Janaqu Masamir Ard
الجنقو مسامير الأرض
Genres
انتصف شهر أكتوبر تماما، وذلك يعني ضمن ما يعني أن المزارعين فرغوا من حصاد السمسم، وأن العيش استوى تماما، جفت أقصابه، وقناديله، واستدعي حاصدوه، وراجت دعاية بأن البنك استورد عددا كبيرا جدا من الحاصدات الآلية الحديثة؛ كي تقوم بحصاد العيش والسمسم، والحاصدة التي تحصد مائة فدان في اليوم لا تحتاج غير ثلاثة من العاملين الفنيين القادمين مع الآلات من المدينة، وعاملا واحدا غير ماهر يقوم بالعتالة.
لقد أحضرت هذه الحاصدات في وقت ينتظره الجنقو طويلا، وهو الشهر الأخير من موسم الحصاد؛ حيث يرتفع سعر العمل إلى أعلى مستوياته، وها هم الجنقو الآن فرادى وجماعات يتفرسون في الآلات الشيطانية، وهي تقوم بالعمل نيابة عنهم، وترميهم في جب العطالة دون رحمة، وتضحك عليهم بتعتعة معدنية حامضة ممقوتة تهتز لها الأرض، كان ملاكها موظفو البنك أيضا، وقد قللت سعر العمالة للربع تقريبا، وكي تطلق طلقة الرحمة على هؤلاء الجنقو المحبطين الآن، نوقشت في ندوة غاب عنها المغني العجوز في منزل أداليا دانيال، موضوع المبيد الكيماوي، الذي لا يترك قشة أو نبتة طفيلية واحدة تنمو، وينوي البنك استيراد هذا الشيء في الموسم الزراعي القادم، بل سيأتون بماكينة تتولى استئصال الأشجار الكبيرة والصغيرة على السواء، في ما لا يزيد على ربع الساعة بدلا من عملية أم بحتي اليدوية، التي تأخذ فيها الشجرة الصغيرة وحدها ما يقارب اليوم بكامله، دون أن يأمن المزارع ألا يظل منها باق في جوف الأرض، ماكينات وآليات لم تطف يوما بكوابيس الجنقو، ولكن ها هم الآن يسمعون بها كما الأحجيات، وقد رأوا منها آلة حصد السمسم العملاقة ذات الأذرع المرعبة، التي تتلوى على الأرض مثل ثعبان جريح، ويسمع صرير سيورها وخوار عادمها على بعد مئات الأمتار، وكان الجنقو يتجمعون بصورة عفوية من التايات القريبة، والكنابي، والحلال المجاورة؛ ليتفرسوا في هذا المخلوق الذي يبتلع السمسم ابتلاعا، ثم يلفظه في لحظات معبأ في جوالات الخيش، ويرمي بأقصابه دائخة على الأرض السوداء الجافة، لقد رأوا حاصدات عيش الذرة من قبل، ولكنها لم تنجح كثيرا في هذه الأنحاء؛ نسبة للخيران الكثيرة، والغابات، وتكلفة صيانتها العالية، ولكنهم يقولون إن هذا المخلوق صنعه الصينيون خصيصا لمواكبة طبيعة الأرض في الشرق، ومواجهة ندرة الوقود، وغلاء العمالة اليدوية، وكلما سمع الجنقو بميزات هذه الحاصدات الجديدة ازدادوا إحباطا، وقد علق أحدهم قائلا : الناس ديل ما لقوا آلة تحمل النسوان كمان، عشان نشوف لينا شغلة تانية في الدنيا دي؟
لقد كان أثر هذه الآلات والدعاية المصاحبة لها عميقا في كل نواحي الحياة، ليس في الحلة وحدها، ولكن في الجيرة والحفيرة، خور مغاريف، الفشقة، الهشابة، زهانة، همدائييت، جبل عسير، في الحمرة نفسها، في تسني وضواحي القضارف، على تخوم سمسم، الجنة بره، اللية، حجر العسل، الحوري، أم سقطة، العرديبات، المقرن، المفازة، الحواتة، دوكة وريفها إلى أعالي نهر الدندر، وأولاد شيقوق، مشروع غنم، عرديبة كرسي، عرديبة تجاني. أصيب الجنقو بخدر في الروح بارد ومر، الحلة تمثل مركزا لهم دون منازع؛ لذا كانت الفجيعة هنا أكبر والتغيير واضحا، مثال لذلك العطب الذي أصاب بيت الأم؛ قل زواره من الجنقو، وصغار المزارعين، وشردت داعراته وعاملاته، كثير منهن هاجرن للمدن المجاورة خاصة خشم القربة، كسلا، القضارف، بل ذهبن حتى إلى الخرطوم، وعمل بعضهن على جانبي الطريق القومي بائعات للقهوة، الشاي، الشيشة، والأطعمة لسائقي الشاحنات