الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
الفصل السابع والخمسون
الفصل الثامن والخمسون
المراجع
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل الخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الرابع والخمسون
الفصل الخامس والخمسون
الفصل السادس والخمسون
الفصل السابع والخمسون
الفصل الثامن والخمسون
المراجع
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني)
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني)
علي وبنوه
تأليف
طه حسين
الفصل الأول
واجه المسلمون إثر قتل عثمان - رحمه الله - مشكلتين من أخطر ما عرض لهم من المشكلات منذ خلافة أبي بكر، إحداهما تتصل بالخلافة نفسها، والأخرى تتصل بإقرار النظام وإنفاذ أمر الله فيمن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض.
فقد أمسى المسلمون يوم قتل عثمان وليس لهم إمام يدبر لهم أمورهم ويحفظ عليهم نظامهم، وينفذ فيهم سلطانهم، ويقيم فيهم حدود الله، ويرعى بعد هذا كله أمور هذه الدولة الضخمة التي أقامها أبو بكر وعمر، وزادها عثمان سعة في الشرق والغرب.
فهذه البلاد التي فتحت عليهم ولم يستقر فيها سلطانهم بعد كانت في حاجة إلى من يضبط أمرها ويحكم نظامها ويبعد حدودها التي لم تكن تثبت إلا لتتغير؛ لاتصال الفتح منذ نهض أبو بكر بالأمر إلى أن كانت الفتنة وشغل المسلمون بها أو شغل فريق من المسلمين بها عن الفتوح.
وكانت للمسلمين جيوش مرابطة في الثغور تقف اليوم لتمضي غدا إلى الأمام، وهذه الجيوش لم تكن مشغولة بالفتح وحده وإنما كانت مشغولة كذلك بإقرار النظام فيما فتح عليها من الأرض، وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، واستحداث نظم في الإدارة تلائم مزاج الفاتحين، واستبقاء نظم في الإدارة أيضا تلائم مزاج المغلوبين، وهذه الجيوش كانت محتاجة إلى من يمدها بالجند والعتاد، ويرسم لها الخطط، ويدبر لها من الأمر ما تحتاج إلى تدبيره.
وواضح أن الذين قتلوا عثمان لم يكونوا هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان نفسه من المهاجرين والأنصار، وإنما كانوا شراذم من الجيوش المرابطة في ثغور البصرة والكوفة ومصر ومن ثاب إليهم من الأعراب ومن أعانهم من أبناء المهاجرين، وكانت الجلة من أصحاب النبي المهاجرين والأنصار قد وقفت مواقف ثلاثة مختلفة من هذه الفتنة: فأما كثرتهم فكانت ترى وتنكر وتهم بالإصلاح فلا تجد إليه سبيلا فتسكت عن عجز وقصور لا عن تهاون وتقصير، وأما فريق منهم فقد شبهت عليهم الأمور فآثروا العافية والتزموا الحيدة واعتزلوا الفتنة، وكانت قد وقعت إليهم أحاديث عن النبي تخوف من الفتنة وتأمر باجتنابها، فلزم بعضهم البيوت، وترك بعضهم المدينة مجانبا للناس فارا بدينه إلى الله.
وفريق ثالث لم يذعنوا للعجز ولم يؤثروا الحيدة والاعتزال، وإنما سعوا بين عثمان وخصومه، بعضهم ينصح للخليفة ويحاول الإصلاح بينه وبين الثائرين، وبعضهم ينقم من الخليفة فيحرض عليه ويغري به، أو يقف موقفا أقل ما يوصف به أنه لم يكن موقف المخذل للثائرين أو المنكر عليهم.
فلما قتل عثمان استرجع أكثر الصحابة لأنهم لم يستطيعوا أن ينصروه، وفكروا في غد، وأرادوا أن يستقبلوا أمورهم وتهيئوا لما يقبل عليهم من الأحداث، وأمعن المعتزلون في اعتزالهم وحمدوا الله على أنهم لم يشاركوا في الإثم ولم يخبوا ولم يوضعوا في الفتنة، وأما الآخرون فجعلوا يترقبون ما يصنع الناس، يفكرون في أنفسهم أو يفكرون فيمن يلوذون به من الزعماء.
