Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genres
20
ولكن لو تجاوزنا هذه الإشكالية التي يصعب الفصل فيها، ونظرنا إلى القضية من زاوية العلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل، لوجدنا أن توقعات المستقبل وتحققاتها تتوقف على شدة الوعي بالزمن الحاضر، ودراسة الواقع التاريخي دراسة متأنية لاستنباط ما بداخله من بذور يمكن أن تتطور في زمن المستقبل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن تنتهي إلى أن الحاضر يضم كل الأحداث المستقبلية التي ستكون بدورها مجرد تكرار له - أي للحاضر - ومجرد نتائج مستخلصة منه، أو ربما تأتي أحداث المستقبل على صورة غير متوقعة نتيجة تطورات أو اكتشافات مفاجئة تجعل امتداد الحاضر في المستقبل أمرا مستحيلا، ومن هنا يصبح المستقبل شيئا جديدا كل الجدة بالنسبة لما سبقه.
والحقيقة أن للعلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل أبعادا أخرى يشهد عليها التاريخ الإنساني، ويحددها موقف البشر من الحاضر نفسه. فعندما يستحوذ الحاضر على رضا الناس، فإنه يقلل من اهتمامهم لا بالمستقبل فحسب، بل بالماضي أيضا. ولعل عبارة نيتشه التالية أصدق تعبير عن حالة الوفاق مع اللحظة الحاضرة: «إنني طوال عمري لم أعرف الصراع، لم أرغب في شيء، ولم أتطلع لأي شيء . أنظر للمستقبل كبحر لامع السطح، لا أتمنى لأي شيء أن يكون غير ما هو عليه، ولا أتمنى لنفسي شيئا، لا أصارع في سبيل شيء.»
21
أما إذا كان الحاضر لا يرضى عنه الناس بأي شكل من الأشكال، بل يزودهم بالوسائل والإمكانات القادرة على التغلب على مشاكل هذا الحاضر، فإنه يفتح آفاق المستقبل بدون أن يجعل الحاضر منفرا لهم؛ لأن هذا الحاضر هو الأساس الذي يقوم عليه المستقبل. من ناحية أخرى، إذا نظر الناس إلى الحاضر بغير رضا واعتبروه غير محتمل، ولا يمكن التغلب على مصاعبه، فهذا الحاضر يجعلهم ينظرون إلى المستقبل نظرتهم إلى شيء غريب عنهم كما هم غرباء عنه. وهذه النظرة المغتربة إلى المستقبل تعتبر نفيا لهذا الحاضر نفسه. إنهم يحلمون في هذه الحالة بمستقبل أفضل مقترن بالرفض الكامل لأي محاولة لبنائه على أسس الحاضر، والدليل على ذلك أن الروابط القائمة بين المستقبل الأخروي وبين الحاضر تكون روابط سلبية ورمزية فحسب.
22
ومع أن الإيمان بالأخرويات جزء لا يتجزأ من التدين الصحيح، فإن الحلم الأخروي الذي يتشبث به الناس خصوصا في أوقات المحن وعندما ييأسون يأسا مطلقا من الحاضر، هو نوع من الهروب من العيش في الحاضر، أو هو بمعنى آخر تعبير عن حالة عدم الوفاق مع الواقع الحاضر، فيلتمسون العزاء في واقع آخر لا زماني، وفي عالم آخر ما ورائي وغير موجود في هذا العالم، وفي هذه الحالة تنفصم عرى العلاقة الجدلية بين الحاضر والمستقبل، ليس هذا فحسب، بل يغترب الحاضر ويغيب المستقبل تماما.
يتضح مما سبق أن الحاضر هو نقطة الانطلاق إما إلى الماضي أو إلى المستقبل، بحيث يمكننا أن نردد مع القديس أوغسطين في اعترافاته: «أن الإنسان لا يستطيع أن يقول إن هناك أزمانا ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن ربما يكون من الجائز أن يصيب عندما يقول بأن هناك ثلاثة أزمان، هي حاضر المجريات الماضية وحاضر الوقائع الحاضرة وحاضر الأحداث المقبلة. والواقع أن هذه الأشياء الثلاثة حاضرة في الذهن، وأنني لا أراها في أي مكان آخر، حاضر الماضي أو الذاكرة وحاضر الحاضر أو الحدس وحاضر المستقبل أو الترقب.»
23
قد يفهم من هذه العبارة التي اختزلت كل أبعاد الزمان في بعد واحد، أنه يتعين علينا أن نعيش في الحاضر، الذي لا نملك سواه، ولكن تواجهنا مشكلة الحاضر المتغير دوما، والذي سرعان ما يذوب في الماضي، فاللحظة الحاضر هاربة، فأين المخرج من فناء اللحظة؟ لن يتعرض هذا البحث لهذه الإشكالية الميتافيزيقية التي لم يحسمها التاريخ الطويل للفكر الفلسفي، ولا نظنه سيحسمها على الإطلاق، ولكن لما كانت «العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر»،
Unknown page