السفرية، حتى ود أمونة يقال إنه يتدبر أموره للانتقال إلى الخرطوم نهائيا، ويثرثر الناس بأنه قد استلطف من قبل شخصية مرموقة، وأن الحظ قد يبتسم له ابتسامة كبيرة جدا، حدث هذا في أقل من شهر واحد، ولكنه شهر تقوم عليه شهور السنة الاثنا عشر كلها، وفيه تكتمل زينة الجنقوجوراي، وربما استطاع أن يضع أمنية كبيرة من المال عند صديقاته من صانعات الخمور البلدية، أو أدي، اللائي يمثلن بنوكا شعبية صغيرة، أمينة رحيمة طيبة وغير ربوية، في ذات هذا الشهر، تخزن النساء حاجاتهن من العيش الذي يشترينه من صغار المزارعين رخيصا، وقد يحتفظن بجوال من السمسم؛ للاستفادة من فرق السعر لاحقا، عندما تفتح زريبة المحاصيل لاستقبال إنتاج الموسم الجديد، أو عندما تدخل شركة السمسم كمشتر، أو تحدث كارثة ترفع سعر السمسم، ولكن الأيام تمضي سريعا، البعض يحصد المال الوفير سهلا، ويقف الجنقو، وصغار المزارعين، والنساء يتفرجون، وقد هرب الكثيرون وعلى رأسهم الفكي علي الزغراد، ومدير البنك، بعد أن حاول اغتياله رجال مجهولون، وسافر خلق كثير من الجنقو إلى أقاليم أخرى، على مشارف الحواتة وضواحي القضارف، مؤكدين للجنقو هنالك أن البنك قادم إليهم قادم إليهم، ومن الأحسن أن يبحثوا عن سبل للعيش أخرى، وأن الدعاية التي يسمعون هي الحقيقة عينها، امتلأت الحلة بالعسكر؛ بوليس، وجيش، احتياطي مركزي، ودفاع شعبي، شرطة شعبية، وأمن عام، أمن إيجابي، وأمن اقتصادي، وظهرت حملات تجنيد مذعورة للشباب والشابات أيضا، وحتى العجزة أدخلوا الدفاع الشعبي، وبدا واضحا للجميع أن هنالك علة ما قد لا يدرون كنهها على وجه الدقة، ولكنهم يفهمون من وراءها، على الأقل يستطيعون ترشيحه بكل سهولة: المال، كانت الحلة تمر بلحظة ميلاد جديد قاس، ميلاد يقتل ويحيي، هي نفسها لحظة اكتشاف الذهب في الأرض الجديدة، والماس في بريتوريا، والكيب تاون، والقطن في السودان، إنها لحظة اكتشاف المال السهل، نوع من الحمى غريب، حمى المال.
الصافية تحمل على ظهرها القوقو مشدودا عصاه من حطب العندراب، يتبعها خمسة من الجنقو الذين دائما ما يشكلون معها فريقا واحدا، نزلوا عندنا في التاية، في الصباح عملوا معنا في الحصاد، وسكب القصب في آن واحد، كانوا سعداء وهم ينشدون أغاني الحصاد الجميلة التي كادت تيبس على أفواههم، منذ أسابيع كثيرة توقفوا عن العمل؛ نتيجة لمنافسة الآلات الرخيصة السريعة والأكثر دقة، كانوا يعملون بشهية كبيرة ومتعة لا تحدها حدود، ثم جاء إلينا فريق آخر، بقيادة تور مراح مرسال، وفي رفقته ثلاثة من الجنقو، ثم انضم إلينا فريق وورل أجانق، ثم محمد ود النوايمة، ثم الصادق آدم عباس في صحبته الطيب كبسون وحسن عبيد الجنقوجوراي الملقب بالدب، ثم، ثم، ثم، كأنما دعي الجنقو عن طريق الإذاعة التي يسمعونها طوال الوقت، وملأت الأغنيات سماء المكان الصافية الزرقاء، وأقمنا أجمل الليالي هنا؛ لأن قطعة الأرض التي اشتريتها بقصد الزراعة، وعملت على نظافتها مع الشايقي، ومختار علي، لا تتعدى مساحتها العشرة أفدنة، ففي خمسة أيام فقط تم حصادها، وقطع قصبها وجمعه في كوم واحد كبير، وزربه بالشوك حتى لا تصيبه الحيوانات، أو تعبث به القرود، وافق مختار علي أن نترك للشايقي نصيبه؛ لأنه غير موجود الآن، وأن نقسم الباقي مع الجنقو بالتساوي، وهو ما رفضه الجنقو تماما، ولكنهم وافقوا على أن تخصص خمسة جوالات عيش من الفيتريتة للمريسة، وأن تسلم لبيت الأم، نقلنا العيش بلوري الخط إلى الحلة، وكان أول عيش يتم جلبه، وشاء القدر كذلك أن يكون آخر عيش يصل الحلة في هذا الموسم الحافل.