ولم يكن للمسلمين نظام مقرر مكتوب أو محفوظ يشغلون به منصب الخلافة حين يخلو، وإنما كانوا يواجهون خلو هذا المنصب كما يستطيعون أن يواجهوه.
فأنت تعلم كيف بويع أبو بكر، وكيف رأى عمر أن بيعته كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها، وأنت تعلم أن عمر إنما بويع بعهد من أبي بكر إليه وإلى المسلمين، وقد قبل المسلمون عهد أبي بكر لم ينكره ولم يجادل فيه منهم أحد. وقد هم نفر من المهاجرين أن يجادلوا أبا بكر نفسه في هذا العهد فردهم عن هذا الجدال ردا قبلوه وأذعنوا له، وأنت تعلم أن عمر لم يعهد إلى أحد وإنما جعل الأمر شورى بين أولئك النفر الستة من المهاجرين الذين مات النبي وهو عنهم راض، فاختاروا من بينهم عثمان ولم يختلف عليه منهم أحد، ولم يعهد عثمان، ولو قد فعل لما قبل الناس عهده لكثرة ما أنكروا عليه وعلى ولاته وبطانته من الأحداث، أضف إلى ذلك أن الستة الذين عهد إليهم عمر بالشورى قد أصبحوا حين قتل عثمان أربعة، مات أحدهم عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان، وقتل ثانيهم وهو عثمان، فلم يبق منهم إلا سعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعلي بن أبي طالب، وكان سعد قد اعتزل مع المعتزلين وتجنب الفتنة فيمن تجنبها، فلم يبق إذن إلا هؤلاء الثلاثة: علي وطلحة والزبير.
ثم أضف إلى ذلك أن كثيرا من أصحاب النبي الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة لم يكونوا حاضرين أمر الناس في المدينة، فريق منهم قضى نحبه مستشهدا في حروب الردة وفتوح الفرس والروم، أو ميتا في فراشه، وفريق منهم رابطوا في الثغور مجاهدين ما أطاقوا الجهاد، مستقرين في الأمصار الجديدة حين عجزوا عن الجهاد، فلم تكن جماعة المهاجرين والأنصار التي شهدت مقتل عثمان في المدينة كجماعتهم تلك التي شهدت بيعة الخلفاء الثلاثة.
وكان الأمر مختلفا بين علي وطلحة والزبير ليس لهم موقف واحد من الخليفة المقتول ولا من الظروف التي انتهت بقتله.
فأما علي فكان يخذل الناس عن الثورة والفتنة ما وجد إلى تخذيلهم عنهما سبيلا، وقد سفر بينهم وبين عثمان، كما رأيت في الجزء الأول من هذا الكتاب وردهم عن المدينة، وسفر بينهم وبينه مرة أخرى وأخذ لهم منه الرضى، وحاول حين استيأس من ردهم بعد أن احتلوا المدينة على غرة من أهلها أن يقوم دون عثمان فلم يستطع، واجتهد في أن يوصل إليه الماء العذب حين أدركه الظمأ لشدة الحصار.
وأما الزبير فلم ينشط في رد الثائرين نشاطا ملحوظا، ولم ينشط في تحريضهم نشاطا ملحوظا أيضا، ولكنه ظل يترقب وهواه مع الثائرين، ولعله لم يكن يظن أن الأمر سيصير إلى ما صار إليه.
