Habermas Muqaddima Qasira
يورجن هابرماس: مقدمة قصيرة جدا
Genres
السؤال الأساسي الذي تطرحه النظرية الاجتماعية عند هابرماس هو: كيف يكون النظام الاجتماعي ممكنا؟ ويجيب هابرماس بأنه في المجتمعات الحديثة العلمانية يرتكز النظام الاجتماعي في المقام الأول على الفعل التواصلي (الفعل الذي يتم تنسيقه بواسطة ادعاءات الصحة) وعلى الخطاب اللذين يساعدان معا في تأسيس الاندماج الاجتماعي والحفاظ عليه؛ أي إنهما يوفران المادة اللاصقة التي تجمع بين أجزاء المجتمع. ويفعل هابرماس ذلك عن طريق نظرية تتألف من جزأين يدعم كل منهما الآخر ، يقعان تقريبا في المجلد الأول والمجلد الثاني من «نظرية الفعل التواصلي». الجزء الأول مفاهيمي في المقام الأول. يقدم هابرماس تمييزا قاطعا بين الفعل التواصلي والفعل الأداتي أو الاستراتيجي، ثم يحاول أن يبرهن على أن الثاني يعول على الأول. أما الجزء الثاني فهو عبارة عن علم وجود اجتماعي؛ وهي نظرية للهيئة التي عليها المجتمع ومكوناته المتشكل منها. يذهب هابرماس إلى أن المجتمعات الحديثة تتكون من نطاقين أساسيين من النشاط الاجتماعي، العالم المعيش والنظام، وهما نظيران ومحلان للفعل التواصلي والأداتي على الترتيب. (1) الحجة المفاهيمية
يميز هابرماس بين الفعل التواصلي من ناحية والفعل الأداتي والاستراتيجي من ناحية أخرى. (إنني أضع الفعل الأداتي والاستراتيجي في السلة نفسها. ولكن هناك في الواقع فارق مهم بين الفعل الأداتي والاستراتيجي؛ فبحسب هابرماس، يكون الفعل أداتيا عندما يقدم الفاعل على فعل كوسيلة لتحقيق غاية مرجوة؛ أما الفعل الاستراتيجي فهو ضرب من الفعل الأداتي ينطوي على حمل الآخرين على القيام بأفعال كوسيلة لتحقيق المرء غايته. والنقطة المحورية هي أن كليهما يختلف عن الفعل التواصلي.)
الفعل الأداتي هو النتيجة العملية للمنطق الأداتي؛ أي تقدير أفضل السبل للوصول إلى غاية بعينها. يقول هابرماس بأن هناك معيارين للفعل الأداتي: الأول أن غاية الفعل تتحدد مسبقا وباستقلالية عن وسيلة تحقيقها، والثاني أن الغاية تتحقق بتدخل سببي في العالم الموضوعي. ولا يفي الفعل التواصلي بالمعيارين السابقين؛ وذلك لأن هدفه المتأصل - وهو إقرار ادعاء بالصحة وقبوله - يستحيل أن يتحدد بمعزل عن وسيلة تحققه، وهي الكلام، وهو ليس بالشيء الذي يمكن إنجازه سببيا.
ولندرك العلة، يجب أن نرجع إلى مثال سابق؛ لكي تمنعني من التدخين، يمكنك ببساطة أن توجه مطفأة الحريق ناحيتي وتقول لي: «إذا أشعلت سيجارتك، فسأطفئها بهذه مطفأة.» لنفترض أن لدي من الأسباب ما يجعلني أتعامل مع تهديدك بجدية، وأريد أن أتجنب رذاذ مطفأة الكاسح. في هذه الحالة أنت نجحت في جعلي أذعن لك. ولكن، لن يكون فعل الإذعان طوعيا من جانبي بالمعنى المعتاد للكلمة؛ وذلك لأن خيار الرفض ليس بالخيار الذي يمكنني أن أستقر عليه جديا؛ ولذا، فقد قمت أنت بحملي أو إرغامي على الإذعان لطلبك. في السيناريو البديل الموضح في الفصل السابق، ستجد أنك تنجح في إقناعي (بإذعاني لطلبك) على أساس قبولي لأسبابك التي سقتها. وهذا القبول أو تحقيق الإجماع ليس بالشيء الذي تسببت فيه، بل هو نتيجة عملية ثنائية دعوتني فيها، إذا جاز التعبير، إلى المشاركة.
