حسنا، لما يزيد على خمس سنوات كنت هكذا؛ صبيا نشيطا بوجه مستدير ووردي وقصير وشعر سمني اللون (الذي لم أعد أقصره، ولكني كنت أدهنه بعناية وأصففه للوراء فيما اعتاد الناس على وصفه بالشعر «المهذب».) وكنت أعمل بجد خلف طاولة البيع في المتجر بمئزري الأبيض والقلم الرصاص خلف أذني، وأربط أكياس القهوة سريعا كالبرق، وألاحق الزبائن قائلا: «حاضر يا سيدتي! بالتأكيد يا سيدتي! هل أحضر لك شيئا آخر يا سيدتي؟» وذلك في صوت به مع بعض معالم من لهجة الطبقة العاملة. كان العجوز جريميت يجعلنا نكدح كثيرا في العمل؛ فقد كان يوم عملنا إحدى عشرة ساعة، فيما عدا يومي الخميس والأحد، أما عن أسبوع الكريسماس فقد كان العمل فيه كابوسا شاقا. على الرغم من ذلك، كانت سنوات جيدة جديرة بتذكرها. لا تظن أنه لم تكن لدي طموحات؛ فقد علمت أنني لن أظل مساعد بقال مدى الحياة؛ كنت فقط «أتعلم المهنة». وفي وقت ما وبطريقة أو بأخرى سيكون معي ما يكفي من المال «لأشق طريقي» بنفسي. كان هذا هو تفكير الناس في ذلك الوقت، ولكن تذكر أن ذلك كان قبل الحرب، وقبل الأزمات والإعانات. كان العالم كبيرا بما يكفي ليسع الجميع؛ وكان بمقدور أي أحد «أن ينشئ تجارته»، فقد كان دائما ثمة مكان لمتجر آخر. مرت السنوات بسرعة؛ 1909، 1910، 1911. ومات الملك إدوارد وصدرت الصحف بإطار الحداد الأسود. وافتتحت دارا سينما في وولتن، وانتشرت السيارات أكثر في الطرق، وبدأت الحافلات تسير في أنحاء البلاد كافة. وطارت طائرة - ذلك الشيء الهش المتهالك الذي يجلس رجل في منتصفه على ما يشبه الكرسي - أعلى لوير بينفيلد، وخرج أبناء البلدة كلهم من منازلهم متدافعين للتلويح لها. وبدأ الناس يقولون على نحو شديد الغموض إن الإمبراطور الألماني كان يبالغ في التعظيم من شأن نفسه، و«إنها» (أي الحرب مع ألمانيا) كانت «آتية في وقت ما». ازداد أجري بالتدريج، حتى وصل أخيرا قبل الحرب مباشرة إلى ثمانية وعشرين شلنا في الأسبوع. كنت أعطي أمي عشرة شلنات في الأسبوع لشراء الطعام، ولكن فيما بعد عندما ساءت الأمور، أصبحت أعطيها خمسة عشر شلنا، وعلى الرغم من ذلك كنت أشعر في ذلك الحين أنني غني أكثر من أي وقت آخر. زاد طول قامتي بمقدار بوصة أخرى، وبدأ شاربي في الظهور، وكنت أرتدي حذاء بأزرار وقميصا بياقة طولها ثلاث بوصات. في أيام الأحد بالكنيسة كنت أرتدي بدلة رمادية داكنة أنيقة، وقبعة مستديرة سوداء، وأضع قفازا أسود من جلد الكلاب على المقعد بجواري؛ وكنت أبدو في كل ذلك رجلا محترما مثاليا؛ لذا، لم يكن فخر أمي بي يسعها. ما بين العمل و«التنزه» في أيام الخميس والتفكير في الملابس والفتيات، كانت تأتيني نوبات من الطموح، وأتخيل نفسي وقد أصبحت رجل أعمال كبيرا مثل ليفر أو وليام وايتلي. وما بين سن السادسة عشرة والثامنة عشرة، قمت بمحاولات جادة من أجل «تحسين مستوى ذكائي» وتطوير أدائي في مجال إدارة الأعمال. وعالجت