Fitna Kubra Cali Wa Banuhu
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Genres
ومنذ ذلك اليوم انقسمت الدولة الإسلامية شطرين؛ شطر المغرب: وأمره إلى معاوية، وقوامه الشام ومصر وما فتح على المسلمين من إفريقية وما وراء ذلك من أرض كانت تنتظر الفتح، وشطر المشرق: وأمره إلى علي، وقوامه العراق وما فتح على الفرس وجزيرة العرب. على أن معاوية لم يقنع بما احتاز من هذا المغرب، وإنما أطمعه انتصاره، واجتماع أصحابه عليه، وطاعتهم له، وكيده لعلي في العراق، ونجحه فيما كان يحاول من استهواء أصحاب علي، فلم يلبث أن فكر ثم حاول فلم يخطئه النجح فيما فكر ولا فيما حاول، ولم يفكر في أقل من أن يغزو أهل العراق في عقر دارهم، ولم يحاول أقل من أن يشيع الذعر والهلع فيما بقي لعلي من الأرض.
الفصل الحادي والثلاثون
وفي أثناء هذا كله أضاف أقرب الناس إلى علي وآثرهم عنده محنة إلى محنه الكثيرة، وهو ابن عمه وعامله على البصرة عبد الله بن عباس صاحب رأي علي، وأعرف الناس بدخيلة أمره، وأقدرهم على نصحه ونصره، وأجدرهم أن يعينه ويخلص له حين تتنكر له الدنيا ويمكر به العدو ويلتوي عليه الصديق.
ولم يقصر علي في ذات ابن عمه، لم يخف عليه من أمره شيئا، ولم يحتجز عنه سرا من أسراره، وإنما كان يراه وزيرا طبيعيا له، أقام هو في الكوفة وولى وزيره وابن عمه البصرة، وهي أعظم أمصاره وأجلها خطرا، وكان علي ينتظر أن يمتحن في الناس جميعا إلا في ابن عمه هذا وفي بنيه.
وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المكانة في بني هاشم خاصة وفي قريش عامة وفي نفوس المسلمين جميعا ما كان خليقا أن يعصمه من الانحراف عن ابن عمه، مهما تعظم الكوارث ومهما تدلهم الخطوب، ولكنه فيما يظهر عاد من صفين منكسر النفس بعد ما رأى من ظهور معاوية بالكيد والمكر وطاعة أهل الشام، ومن تفرق أصحاب علي على إمامهم، وانحراف كثير منهم عنه إلى الحرب الخفية، وانحراف كثير منهم عنه إلى الحرب الظاهرة، ثم شهد أمر الحكمين فرأى تخاذل أهل العراق وتظاهر أهل الشام، وعاد وقد استيقن أن الدنيا قد أدبرت عن ابن عمه، وأن الأيام قد تنكرت له، وأن الأمور تريد أن تستقيم لمعاوية، ورأى أن ابن عمه على ذلك كله ماض في طريقه المستقيمة لا يعوج ولا يلتوي، ولا يحب اعوجاجا ولا التواء من أحد، وإنما يجري سياسته سمحة هينة، ويسير سيرة عمر بالرفق بالمسلمين والعطف عليهم، ولكنه لا يشتد شدة عمر ولا يعنف بالناس، وإنما يحارب من حاربه في غير هوادة، ويسالم من سالمه في غير احتياط، لا يعاقب على الكيد ولا يأخذ بالظنة، ولا يبادي الناس بالشر حتى يبادوه.
وقد رأينا أن ابن عباس لم يقدم على علي حين أراد الشخوص إلى الشام، ولم يشهد معه النهروان، وإنما أقام بالبصرة وسرح الجند إلى علي كأنه قد ضاق بهذه الحرب التي لا تغني، فقعد عنها وانتظر عاقبتها، ثم لم يلبث أن رأى عاقبتها شرا وفرقة وتخاذلا، فقد أوقع علي بالخوارج فلم يزد علي أن قتل جماعة من أصحابه، ثم لم يمض إلى الشام بعد ذلك وإنما عاد إلى الكوفة، ثم لم يستطع أن يخرج منها بعد أن عاد إليها. رأى ابن عباس نجم ابن عمه في أفول ونجم معاوية في صعود، فأقام في البصرة يفكر في نفسه أكثر مما يفكر في ابن عمه وفي هذه الخطوب التي كانت تزدحم عليه، وكأنه آثر نفسه بشيء من الخير وسار في بيت المال سيرة تخالف المألوف من أمر علي ومن أمره هو، حين كانت الأيام مقبلة على ابن عمه وعليه، وكأنه آنس من صاحب بيت المال في البصرة، وهو أبو الأسود الدؤلي شيئا من النكير، فأغلظ له في القول ذات يوم.
وضاق أبو الأسود بما رأى وما سمع، فكتب إلى علي: «أما بعد، فإن الله جعلك واليا مؤتمنا وراعيا مسئولا، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ناصحا للرعية توفر لهم فيئهم، وتظلف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم، وإن عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك، ولا يسعني كتمانك ذلك، فانظر - رحمك الله - فيما قبلنا من أمرك، واكتب إلي برأيك إن شاء الله، والسلام.»
وليس من شك أن هذا الكتاب قد روع عليا وأضاف هما عظيما إلى همومه العظام، وحزنا ثقيلا إلى أحزانه اللاذعة الممضة، ولكنه صبر نفسه على ما تكره كما تعود أن يفعل دائما، وكتب إلى أبي الأسود: «أما بعد، فقد فهمت كتابك، ومثلك نصح للإمام والأمة، ووالى على الحق وفارق الجور، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي فيه من أمره ولم أعلمه بكتابك إلي فيه، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح؛ فإنك بذلك محقوق، وهو عليك واجب، والسلام.»
وكتب في الوقت نفسه إلى ابن عباس: «أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وأخربت أمانتك وعصيت إمامك وخنت المسلمين، بلغني أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس.»
وليس غريبا من علي أن يشجع أبا الأسود على أن ينبئه بحقائق ما يكون بحضرته، وأن يرضى منه ما فعل حين كتب إليه من أمر ابن عمه بما كتب، فقد كان علي في أمر المال والعمال متحرجا أشد التحرج، أمره في ذلك كأمر عمر، وكان أحرص الناس على ألا يخفى عليه شيء من أمر عماله، كما سترى في غير هذا الموضع.
Unknown page