وأما طلحة فلم يكن يخفي ميله إلى الثائرين ولا تحريضه لهم ولا إطماع فريق منهم في نفسه، وكثيرا ما شكا منه عثمان في السر والجهر، والرواة يتحدثون بأنه استعان عليه بعلي نفسه، وبأن عليا استجاب له فذهب إلى طلحة ورأى عنده جماعة ضخمة من الثائرين، وحاول أن يرده عن خطته تلك فلم يستجب له طلحة فخرج علي من عنده وعمد إلى بيت المال فاستخرج ما فيه وجعل يقسمه بين الناس، فتفرق أصحاب طلحة عنه ورضي عثمان بما فعل علي.
وزعم الرواة أن طلحة لما رأى ذلك أقبل حتى دخل على عثمان تائبا معتذرا، فقال له عثمان: لم تجئ تائبا وإنما جئت مغلوبا، والله حسيبك يا طلحة.
ومهما يكن من شيء فقد قتل عثمان وهؤلاء الثلاثة في المدينة يرقبون ما يصنع الناس، وكان الثائرون قد ملأوا المدينة خوفا ورعبا، فلم يكن دفن الخليفة المقتول إلا بليل وعلى استخفاء شديد من الناس.
والرواة يختلفون في بيعة الإمام بعد قتل الخليفة، فقوم يقولون إن عليا بويع إثر قتل عثمان مباشرة. وليس هذا بثبت، وإنما الثبت الملائم لطبيعة الثورة ولطبيعة هذه الفتنة المشبهة أن المدينة ظلت أياما وليس للناس فيها خليفة وإنما يدبر أمورهم فيها الغافقى أحد زعماء الثورة.
وقد وقع الثائرون بعد أن شفوا أنفسهم من الخليفة المقتول في حيرة حائرة، كانوا يعلمون أن لا بد للناس من إمام ومن أن يبايع هذا الإمام في أسرع وقت ممكن قبل أن يستبد عمال عثمان بما في أيديهم، ويرسل أقواهم معاوية جنده إلى المدينة ليخضعها لسلطانه ويعاقب الثائرين على ما قدموا، وكانوا يعلمون أن أحدا منهم لا يستطيع أن ينهض بإمامة المسلمين لأن أمر الإمامة إنما هو إلى المهاجرين والأنصار يبايعون بها من يختارون من قريش.
ثم كانت أهواؤهم بعد ذلك مختلفة: هوى أهل مصر مع علي، وهوى أهل الكوفة مع الزبير، وهوى أهل البصرة مع طلحة. وقد جعل كل فريق منهم يختلف إلى صاحبه، وجعل الثلاثة يأبون عليهم ويمتنعون من قبول الإمامة منهم، وكأن الثائرين استيقنوا آخر الأمر أنهم لن يستطيعوا وحدهم أن يقيموا للناس إماما وأن لا بد أن يعينهم المهاجرون والأنصار على ذلك، يختارون أحد هؤلاء الثلاثة ويلحون عليه، ويؤيدهم الثائرون في هذا الإلحاح وما يزالون به حتى يرضى.
فجعلوا يدورون على أصحاب النبي يدعونهم - ملحين في الدعوة - إلى أن يختاروا لأمة محمد
صلى الله عليه وسلم
إماما، وقد رأى المهاجرون والأنصار أن لا بد مما ليس منه بد، وأدار كل منهم الأمر بينه وبين نفسه، وبينه وبين من استطاع أن يلقى من أصحابه، فإذا هم يميلون إلى علي ويؤثرونه على صحابيه.
وكذلك أقبلوا على علي يعرضون عليه الإمامة ويلحون عليه في قبولها، والثائرون يؤيدونهم في ذلك. وحاول علي أن يمتنع فلم يجد إلى الامتناع سبيلا، وما يرده عن القبول وقد رفض الخلافة حين قدمها إليه الثائرون، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يعرضونها عليه ويريدون أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء من قبله، فقد قبل الخلافة إذن وجلس للبيعة على منبر النبي كما جلس الخلفاء من قبله، وأقبل الناس فبايعوه.
