ثم لا يزال بها حتى يسحرها سحرا، ويختلب قلبها ولبها اختلابا، ويرقى بها إلى أقصى ما تستطيع أن ترقى من السعادة والبهجة والنعيم. ثم تنقضي هذه الساعات، وينقضي معها هذا الحلم الغريب، وتفيق الفتاة مبغضة لزوجها أشد البغض نافرة منه أشد النفور. وهو لا يغيظه منها بغض ولا يؤذيه منها نفور، وإنما هو راض عن طاعتها له وعنايتها به واستسلامها إليه، وسعادتها حين يريد لها أن تكون سعيدة.
ثم كانت الحرب ودعي الرجال إلى الميدان، وكان أسرع من استجاب إلى الدعاء، وقد ودع امرأته متجهما لها، ولم يزد على أن أشار إلى المحيط وقال لها بصوته الهادئ المطمئن: انظري إليه، إنه أحسن زوج للخائنات.
وانقضت أعوام الحرب كلها ومدام ليونتين وفية لزوجها عن حب له، أو عن خوف منه، أو عن خوف من هذا المحيط الذي لا حد له ولا قرار.
وكان هذا الرجل يلم بأهله من حين إلى حين أثناء الحرب، فيلقى امرأته راضيا وينصرف عنها مطمئنا، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها نقلها إلى باريس واستقر في هذه المدينة يعمل هو خادما في إحدى القهوات، وتعمل هي خادما في بعض البيوت، يفترقان إذا أشرق الصبح ويلتقيان إذا أقبل الليل.
يفترقان وهي سعيدة بهذا الفراق ويلتقيان وهي شقية بهذا اللقاء، ويذوقان معا السعادة الغريبة النادرة في ساعات قصار، حتى تم تكوين الأسرة فكان الولد، وكان تنشيء الولد وكانت العناية بالتربية والتعليم. وها هي هذه اليوم تنبئني بأن ابنها قد نجح في الامتحان، وأن ابنتها قد ظفرت بالشهادة الابتدائية وأن زوجها قد ربح ورقة من أوراق النصيب. وهي سعيدة بهذا كله، هي سعيدة بأنها قد جمعت شيئا من مال، وأن زوجها مثلها قد جمع شيئا من مال، وأن هذه الورقة التي ربحها زوجها أمس قد ضخمت كنزهما وعظمت ثروتهما، فأصبحا غنيين عن الخدمة في القهوات والبيوت.
وهي تحب باريس وتريد أن تعيش فيها، ولكن زوجها يحب بريتانيا ويريد أن يعود إليها، وسيشتري فيها دارا يشرف منها على المحيط، وهي مضطرة إلى أن تتبعه لأنها تخافه في باريس كما كانت تخافه في بريتانيا. وهي لا تكره أن تنفق ما بقي لها من الحياة بين هذين العدوين؛ عدوها الذي يمنحها السعادة لحظات من حين إلى حين، وعدوها الذي يدخر لها الموت إن خالفت قوانين الحب والوفاء للزوج.
وكانت مدام ليونتين وهي تلقي إلي أحاديثها هذه تفلسف في سذاجة حلوة فتسأل: كيف توجد السعادة في غير شقاء؟ وتسخر من هؤلاء الذين لا يرضون عن الحياة إلا أن تكون حرة طلقة، وتسأل: أحق أن الحرية تكفل السعادة للناس، وأن الاستبداد لا يعقب الناس إلا شقاء؟
ولست أدري أين قرأت مدام ليونتين أن موسوليني قد أصلح إيطاليا، وأن هتلر قد قوم ألمانيا؛ فهي تقول لي: انظر يا سيدي إلينا إننا أحرار في بلادنا، ولكن أمورنا مضطربة فاسدة أشد الفساد، وإن الإيطاليين والألمانيين بعيدون عن الحرية إلى أقصى غايات البعد، ولكن أمورهم منظمة صالحة، فأنا يا سيدي كإيطاليا وألمانيا سعيدة برغم أنفي وغيري من النساء كفرنسا يؤثرون الحرية على السعادة. قلت ضاحكا: ولكن لو خيرت الآن فماذا تختارين؟ فسكتت غير طويل ثم قالت: أظن أني أختار حرية الفرنسيات.
بين الحب والإثم
أصبحت مبتهجة القلب، راضية النفس، ناعمة البال، مبتسمة للنهار المشرق كما كان يبتسم لها النهار المشرق.
Unknown page