الاختلاف في اللفظ
والرد على الجهمية والمشبهة
للإمام أبي محمد
عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكاتب الدينوري
٢١٣ - ٢٧٦ هـ
قدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه
عمر بن محمود أبو عمر
دار الراية
الطبعة الأولى
١٤١٢ هـ - ١٩٩١ م
Unknown page
بسم الله الرحمن الرحيم
(مقدمة المؤلف)
الحمد لله مرتضي الحمد لنفسه، وجاعله فاتحة وحيه، ومنتهى شكره، وكفاء نعمته، ودعوى أهل جنته عند إفضائهم إلى كرامته، البر بخلقه، العواد على المذنبين بعفوه، الذي لا يخيب راجيه، ولا يرد داعيه، ولا ينسى ذاكريه، ولا يقطع حبل عصمته ممن تمسك بعروته، أحمده بجميع محامده على جميع نعمه، وندعوه أن يشعرنا خشيته، ويشرب قلوبنا مراقبته عند كل لفظ وعقد وكل قبض وبسط، وأن يجعل كلامنا له ودلالتنا عليه وإرشادنا إليه، ويؤم بنا سمت الحق وقصد السبيل، وأن يبلغ نبينا المصطفى ﷺ منا أفضل صلاة وأنماها وأزكاها وأقضاها لما فرض من حقه وأوجب من ذكره، صلى الله وملائكته المقربون عليه وعلى آله الطيبين وعلى جميع النبيين والمرسلين، ونعوذ بالله من نزغ الشيطان ومصائده ولطيف خدعه ومكائده، فقد صدق على هذه الأمة ظنه، وأجلب عليهم بخيله ورجله، وقعد لهم رصدًا بكل مرصد، ونصب لهم شركًا بكل ريع، وطفق لغوايتهم بكل شبهة، فأصبح الناس إلا قليلًا ممن عصم الله مفتونين، وفيما يوبقهم خائفين، وعن سبيل نجاتهم ناكبين، ولما وضعه الله عنهم متكلفين، وعما كلفهم
1 / 17
معرضين، إن دعوا أنفوا، وإن وعظوا هزأوا، وإن سئلوا تعسفوا، وإن سألوا أعنتوا، قد فرقوا الدين وصاروا شيعًا فهم يتنابزون بالألقاب ويتسابون بالكفر ويتعاضدون بالنحل ويتناصرون على الهوى وعاد الإسلام غريبًا كما بدأ، فماذا يعجب من سلة السيف وشمول الخوف ونقص الأموال والأنفس وهل يتوقع بعد تزيدنا في الغواية إلا التزيد في البلاء حتى يحكم الله بما شاء بيننا وهو خير الحاكمين.
وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم ويعلم ليعمل ويتفقه في دين الله لينتفع وينفع فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع ويجمع ليذكر ويحفظ ليغالب ويفخر، وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي وفيما لا يقع وفيما قد
1 / 18
انقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان ورجم المحصن، وصار الغرض فيه إخراج لطيفه، وغوصًا على غريبه، وردًا على متقدم، فهذا يرد على أبي حنيفة وهذا يرد على مالك، وآخر يرد على الشافعي بزخرف من القول، ولطيف من الحيل، كأنه لا يعلم أنه إذا رد على الأول صوابًا عند الله بتمويهه فقد تقلد المآثم عن العاملين به دهر الداهرين.
وهذا يطعن بالرأي على ماض من السلف وهو يرى، وبالابتداع في دين الله على آخر وهو يبتدع.
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر فهم دائبون يخبطون في العشوات قد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى.
1 / 19
[سبب تأليف الرسالة]
وكان آخر ما وقع من الاختلاف أمرًا خص بأصحاب الحديث الذين لم يزالوا بالسنة ظاهرين، وبالاتباع قاهرين يداجون بكل بلد ولا يداجون ويستتر منهم بالنحل ولا يستترون، ويصدعون بحقهم الناس ولا يستغشون، ولا يرتفع بالعلم إلا من رفعوا، ولا يتضع فيه إلا من وضعوا، ولا تسير الركبان إلا بذكر من ذكروا، إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلًا في الدين، ولا فرعًا، في جهلها سعة وفي العلم بها فضيلة، فنمى شرها، وعظم شأنها حتى فرقت جماعتهم وشتتت كلمتهم ووهنت أمرهم وأشمتت حاسديهم وكفت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم فهو دائب يضحك منهم ويستهزئ بهم حين رأى بعضهم يكفر بعضًا وبعضهم يلعن بعضًا ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ومتباينين وهم كالمجتمعين ورأى نفسه قد صار لهم سلمًا بعد أن كان لهم حربًا.