ولكن نفرا أبوا أن يبايعوا فلم يلح عليهم علي في البيعة ولم يأذن للثائرين في إكراههم عليها، من هؤلاء النفر سعد بن أبي وقاص، وهو أحد أصحاب الشورى، أبى أن يبايع وقال لعلي: ما عليك مني من بأس. فخلى علي بينه وبين ما أراد.
ومنهم عبد الله بن عمر، أبى أن يبايع وطلب إليه علي من يكفله لأن يلزم العافية ويفرغ من أمر الناس، فأبى أن يقدم كفيلا، فقال له علي: ما علمتك إلا سيئ الخلق صغيرا وكبيرا. ثم قال: خلوه وأنا كفيله.
وأبى البيعة قوم آخرون من هؤلاء الذين اعتزلوا الفتنة، فلم يرد علي أن يستكرههم ولا أن يعرض لهم أحد بسوء، وامتنع طلحة والزبير عن البيعة فأكرههما الثائرون عليها، ولم يتركهما علي وشأنهما كما ترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهما من الذين اعتزلوا الفتنة، فقد كان علي يعلم من أمرهما ما علم الثائرون، كان يعلم أن طلحة كان من أشد الناس على الخليفة المقتول، وأنه كان يطمح إلى ولاية الأمر، وكان يعلم أن الزبير لم يأمر ولكنه لم ينه، ولم يكن أقل من طلحة طموحا إلى ولاية الأمر؛ فلم يعفهما من البيعة ليستوثق منهما بقدر ما كان يمكن أن يستوثق منهما.
وتمت البيعة لعلي في المدينة بعد مقتل عثمان بخمسة أيام في بعض الروايات، وبثمانية أيام في بعضها الآخر، وظهر أن الأمور قد استقامت لعلي في الحجاز وفي ثغور الكوفة والبصرة ومصر، وكان الذي يشغله ولا يريد أن يستقيم له هو أمر الشام؛ ذلك أن الشام لم يشترك في الثورة من جهة، وكان حكمه إلى معاوية ابن عم عثمان من جهة أخرى، وسنرى بعد قليل سيرة علي في أمر الشام ومعاوية.
ولكن المهم أن عليا قد أصبح إماما للمسلمين، بايعه من حضر المدينة من المهاجرين والأنصار، وبايعه عن الثغور من حضر المدينة من الثائرين، فقد حلت إذن إحدى المشكلتين الخطيرتين؛ مشكلة الخلافة والخليفة الجديد، أو ظهر لعلي ولكثرة الناس أنها قد حلت وأن الأمر صائر بعد حلها إلى العافية والرضى والاستقرار.
ولم يكن بد من أن يعرض الإمام الجديد للمشكلة الثانية، وهي مشكلة هذا الإمام المقتول، فقد كان ينبغي أن يظهر أمر الله وحكم الدين في قتل هذا الإمام وفي قاتليه، أقتل الإمام ظالما؟ وإذن فلا ثأر له ولا قصاص من قاتليه، أم قتل الإمام مظلوما؟ وإذن فلا بد من أن يثأر له الإمام الجديد وينفذ في قاتليه ما أمر الله به من القصاص.
فأما أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار فكانوا يرون أنه قتل مظلوما، وأن ليس للإمام بد من الثأر بدمه، وأن أمور الدين لا تستقيم إذا ضيعت الحقوق وأهدرت الدماء ولم تقم الحدود.
هذا كله لو كان المقتول إنسانا من الناس ليس غير، فكيف وهو إمام الناس وخليفة المسلمين؟! وكان المهاجرون والأنصار يقولون: ما يمنع الناس إن لم نقتص من قتلة عثمان أن يثوروا بكل من سخطوا عليه من أئمتهم فيقتلوه؟ وقد تحدثوا في ذلك إلى علي فسمع منهم وأقرهم على رأيهم، ولكنه صور لهم الأمر على حقيقته؛ فالسلطان قد انتقل إليه بحكم البيعة، ما في ذلك شك، ولكنه ما زال في أيدي الثائرين بحكم الواقع من الأمر، فهم يحتلون المدينة احتلالا عسكريا ويستطيعون أن يقضوا فيها وفي أهلها بما يشاءون، ولا قدرة للخليفة ولا لأصحاب النبي عليهم؛ فالخير إذن في التمهل والأناة حتى تستقيم الأمور ويقوى سلطان الخليفة في الأمر، ثم ينظر في القضية بعد ذلك فيجري الأمر فيها على ما قضى الله ورسوله في الكتاب والسنة.
