Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Genres
بعد ذلك، في عام 1950، ظهر اتفاق عام على أن تكوين المادة الوراثية - الكروموسومات والجينات المكونة لها - هو عبارة عن كيان كيميائي واحد يسمى الدي إن إيه. اكتشفت طريقة عمل الدي إن إيه مصادفة، نتيجة للتعرف على تكوينه؛ ففي كامبريدج ابتكر ويليام براج وابنه لورنس تقنية تصوير البلورات بالأشعة السينية من أجل تحديد تركيب البلورات . وقد استطاعا توضيح تكوين الملح
NaCl ، الذي يعتبر أحد أبسط المواد الكيميائية في الطبيعة. هل يمكن تطبيق التقنية نفسها على الدي إن إيه، أكثر الجزيئات تعقيدا على وجه الأرض، الذي لا يعتبر حتى بلورة فعليا؟ تشجع عالم شاب في كامبريدج، يدعى فرانسيس كريك، لمحاولة ذلك، وراودت الفكرة نفسها زميلا باحثا شابا يجري أبحاث ما بعد الدكتوراه من الولايات المتحدة الأمريكية يدعى جيمس واطسون، كان يعمل في القسم نفسه في هذا الوقت، وبدا تحديد تكوين الدي إن إيه مشروعا مناسبا لتعاونهما المشترك، وإن كان ينطوي على تحد كبير. في الواقع لم يكن كريك قد حصل بعد على درجة الدكتوراه؛ لأن دراساته توقفت بسبب الحرب، ففي الواقع كان من المفترض أن يعمل على أطروحته عن تركيب الهيموجلوبين تحت إشراف ماكس بيروتس، في حين عرض على واطسون مكان في المختبر نفسه لينضم إلى جون كندرو في دراساته للميوجلوبين. يخبرنا هذا الكثير عن سماحة بيروتس وكندرو، وعن المناخ الخالي من التوتر الذي كانا يعملان فيه - في مختبر كافندش، أشهر قسم للفيزياء في بريطانيا - الذي سمح لواطسون وكريك بإشباع حماسهما للدي إن إيه، بدلا من تكريس طاقتهما لدراسة تركيب البروتينات. إلا أن أهمية الدي إن إيه بوصفه المادة الوراثية المحتملة كان معترفا بها بالفعل، ويقال إن لينوس باولنج في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أظهر أن أساس كثير من البروتينات يكون في شكل لولب ألفا، كان على وشك التوصل إلى تركيب الدي إن إيه (كان يعتقد أنه ذو تركيب لولبي ثلاثي). بالتأكيد لم يكن كندرو وبيروتس ورئيس القسم، الذي أصبح في هذا الوقت السير لورنس براج، ضد احتمال توصل هذا الثنائي الشاب الذي تظهر عليه علامات الذكاء لهذا الاكتشاف ونسبته لإنجلترا.
أصبحت بقية القصة معروفة تماما مثل صيحة أرشميدس الشهيرة «وجدتها!» وهو يقفز خارجا من حوض الاستحمام؛ إذ قصها جيمس واطسون على نحو رائع في كتابه «اللولب المزدوج». ورغم عدم وجود دليل فعلي على ركض أرشميدس عاريا في شوارع سرقوسة، فإن التفاصيل المذكورة في كتاب «اللولب المزدوج » جميعها حقيقية على وجه الدقة. إذن هل استطاع واطسون وكريك بلورة الدي إن إيه؟ لا، لم يحاولا حتى فعل هذا. بدلا من ذلك، فقد بحثا عن صور أشعة سينية أعدها آخرون خاصة بالدي إن إيه البلوري الزائف، بحيث يمكنهم شرح تركيبه. وقد عثرا على هذه الصور على مسافة ساعة ونصف، في كلية كينجز في لندن؛ إذ تمكن ثنائي بحثي شاب آخر؛ روزاليند فرانكلين وموريس ويلكنز، من الحصول على صور يمكن أن تكفي لمحاولة شرح تركيبه. اتضح أنها كذلك بالفعل، ونشر واطسون وكريك النتائج في عام 1953. وقد وصف مقالهما الدي إن إيه بأنه تركيب لولبي زوجي، يبقى وحدة واحدة بفعل الروابط الموجودة بين الأدينين والثيامين، وبين السيتوسين والجوانين.
6
في نهاية مقالهما توجد ملحوظة عابرة: «لم يغب عنا أن التزاوج المحدد الذي افترضناه يشير على الفور إلى احتمال وجود آلية لنسخ المادة الوراثية.» ظهرت على الفور أهمية هذه الجملة، وحظي واطسون وكريك، مع موريس ويلكنز، بالتكريم في كل اجتماع علمي. أما روزاليند فرانكلين، الشخص الوحيد الذي تعامل فعليا مع الدي إن إيه، والتي فصلت المادة التي عرف منها تركيبه، فلاقت تجاهلا شديدا، وعندما حصل كريك وواطسون وويلكنز (لكن ليس تشارجاف) على جائزة نوبل في عام 1962، كانت قد سقطت فريسة لمرض السرطان، وكانت في السابعة والثلاثين من عمرها.
