110

Harb Wa Salam

الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة

Genres

كانت آنا ميخائيلوفنا تقول: لقد كان المشهد أليما لكنه لم يخل من الفائدة، إنه يرفع الروح ويسمو بها، إن رؤية رجال مثل الكونت العجوز وابنه البار تهز المشاعر.

وتحدثت كذلك عن تصرفات كاتيش والأمير بازيل بلهجة فيها هجاء وتوبيخ وتبكيت، غير أنها في تلك المرة كانت تتحدث بصوت منخفض وسرية مطلقة.

الفصل الخامس والعشرون

الأمير بولكونسكي

كان الأمير نيكولا آندريئيتش بولكونسكي ينتظر في مقاطعته ليسيا جوري - أي الجبل الأقرع - وصول الأمير الشاب آندره وزوجته من يوم إلى آخر، دون أن يغفل - مع ذلك - النظام الدقيق الذي يتبعه في بيته الكبير الذي يقطن فيه، كان منذ عهد بول الأول، حيث أبعد إلى أراضيه، يعيش بصورة مستمرة في الريف مع ابنته ماري والآنسة بوريين، وهي الوصيفة المرافقة للأميرة الشابة، وقد ظل الجنرال الأعلى، الأمير بولكونسكي، ملك بروسيا كما كان يسميه الأشخاص العارفون في الأرياف معتكفا منذ ذلك الحين، فلما فتح له العهد الجديد طريق العاصمتين، ظل مثابرا على انزوائه في أملاكه، زاعما أن الأشخاص الذين يريدون لقاءه يستطيعون قطع أربعين ميلا للوصول إليه حيث هو في مقاطعة الجبل الأقرع، أما هو، فلم يكن في حاجة إلى شيء أو إلى أي شخص، كان يصرح أبدا بأن البطالة والاعتقادات الخرافية كانت المصدر الأوحد لكل الشرور والآثام، وأن الفضيلتين الوحيدتين في العالم هما: الذكاء والعمل، فكان يشرف بنفسه على تثقيف ابنته، وإنماء تينك الفضيلتين الأساسيتين في نفسها، لبث يعطيها دروسا في الجبر والهندسة حتى بلغت سن العشرين، وجهد دائما على ألا يدعها تمضي فترة واحدة من أوقاتها دون عمل تعمله، وكان بدوره لا يهدأ أبدا، فكان يكتب مذكراته، ويناقش ويحل مسائل رياضية عالية، ويصنع الأواني الفخارية، ويعمل في بستانه، ويراقب أبنيته الكثيرة لأنه كان بناء كبيرا.

ولما كان النظام هو الشرط الجوهري الأول في نشاطه وعمله، فإن وجوده كان منظما بدقة، حتى في أدق المراحل واللحظات، فكان بذلك يجلس إلى المائدة في مواعيد ثابتة يراعي فيها ليس الساعة فحسب بل الدقيقة أيضا، ولم يكن قط قاسيا، غير أن صلابته الملازمة التي لم تكن تفارقه مطلقا، كانت توحي إلى من حوله - ابتداء من ابنته وحتى أتفه الخدم - احتراما مفزعا، ما كان يستطيع فرضه أشد الناس قسوة ووحشية، وعلى الرغم من أنه كان محروما من كل نفوذ جديد، فإن كل حاكم جديد للمقاطعة كان يعتقد عند وصوله أو قبل مغادرته المقاطعة ليحل خلف محله، بضرورة الشخوص إلى منزل الأمير وتقديم تمنياته وواجبات الاحترام إليه، فكان ذلك الموظف الكبير يضطر إلى الانتظار في قاعة الاستقبال الفسيحة؛ أسوة بالمهندس والبستاني والأميرة ماري نفسها، ريثما تحين الساعة الثابتة لنهوض الأمير من فراشه، وعندئذ كان المنتظرون يشعرون، دون استثناء، شعورا بالاحترام ممزوجا بإحساس بالرهبة، عندما تفتح درفتا الباب الضخم المؤدي إلى مكتب الأمير، ليبدو هذا على عتبته بشعره المستعار وقامته الصغيرة، قامة عجوز ذي يدين معروقتين وحاجبين أبيضين كثين يحجبان كلما قطبهما نظرته المشعة ببريق الذكاء والنشاط والشباب.

ذهبت الأميرة ماري، صباح اليوم الذي كان ينتظر فيه وصول الزوجين الشابين، إلى قاعة الانتظار كالعادة، في الساعة المعينة لتمنيات الصباح، ورسمت كالعادة إشارة الصليب على صدرها، وقرأت دعاء صامتا وابتهالا سريا، كانت كل صباح تدخل تلك القاعة، وتبتهل إلى الله أن يؤازرها خلال المقابلة الرهيبة المنتظرة، فكان خادم عجوز ينهض دون ضجة فيستقبلها ويهمس لها قائلا: تفضلي بالدخول.

ومن وراء الباب، كان دوي عجلة دائرة دورة رتيبة يسمع بوضوح، جذبت الأميرة بخوف مصراع الباب الذي كان ينفتح دون عناء، وتوقفت على العتبة، فالتفت الأمير إليها، لكنه لم يتوقف عن عمله.

كانت غرفة الأمير الشاسعة تزدحم بعدد من الأشياء التي تحمل طابع الاستعمال الدائم، فالطاولة الكبيرة كانت تنوء بالكتب والمخططات، وخزائن الكتب العالية تعج بمحتوياتها، وفي قفل كل منها مفتاحه الملائم . وعلى نضد مرتفع يصلح للكتابة إذا كان الشخص واقفا، كان دفتر كبير مفتوحا، وبجانبه أدوات الكتابة، أما جهاز صنع الأواني الفخارية، فقد كانت الأدوات المختلفة المبعثرة فوق النشارة التي تغطي مساحة حوله، تشهد بنشاطه المستمر المتنوع المضبوط، كانت حركات ساقه على الدولاب، وضغط يده الناحلة الثابتة تشهد بالقوة العظيمة التي يمتاز بها الأمير في كهولته الناعمة، أدار العجلة بقدمه عدة دورات أخرى، ورفع ساقه عن المحرك، ومسح «إزميله» وألقاه في جيب جلدي معلق إلى الجهاز، ثم اتجه نحو الطاولة، واستدعى ابنته، فقدم لها وجنته المتغضنة لتقبلها، وعلا صوته الصارم الذي تلطفه نظرة مفعمة بالحنان والعناية، قائلا أن يباركها؛ لأن عادته جرت على استنكار مثل هذه الطقوس: هل أنت على خير حال؟ اجلسي إذن.

دفع بقدمه مقعده الوثير وأخذ دفترا من دفاتر الهندسة، وكتب بخط يده فيه، ثم تصفحه وهو يشير بظفره المتين إلى المقطع الذي يريد منها دراسته وحفظه: هذا واجبك ليوم الغد.

Unknown page