وقد رضي أصحاب النبي من علي بما رأى لهم، وأما الثائرون فكانوا يرون أنهم قتلوا الخليفة ظالما؛ فليس له ثأر ولا ينبغي للإمام أن يقتل به أحدا.
ومع ذلك فقد هم علي أن يحقق مقتل عثمان، ولكنه لم يستطع أن يمضي في التحقيق إلى غايته، ولهج قوم بأن محمد بن أبي بكر قد شارك في دم عثمان، ومحمد بن أبي بكر هو ابن خليفة رسول الله وأخو أم المؤمنين عائشة، وهو ربيب علي نفسه، فقد كانت أمه عند علي، تزوجها بعد موت أبي بكر، وقد سأل علي محمدا: أأنت قاتل عثمان؟ فأنكر، وأقرته نائلة بنت الفرافصة زوج عثمان على إنكاره.
ولكن الثائرين لم يكادوا يحسون بدء علي في هذا التحقيق حتى أظهروا السخط والتضامن، فصار علي إلى ما قدمنا من رأيه، وانتظر معه عامة الصحابة من أهل المدينة.
ولعلك تذكر أن عثمان نفسه قد واجه في أول خلافته مشكلة تشبه هذه المشكلة التي واجهها علي أول ما ولي الأمر، فقد كان أول مشكل عرض لعثمان هو أمر عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان متهما له بالتحريض على قتل أبيه، وقتله في غير تثبت وبغير قضاء ممن يملك القضاء، وكان المسلمون قد انقسموا في أمر هذا الفتى، فريق يرى إقامة الحد عليه، ومنهم علي، وفريق يكبر أن يبدأ عثمان خلافته بقتل ابن أمير المؤمنين عمر، وقد عفا عثمان لأن الهرمزان لم يكن له ولي من ذوي عصبته يطالب بدمه، فكان الخليفة هو الولي، وكان يرى أن من حقه أن يعفو، ولم يقبل علي وكثير من المسلمين في ذلك الوقت قضاء عثمان وإنما رأوه ظلما وإهدارا للدم وتفريطا في حق الله، وكان علي يقول بعد خلافته: لئن ظفرت بهذا الفاسق لأقتلنه بالهرمزان.
واجه عثمان إذن ابن خليفة من خلفاء المسلمين متهما بالقتل في غير حقه فعفا عنه، واختلف الناس في هذا العفو.
وواجه علي ابن خليفة آخر من خلفاء المسلمين متهما بالقتل وبأي قتل! بقتل إمام من أئمة المسلمين لا بقتل رجل غريب من المغلوبين المستأمنين، ولكن عليا لم يعف عن محمد بن أبي بكر وإنما حقق أمره حتى استبان أنه لم يقتل عثمان ثم منعته الظروف من المضي في التحقيق إلى غايته وإمضاء حكم الدين في القاتلين.
ومن الحق أن نلاحظ أن محمد بن أبي بكر لم يقتل عثمان بيده، ولكنه تسور الدار مع من تسورها عليه، فقد كان له إذن في قتل عثمان شأن ضئيل أو خطير، ولكن الذين كان لهم شأن في هذه الكارثة كانوا أكثر عددا وأقوى قوة وأشد بأسا من أن يقدر عليهم أو يقتص منهم الإمام الجديد، ثم جرت الأمور بعد ذلك على نحو زاد قضية الخليفة المقتول عسرا وتعقيدا كما سترى.
