Habermas Muqaddima Qasira
يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وأخيرا، قال هوركهايمر إن النظرية النقدية ينبغي أن تكون «نقدية». وهذا المتطلب يحوي في طياته العديد من المزاعم الواضحة. بصفة عامة، كان هذا المتطلب يعني أن مهمة النظرية عملية، لا نظرية وحسب؛ أي إنها ينبغي ألا تستهدف وحسب تحقيق فهم قويم، بل يجب أن تخلق ظروفا اجتماعية وسياسية أكثر دعما لازدهار البشرية من الظروف الحالية. وإن شئنا قدرا أكبر من الدقة، فقد كان يعني أن النظرية لها ضربان مختلفان من الأهداف المعيارية؛ أحدهما تشخيصي، والآخر علاجي. لم يكن هدف النظرية وحسب تحديد ما «يعيب» المجتمع المعاصر حاليا، ولكن المساعدة أيضا في إحداث تحول في المجتمع إلى الأفضل عن طريق تحديد الجوانب والنزعات التصاعدية داخله.
عندما جعل المناخ السياسي للنازية من المستحيل على المنتسبين للمدرسة (حيث كان غالبيتهم يتحدرون من عائلات يهودية) مواصلة أعمالهم في فرانكفورت؛ نقل المعهد مؤقتا، أولا إلى جينيف ثم إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث واجه القائمون عليه مباشرة ظاهرة اجتماعية جديدة عليهم؛ مجتمع استهلاكي أسير لنموذج هنري فورد للرأسمالية الصناعية والإنتاج الضخم. وأذهلهم تحديدا كيف تحولت الثقافة إلى شكل من أشكال الصناعة على يد شركات هوليوود لإنتاج الأفلام، ووسائل البث الإعلامي، ودور النشر. لقد مارست هذه الشركات الاحتكارية الضخمة أساليب استغلالية وتوجيهية ماكرة، كان لها من الأثر أن جعلت الناس يتقبلون بل وحتى يقرون بنظام اجتماعي أحبط وكبت اهتماماتهم الأساسية. على سبيل المثال، كانت النهايات السعيدة المتوقعة لأفلام الدرجة الثانية التي تنتجها هوليوود تخلق لدى الجمهور إحساسا بالرضا المصطنع. وبدلا من انتقاد الظروف الاجتماعية التي حالت دون عثورهم على السعادة الحقيقية، عكف الناس على معايشة السعادة الخيالية لأبطال أفلامهم عوضا عنهم. ولعبت الثقافة بشكل عفوي دور الإعلان عن الوضع الراهن. وأشار هوركهايمر وزميله الشاب تيودور أدورنو (1903-1969) إلى هذه الظاهرة باسم «صناعة الثقافة».
شكل 1-2: عالم الموسيقى والمنظر الاجتماعي والفيلسوف تيودور أدورنو؛ زميل هابرماس ومستشاره بمعهد البحث الاجتماعي.
ولقد شكلت صناعة الثقافة جزءا حيويا من ميل المجتمع الرأسمالي إلى خلق احتياجات الناس ورغباتهم وإحداث تحول فيها، لدرجة أنه أمست لديهم رغبة في الخبث الذي صنع لأجلهم، وانزوت لديهم الرغبة في عيش حياة مرضية ومجدية. لقد وفر تحليل هذه الظواهر أفكارا متعمقة فيما يتعلق بالطرق التي يمكن بها التلاعب بوعي الناس بواسطة الإعلانات وغيرها من الوسائل؛ من أجل خلق ما عده منظرو مدرسة فرانكفورت حالة زائفة من المصالحة. كانت المصالحة الزائفة تترتب على الاعتقاد بأن العالم الاجتماعي عقلاني ومفض إلى حرية البشر وسعادتهم ويتعذر تغييره، بينما هو في واقع الأمر يفتقر بالمرة للعقلانية ويعوق حرية البشر وسعادتهم، وهو أيضا عرضة للتغير. قبل ذلك بقرن من الزمان، وفي ظروف مختلفة نوعا ما في بروسيا، ذكر هيجل أنه تم التوصل إلى مصالحة حقيقية - أي في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية التي يستطيع أن يتقبلها العقلانيون ويقرون بها - لأنهم، بالنظر إلى جميع المتغيرات، أشبعوا أعمق رغباتهم. لقد قلبت مدرسة فرانكفورت، المتأثرة بماركس وبخبرة القائمين عليها بالقرن العشرين، تفاؤل هيجل رأسا على عقب.
عندما عاد هوركهايمر إلى فرانكفورت عام 1949، أمسى هو وأدورنو أكثر تشاؤما حيال فرص تحقيق الهدف العملي من النظرية النقدية؛ ألا وهو التحول الجذري للمجتمع. وتجذر هذا التشاؤم نظريا في التحليل الذي عرضاه في كتابهما الشهير «جدلية التنوير» (الصادر عام 1947، لكنه نشر لأول مرة عام 1944 على هيئة نسخة مطبوعة بعنوان «شذرات فلسفية»).
