Fitna Kubra Cali Wa Banuhu
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Genres
ومضى أمر الحزب على ذلك، فجعل الشيعة يلقى بعضهم بعضا يتذاكرون أمورهم، ويسجلون على معاوية وولاته ما يتجاوزون به حدود الحق والعدل، وينتظرون أن يأمرهم الإمام بالخروج.
الفصل الخامس والأربعون
ولكن الإمام لم يأمرهم بالخروج، ولعله كان يأمرهم بالعافية ويتقدم إليهم بين حين وحين إذا لقيهم أثناء وفودهم على موسمهم، بأن يؤثروا البقيا ويصطنعوا الرفق، ولا يعرضوا أنفسهم لبطش السلطان.
ولم تكن شيعة أهل البيت مقصورة على الكوفة ولكنها كانت منتشرة في آفاق البلاد، تقل في بعضها وتكثر في بعضها الآخر، وكانت أمزجتها تختلف في المعارضة باختلاف كثرتها وقلتها، وباختلاف سياسة الولاة لها، فكانت تتفق قبل كل شيء على أن ولاية معاوية شر ليس من احتماله بد، حتى تتهيأ الفرصة للتخلص منه، إما باستراحة الأبرار وحسن استعدادهم للخروج وقدرتهم عليه، وإما بموت الفجار وعودة الأمر شورى بين المسلمين، وكانت الشيعة تنشط أشد النشاط في نشر الدعوة للإمام من أهل البيت بحيث يئول الأمر إليه، حين يستشار المسلمون في أمر خلافتهم، فكانوا يدعون إلى إمامهم في السلم، يلينون في هذه الدعوة ويشتدون حسبما يكون لهم من الأمزجة وما يتاح لهم من الفرص والظروف، وكان الحسن نفسه وفيا لمعاوية ببيعته، حفيظا له على عهده، مستعينا به إن احتاج إلى المعونة مهما يكن نوعها، ولكنه على ذلك كان معارضا ولم يكن يستخفي بمعارضته، وإنما كان يظهر منها ما يشاء في المدينة حيث كان يقيم، وفي مكة حين كان يلم بها أثناء الموسم، وكانت الفرص تواتيه أحسن المواتاة وأيسرها، فهو كان عذب الروح حلو الحديث كريم المعاشرة حسن الألفة محببا إلى الناس، يحبه أترابه من شباب قريش والأنصار لهذه الخصال، ويحبه الشيوخ من أصحاب النبي لهذه الخصال ولمكانه من النبي، ويحبه عامة الناس لكل هذا ولسخائه وجوده وإعطائه المال حين يسأل وحين لا يسأل، وكان يصبح فيصلي الصبح ويجلس في مكانه، حتى إذا ارتفعت الشمس طاف بأمهات المؤمنين زائرا لهن متحدثا إليهن، يبرهن ويبررنه، ويهدي إليهن ويهدين إليه، ثم يفرغ لبعض شأنه، فإذا صليت الظهر جلس للناس في المسجد فأطال الجلوس يسمع منهم ويقول لهم، يعلم من احتاج منهم إلى العلم، ويؤدب من احتاج منهم إلى الأدب، ويسمع من شيوخ الصحابة من يفيده علما وأدبا، وكان في أثناء هذا كله إذا ذكر السلطان أو ذكر السلطان عنده يعرف الخير وينكر الشر في أرق لفظ وأعذبه، ولكنه كان يشتد حتى يبلغ القسوة إن ذكر أبوه بغير ما يحب، أو لقي من بغى أباه الغوائل أو سعى إليه بمكروه، وكان بعد هذا كله يحسن كما أحسن الله إليه، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، فكان - فيما اتفق المؤرخون والرواة عليه - مزواجا مطلاقا حتى أنكر أبوه عليه ذلك، ونهى الناس عن تزويجه، فلم ينتهوا وكابروا أباه في ذلك مداعبين له، كانوا يرون في الإصهار إلى سبط النبي وابن أمير المؤمنين شرفا أي شرف.
وكان معاوية رفيقا بالحسن أعظم الرفق، واصلا له أحسن الصلة، ولكن معارضة الحسن كانت تبلغه، فيعاتبه فيها لينا حينا وشديدا حينا، ولكن مكان الحسن من معاوية لم يكن محببا إليه ، فقد كان معاوية رجلا بعيد النظر، لم يكد يطمئن إلى الخلافة ويرى أنها قد اطمأنت إليه، حتى فكر في أن يجعلها تراثا بعده لآل أبي سفيان، وكان يفكر في ابنه يزيد دائما، فيرى أن الحسن هو الحائل بينه وبين ما يريد من ذلك، فهو قد تعجل الصلح مع الحسن فعرض عليه ولاية الأمر من بعده.
ومن الحق أن الحسن لم يقبل منه ذلك، وإنما اشترط عليه أن تكون الخلافة بعده شورى بين المسلمين، يختارون لها من أحبوا، وكان الحسن في أكبر الظن يرى أن المسلمين لن يعدلوا به بعد وفاة معاوية أحدا، وكانت الشيعة تؤمن بذلك أشد الإيمان، وتدعو له فتلح في الدعاء.
وهنا يختلف المؤرخون والرواة، فقد توفي الحسن رحمه الله سنة خمسين للهجرة.
فأما الشيعة فيرون أن معاوية قد دس إليه من سمه ليخلو له ولابنه وجه الخلافة، وأما مؤرخو الجماعة من أهل السنة فيروون ذلك ويكثرون من روايته، ولكنهم لا يقطعون به، ومن المحدثين من يرويه ولكنه يراه بعيدا، لا لشيء إلا لأن معاوية قد صحب النبي فلا يليق به أن يأتي مثل هذا الأمر البغيض.
ومؤرخو أهل السنة مع ذلك يتحدثون بأن الحسن نفسه قال لبعض عائديه في مرضه الأخير: «لقد سقيت السم مرات، ولكني لم أسق قط سما أشد علي من هذا الذي سقيته هذه المرة، ولقد لفظت آنفا قطعة من كبدي.»
ويتحدثون كذلك بأن أخاه الحسين رحمه الله سأله عمن سقاه السم، فأبى أن ينبئه به مخافة أن يقتص منه بغير حجة قاطعة عليه، يئس الحسن من الحياة وكره أن يلقى الله وقد اقتص له بالشبهة، فآثر أن يكل هذا القصاص إلى الله عز وجل.
Unknown page