الفصل الثاني
ولم يستقبل المسلمون خلافة علي بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان من رضى النفوس وابتهاج القلوب واطمئنان الضمائر واتساع الأمل وانبساط الرجاء، وإنما استقبلوا خلافته في كثير من الوجوم والقلق والإشفاق واضطراب النفوس واختلاط الأمر، لا لأن عليا كان خليقا أن يثير في نفوسهم وقلوبهم شيئا من هذا، بل لأن ظروف حياتهم قد اضطرتهم إلى هذا كله اضطرارا؛ فقد نهض عثمان بالأمر بعد خليفة قوي شديد صعب المراس أرهقهم من أمرهم عسرا بما كان يسلك بهم إلى العدل من طريق وعرة خشنة لا يصبر على سلوكها إلا أولو العزم وأصحاب الجلد من الناس، وقد صورنا لك فيما مضى من هذا الكتاب شدة عمر على المسلمين عامة في ذات الله، وقسوته على قريش خاصة، يخاف عليهم الفتنة ويخاف منهم الفتنة أيضا، فلما نهض عثمان بأمر الناس أعطاهم لينا بعد شدة وإسماحا بعد عنف وسعة بعد ضيق ورضاء بعد مشقة وجهد؛ فزاد في أعطياتهم ويسر لهم أمرهم ما كان عسيرا حتى آثروه في أعوامه الأولى على عمر.
وأقبل علي بعد مقتل عثمان، فلم يوسع للناس في العطاء، ولم يمنحهم النوافل من المال ولم ييسر لهم أمورهم، وإنما استأنف فيهم سيرة عمر من حيث انقطعت، ومضى بهم في طريقه من حيث وقف.
وكان الناس بعد قتل عمر آمنين مطمئنين يشوب أمنهم واطمئنانهم شيء من الحزن على هذا الإمام البر الذي اختطف من بينهم غيلة، لا عن ملأ من المهاجرين والأنصار، ولا عن ائتمار به من أهل الثغور والأمصار، فكان قتله عنيفا يسيرا في وقت واحد، لم يصوره أحد بأبلغ مما صوره به عمر نفسه حين تلقى الطعنة التي قتلته، ثم تولى وهو يتلو قول الله عز وجل:
وكان أمر الله قدرا مقدورا .
كانت وفاة عمر إذن قدرا من القدر لم تتألب عليه جماعة ولم يأتمر به ملأ من المسلمين، وإنما اغتاله مغتال غير ذي خطر، فساق إليه موتا لم يكن منه بد.
فأما مقتل عثمان فكان نتيجة ثورة جامحة وفتنة شبهت فيها على الناس أمورهم؛ إذ لم يكن أحدهم يعرف أكان مقبلا أم مدبرا. وكان نتيجة خوف ملأ المدينة كلها أياما طوالا ثم انتشر منها في أقطار الأرض فاضطربت له النفوس أشد الاضطراب، وجهز العمال جنودهم لا ليرسلوها إلى حيث كان ينبغي أن ترسل من الثغور، ولكن ليرسلوها إلى عاصمة الدولة وقلبها ليردوا إليها الأمن ويجلوا عنها الخوف وليستنقذوا الخليفة المحصور، فلم تبلغ الجنود قلب الدولة ولا عاصمتها وإنما قتل الخليفة قبل ذلك، فعاد الجند إلى أمرائهم وتركوا المدينة يملؤها الخوف والذعر ويسيطر عليها القلق والاضطراب.
وكان أمر الثورة قد بلغ أهل الموسم في حجهم، وقرأ عليهم عبد الله بن عباس كتاب عثمان يبرئ فيه نفسه من الظلم والجور ويتهم فيه الثائرين به بالخلاف عن أمر الله والبغي على خليفة الله، فقضى الناس مناسكهم خائفين، وعادوا إلى أمصارهم خائفين، يحملون الخوف معهم إلى من أقام ولم يأت الموسم من الناس.
