Huruf Latiniyya
الحروف اللاتينية لكتابة العربية
Genres
قرأت في تلك الجريدة مقالا أشار إليه مرسلها، فسررت سرورا بالغا لعثوري على إنسان يكتب العربية نقية سليمة من كل عيب، مهما يكن الاسم المجهول الموضوع في ذيل المقال دالا على الذات الكاتبة، أو يكن لفظا مستعارا من أحد المسخرين. وليس يرين على سروري ما رأيت في المقال من بعض العبارات النابية؛ لأني أعرف أن لكل كاتب نبوات قد يندم على فروطها. كما لا يقلل من سروري أن صاحب الجريدة - مع تفضله بإيصالها إلى منزلي - توهم أني لن أقرأ ذلك المقال، فكتب في الفهرس الذي على الغلاف ما يفيد أن المقال هو بحث في فوائد اقتراحي؛ إغراء لي بقراءته، كأنه في سهوه وتكليف نفسه مشقة الاحتيال يريد أن يعلمني ما أعلمه من أن الحيل الشرعية جائزة في عرف بعض المسلمين، وأنه لا مانع من أن يستعملها المسلم، وعلى الأخص متى كان صاحب صحيفة دينية تائها في حب الله، غارقا في بحر الحقيقة مع أهل الباطن من الأقطاب الموكلين بتدبير أمور الكون! أليس مثله يوحى إليه في غيبوبته أن من واجبه ديانة أن يحتال على الناس حتى يبلغهم أن الأخلاق الدينية شيء، وأنه وهو القطب الرباني المكلف بالتبليغ شيء آخر بعيد عنها بعد أهل النار من أهل الجنة؟ أوليس أنه يقذف في قلبه أن يقول للناس إن آية صدقه في هذه الرسالة واضحة للصغير والكبير، والأكمه والبصير، هي أن الأخلاق معنى والقطب الرسول مادة، وأنه شتان ما بين المعاني الذهنية وكتل الماديات المرئيات؟ ولا يقلل أيضا من سروري أنه يطعن في اقتراحي بكل ما وسعه، فيقول إنه سقط مستحيل التنفيذ؛ لأنه يضيع على الموجودين والمستقبلين الانتفاع بثقافة الماضين، ويزيد أعباء الطابعين، ويكلف من النفقات ما يخطئه عد العادين وحساب الحاسبين. ولا يقلل منه أنه يشيد بالرسم الحالي ويخلق من سخافته جلالا، بل يذهب إلى حد الدعوى بأنه سيتحقق فيه تنبؤ بعض المتكهنين من أنه سيكون خط كتابة كل العالمين، إلى ما يزعم وما يوهم به من هذا القبيل. بل ولا ينقص سروري أن تدينه نفخه فزين إليه أن يقول إني استلهمت بعض اقتراحي من فيض مكارمه النورانية، كأن للمغمور الذي يتجر بالدين فضلة علم أو أثارة فهم تسقط من بين أسنانه إلى أيدي اللاقطين. كل هذا لا يذهب بسروري من بلاغة المقال؛ لأني - من ناحية - فاهم أنه لو لم يطعن ولم يسهب ورسالته دينية، لأوهمته نفسه أو لتوهم قارئوه - إن كان له قارئ - أنه لم يؤدها على ما يرام. ولأني - من ناحية أخرى - رأيت أن له غرضا أساسيا يسعى إليه، هو تسويء كل القوانين الوضعية القائمة الآن في البلاد، والرجوع إلى ما بناه الفقهاء الأكرمون من صرح الشريعة الغراء. وهو غرض مهم في ذاته، ومن شأنه أن يدفع إلى الإشادة بما ترك الإمام الليث بن سعد وباقي السلف الصالح من الآثار، كما يدفع إلى النعي على كل حادث يتوهم منه المساس بتلك المخلفات.
وأؤكد أيضا للقطب الرباني طابع المقال أن ما كتبوه له فدونه من أن «مثلي في قصور الأسباب التي عللت بها بعض نقط اقتراحي كمثل الزنجي يخرج من مجاهل إفريقية فيبدي رأيه فيما لا علم له به من شئون المتحضرين.»
4
ثم ما دونه أيضا من أن «النتيجة النهائية للأخذ باقتراحي هي إضعاف الإسلام.» أؤكد للقطب أن كل هذا التورط في التجريح لا يمنع سروري بأسلوب مقاله الرشيق، بل إنه يزيد فيه بما يجعلني أبتسم لسهوه عن أن الوعول لا تئوب من نطح الصخرة إلا بكسر قرونها، وأن جرح العجماء - إن جرحت - جبار. ومن أجل هذا فإني أحلله من كل إثم يجول في خاطره أنه ارتكبه بوصف أنه قطب مسلم يحرر أو يطبع صحيفة تدفع عن دين الإسلام وأخلاق الإسلام، بل أستغفر له الله، بل أقول له استمر أنت ومن يكتب لك هنيئا مريئا غير داء مخامر.
ولكني مع تحليله من إثم ما قال وما قد يقول مما يتعلق بي، لا أملك التجاوز له عما تعدى فيه إلى غيري من كرام الناس تعديا كله صغار واستفال. من هم يا حضرة الطابع أولئك المشايعون الذين يعبثون بمحاضر الجلسات؟ وإلام ترمي بموازنتك بين المتقدمين من أعضاء المجمع وبين المتأخرين؟ وهل أتاك عن المتأخرين أنهم يغمطون فضل المتقدمين الأولين؟ وماذا يقذي بصرك ويرمده من رجال القانون ومن الأطباء والمهندسين؟ اربع على ظلعك، واشتغل ببضاعة أخرى في تجارتك بالدين. واعلم أن كل هذا من جانبك تورط من أشنع التورطات، وأن اسمه بالعربية الدس والفتنة والإيقاع. وهنا فقط أعلمك أن مقالك لا يستأهل إلا الإحراق. وما يهم أحدا أعربي هو أم أعجمي، فاحفظه في مخلاتك إن شئت وكله هنيئا أو غير هنيء، فقد زهدت فيه الناس، كله أنت وحدك، فإن خضراء الدمن لا تخطب، والعسل في محجمة الحجام يعاف.