لا يكتفي هابرماس بالدفع بأن الفعل التواصلي والفعل الأداتي نوعان متمايزان من الأفعال، بل يزعم أنهما أساسيان ولا يمكن اختزالهما إلى أنواع أخرى. وهذا التمايز مفاهيمي وواقعي في الوقت نفسه. وهناك طريقتان يمكن من خلالهما فهم الفعل، وطريقتان مختلفتان يستطيع من خلالهما الفاعلون الحقيقيون التواصل في العالم الاجتماعي.
الخطوة الثانية في الحجة أصعب في إدراكها وفهمها؛ فالنتيجة التي يريد هابرماس أن يصل إليها واضحة، لكن الحجة التي يسوقها غامضة. يريد هابرماس أن يثبت أولا: أن التفسير الوافي للمجتمع يجب أن يعطي أعلى مرتبة لمفهوم الفعل التواصلي، وثانيا: أن كل الأفعال الناجحة في العالم الواقعي تعتمد على القدرة على الوصول إلى إجماع. وتحقيقا لهذه الغاية، يجري هابرماس تحليلا لنظرية فعل الكلام، وخاصة للفارق بين أثري «الإنطاق» و«الاستنطاق». أول من تحدث عن هذا الفارق كان فيلسوف أكسفورد جيه إل أوستن (1911-1960)، وهو أحد مؤسسي فلسفة اللغة العادية. وكالعادة يهيئ هابرماس الفارق لخدمة أغراضه الخاصة. بحسب هابرماس، فإن أثر الإنطاق لفعل الكلام هو توليد الإجماع المدفوع بالعقلانية، أو الحصول على غاية بعينها (على سبيل المثال، إقناعي بألا أدخن) عن طريق الوصول إلى إجماع. يوضح المثال السابق ببراعة هذه النقطة؛ فهدف الإنطاق لما لفظته من كلام ليس حملي وحسب على ألا أدخن، بل إقناعي بقبول طلبك باعتباره صحيحا أو معقولا، وإذعاني له طواعية. وفي المقابل، فإن أثر الاستنطاق هو الأثر الذي يتمتع به فعل الكلام بخلاف تحقيق الفهم. بتحذيري لك، قد أثير ذعرك أو ربما أدفعك للضحك. أما آثار الاستنطاق فهي خفية، لكنها ربما تكون محمودة أو مذمومة، أو ربما لا تكون محمودة ولا مذمومة.
يقول هابرماس إن أفعال الكلام ذاتية التفسير. فعندما أرى شخصا يجري على الطريق من أمامي، فربما أنه يفر أو أنه في عجلة من أمره أو أنه يتريض. عادة ما سأفسر أفعاله بأن أنسب مواقف افتراضية معينة له على أساس سلوكه أو مظهره الخارجي، كما فعلنا بالضبط في حالة الحطاب في الفصل الثاني. لست بحاجة لأن أفعل ذلك في وجود أفعال الكلام؛ وذلك لأن هدفها الإنطاقي معروف للجميع. فإذا طلبت من طالب يجلس إلى جوار نافذة ما في إحدى الندوات أن يفتح النافذة، فسيعرف غايتي، وربما سيكون لديه فكرة جيدة عن دوافعي. يوضح فعل الكلام الخاص بي نياتي وغاياتي. والآن، من الممكن استخدام الكلام أيضا استراتيجيا لتحقيق غايات خفية أو آثار استنطاق؛ فقد أحاول أن أخلي المكتبة بأن أصرخ «حريق!» بطريقة مثيرة للذعر وتنم عن ذعري بشكل ملائم للموقف. ولن تكلل محاولتي هذه بالنجاح إلا إذا حسب الناس الذين يسمعونني أنني أحذرهم حقا من اندلاع حريق. إنهم يستطيعون فهم «قولي»، لكنهم لا يدرون ما «أفعله» حقا بكلامي الملفوظ ما دامت غاية الاستنطاق لما لفظته ليست واضحة للعيان. ولمعرفة المعنى الحقيقي لكلامي الملفوظ، يجب على المستمع بطريقة ما أن يصل إلى غايتي الاستراتيجية الكامنة أو الخفية. ولكن وصوله هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق فعل الكلام الإنطاقي. إن الهدف من تحليل هابرماس لأفعال الكلام هو إثبات أن غايات الإنطاق، لأنها واضحة للعيان في الأساس، أبسط نظريا وبراجماتيا من غايات الاستنطاق. ويتوسع هابرماس في هذه النقطة إلى الأفعال الأداتية والاستراتيجية عموما، ويستنبط أنها تعول على الفعل التواصلي، في حين أن الفعل التواصلي أساسي ومستقل. واستنادا إلى رأي هابرماس، فإن تهديدك باستخدام مطفأة الحريق في وجهي قد يحقق الأثر المرجو، لكنني لن أستوعب أفعالك بالكامل حتى أفهم الأسباب الداعية لها وأقبلها.
