في ذلك اليوم؛ إذ نحن جلوس في الميدان المظلم الخالي، قال لي «إبراهيم»، وهو يطوح بزجاجة «العرقي» الخالية في منتصف الميدان : «قالوا إنهم ألقوا بالجثة في النيل، وسيجعلون الأمر يبدو انتحارا؛ حتى لا تكون هناك أسئلة، قالوا لي إنه يجب علي أن أتعاون معهم، لو أردت أن أضمن سلامة والدتي وأخي.
أعرف أنهم لا يمزحون؛ فقد قتلوا أحد الشهود، وكان هذا صبيا صغيرا رآهم يلقون بالجثة في النيل، وأبلغ الشرطة. وقد قتلوه بلا رحمة. قالوا لي هذا، وهم يضحكون لتخويفي، وأحسبهم قد نجحوا في ذلك.»
ثم أشعل سيجارة، وراح يشفط الدخان في نهم، وينفثه في قلب الظلام وهو يتأمله في شرود، وأضاف: «أعرف أنهم سيتخلصون مني في أقرب فرصة تسنح لهم ما إن تهدأ الأمور، لا يتحملون وجود شهود قد يثيرون لهم المتاعب. لن أنتظرهم مكتوف اليدين، حتى يأتوا ويتخلصوا مني، لقد قررت الخروج من هذا البلد اللعين الذي يتحكمون في كل شيء فيه. أعرف شخصا ما سيساعدني وأسرتي على الوصول إلى الحدود الليبية، وسنحاول من هناك الوصول إلى أي بلد أوروبي يقبل بنا كلاجئين. أنصحك بأن تفعل الشيء ذاته حفاظا على سلامتك، لا بد أنهم قد لاحظوا ما تفعله.»
سألته: «إذن لم توجد مشاجرة، كانت الجروح على جسده من آثار التعذيب في المعتقل؟»
قال، وهو يقذف بعقب السيجارة: «نعم. لقد لقنوني ما شهدت به في قسم الشرطة كشاهد على انتحاره، قاموا بنسج قصة مشاجرتنا تلك حتى يبرروا بها آثار الكدمات والجروح على جسده. أعتذر أنني كذبت عليك مسبقا، أرجو أن تتفهم موقفي، لم يكن لدي خيار.» - «إذن فقد كنت أنت الشاهد الذي رآه يرمي بنفسه في النيل؟» - «نعم.» - «ماذا عن بقية الشهود؟» - «لا يوجد بقية، أنا الشاهد الوحيد.»
مرت فترة صمت ثقيلة، إلا من صوت طفل ما يعوي في أحد المنازل المحيطة بالميدان. سألته وأنا أتأمل الميدان الخالي: «ماذا تعني عبارة كانوا أنبل ما فينا؟»
نظر لي في تساؤل، فأضفت موضحا: «قبل وفاته اتصل بي المرحوم، وقال لي عبارة «كانوا أنبل ما فينا»، لم أفهم ما يعنيه.»
وضع راحتي يده على مقدمة جبهته، وانحني للأمام قليلا مسندا مرفقيه على فخذيه ، بدا لي وكأنه يشعر بالصداع. صمت للحظات، ثم قال: «يقصد قتلى سبتمبر. في الفترة الأخيرة، كان يقول باستمرار إنهم أظهروا أنبل ما فينا، فليس في تاريخ الإنسانية ما هو أنبل من الثورة على الظلم، أو الموت من أجل هذا المبدأ. وأن العسس الذين قتلوهم في الشوارع كانوا أسوأ إخفاقاتنا الإنسانية، لقد قتلوا من تمرد ليطالب بحقه وحقهم في الحياة.»
نهضت من مجلسي بصعوبة، لقد طالت مدة جلوسنا على الإطار حتى تيبست مفاصلي، وشعرت أن ردفي يزنان أطنانا.
شعور غامر بالسلام الداخلي يغمرني. أستطيع أخيرا أن أقول بضمير مستريح: إنني قد حصلت على الخاتمة التي أنشدها، أشعر أنني قد وصلت لآخر الطريق، هذه هي الحقيقة.
Unknown page