ولما رأيت إعراض أهل النظر عن الكلام في هذا الشأن منذ وقع، وتركهم تلقيه بالدواء حين بدا، وبكشف القناع عنه حين نجم، إلى أن استحكم أساسه، وبسق رأسه، وجرى على اعتياد الخطأ فيه الكهل، ونشأ عليه الطفل وعسر على المداوين أن يخرجوا من القلوب ما قد استحكم بالألف ونبت على شراه اللحم، لم أر لنفسي عذرًا في ترك ما أوجبه الله علي بما وهب من فضل المعرفة في أمر استفحل بأن قصر مقصر فتكلفت بمبلغ علمي ومقدار طاقتي ما رجوت أن يقضي بعض الحق عني لعل الله ينفع به فإنه بما شاء نفع، وليس على من أراد الله بقوله أن يسأله الناس بل عليه التبصير وعلى الله التيسير.
وسيوافق قولي هذا من الناس ثلاثة:
1 / 20
رجلًا منقادًا سمع قومًا يقولون فقال كما قالوا فهو لا يرعوي ولا يرجع لأنه لم يعتقد الأمر بنظر فيرجع عنه بنظر.
ورجلًا تطمح به عزة الرياسة وطاعة الإخوان وحب الشهرة فليس يرد عزته ولا يثني عنانه إلا الذي خلقه إن شاء، لأن في رجوعه إقراره بالغلط واعترافه بالجهل وتأبى عليه الأنفة وفي ذلك أيضًا تشتت جمع وانقطاع نظام واختلاف إخوان عقدتهم له النحلة، والنفوس لا تطيب بذلك إلا من عصمه الله ونجاه.
ورجلًا مسترشدًا يريد الله بعمله لا تأخذه فيه لومة لائم ولا تدخله من مفارق وحشة ولا تلفته عن الحق أنفة فإلى هذا بالقول قصدنا وإياه أردنا.
ولم أر صوابًا أن يكون الكتاب محررًا بذكر هذا الباب خاصة دون غيره فقدمت القول فيه بذكر بعض ما تأولته الجهمية في الكتاب والحديث وإن قل لنحمد الله تعالى على النعمة ونعلم أن الحق مستغن عن الحيلة، ولم أعد في أكثر الرد عليهم طريق اللغة.
(الرد على نفاة القدر)
فأما الكلام فليس من شأننا ولا أكثر من هلك إلا به وبحمل الدين
1 / 21
على ما يوجبه القياس.
ألا ترى أن أهل القدر حين نظروا في قدر الله الذي هو سره بآرائهم وحملوه على مقاييسهم أرتهم أنفسهم قياسًا على ما جعل في تركيب المخلوق من معرفة العدل من الخلق على الخلق أن يجعلوا ذلك حكمًا بين الله وبين العبد فقالوا بالتخلية والإهمال وجعلوا العباد فاعلين لما لا يشاء وقادرين على ما لا يريد، كأنهم لم يسمعوا بإجماع الناس على ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقالوا كيف يضل ويعذب ويريد ويكره ويحول ويكلف؟ وهل قصر فاعل هذا عن أفحش الظلم؟
ونسوا ما يلزمهم في اختلاف الحكمين وأن من ملك البعض ليس
1 / 22
كمن ملك الكل، وأن الخلق كله لله يميت ويحيى ويفقر ويغني ويصح ويسقم ويبتدئ بالنعم من يشاء ويصطفي للرسالة من شاء ويؤيده بالتوفيق ويملأ قلبه بالنور ويعصمه من الذنوب ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدًا من الملائكة وأنه لو لم يرد المعصية لما هيأهم هيئة المعصية ولما ركب فيهم آلة الشهوة كما طبع الملائكة ولا سلط عليهم عدوهم ثم أمرهم بالاحتراس.
1 / 23
وأنى للضعيف الاحتراس ممن حرست منه السموات بالنجوم ومنع من الاستماع بالرجوع وجعل له السبيل إلى القلوب من حيث لا يرى فهو يجري مجرى الدم ويوسوس ويخنس ولا يعصمه الله ولا خلق آدم للأرض وأسكنه الجنة وحرم عليه الشجرة وقد علم أنه سيغر فيغتر ويستزل فيزل حتى يخرجه منها إلى حيث جعل له فيه مستقرًا ومتاعًا إلى حين.