مشكلة إسقاطي لبعض الحروف أثناء الكلام، وتخلصت من جانب كبير من لهجة أبناء الطبقة العاملة التي كنت أتحدث بها. (كانت اللهجات الريفية في وادي التيمز تتلاشى؛ فباستثناء صبية المزارع، كان تقريبا كل من ولد بعد عام 1890 يتحدث بلهجة الطبقة العاملة.) كما أخذت دورة تدريبية بالمراسلة مع أكاديمية ليتلبرنز للتجارة؛ وتعلمت إمساك الدفاتر والإنجليزية الخاصة بالأعمال، وقرأت بجدية كتابا مليئا بالأحاديث الفارغة الرنانة يسمى «فن البيع»؛ وتطورت مهاراتي الحسابية وحتى خطي في الكتابة. وعندما كنت في السابعة عشرة، كنت أجلس لوقت متأخر من الليل أتدرب وكلي حماس لتحسين خطي على ضوء مصباح غاز صغير على طاولة غرفة النوم. في ذلك الوقت، قرأت كثيرا، وكانت معظم قراءاتي لقصص الجريمة والمغامرة، وفي بعض الأحيان، كنت أقرأ الكتب ذات الغلاف الورقي التي كان يمررها الشباب في المتجر خفية فيما بينهم ويصفونها بأنها «مثيرة». (كانت ترجمات لأعمال موباسان وبول دي كوك.) ولكن عندما كنت في الثامنة عشرة، تحولت فجأة إلى شخص رفيع الثقافة؛ إذ اشتركت في المكتبة المحلية، وبدأت في القراءة بنهم لكتب ماري كوريلي وهول كين وأنتوني هوب. وفي ذلك الوقت تقريبا، انضممت إلى حلقة القراءة الخاصة بلوير بينفيلد، التي كان يرأسها راعي الكنيسة وكانت تعقد أمسياتها مرة كل أسبوع طوال فصل الشتاء تحت اسم «النقاش الأدبي»؛ وبضغط من راعي الكنيسة، قرأت قليلا في كتاب «السمسم والزنابق»، حتى إنني قرأت كذلك لبراونينج.
ومرت السنوات بسرعة؛ 1910، 1911، 1912. وكانت تجارة أبي تسوء، لم يتدهور بها الحال فجأة، ولكنها كانت تنحدر. لم يعد أبي وأمي قط كسابق عهديهما بعد أن ترك جو المنزل. حدث ذلك بعد وقت ليس بالطويل من ذهابي إلى العمل لدى جريميت.
كان جو، في الثامنة عشرة من عمره، قد كبر ليصبح وحشا قبيحا؛ فقد كان شابا ضخم البنية، أكبر بكثير من باقي أفراد العائلة، وكان عريض الكتفين برأس كبير ووجه عابس ومخيف وشارب كبير. وعندما كنت تبحث عنه ولا تجده في حانة جورج، فستجده يتسكع أمام مدخل المتجر، ويداه غائرتان في جيبيه، عابسا في وجوه المارة كما لو كان يريد ضربهم، إلا إذا كانوا من الفتيات. وإذا جاء أحد إلى المتجر، كان يتنحى جانبا فقط بالقدر الذي يسمح للزبون أن يدخل، ودون أن يخرج يديه من جيبيه كان يصيح بغضب: «أبي! المتجر!» كان هذا أقصى قدر قدمه من المساعدة. وقد قال أبي وأمي بيأس إنهما «لا يعرفان ماذا يفعلان معه»، وكان ينفق مبالغ كبيرة على شرب الخمر وتدخينه الشره. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي، خرج من المنزل ولم نسمع عنه بعد ذلك قط. كان قد فتح درج النقود بالقوة، وأخذ كل المال الذي كان فيه . لحسن الحظ لم يكن فيه الكثير من المال؛ فقد كانت ثمانية جنيهات تقريبا، ولكنها كانت كافية للحصول على أرخص تذاكر السفر على متن سفينة متجهة إلى أمريكا؛ فلطالما أراد الذهاب إلى أمريكا، وأعتقد أنه فعل ذلك على الأرجح، ولكننا لم نعلم ذلك يقينا. تسبب لنا ذلك في فضيحة نوعا ما في البلدة، وكان التفسير الشائع أن جو قد هرب لأن فتاة قد حملت منه؛ فقد كانت تعيش في الشارع الذي كان يعيش فيه آل سيمونز فتاة تدعى سالي تشيفرز وكانت حاملا، وكان جو على علاقة بها بالتأكيد، ولكن كان كذلك عشرات الفتيان الآخرين على علاقة بها، ولا يعلم أحد من يكون والد الطفل. صدق كل من أمي وأبي هذا التفسير؛ وحتى عندما كانا يجلسان وحدهما، كانا يستخدمانه كذريعة كي يعذرا «ابنهما المسكين» على سرقته للجنيهات الثمانية وهروبه. ولم يكونا قادرين على استيعاب أن جو قد هرب؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يقبل بحياة بسيطة في بلدة ريفية صغيرة، وأنه أراد أن يعيش حياة التسكع والمشاجرات والنساء. لم نسمع عنه مرة أخرى قط. ربما انحرف تماما، وربما مات في الحرب، وربما لم يهتم بالكتابة لنا فحسب. لحسن الحظ ولد الطفل ميتا؛ ومن ثم لم تكن ثمة مشاكل. وفيما يتعلق بسرقة جو للجنيهات الثمانية، تمكن أبي وأمي من إخفاء ذلك السر حتى مماتهما؛ فقد كان في عينيهما فضيحة أكبر من أمر طفل سالي تشيفرز.
أثقلت مشكلة جو عاتق أبي. لم تشكل مغادرة جو فقدانا لشيء لم يكن قد فقده بالفعل، ولكنها جرحته وكبدته العار. ومنذ ذلك الحين، زاد الشيب في شاربه وبدأ يتضاءل في الحجم. ربما ذكرياتي عنه، في هيئة الرجل الأشيب الضئيل الحجم بوجهه القلق المستدير والمليء بالتجاعيد ونظارته التي تعلوها الغبار، ترجع في الواقع إلى ذلك الحين. ببطء، ازداد اهتمامه أكثر فأكثر بالأمور المالية، وقل اهتمامه بالتدريج بالأمور الأخرى؛ فأصبح يتحدث أقل عن السياسة وصحف يوم الأحد، وأكثر عن الأوضاع السيئة للتجارة. بدأت أمي كذلك تتضاءل قليلا في الحجم؛ إذ أتذكر أنها كانت في طفولتي ممتلئة البنية ونشيطة، بشعرها الأصفر ووجهها المتهلل وصدرها الضخم؛ فقد كانت أشبه بمخلوق كبير من هؤلاء الذين توضع تماثيلهم على رءوس البوارج. أما الآن، فقد أصبح جسمها أكثر ضآلة وأصبحت أكثر قلقا، وبدت أكبر من عمرها. كما أصبحت أقل هيبة في المطبخ، وباتت تطبخ أعناق الضأن، وتصاب بالقلق من سعر الفحم، وأصبحت تستخدم السمن النباتي، الشيء الذي لم تكن تسمح بدخوله المنزل قط. بعد أن تركنا جو، احتاج أبي إلى تعيين صبي مهمات آخر؛ ولكن منذ ذلك الحين، كان يعين أولادا في سن صغيرة جدا لمدة عام أو عامين فقط، فلم يكونوا قادرين على حمل الأشياء الثقيلة. كنت أحيانا أساعده عندما أكون في المنزل، ولكنني كنت أنانيا فلم أكن أفعل ذلك بانتظام. ما زلت يمكنني رؤيته وهو يشق طريقه ببطء عبر الساحة، ثم ينحني بشدة ويكاد يكون مخفيا وهو يحمل أحد الأجولة الضخمة، كحلزون قابع أسفل صدفته. أتذكر تلك الأجولة الكبيرة والضخمة، التي تزن مائة وخمسين رطلا على ما أظن، والتي