام، وهو صفة بشرية لم أركز عليها حتى الآن؛ فضرورة وجود الشجاعة أمر ينطبق بالتأكيد على كافة المستكشفين من قبل أو حتى الآن، على الأرض أو في البحر. ونظرا لأن الشجاعة لا تعتمد على وظائف دماغية عالية - ربما يقول البعض عكس هذا - ولا على استخدام صندوق الصوت ولا البراعة اليدوية، فإنها تقع خارج دائرة الصفات التي حددت أنها خاصة بالإنسان. هل يتسم الشمبانزي بالشجاعة في وقت ما؟ سأترك هذا للمتخصصين في علم سلوك الحيوانات لإثباته.
هل ترتبط الشجاعة بالبحث عن شيء ما؟ أحيانا. فيتصرف عادة المؤمنون بالحياة الآخرة، ويسعون جاهدين إلى دخول الجنة فيها بدلا من النار، تصرفات شجاعة باختيارهم؛ فهم يسعون إلى التخلص الأبدي من خطاياهم الأرضية. لقد تعرض الشهداء الدينيون على مر القرون إلى التعذيب وبتر الأطراف والحرق وضرب الأعناق والشنق بسبب تمسكهم بعقيدتهم، لكن ثمة آخرون يتصرفون تصرفات شجاعة دون السعي للحصول على مكافأة روحانية، فماذا كان دافع الناس في هولندا وفرنسا الذين آووا الأطفال اليهود وطياري الحلفاء من النازيين في أربعينيات القرن العشرين؟ فقد كانوا رجالا ونساء عاديين تصرفوا فقط بدافع الشفقة، بالرغم من علمهم بأنه إذا قبض عليهم - كما حدث لكثيرين - فإنهم سيواجهون التعذيب والموت. توضح تصرفاتهم مدى ما يصل إليه ما نطلق عليه الإنسانية. ومع ذلك، فإن المخاطرة بحياة الفرد من أجل حماية فرد آخر، بما في ذلك أفراد الأسرة بالطبع، هو أمر نشترك فيه مع حيوانات أخرى؛ فالإيثار ليست صفة تميز البشر. في الواقع، يصعب فعليا رؤية فائدة وراثية للإيثار بين البشر
23
على الإطلاق. نشترك مع كثير من الحيوانات
24
Unknown page