يمهد تحليل أدورنو وهوركهايمر لعصر التنوير الطريق للتطور اللاحق للنظرية النقدية. لقد شرعا في تحليلهما انطلاقا من الفرضية الهيجلية (التي يشاطرهما إياها ماركس) والقائلة بأن البشر يشكلون أو يحددون العالم من حولهم عبر نشاطهم العقلي والمادي، أو على حد تعبير ماركس عبر جهودهم الفكرية واليدوية. وبعدها أضافا أطروحة تاريخية مفادها أنه بحلول القرن الثامن عشر الميلادي أمست العقلانية الأداتية، أي تقدير أكثر الوسائل فاعلية لتحقيق غاية أو تلبية رغبة بعينها، الشكل السائد للمعرفة. لقد منحت عملية التنوير التاريخية ميزة خاصة للأشكال العلمية الطبيعية والقابلة للاستغلال تكنولوجيا للمعرفة خلاف غيرها من الأشكال المعرفية قاطبة. وقال أدورنو وهوركهايمر إن العلوم الطبيعية، التي تطرح تعميمات وتنبؤات قابلة للاختبار عن الطبيعة الخارجية، هي شكل مستتر لاستدلال الوسائل/الغايات. من وجهة النظر الأنثروبولوجية، العلم مجرد أداة تدعم الحاجة الأساسية لدى البشر لإحكام السيطرة على بيئتهم وتسخيرها. والتكنولوجيا والصناعة امتداد لهذه الأداة وتطبيق لها.
ويزعم أدورنو وهوركهايمر أن العالم الحديث الصناعي والبيروقراطي تشكل بفعل عملية العقلنة. إن العالم الاجتماعي للقرن العشرين هو نتاج أفعال البشر الذين أصيبت ملكة تفكيرهم بالضمور حتى أصبحت مجرد حساب لأكثر السبل فاعلية لتحقيق غاية ما. لقد أفضى تشييء (التجسيد في صورة شيء) الطبيعة وحسبنتها (إضفاء الصبغة الحسابية عليها) إلى فناء وجهات النظر الأسطورية والدينية عن العالم. وفي الوقت نفسه، تنشأ المفاهيم التي يدرك بها البشر عالمهم من ظروف تاريخية واجتماعية بعينها. يرى أدورنو وهوركهايمر أن العلم والتكنولوجيا يزداد تشكيلهما للحياة المؤسسية يوما بعد يوم، وذلك بفعل العقلانية الأداتية. والأشكال الحديثة للمخالطة الاجتماعية (الأشكال المؤسسية للعقلانية الأداتية) تؤدي بدورها إلى مفاهيم وتصورات وطرق تفكير أداتية في العالم؛ إنها تخلق عقلية علمية وحذرة وفاعلة. ويتبع ذلك دائرة مفرغة تمسي فيها العقلانية الأداتية حصرية وكلية.
ثمة جانب ينذر بالشؤم في الفرضية القائلة إن العلم والعقلانية يخدمان حاجة البشر الأساسية لاستغلال الطبيعة الخارجية والتحكم فيها؛ وهو أن الهيمنة والسيطرة وثيقتا الصلة جدا بالعقلانية. والأمر لا ينحصر في العلم والتكنولوجيا وحسب، بل العقلانية نفسها تعتبر عنصرا ضمنيا في الهيمنة. بحسب هوركهايمر وأدورنو، حتى الأشكال البدائية للعقلانية، كالسحر، هي في الواقع أشكال أولية لهيمنة البشر على الطبيعة وعلى غيرهم من البشر؛ وذلك لأن السحرة يلقون بتعويذاتهم لإخضاع الطبيعة لسيطرتهم، وحيازتهم لقوى سحرية تؤدي إلى خلق طبقات اجتماعية.
من المفارقة إذن أن عملية التنوير نفسها التي كان من المفترض - بحسب المفكرين التنويريين في القرن الثامن عشر؛ مثل روسو، وفولتير، وديدرو، وكانط - أن تفك أسر الإنسان من الطبيعة وتفضي إلى حريته وازدهاره؛ أتت بنتائج عكسية. وتدريجيا، بينما أحكمت النزعتان الصناعية والرأسمالية قبضتهما في القرن التاسع عشر، تعرض البشر إلى شبكات أكثر توغلا من الانضباط والسيطرة الإداريين، وكذا إلى نظام اقتصادي لا يفتأ يقوى ويتعذر ترويضه. وبدلا من أن تفك عملية التنوير أسر الإنسان من الطبيعة، نجدها قيدت الإنسان الذي هو بدوره جزء من الطبيعة. وبدلا من الرخاء الاقتصادي، شاع الشقاء والفقر. وبدلا من التقدم الأخلاقي، حدثت انتكاسة إلى البربرية والعنف والتعصب. هذه هي «جدلية التنوير» التي استلهم منها هوركهايمر وأدورنو فهمهما لعالمهما الاجتماعي، وأثرت في تشخيصهما لعيوبه.
قوض هذا التشاؤم غير المبرر الغاية النقدية من النظرية الاجتماعية في عيني هابرماس الشاب. ولو كان تشخيصهما صحيحا، ولو كان التنوير، المفترض به أن يحقق للبشر الحرية والرخاء، منذ بدايته من المقدر له أن يجلب لهم المزيد من التقييد والشقاء؛ لوقعت النظرية الاجتماعية النقدية في أزمة؛ وذلك لأن النظرية الاجتماعية نفسها شكل من أشكال التنوير، بحسب فهم أدورنو وهوركهايمر الواسع جدا لهذا الاصطلاح؛ إنها نظرية ينبغي أن تفضي إلى فهم أوسع للعالم الاجتماعي وكذا إلى إصلاحه العملي. وفي هذه الحالة، بحسب اعتراف أدورنو وهوركهايمر في مقدمتهما ل «جدلية التنوير»، فإن التنوير ضروري ومستحيل في آن واحد؛ ضروري لأنه لولاه لاستمرت البشرية في سعيها وراء تدمير الذات والتقييد، ومستحيل لأنه لا يمكن تحقيقه إلا عبر النشاط البشري العقلاني، بينما العقلانية نفسها هي أصل المشكلة. كان هذا هو مفهوم الأبوريا الذي دفع هوركهايمر وأدورنو إلى أن يصبحا حذرين أكثر من أي وقت من الغايات السياسية الفعلية للنظرية النقدية. (أبوريا
Unknown page