فليس غريبا إذن أن يستقبل المسلمون خلافة علي ووجوههم عابسة وقلوبهم خائفة ونفوسهم قلقة، ويزيد في هذا العبوس والخوف والقلق أن الثائرين الذين قتلوا عثمان كانوا ما يزالون مقيمين بالمدينة متسلطين عليها، حتى كأن الخليفة الجديد ومن بايعه من المهاجرين والأنصار لم يكونوا في أيديهم إلا أسارى؛ وآية ذلك أن الخليفة لم يستطع أن يمضي في تحقيق ما أصاب عثمان وما أصاب المسلمين من كارثة الفتنة لأنه لم يجد القدرة على هذا التحقيق.
وكان المسلمون من أهل المدينة يعرفون مكان العمال الذين أمرهم عثمان على الأمصار، ويقدرون أنهم جميعا - أو أن بعضهم على الأقل - سينكرون الخلافة الجديدة ويجادلون الخليفة في سلطانه غضبا لعثمان الذي ولاهم، وكانوا يخافون من هؤلاء العمال، بنوع خاص معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام، يعرفون قرابته من الخليفة المقتول ويعرفون طاعة أهل الشام له لطول إقامته فيهم وإمرته عليهم منذ عهد عمر، وكانوا يعرفون مكانة معاوية من بني أمية، ويعرفون الخصومة القديمة بين بني أمية وبني هاشم قبل أن يظهر الإسلام وحين انتقل النبي وأصحابه بدينهم الجديد إلى المدينة، فقد أصبح أبو سفيان قائد قريش بعد أن قتل قادتها وسادتها يوم بدر، وهو الذي أقبل بقريش يوم أحد فثأر لقتلى بدر من المشركين، وامرأته هند أم معاوية هي التي أعتقت وحشيا أن قتل حمزة، فلما قتله أقبلت على ميدان الموقعة وبحثت عن حمزة حتى وجدته بين القتلى فبقرت بطنه واستخرجت كبده فلاكتها.
وأبو سفيان هو الذي قاد قريشا يوم الخندق وألب العرب على النبي وأصحابه وأغرى اليهود حتى نقضوا عهدهم مع النبي وأصحابه، وأبو سفيان هو الذي ظل يدبر مقاومة قريش للنبي وكيدها له ومكرها به حتى كان عام الفتح، فأسلم حين لم يكن له من الإسلام بد.
ومهما يقل الناس في معاوية من أنه كان مقربا إلى النبي بعد إسلامه، ومن أنه كان من كتاب الوحي، ومن أنه أخلص للإسلام بعد أن ثاب إليه ونصح للنبي وخلفائه الثلاثة، مهما يقل الناس في معاوية من ذلك فقد كان معاوية هو ابن أبي سفيان قائد المشركين يوم أحد ويوم الخندق، وهو ابن هند التي أغرت بحمزة حتى قتل ثم بقرت بطنه ولاكت كبده، وكادت تدفع النبي نفسه إلى الجزع على عمه الكريم.
وكان المسلمون يسمون معاوية وأمثاله من الذين أسلموا بأخرة، ومن الذين عفا النبي عنهم بعد الفتح بالطلقاء؛ لقول النبي لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.»
كان الناس يعرفون هذا كله ويقدرون أن الأمور لن تستقيم بين الخليفة الهاشمي والأمير الأموي في يسر ولين، وكانوا كذلك يعرفون أن قريشا قد صرفت الخلافة عن بني هاشم بعد وفاة النبي إيثارا للعافية وكراهة أن تجتمع النبوة والخلافة لهذا البطن من بطون قريش، وكانوا يرون أن الله قد آثر بني هاشم بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
فاختصها بخير كثير، وأن بني هاشم ينبغي لهم أن يقنعوا بما آثرهم الله به من هذا الخير الضخم والفضل العظيم.