كانت تضغط على عنقه وكتفيه حتى كادت تسقطهما أرضا؛ وأتذكر ذلك الوجه القلق ذا النظارة وهو ينظر إلى أعلى من أسفلها. كانت النتيجة هي أنه أصيب بفتق في عام 1911، وكان عليه أن يقضي عدة أسابيع في المستشفى؛ فعين مديرا مؤقتا للمتجر، ما تسبب في خسارة جزء آخر من رأس ماله. من أكثر الأشياء المرعبة التي قد تشاهدها هي صاحب متجر وهو يتدهور به الحال، ولكن الأمر لا يكون مفاجئا وواضحا مثل أمر العمال الذين يطردون من وظائفهم ويجدون أنفسهم مرة واحدة عاطلين عن العمل. إن صاحب المتجر تتقطع به السبل تدريجيا، مع بعض التأرجح صعودا وهبوطا؛ فيخسر بعض المال تارة، ويكسب بعضه تارة أخرى. وبعض من كنت تتعامل معهم لعدة سنوات يتخلون عنك فجأة ويذهبون إلى آل سارازينز؛ والبعض الآخر يشترون عشرات الدواجن ويطلبون منك الذرة أسبوعيا. وبذلك تكون قادرا على الاستمرار؛ وما زلت «رئيس نفسك»، ولكن دائما مع زيادة بعض الشيء في القلق والضعف، وتقلص في رأس مالك على الدوام. يمكنك الاستمرار على هذا المنوال لسنوات، وربما طوال حياتك إن كنت محظوظا. مات عمي إيزيكيال عام 1911، وترك 120 جنيها لا بد أنها كانت لها أثر كبير في تغيير أوضاع أبي المالية. ولم يضطر أبي إلى رهن وثيقة تأمينه على الحياة حتى عام 1913، وهو الأمر الذي لم أسمع عنه في ذلك الوقت، أو لم أكن أفهم ما يعنيه. يمكنني أن أقول إنني لا أعتقد أنني قد استوعبت أكثر من أن أحوال أبي «لا تسير على ما يرام»، وأن التجارة كانت «كاسدة»، وأنه كان علي الانتظار كثيرا حتى أحصل على مال يمكنني به «بدء تجارتي». وكنت كأبي، أرى المتجر شيئا دائما؛ وكنت أميل بعض الشيء إلى الغضب منه؛ لأنه لم يدر الأمور بشكل أفضل. لم أكن أستطيع أن أرى، وكذلك هو أو أي شخص آخر، أنه كان يحطم ببطء، وأن العمل لن يزدهر مرة أخرى أبدا؛ وأنه حتى إن عاش إلى عمر السبعين، فلا بد أنه سينتهي به الحال في ملجأ للفقراء. مررت أكثر من مرة بمتجر آل سارازينز في السوق، وكنت أفكر ببساطة في مدى إعجابي بنافذتهم الأمامية المصقولة أكثر من نافذة أبي القديمة التي تكسوها الأتربة، واسم «إس بولينج» الذي تصعب قراءته، والكتابة البيضاء المقطعة، وحزم حبوب الطيور الباهتة. لم يكن يخطر ببالي أن آل سارازينز هؤلاء كانوا كالديدان الشريطية التي كانت تأكل في لحم أبي حيا. كنت أحيانا أقتبس في حديثي معه سطورا من التي كنت أقرؤها في كتب الدورات بالمراسلة عن فن البيع والطرق الحديثة، ولكنه لم يعرها انتباها قط؛ فقد ورث تجارة منشأة منذ القدم، ولطالما كان يعمل بجد وأمانة ويبيع السلع الجيدة، ويردد أن الأمور ستزدهر عما قريب. الحقيقة أن قلة قليلة من أصحاب المتاجر في تلك الأيام قد انتهى بهم الحال بالفعل في ملاجئ الفقراء؛ وإن كنت محظوظا، فستموت ولديك بضعة جنيهات. كان سباقا بين الموت والإفلاس، وحمدا لله أن الموت قد فاز في سباق أبي، وأمي أيضا.
