الشجاع
لم تخطئي وصفه يا سيدتي، فهو شجاع بأدق معاني هذه الكلمة، وأكملها وأشملها، ولكن بشرط أن تفهمي من الشجاع معنى غير هذا المعنى المألوف الذي ابتذله الناس في أدبهم القديم والحديث، فليس في صاحبنا من شجاعة الناس شيء، ولعله أن يكون أبعدهم عنها، وأبرأهم منها، وأدناهم إلى الخوف الذي يخلع القلوب، والهلع الذي يفسد المروءة، والجزع الذي تطير له النفوس شعاعا، وآية ذلك أنه حريص أشد الحرص على أن يرضي كل إنسان مشفق أشد الإشفاق من أن يغضب أي إنسان، لا يحرص على أن يرضي الجماعات أيضا.
ولعل حرصه على إرضاء الجماعات أن يكون أشد من حرصه على إرضاء الأفراد، ولا سيما حين يكون لهذه الجماعات من القوة حظ قليل أو كثير، وحين يكون بينها وبين السلطان سبب طويل أو قصير، والأمر عنده في إرضاء الأفراد والجماعات يدور على ما يرجو من منفعة، وما يخشى من مضرة فهو حيثما رجا المنفعة، عظيمة كانت أو يسيرة، حلو الشمائل سمح الأخلاق سهل المراس، لين العريكة، مهذب الطبع، مثقف الذوق عذب الحديث، وهو على نقائض هذه الخصال كلها إذا لم يرج نفعا ولم يخش ضرا؛ فيه ما شاء الله من شراسة الطبع، وجفوة الخلق، وغلظة الذوق، وانحراف المزاج، وسوء العشرة، وصعوبة المراس، وخشونة الحديث.
وأظنك توافقينني يا سيدتي على أن شيئا من هذه الخصال لا يلائم أخلاق الرجل الشجاع، فالشجاع لا يقيم أمره على الرياء، ولا يجري حياته على المصانعة، ولا يلين حين تجب الشدة، ولا يشتد حين يحسن اللين.
والشجاع بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة لا يسرف في إيثار نفسه بالخير، ولا يضحي في سبيل هذا الإيثار بما يجعل الرجل الكريم رجلا كريما، ومع ذلك فصاحبنا شجاع بشرط أن تفهمي الشجاع كما أراد أن يفهمه الشاعر القديم حين قال:
وأطرقت إطراق الشجاع ولو يرى
مساغا لنابيه الشجاع لصمما
فالشجاع هنا اسم لا وصف، وهو لا يدل على الرجل الذي يصبر نفسه على المكروه، ويجشمها الهول في سبيل ما يتم مروءته، ويكمل رجولته، ويرفع منزلته، ويجعله ممتازا بين الممتازين الذين يستحقون الامتياز، ولا يغضبونه غضبا، وإنما يدل على الحية التي تستخفي في حجرها، لا تكاد تظهر منه إلا رأسها الدقيق، وتظل على حالها هذه مستخفية مطرقة، حتى إذا مكنتها الفرصة، ووجدت مساغا لنابيها لم تضيعها، وإنما عضت فصممت كما يقول الشاعر، وبلغت من عضتها وتصميمها ما تريد.
وهذه الحية أو هذا الشجاع لا يستخفي في الحجر دائما، ولكنه يستخفي في رمال الصحراء، ويستخفي بين الصخور الغلاظ، ويندس في الفراش الوثيرة، وهو سارب بالليل، وسارب بالنهار، يحسبه من يراه هادئا كل الهدوء مطمئنا كل الاطمئنان، ولا يكاد يقدر أن على أحد منه بأسا لولا أن الإنسان قد عرف أخلاقه منذ أقدم العصور، ولكن هدوء الهادئ لا يفر الناس عنه، واطمئنان المطمئن لا ينسي الناس ما بلوا من أخلاقه، وهذا هو الفرق الوحيد بين الشجاع الذي نتحدث عنه، والشجاع الذي ذكره الشاعر القديم. معروف الأذى منتظر الشر قد تواصى الناس ببغضه وخوفه واجتنابه منذ عرفوه، وأما الشجاع الذي نتحدث عنه فإنه رجل مثلنا يشاركنا في كثير من صفات الناس، ويضطرب معنا في كثير مما نضطرب فيه من شئون الحياة، وهو من أجل ذلك يخدعنا عن نفسه، وأمله أن يخدع نفسه عن نفسه أيضا، ولست أدري أيهما شر؛ شجاع الحيات الذي لا يراه الناس إلا فزعوا منه واتقوا شره، أو شجاع الناس الذي نراه فنطمئن إليه، ونصل أسبابنا بأسبابه، ونقدم إليه المعروف، وننتظر أن يقدم إلينا المعروف أو ألا يصيبنا منه مكروه على أقل تقدير.
وقد زعم بعض الناس للجاحظ أن من الحيات ما له رأسان، وزعم بعض الأعراب للجاحظ أنه رأى هذا الصنف من أصناف الشجعان، فلما سأله الجاحظ بأي الرأسين يسعى، وبأيهما يطعم؟ قال: إنه يفطر بأحد رأسيه، ويتغذى بأحدهما الآخر، ويسعى بهما جميعا.
Unknown page