Imbaraturiyya Islamiyya
الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة
Genres
ونحن إذا رجعنا إلى الحكم الإسلامي في عهوده الأولى - أي منذ ألف وثلاثمائة سنة وأكثر - وجدنا المبدأ الأساسي للديمقراطية مبدأه، ورأينا الصور التي تصور فيه تختلف بعض الاختلاف عما نعهده اليوم في نظم عصرنا الحاضر، ولكنها تتفق وإياها في الغاية وفي المبدأ.
ولا غرابة في ذلك، فقد نشأ الإسلام في بلاد العرب، وكان كتابه عربيا، وكان رسول الله به عربيا. وقد كانت بلاد العرب في ذلك العصر تعيش في نظام ديمقراطي بحت، أدنى إلى نظام سويسرا اليوم وإلى نظام المدن اليونانية القديمة. ولقد كانت الحرية التامة أعز شيء على العربي، بدويا كان أم حضريا.
وكان أهل القبيلة أو أهل المدينة يجتمعون للنظر في شئونهم العامة، وللقضاء فيما يقوم بينهم من المنازعات. وكانت دار الندوة بمكة، مكان هذا الاجتماع بالنسبة للمدينة الإسلامية المقدسة من عهد إبراهيم، فكان طبيعيا أن ينعقد نظام الحكم في الإسلام على هذا الأساس العربي الصريح، وأن يكون ديمقراطيا بالمعنى الذي يفهمه العربي من الألفاظ التي ترادف هذه الكلمة في لغة ذلك العصر.
وأنت إذا رجعت إلى بيعة أبي بكر، وبيعة عمر، وبيعة عثمان، وجدت هذا المعنى واضحا فيها تمام الوضوح، فقد كان الناس يجتمعون ويختارون خليفتهم ثم يبايعونه. ولم يكن هؤلاء الخلفاء يتولون السلطة التشريعية؛ لأن هذه السلطة كانت متروكة إلى القضاة - كما ذكرنا من قبل - وكان القضاة يستمدون قضاءهم من القرآن الكريم، ومن السنة، ومن القياس، ومن الإجماع، ثم كانت أحكامهم، كما كانت فتاوى العلماء، هي الأساس الذي يقوم عليه الفقه، وتجري على مقتضاه المعاملات بين الناس.
كان الخلفاء إذن إنما يتولون السلطة التنفيذية، على حد تعبيرنا في النظام الديمقراطي، فهل كانوا يتولونها مستبدين لا يحاسبهم أحد، أم أنهم كانوا يحاسبون وكانت عليهم رقابة سواء من نوع الرقابة البرلمانية في أوروبا، أو من نوع الرقابة النيابية في أمريكا؟ إذا كانت عليهم رقابة - أيا كان نوعها - لم يبق ريب في أن نظام الحكم الإسلامي نظام ديمقراطي، إن اختلف في الصورة عما نألف اليوم، فهو متفق معه في المبدأ والأساس تمام الاتفاق.
لما تمت البيعة لأبي بكر خطب الناس ، فقال: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.» وقال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.»
وهذا صريح في أن أبا بكر يقر بحق الرأي العام في مراقبته وإرشاده، ويذهب في ذلك إلى حد الإقرار لهذا الرأي العام بعصيانه إذا هو عصى الله ورسوله.
ونحن إذا أردنا أن نرتب على هذا الكلام نتيجته المنطقية لم نكن مخطئين في القول بأن الذين بايعوا أبا بكر كان لهم حق محاسبته وتقويمه، فإن عصى كان لهم حق العصيان، وبعبارة أخرى كان لهم حق عزله. ولا نحسب معنى أبلغ في تقرير مبادئ الديمقراطية من هذا المعنى.
وكان عمر بن الخطاب بعد أن أصبح أمير المؤمنين يخطب الناس يوما بمثل المعنى الذي تحدث فيه أبو بكر، ويذكر للناس أن لهم أن يقوموه إن رأوا في تصرفاته عوجا، ولقد أجابه أحد الحاضرين بهذا الجواب الذي يحفظه كل مسلم عن ظهر قلبه: «والله يا عمر، لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا.»
هذا الجواب يشهد لعمر بأنه كان رجل عدل وصدق ونزاهة، لكنه يشهد كذلك بأن العرب كانوا يعرفون ما لهم من حق في محاسبة صاحب السلطان عليهم ومراقبته، شأنهم في ذلك كشأن أهل إسبرطة وأثينا في اليونان القديمة، وشأنهم كشأن الأمم الديمقراطية اليوم.
Unknown page