يمكن أن يشبه الطفل والديه في صفات وطباع معينة، لكنه لا يكون نسخة طبق الأصل من أي منهما. تكون آلية عملية الوراثة في الواقع نفسها لدى الكائنات كافة - في النباتات والجراثيم والحيوانات أيضا - لذا يمكننا استمرار استخدام البشر في شرح هذه العملية. لماذا إذن لا تكون الطفلة نسخة من والدتها، والطفل نسخة من والده؟ هذا لأن الكروموسومات - المخزون الكامل من الجينات، الذي يشار إليه أحيانا بالجينوم - التي تورث من كل من الوالدين لا تكون متطابقة طوال الوقت؛ فكل مجموعة من الجينات تتوافق مع جزء من كل زوج من الكروموسومات؛ أحدها من الأم والآخر من الأب، ويحدد زوج من الجينات شفرة زوج من البروتينات له الوظيفة نفسها. تكون بعض أزواج الجينات متطابقة؛ ونتيجة لهذا تكون أزواج البروتينات التي تحدد شفرتها متطابقة أيضا. ومثال على هذا الجين الخاص ببروتين الأنسولين؛ فيكون متشابها في كروموسوم الأم والأب؛ ولهذا لا يصنع إلا نوع واحد من الأنسولين. تكون أزواج أخرى من الجينات غير متطابقة، وإنما تكون بالكاد متشابهة؛ ومن ثم تحدد شفرة بروتينات يوجد بينها اختلاف طفيف؛ فبينما يؤدي كلا البروتينين الوظيفة نفسها، قد يؤديها أحدهما بشكل أفضل أو أسوأ من الآخر؛ ونتيجة لهذا يكون تعبير هذا الزوج من الجينات خليطا من نشاطين. سنعطي مثالا على هذا بعد قليل. لكن أولا، لا بد أن نركز على ما يسبق اختلاط كروموسومات الأم والأب في أثناء عملية تخصيب الحيوان المنوي للبويضة.
حتى تحتوي كل خلية لدى الجنين الآخذ في التكون على العدد المطلوب من الكروموسومات - مجموعتين من 23 كروموسوما - يجب أن ينقسم العدد الموجود في كل بويضة أو حيوان منوي إلى النصف؛ بحيث يحتوي كل منهما على مجموعة فردية، وليست زوجية، من الكروموسومات. يحدث انقسام أزواج الكروموسومات هذا في أنسجة الخلايا الجنسية؛ البويضات لدى النساء، والخصيتين لدى الذكور. في أثناء هذه العملية تحتوي الخلايا، التي ستنضج لتصبح بويضات أو حيوانات منوية، على مزيج من 23 كروموسوما. بعض الكروموسومات الموجودة في الخلية الجنسية يرثها الفرد من والده، والبعض الآخر يرثه من والدته.
7
وحتى يتضح لك الأمر ما عليك إلا النظر في التجمعات العائلية؛ «جيمس لديه عينا والدته، لكنه طويل مثل والده.» «حقا، لكن انظر إلى أنفه، فهو نسخة طبق الأصل من أنف جده فريدريك.» «صحيح، لكنه يشبه أكثر جده ليونارد في أسلوب تفكيره.» إذن فالجينات لا تتغير في حد ذاتها من جيل لآخر، كما اكتشف مندل، وإنما تحفظ داخل تجمعات عائلية. وعند تطبيق هذا بتوسع على تجمع كامل من السكان، فإننا نجد إجمالا أن مجموعة الجينات تظل إلى حد ما كما هي على مدار مئات وآلاف الأعوام. (4) ظهور تنويعات الجينات
تفسر الآلية التي شرحتها للتو عملية الخلط بين الجينات في كل جيل. لكن كيف تظهر تنويعات الجينات المختلفة في المقام الأول؟ تتغير الجزيئات الموجودة داخل الكائن - البروتينات والدي إن إيه والليبيدات وغيرها - باستمرار بسبب تفاعلها مع الجزيئات الموجودة في البيئة؛ الطعام الذي نتناوله، والهواء الذي نتنفسه، والجزيئات التي تكونها أشعة الشمس والإشعاعات الأخرى التي تسقط على جلدنا. فالحياة هي عملية تفاعل مستمر بين الجزيئات التي نرثها وتلك التي نكتسبها. تكون بعض الجزيئات من النوع الأخير من نوع يعرف باسم «الجذور الحرة»، التي تميل إلى أكسدة الجزيئات التي تحتك بها. وإذا دمر جزيء من البروتين (أو الليبيد) على هذا النحو، فلا مشكلة في ذلك؛ إذ يوجد نحو 10 آلاف نسخة من أي بروتين داخل الخلية الواحدة، ويكفي 9999 جزيئا لم يتأثر للحفاظ على وظائف هذه الخلية. وحتى إن تأثرت جميع الجزيئات التي تقدر بنحو 10 آلاف جزيء داخل الخلية، فإن العواقب قد تظل غير خطيرة؛ نظرا لوجود مليارات (10
Unknown page