على أن آثام هذا الطابع لا تصرفني عن واجبي، بل هي تحفزني إلى المضي قدما فيه، إني أريد أن أهمس في أذنه، أو بالأحرى في أذن من كتب له المقال، بملاحظتين بسيطتين خاصتين بالغرض الأساسي الذي يسعى إليه، وإن لم يلق باله إليهما كان عمله عبثا في عبث، وتجارته بالدين خسارا في خسار.
الأولى:
أن
لأن الله حي قيوم أبدي يستحيل عليه التغير. أما ما للإنسان فكالإنسان، يتغير ويتبدل ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث. وإذا كان أحد لا يستطيع في الإسلام أن يمس العقائد وفرائض العبادات، فإن الحاكم في الإسلام عليه - بهذا القيد - أن يسوس الناس عاملا على ما يحقق مصالحهم بحسب الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤسسا عمله على الحق، حائطا له بسياج من العدل الذي بدونه لا تنتظم أمور العباد. فهل يرى حضرة الطابع أو الكاتب في القوانين الموجودة الآن، من مدنية وتجارية وجنائية ومالية وإدارية، ومن نظم للهيئات المكلفة بتطبيقها وللهيئات التشريعية العليا المختصة بسنها وإصدارها. هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئا من عقائد المسلمين أو يعطل فرضا من فروض الدين؟ أولا ينظر ويسمع هو ومن لف لفه، إن كان لهم أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، أن في الدولة المصرية من تلك النظم هيئة اسمها وزارة الأوقاف قائمة بتعمير مساجد الله وإقامة شعائر الدين في بيوت الله؟ وهل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين، لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين التي تتطور بالاستمرار تبعا لأحوال الناس، بل وللظروف العالمية جمعاء، وهي في كل أدوار تطورها تحت ضمانة أهل الشورى والحل والعقد من نواب البلاد، ومن فوق نواب البلاد؟ إني أقرأ ضميرك من بعيد، إنك لا تستطيع الجواب؛ لأنك إن أجبت سلبا كذبت على السلف الصالح علنا. وإن وافقتني فوت على نفسك غرضك من إصدار صحيفتك فأجهزت عليها وقبرتها وضاعت عليك تجارتك بالدين. غاية ما يحملك الوهم على اللجوء إليه لتدعي لنفسك شبهة في مخالفتي، تلك المخبثة التي نبه إليها قبلك كثير من رجالنا المحترمين. أقصى ما عندك أن تشير إلى بعض المسائل الأخلاقية، وأن تقول إنها مخالفة لآداب الدين. أنا معك إن كنت أنت منها بريا. ولكن لبث قليلا! إن قسيسي النصارى لما خرجوا عن حدود دينهم الذي هو في أصله دين الله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لما خرجوا وبطشوا بالعباد وعذبوهم باسم الدين، وأحرقوا بعض العلماء باسم الدين، لا لجريرة سوى أنهم شغلوا عقولهم فاهتدوا إلى بعض قوانين الله وسننه في هذا الوجود، لما طغى القساوسة إلى هذا الحد، ضجت منهم شعوبهم، وما زالت تكافح حتى وصلت إلى الضرب على يدهم، واستصدرت دساتير تقررت فيها حرية الرأي وحرية العقيدة وغيرهما من الحريات؛ وذلك كيلا يكون للقساوسة ولا لغيرهم عليهم من سبيل. ولقد جاء الدستور المصري مقررا تلك المبادئ الديموقراطية السليمة فيما قرر من الأحكام. لبث قليلا لأعلمك أن الحكومة المصرية تعمل ما في وسعها للقضاء على كل ما يدور بخلدك من مسائل البغاء والميسر والخمور والإغراق في نزوات السفور، مما تعتده أنت مروجا لتجارتك، وتتمنى على الله في سرك أن يديمه حتى لا تنهار حيطان متجرك فيخرس لسانك. ولكن ما وسيلة الحكومة لاجتثاث تلك المنكرات، وعلى الأخص ما يرتكب منها في الخفاء مما يعلم الله من هم المرتكبوها أأنا أم أنت أم غيرنا من محترفي الدين وغير المحترفين؟ ما وسيلتها وفي البلد كثير من غير المسلمين من أجانب ومصريين؟ أنت تدرك العوائق كما أدركها، وفيها تلك الحريات التي قررها الدستور، ولكنك تريد تأدية رسالتك ولو بالقول العقيم.
لا معدى لك يا سيدي في كل ما همست به في أذنك الآن عن إحدى اثنتين: إما أن تطلب أنت وأضرابك إلغاء الدستور وما قرره من الحريات، وما وكله من أمور التشريع إلى نواب البلاد، الذين إذا كانوا عارفين بأحوالها وما يلزم لها من القوانين، فإن أغلبهم لم يدرسوا الشريعة الإسلامية لا كالسلف ولا كالخلف من الفقهاء، بل فيهم كثير ممن لا يدينون بالإسلام. إما أن تطلب هذا فأقوم في وجهك أنا وغيري من المصريين المسلمين وغير المسلمين، وإما أن تسكت وتقول ليس في الإمكان خير من الكائن الآن. وأنصحك بأن هذا هو الأجدر بك وبأمثالك في هذا القرن العشرين.
Unknown page