ولما اطرد لهم القول على ما أصلوا ورأوه حسن الظاهر قريبًا من النفوس يروق السامعين ويستميل قلوب الغافلين نظروا في كتاب الله فوجدوه ينقض ما قاسوا ويبطل ما أسسوا فطلبوا له التأويلات المستكرهة والمخارج البعيدة وجعلوه عويصًا وألغازًا وإن كانوا لم يقدروا من تلك الحيل على ما يصح في النظر ولا في اللغة كقولهم في: ﴿يضل من يشاء﴾ ينسبهم إلى الضلال ﴿ويهدي من يشاء﴾ ينسبهم إلى الهداية وما في نسبتهم إلى ذلك؟ حتى يعيد ويبدي، ولو أراد النسبة لقال يضللهم،
1 / 24
كما يقال يخونهم ويفسقهم ويظلمهم أي ينسبهم إلى ذلك.
وقالوا في قوله ﷿: ﴿وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله﴾ أي ما كان لها أن تؤمن إلا بعلم الله وعلموا ما يلزمهم أن جعلوا الإذن ههنا: المشيئة والإطلاق، وذهبوا إلى قول القائل: (آذنتك بالأمر) أي أعلمتك.
وهذا من تأويلهم لا يصح في نظر ولا في لغة:
أما النظر: فإنه لم يقل أحد من الناس أن شيئًا يحدث في الأرض لا يعلمه الله فيقول وما كان لنفس أن تؤمن إلا بعلم الله وإنما اختلفوا في الإذن الذي هو المشيئة والإطلاق فقال المثبتون لم يشأ الله أن يؤمن جميع الناس ولو شاء لآمنوا فليس لنفس أن تؤمن حتى يشاء الله ذلك ويطلقه.
وقال أهل القدر: قد شاء الله هذا لكل نفس وأطلقه فلها أن تؤمن إن شاءت وفي صدر هذا الكلام دليل على ما قال أهل الإثبات لأن النبي ﷺ كان يحب إيمان قريش فأنزل الله عليه: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ ثم قال على إثر ذلك: ﴿وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله﴾ يريد بمشيئته وإطلاقه.
فأول الكلام دليل على آخره والناس مجمعون لا يختلفون على أن القائل إذا قال لو شئت لأتيتك أنه لم يشأ إتيانه ولو شئت لحججت أنه لم يشأ
1 / 25
الحج ولو شئت لتزوجت أنه لم يشأ الزواج فكذلك يلزم في: ﴿لو شاء ربك لأمن من في الأرض﴾ أنه لم يشأ ذلك ومثله: ﴿أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا﴾ و: ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها﴾ فإن قال أراد لو شاء لآمنوا إجبارًا ولكنه لم يشأ أن يجبرهم على ذلك قيل له لم يشأه على حال فاجعله بأي وجه شئت.
وقيل: والله يفعل بعباده ما هو أصلح لهم في كل حال عندهم فأي الأمرين كان أصلح لهم؟ أن يجبرهم على الإيمان فيؤمنوا أو يخليهم وشأنهم فيكفروا؟ فهذا النظر.
وأما اللغة: فإنه لا يجوز فيها أن يجعل الأذن العلم لأنه الأذن، ألا ترى أن قائلًا لو قال لك قد آذنتك بخروج الأمير إيذانًا أي أعلمتك خروجه إعلامًا أن جوابك كان يكون له قد آذنت لقولك أذنًا: أي سمعته فعلمته، والإيذان المأخوذ من الأذن إنما هو إيقاع الخبر في الأذن. والأذن استماعه وعلمه.
قال عدي بن زيد:
أيُّها القلب تَعلَّلْ بدَدَنْ ... إنَّ همي في سماع وأذن
ومنه أذان الصلاة إنما هو إسماع الناس ذكرها حتى يعلموا وقول الله ﷿: ﴿وأذان من الله ورسوله﴾ أي إسماع إعلام والأذن في الشيء أن تشاءه وتطلقه تقول: (أذنت له في الخروج إذنًا) هذا ما ليس به خفاء على من نظر في اللغة وفهمها.
وقالوا في قوله ﷿: ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا﴾
1 / 26
فجعلوا الإرادة في الهداية والإضلال للعبد لا لله وركبوا في ذلك أفحش غلط وأحول كلام. والإرادة لا تجوز أن تكون للعبد وقد وليها اسم الله وهو مرفوع بإجماع القراء، ولو كان أحد منهم نصب الله لكان أقرب من المعنى الذي أراده وإن كان لا يجوز أيضًا لأنه يضم في الكلام (من) فيكون معناه من يريد من الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ثم يحذف (من) وينصب الله لما نزع حرف الصلة كما يقال (من يسرق القوم مالهم يقطع) أي يسرق من القوم مالهم وهذا ليس يجوز إلا مع حروف معدودة محكية عن العرب، لا نحمل عليها غيرها ونقيسه عليها.