أقول لك إن الأعوام 1911، 1912، 1913 كانت أعواما جيدة. في أواخر عام 1912، وعبر حلقة القراءة التي كان يترأسها راعي الكنسية، قابلت إلسي ووترز لأول مرة. حتى ذلك الحين، كحال بقية الأولاد في البلدة، كنت ألاحق الفتيات ونادرا ما تمكنت من التعرف على فتاة و«التنزه» معها لعدة مرات فيما بعد ظهيرة أيام الأحد، ولكن لم تكن لي في الحقيقة حبيبة قط. إنه لأمر غريب، أن تطارد الفتيات وأنت في نحو السادسة عشرة. في أحد الأجزاء المعروفة في البلدة، كان الأولاد يتجولون أزواجا ذهابا وإيابا لمشاهدة الفتيات؛ وكانت الفتيات يتجولن أزواجا ذهابا وإيابا متظاهرات بأنهن لا يلحظن الأولاد، وسرعان ما يحدث التواصل بينهم بشكل أو بآخر، وبدلا من التجول أزواجا، تجد الفتية والفتيات يتجولون في مجموعات من أربعة أفراد، لكنهم لا يتحدثون مطلقا. وكان المعلم الأساسي لتلك النزهات، الذي يكون أسوأ في المرة الثانية عندما تذهب في نزهة مع فتاة بمفردكما، هو الفشل الرهيب في فتح أي نقاش. ولكن إلسي ووترز بدت مختلفة. الحقيقة أنني كنت أنضج.
لا أريد أن أخبرك بقصتي مع إلسي ووترز، حتى إن كان لدي أي قصة لأرويها؛ فلم تكن سوى جزء من المشهد، جزء «من مشهد ما قبل الحرب». قبل الحرب كان الطقس دائما صيفيا، هذا وهم، كما أسلفت وقلت، ولكني هكذا أتذكره. وكانت الطرق البيضاء المليئة بالغبار تمتد بين أشجار الكستناء، وكنت تشم رائحة زهور المنثور، وترى البرك الخضراء أسفل أشجار الصفصاف، وتشعر برذاذ ماء بورفورد وير، هذا ما أراه عندما أغمض عيني وأفكر في وقت «ما قبل الحرب»، الذي قرب نهايته كانت إلسي ووترز جزءا منه.
لا أعلم إذا ما كانت إلسي جميلة الآن، ولكنها كانت كذلك فيما مضى. كانت فتاة طويلة، في مثل طولي تقريبا؛ وكان شعرها ذهبيا فاتحا وكثيفا، وكانت تلفه فيما يشبه الضفيرة حول رأسها، وكان لها وجه ناعم ووديع على نحو غريب. كانت من هؤلاء الفتيات اللاتي يبدون في أفضل طلاتهن عندما يرتدين اللون الأسود، خاصة تلك الفساتين السوداء شديدة البساطة التي كانوا يجعلونهن يرتدينها في متاجر الأقمشة؛ فقد كانت تعمل في محل ليلي وايت للأقمشة، على الرغم من أنها في الأصل من لندن. أظن أنها كانت أكبر مني بعامين.
