فأثنى حسن على الشيخ وودعه وسار قاصدا المدينة وقد أنهكه التعب والقلق وأحس بالجوع وتشاءم مما اتفق له، فعول على أن يسير توا إلى المسجد للصلاة والتبرك ثم يبحث بعد ذلك عن الجمل، ثم تذكر حديث سليمان وأبيه وما فيه من الإشارة إلى الفتك به، فأحب استطلاع سر أبي سليمان قبل دخوله المدينة لئلا يكون فيه ما يمنعه من دخولها، فسار يلتمس المكان الذي تركهما فيه بالأمس فاستشرف أكمة قرب سور المدينة فرأى قرب المستنقعات شيئا كالجمل البارك ثم ما لبث أن سمع جعجعة فأسرع حتى دنا من الجمل فإذا هو جمله بعينه وقد وقع عند حافة المستنقع وقد كسر فخذه ولم يعد يستطيع النهوض ولكنه رآه عاريا لا رحل على ظهره ولا خطام في رأسه فشك في أن يكون جمله وظنه جملا آخر، فتفرس فيه جيدا فلم ير فرقا بينه وبين جمله، ثم تذكر ميسمه وهو العلامة التي يسمون بها الجمال بسمات القبائل، فنظر في الميسم فإذا هو الميسم الذي يعرفه؛ فتحقق أنه جمله، وأنه لم يعد يقوى على المسير، فلم يهمه ضياعه وود لو أن الراعي معه ليهبه الجمل فينحره لأهله. ثم عاد إلى التفكير في الرحل وما كان عليه من أمتعته وبينها كتاب خالد بن يزيد، فزاد تشاؤمه من تلك السفرة وقال في نفسه: «لم يعد لي وطر في المدينة الآن.» ووقف برهة ثم مشى إلى الجهة التي ترك فيها سليمان مطروحا وبجانبه أبوه فرأى المكان خاليا إلا من آثار الدم على صخر منبسط، ورأى بجانب الصخر ثوبا معفرا فإذا هو القباء وقد تلوث بالدم وتمزق قطعا قطعا فاستغرب تمزقه، ثم طرح بقاياه وفكر في أمر سليمان والكتاب فقال في نفسه: «لعل أبا سليمان عثر على الجمل وهو سائر إلى المدينة فلما رآه معطلا حمل رحله معه على نية أن يدفعه إلي عند الملتقى.» فارتاح حسن إلى هذه الفكرة وهدأ اضطرابه وترجح لديه أن أبا سليمان حمل ابنه إلى منزله في المدينة لمداواته، فعول على الذهاب إليه.
وفيما هو سائر إلى المدينة رأى غبارا يتطاير في عرض الأفق مما يلي طريق مكة، فوقف ينتظر ما يكون، فإذا بثلاثة من الإبل عليها ثلاثة رجال قد تلثموا وساقوا الإبل سوقا عنيفا، ثم سمع قرقعة اللجم فعلم أنها إبل البريد، وكان لدواب البريد قعقعة خاصة كأنها أرسانها من سلاسل الحديد، أو لعلهم كانوا يعلقون في أعناقها جلاجل أو نحوها، فمكث هنيهة ريثما مر البريد، فعلم من لباس الرجال وهيئة الركب أنهم من العراق، فترجح عنده أنه بريد الحجاج بن يوسف إلى عامل المدينة.
الفصل الثامن
حسن وسليمان وأبوه
سار حسن في أثر البريد قاصدا بيت سليمان من أقرب الطرق، فلما وصل إليه سأل عن سليمان فعلم أنه مريض؛ فتحقق أنه هناك، فاستأذن وأقبل على حجرة رأى فيها سليمان راقدا وأبوه إلى جانبه فخلع نعليه بالباب ودخل فوقف له أبو سليمان مرحبا به، وأراد سليمان النهوض فأمسكه وأجلسه وجلس على طرف الفراش بجانبه وجعل يسأله عن حاله وسليمان يحمد الله على أنه أحسن كثيرا، ويعزو الفضل في شفائه إلى نجدته إياه. فقال حسن: «ما أظن المصيبة جاءتك إلا بسببي.»
فقال سليمان: «أشكر الله لأنه نجاك من الخطر.»
فتقدم أبو سليمان والدمع ملء عينيه وقبل حسنا وقال له: «اغفر زلتي يا بني، فإن الله هددني بالقصاص حتى خفت فقد ابني ووحيدي، وأشكره على السلامة ولأنه أكسبني ابنا آخر.»
فنظر حسن إلى ذلك الكهل فإذا هو على ما وصفناه من طول القامة ونحافة العضل وقصر اللحية وصغر العمامة، ولكنه رأى في وجهه دلائل السويداء وانقباض النفس فإذا ابتسم فكأنما يبتسم تكلفا، وإذا ترك ساعة أو ساعات ظل صامتا لا يفوه بكلمة كأنه يفكر في مصاب محدق به.
ثم سألاه عن سبب غيابه، فقص حسن عليهما الحديث مختصرا، وكان يتكلم وأبو سليمان يصغي إليه وهو مثبت بصره فيه وكأنه لم يعره كل انتباهه. فلما جاء على آخر الحديث وذكر لقاء الجمل وضياع الرحل قال: «فلما رأيت جملي بلا رحل على مقربة من المكان الذي كنا فيه ظننا أنكم عثرتم على الجمل ورأيتموه معطلا فحملتم رحله معكم لتحفظوه لي عندكم.»
قال أبو سليمان: «كلا يا ولدي فإننا عدنا ليلا، ولم نلتفت يمنة ولا يسرة لانشغالنا بجرح أخيك سليمان، وأنت هل مررت بالمكان الذي كنا فيه؟»
Unknown page