وقالوا في قوله تعالى: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس﴾ دفعنا وألقينا واحتج من احتج منهم بقول المثقب العبدي حكاية عن ناقته:
تقول إذا ذرأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدًا وديني
وهذا جهل باللغة وتصحيف وإنما هو (درأت) بالدال غير المعجمة والله يقول: ﴿ولقد ذرأنا﴾ بالذال وأحسبهم سمعوا بقول العرب (أذرته الدابة عن ظهرها) أي ألقته فتوهموا أن ذرأنا من ذلك.
1 / 27
ذرأنا في تقدير فعلنا غير مهموز ولو أريد ذلك المعنى لكان: (ولقد أذرينا لجهنم) وسمعوا بقوله: (ذرته الريح) وبقول الله: ﴿فأصبح هشيمًا تذروه الرياح﴾ أي تنسفه وتلقيه فتوهموه منه ولو أريد ذلك لكان: (ولقد ذرونا لجهنم) وليس يجوز أن يكون (ذرأنا) في هذا الموضع إلا خلقنا: ﴿ذرأكم في الأرض﴾ وقال: ﴿يذرؤكم فيه﴾ أي يخلقكم في الرحم ومنه قيل ذرية الرجل لولده وإنما هو خلق الله.
وقالوا في قوله: ﴿إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء﴾ . أراد إن هو إلا اختيارك تضل به من تشاء يعني الفاسقين وتهدي من تشاء يعني المؤمنين واحتجوا بقوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ والفاسقون ههنا الكافرون لأنه قال في صدر الآية: ﴿وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا﴾ وكيف يضل الضال ويهدي المهتدي فإن قالوا يريد الكافر ضلالة والمؤمن هداية أكذبهم في هذا الموضوع معنى الآية لأن فتنة القوم بالعجل أنه كان فضة وحليًا فتحول جسدًا له خوار فارتدوا عن الإسلام وعبدوه ولم يكن مع موسى بني إسرائيل كافر ولو كانوا كفارًا ما غضب ولا ألقى الألواح، فإنما وقع الضلال ههنا بمسلمين.
وأما قوله ﷿: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ فإنه نزل في قوم من اليهود وسمعوا قوله ﷿: ﴿مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت﴾ وقوله: ﴿إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه﴾ فقالوا ما هذه الأمثال التي لا تليق بالله فأنزل الله ﷿: ﴿إن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها﴾ من الذباب والعنكبوت فقالوا ما أراد بمثل ينكره فيضل به كثيرًا من الناس. فقال الله تعالى: ﴿فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا
1 / 28
فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين﴾ يعني اليهود لأنهم ضلوا بالمثل وأنكروا ولم ينكره غيرهم.
وقد يأتي الحرف وظاهره العموم ومعناه الخصوص كقول موسى ﵇: ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ وقول النبي ﷺ: ﴿وأنا أول المسلمين﴾ لم يريدا كل المؤمنين وكل المسلمين في جميع الأزمنة بل مؤمني زمن موسى ومسلمي زمن نبينا ﵉
وكذلك قوله تعالى في بني إسرائيل: ﴿فضلكم على العالمين﴾ لم يفضلهم على محمد ﷺ ولا أممهم على أمته وإنما أراد عالمي أزمنتهم
وشيء لم نزل نسمعه منهم على قديم الأيام قد ارتضوه لأنفسهم ودونوه في كتبهم وأجمع عليه عالمهم وجاهلهم وكهلهم وحدثهم في تأويل قول الله ﷿: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون﴾ . وقوله: ﴿إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يبصرون﴾ وقوله: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ وأشباه هذا أنه حكم عليهم فإذا نحن تدبرنا هذا التأويل وقابلنا به التنزيل لم نجد هذا المتأول حمل كتاب الله على مثل هذه التأويلات إلا لإقامة مذهبه وحاول بعضهم إبدال بعض حروفه بغيرها فقرأ: ﴿عذابي أصيب به من أشاء﴾ بالسين
1 / 29
غير المعجمة والنصب وقرأ جميع ما في القرآن من المخلصين بكسر اللام وإن كان قرأ بذلك بعض القراء يريد أن يجعل الإخلاص لهم ولا يكون لله في ذلك صنع فكيف يصنع بقوله: ﴿إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار﴾ وقرأ: ﴿ولا تحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا﴾ بكسر إنما الأولى وفتح الثانية يريد لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا إنما نملي لهم خير لأنفسهم فحرف المعنى عن جهته ونقله عن سننه وجعل الإملاء للكفار من الله إنما هو لخير يريده بهم.