أنا ممتن لإلسي؛ لأنها كانت أول شخص علمني كيف أهتم بامرأة؛ ولا أعني الاهتمام بالنساء في العموم، بل أعني بامرأة بعينها. قابلتها في حلقة القراءة وبالكاد لاحظتها، ثم في يوم من الأيام ذهبت إلى متجر ليلي وايت في ساعات عملي، وهو الشيء الذي لم أكن عادة أستطيع فعله، ولكن ما حدث هو أننا كان قد نفد منا قماش الموسلين الذي نستخدمه في لف الزبد فأرسلني العجوز جريميت لشراء بعضه. تعلم تلك الأجواء التي تكون في متاجر الأقمشة، إذ تكون أنثوية بامتياز؛ حيث الشعور بالهدوء، والضوء الخافت، ورائحة الملابس المنعشة، والطنين الخفيف لكرات النقود الخشبية التي تدور ذهابا وإيابا. كانت إلسي متكئة على طاولة البيع تقص قطعة من القماش بالمقص الكبير. كان ثمة شيء في فستانها الأسود وانحناء ثدييها على طاولة البيع، لا يمكنني وصفه، ولكني أراه شيئا ناعما وأنثويا على نحو غريب. وبمجرد أن تراها ستعلم أنه بإمكانك ضمها بين ذراعيك، وأن تفعل أي شيء تريده معها. كانت حقا فائقة الأنوثة، وشديدة الرقة، وشديدة الاستكانة؛ ذلك النوع من النساء اللاتي يفعلن دائما ما يقوله الرجال لهن، على الرغم من أنها لم تكن صغيرة أو ضعيفة. ولم تكن كذلك غبية؛ فقط كانت شديدة الهدوء وفي بعض الأحيان مهذبة بشدة. غير أنني نفسي كنت مهذبا في تلك الأيام.
كنا نعيش معا لمدة عام تقريبا. بالطبع في بلدة كلوير بينفيلد، لا يمكنك القول إنك تعيش مع فتاة إلا على سبيل المجاز. كنا رسميا «نتنزه» معا، وهو ما كان تقليدا متعارفا عليه ولكنه لم يكن كما لو أننا مخطوبان. وكان ثمة شارع يتفرع من الطريق المؤدي إلى أبر بينفيلد، ويخرج إلى أسفل حافة التلال. كان له امتداد طويل، قرابة الميل، وكان مستقيما نوعا ما ومحاطا بأشجار الكستناء الهندي الضخمة؛ وعلى العشب على الجانب، كان ثمة ممر للمشاة أسفل الأغصان يعرف باسم زقاق العشاق. اعتدنا على الذهاب هناك في المساء في شهر مايو، عندما تكون أشجار الكستناء مزهرة. ثم كانت تأتي بعد ذلك الليالي القصيرة، وكانت السماء تكون مضاءة لساعات بعد انتهائنا من العمل. أتعرف شعور المساء في شهر يونيو؟! ذلك الشفق الأزرق المستمر، والهواء الذي يداعب وجهك بنعومة كالحرير. أحيانا في أيام الأحد فيما بعد الظهيرة، كنا نصعد تل تشامفورد، ثم ننزل إلى المروج المجاورة للمياه بمحاذاة نهر التيمز. عام 1913! يا إلهي! يا له من عام! الهدوء، والماء الأخضر، واندفاع ماء بورفورد وير! لن تتكرر تلك الأشياء مرة أخرى. لا أعني أن سنة 1913 لن تتكرر ثانية، ولكن أعني ذلك الشعور الذي بداخلك؛ ذلك الشعور بعدم العجلة وعدم الخوف، ذلك الإحساس الذي تشعر به، ولا تحتاج إلى من يخبرك به أو لا تشعر به، ولم تتسن الفرصة قط لتعلمه.