ثمة خلاف على تحليل هابرماس، وطريقة استدلاله صعبة التتبع، لكننا نستطيع أن نرى النتيجة التي يسعى إليها؛ وهي أن معاني أفعال الكلام والأفعال عموما لا يمكن فهمهما بشكل أداتي. وهذا جزء محوري من حجة هابرماس التي يسوقها ضد الروايات الفردية والأداتية للنظام الاجتماعي. ولا يمكن للتصورات الذرية والأداتية للمجتمع أن تفسر ظاهرة التواصل بين الفاعلين؛ ومن ثم فهي لا تميز أثرها التكاملي على المجتمع. يمكننا الآن إدراك السبب وراء ظن هابرماس أن الإجابة التقليدية على مسألة فهم معاني الأفعال تمزج بين نظرية المعنى الخاطئة وتصور زائف عن العقلانية. بناء على التصور التقليدي، يعتمد معنى الأفعال على شروط صحة المواقف الافتراضية المنسوبة إلى الأفراد على أساس سلوكهم الخارجي، والاستنباطات المنطقية التي تجري في رأس كل منهم. والنتيجة تصور زائف للمجتمع باعتباره مجموع مفكريه المفردين، يقدر كل واحد منهم الطريقة المثلى للسعي وراء غاياته الخاصة. ويتفق هذا التصور مع وجهة نظر أنثروبولوجية واسعة الانتشار، مفادها أن البشر يهتمون بالمصلحة الذاتية أصلا، وهي وجهة النظر الممتدة من اليونانيين القدماء ومنهم إلى الفلسفة الحديثة المبكرة وصولا إلى العصر الحالي. إن النظرية الاجتماعية الحديثة، في ظل تأثير هوبز أو نظرية الاختيار العقلاني، تنظر إلى المجتمع بمعطيات شبيهة. في رأي هابرماس، تتجاهل هذه السبل الدور المحوري للتواصل والخطاب في تشكيل الروابط الاجتماعية بين الفاعلين؛ ومن ثم فهي تشتمل على تصور قاصر للارتباط البشري. (2) علم الوجود الاجتماعي
علم الوجود الاجتماعي عند هابرماس هو نظرية تتناول تكوين المجتمع في أواخر القرن العشرين. وفي قلب هذه النظرية يكمن الفارق بين العالم المعيش والنظام؛ وهما نطاقان متمايزان للحياة الاجتماعية؛ لكل منهما ما يميزه من قواعد ومؤسسات وأنماط سلوكية، إلخ. إن العالم المعيش والنظام هما محلا الفعل التواصلي والفعل الأداتي على الترتيب، وهنا أيضا يزعم هابرماس أن النظام يعتمد على العالم المعيش. وقبل أن نصرح بأي شيء عن علاقتهما، نحن بحاجة إلى دراسة هذين الاصطلاحين عن كثب. (2-1) العالم المعيش
العالم المعيش مفهوم يشير إلى الحياة اليومية التي نشاطرها الآخرين. استخدم الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859-1938) - الذي أسس علم الظواهر وتتلمذ على يده مارتن هايدجر - هذا المصطلح لأول مرة من أجل المقارنة بين الموقف الطبيعي ما قبل النظري لعامة الناس من العالم بالمنظور النظري، والتشييئي، والحسابي للعالم. يفعل هابرماس شيئا شبيها؛ فالعالم المعيش هو الاسم الذي يستخدمه للنطاقات غير الرسمية وغير المسوق لها من الحياة الاجتماعية: كالعائلة والأسرة، والثقافة، والحياة السياسية خارج إطار الأحزاب المنظمة، ووسائل الإعلام الجماهيرية، ومنظمات العمل الطوعي، وما إلى ذلك.
Unknown page