وقد حمل بعضهم على أنه قرأ (ليزدادوا إيمانًا) وألحقها في بعض المصاحف طمعًا في أن تبقى على الدهر ويجعلها الناس وجهًا وكيف له ما قدر والله يقول إلى جنبها: ﴿ولهم عذاب مهين﴾ .
(الرد على أهل الجبر)
ولما رأى قوم من أهل الإثبات إفراط هؤلاء في القدر وكثر بينهم التنازع حملهم البغض لهم واللجاج على أن قابلوا غلوهم بغلو وعارضوا إفراطهم بإفراط فقالوا بمذهب جهم في الجبر المحض وجعلوا العبد المأمور المنهي المكلف لا يستطيع من الخير والشر شيئًا على الحقيقة ولا يفعل شيئًا على الصحة وذهبوا إلى أن كل فعل ينسب إليه فإنما ينسب إليه على المجاز كما يقال في الموات: مال الحائط وإنما يراد أميل وذهب البرد وإنما ذهب به وكلا الفريقين غالط وعن سواء الحق حائد.
1 / 30
ولو كان الأمر على ما قالوا لم يكن القدر سرًا ولم يكن الناظر إليه كالناظر في شعاع الشمس ففيم اختصمت الملائكة.
1 / 31
وفيم ألح عزير حتى محي من ديوان النبوة.
1 / 32
وفيم احتج آدم وموسى.
1 / 33
وإنما صار سرًا لأنك ترى قادرًا وهو عاجز، ومؤيدًا وهو ممنوع، وترى حازمًا محرومًا، وعاجزًا مرزوقًا، وشجاعًا مخذولًا، وجبانًا منصورًا، وعاقلًا لا يستشار في الأمور ولا يستعمل، وساقطًا متهافتًا لا يعطل، وعالمين متقاربين في العلم والنظر في الدين خصمين وهما مختلفان فهذا يقول بالإهمال المحض وذاك يقول بالإجبار المحض وهذا حروري وذاك
1 / 34
رافضي وترى أعداء الله يدالون أولياءه حتى يقتلوهم كل قتلة ويمزقوهم كل ممزق.
وترى الناس أصنافًا في التفضيل فمنهم قوم ابتدأهم الله بالنعم وأسكنهم ريف الأرض وأكرمهم وأخدمهم وحسن وجوههم وبيض ألوانهم وسقاهم العذب النقاح ورزقهم من الطيبات وأطعمهم من كل الثمرات ووفر عليهم العقول والأفهام وفتق ألسنتهم بالحكمة وألبابهم بالعلم وبعث فيهم بالقرب منهم الرسل لأهل هذا الإقليم الذي أسكنناه الله بفضله.
ومنهم قوم أنزلهم أطراف الأرض وجدوبة البلاد وأذلهم وأعراهم وشوه خلقهم وسود ألوانهم وسقاهم الملح الأجاج وجعل أقواتهم الحشرات والنبات وسلبهم العقول وباعدهم من مبعث الرسل ومنتهى الدعوة فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا ثم جعلهم لجهنم حصيبًا ولسعيرها وقودًا كالزنج وصنوف كثيرة من السودان وأصناف من الأعاجم ويأجوج ومأجوج فهل لهؤلاء أن يحتجوا على الله بما منح غيرهم ومنعهم؟
لا لعمر الله ما لأحد عليه حجة ولا قبله حق ولا فيما خلق شرك بل له الحجة البالغة، وهو الفعال لما يريد.
وعدل القول في القدر أن تعلم أن الله عدل لا يجور: كيف خلق، وكيف قدر، وكيف أعطى، وكيف منع، وأنه لا يخرج من قدرته شيء ولا يكون في ملكوته من السموات والأرض إلا ما أراد، وأنه لا دين لأحد عليه ولا حق لأحد قبله، فإن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل، وأن العباد يستطيعون ويعملون ويجزون بما يكسبون، وأن لله لطيفة يبتدئ بها من أراد ويتفضل بها على من أحب، ويوقعها في القلوب فيعود بها إلى طاعته ويمنعها
1 / 35