لم نبدأ فيما يمكن أن يطلق عليه العيش معا إلا في أواخر الصيف؛ إذ كنت شديد الخجل والبلاهة فلم أستطع بدء الأمر، وكنت شديد الجهل فلم أكن أدرك وجود رجال قبلي في حياتها. بعد ظهيرة أحد أيام الأحد، ذهبنا إلى غابة أشجار الزان حول أبر بينفيلد؛ حيث يمكنك دائما بالأعلى الاستمتاع بالوحدة. وقد كنت أريدها بشدة، وأعلم جيدا أنها كانت تنتظرني أن أبدأ. شيء، لا أعلم ما هو، جعلني أذهب إلى أراضي منزل بينفيلد؛ حيث العجوز هودجز، الذي كان قد تجاوز السبعين من عمره وأصبح سريع الغضب جدا؛ فقد كان يمكنه أن يطردنا، ولكنه ربما كان ينام فيما بعد ظهيرة يوم الأحد. تسحبنا عبر فتحة في السياج، ونزلنا إلى الممشى بين أشجار الزان حتى وصلنا إلى البركة الكبيرة. كانت قد مرت أربع سنوات أو أكثر منذ مروري بهذا الطريق آخر مرة، ولم أجد أن شيئا قد تغير؛ فما زالت العزلة التامة، والشعور الخفي النابع من عظم الأشجار من حولك، ومصف القوارب القديم البالي بين الأعشاب المائية. استلقينا في التجويف العشبي الصغير بجوار النعناع البري، وكنا وحدنا تماما كما لو أننا في وسط أفريقيا. قبلتها كثيرا، ثم نهضت وأردت المشي مرة أخرى. كانت رغبتي فيها عارمة، وأردت أن أقدم على الأمر، ولكنني كنت خائفا بعض الشيء. ومن المثير للدهشة أنه كانت ثمة فكرة أخرى في رأسي في الوقت نفسه؛ فقد تذكرت فجأة أنني لسنوات كنت قد نويت العودة إلى ذلك المكان، ولكنني لم أعد قط. والآن وقد أصبحت قريبا جدا منه، بدا من المؤسف ألا أنزل إلى البركة الأخرى وألقي نظرة على أسماك الشبوط الكبيرة. شعرت أنني سأندم بعد ذلك إن أضعت الفرصة، وفكرت في الواقع في السبب الذي منعني من الرجوع من قبل. كانت أسماك الشبوط في ذهني دائما، ولم يعلم بأمرها أحد سواي، وكنت سأذهب لاصطيادها في وقت ما؛ فقد كانت في الواقع أسماكي أنا. وبدأت بالفعل أتجول حول الضفة في ذلك الاتجاه؛ ثم بعدما ذهبت لمسافة ما يقرب من عشر ياردات، تراجعت؛ فقد كان الأمر يتطلب أن تشق طريقك عبر ما يشبه الغابة من أشجار العليق والأغصان المقطوعة المتعفنة، وكنت أرتدي أفضل ملابسي التي أرتديها يوم الأحد؛ بدلة رمادية داكنة، وقبعة مستديرة سوداء، وحذاء بأزرار، وياقة تكاد تقطع أذني؛ هكذا كان الناس يرتدون في نزهات ما بعد ظهيرة يوم الأحد في تلك الأيام. إضافة إلى أنني كنت أريد بشدة إلسي؛ فرجعت ونظرت إليها لبرهة. كانت مستلقية على العشب وذراعها على وجهها، ولم تتحرك عندما سمعتني وأنا آت إليها. وكانت تبدو في فستانها الأسود - لا أعلم كيف - ناعمة ومستسلمة، كما لو أن جسدها كان شيئا مرنا يمكنك أن تفعل به ما تشاء. كانت لي وكان بإمكاني أن أنعم بها في تلك اللحظة إن أردت. وفجأة، لم أعد خائفا، ورميت بقبعتي على العشب (أتذكر أنها تأرجحت قليلا)، ثم جثوت وأمسكت بها. يمكنني حتى الآن أن أشم رائحة النعناع البري. كانت تلك مرتي الأولى، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لها؛ ولم نفسد الأمر كما قد تتوقع. وانتهى الأمر على ذلك. تلاشت أسماك الشبوط الكبيرة من ذهني، ولسنوات بعد ذلك في الواقع بالكاد فكرت فيها.
Unknown page