بعيدا عن رأيي أنا الخاص في ما حدث؛ أخير هو أم شر، أريد أن أؤكد شيئا أساسيا، أنني كنت بعيدا عن مجريات الأحداث، أولا لانشغالي بحصاد الأرض التي زرعتها مع الشايقي، ومختار علي، ثانيا لانشغالي بأخبار ألم قشي، في الحقيقة أخذ هذا الشيء الأخير الجزء الأكبر من تفكيري، ولم يترك لي وقتا لأعرف تفاصيل الجنقو المسلحين، ولا من انضم إليهم من رعاة حانقين منذ أن زارني الشايقي قبل شهر مضى، ورد لي المبلغ الذي أخذه مني في حادث باص همدائييت؛ أقصد أنني ما كنت متفرغا، بصورة أو بأخرى، لما يشبه الندوات الكثيرة التي أقامها الجنقو في التايات والكنابي المجاورة، وربما حتى تلك التي عقدت مؤخرا في الحلة، وكان لبعد ود أمونة عني، وانشغاله بالبنكيين وقد كثرت زياراته إلى الخرطوم وزاد انشغالي بالمفازات أثر في افتقاري لما يملأ فراغاتي المعلوماتية، وينبه غفلتي، ولكنني لم أستطع أن أسامح نفسي على أن أفاجأ مثلي مثل الهوام والبهائم بالحدث العظيم، ففيما يشبه الندوة الفجائية، أو في الحقيقة الندوات التي تفوق المائة الطارئة التي انعقدت في شوارع الحلة، وفي بيوتها فجأة، كالنبت الشيطاني في لحظة واحدة، كان الكلام يدور عن النار! حسنا دعنا نلتقط بعض الأوصاف التي يطلقها الناس، يصفونها لأنفسهم؛ لأنه ليس هنالك شخص ينتظر أن يسمع شيئا من آخر، وصفا أو تفسيرا: جهنم، جهنم عديل.
قالت امرأة عجوز تحاول جهدها أن تسمعني صوتها: يا ولدي دي شيء ما حدثت إلا لقوم سمود.
قالت الأم مريم كودي للأطفال المرعوبين، الذين استجاروا بالكنيسة يصلون: الرب يسوع يكون في عونهم.
ورسموا خلفها شارة الثالوث المقدس، دعوا لأصحاب المشاريع الصغيرة بالعوض الجزيل : آمين.
وقع الحدث العظيم عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، حينها استيقظ الناس على ضوء حريق هائل في عمق المشاريع، وكان اللهب الجبار يتشابى إلى عنان السماء الصافية الزرقاء، كتنين أسطوري يحاول أن يلعق الأنجم بلسانه الناري، اندلعت في البداية بضعة حرائق هنا وهناك، ثم الأرض كلها اشتعلت نارا، قل أذرع مجنونة تلعب في الفضاء لعبا، كان عرسا من الجحيم لا يمكن وصفه، وتبع ذلك موسيقى تصويرية بائسة من صراخ الأطفال الذين صحوا مذعورين، وولولة النساء المرعوبات، وهترشة السكارى، ثم علا عزيف زخات الرصاص من أعماق غابة زهانة، وتحركت كتيبة من الاحتياطي المركزي والشرطة، تتخبط دون هدى حول الحلة، حيث لا يمكن الخروج لمكان آخر، فالنار هناك دائما والحلة هي المكان الوحيد الآمن، كانوا يصنعون تشكيلات عسكرية عبثية لا معنى لها في الغالب، ومع شروق الشمس؛ فضت النار احتفالها مخلفة أرضا سوداء كحناء على أطراف عروس هائلة دافئة وأسطورية، تهب جسدا بآلاف الأفدنة، قربانا للريح.
نشيد الجسد
Unknown page