فكان الناس إذن لا يشفقون من فساد الأمر بين علي ومعاوية فحسب وإنما يشفقون من فساد الأمر بين علي وبني هاشم من جهة وسائر قريش من جهة أخرى، فلم يكونوا إذن يستقبلون حياة قوامها الأمن والعافية والسعة، وإنما كانوا يستقبلون حياة ملؤها القلق والخوف، ويشفقون أن تنتهي بهم آخر الأمر إلى ضيق أي ضيق، وتورطهم في شر عظيم.
وكانوا ينظرون فيرون جماعة من خيار المهاجرين والأنصار قد آثروا العزلة وكرهوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فاعتزلوا أمر عثمان واعتزلوا بيعة علي وأقاموا ينتظرون، وكانت الكثرة الكثيرة من هؤلاء الناس من خيار المسلمين وأصلحهم وأحقهم بالإجلال والإكبار، فيهم سعد بن أبي وقاص، أول من رمى بسهم في سبيل الله، وفاتح فارس، وأحد الذين مات النبي وهو عنهم راض، وأحد الذين جعل عمر إليهم أمر الشورى. وفيهم عبد الله بن عمر الرجل الصالح الذي أحبه المسلمون على اختلافهم أشد الحب؛ لفقهه في الدين وإيثاره للخير وبعده عن الطمع ونصحه للمسلمين في غير رياء ولا مداهنة.
ثم رأى الناس طلحة والزبير يبايعان عن غير رضى ولا إقبال، فما يمنعهم - وهم يرون هذا كله ويعلمون هذا كله ويقدرون هذا كله - أن تمتلئ قلوبهم خوفا ونفوسهم قلقا.
ومع ذلك فقد كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة وضمائرهم رضى ونفوسهم أملا، فهو ابن عم النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يظهر دعوته ويصدع بأمر الله، أحس النبي أن أبا طالب يلقى ضيقا في حياته؛ فسعى في أعمامه ليعينوا الشيخ على النهوض بثقل أبنائه، فاحتملوا عنه أكثر أبنائه وتركوا له عقيلا، كما أحب، وأخذ النبي عليا فكفله وقام على تنشئته وتربيته، فلما آثره الله بالنبوة كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلا، فنستطيع أن نقول إنه نشأ مع الإسلام، وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة فآخى النبي بينه وبين نفسه ثم زوجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.» فلما أصبح دفع الراية إلى علي، وقال النبي له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.» وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.» وكان عمر رحمه الله يعرف لعلي علمه وفقهه، ويقول: «إن عليا أقضانا.» وكان يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم، وقال حين أوصى بالشورى: «لو ولوها الأجلح لحملهم على الجادة.» إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها شيعته.
وسنرى حين نمضي في سيرته وحين نبين مواقفه من المشكلات الكثيرة التي عرضت له أنه كان أهلا لكل هذه الفضائل ولأكثر منها ، وأنه كان أجدر الناس بأن يسير في المسلمين سيرة عمر ويحملهم على طريقه ويبلغ بهم من الخير والنجح والفلاح مثل ما بلغ بهم عمر لو واتته الظروف.
وكان عمر رحمه الله صاحب فراسة صادقة وحدس لا يكاد يخطئ حين قال: «لو ولوها الأجلح لحملهم على الجادة.» كان يرى أن عليا أشبه الناس به في شدته في الحق وإذعانه للحق وغلظته على الذين ينكرون الحق أو يضيقون به، ولكن القوم لم يولوا خلافتهم الأجلح بعد وفاة عمر، حين كانت الدنيا مقبلة والنشاط قويا والإقدام قارحا والبصائر نافذة والأمور تجري بالمسلمين على ما أحبوا، وإنما ولوا خلافتهم عثمان، فكان من أمره معهم وأمرهم معه ما كان، حتى إذا فسدت الدنيا وانتشرت الأمور واضطرب حبل السلطان وظن بعض الناس ببعض أسوأ الظن وأضمر بعضهم لبعض أعظم الكيد؛ هنالك فزعت كثرة منهم إلى علي فبايعته، واعتزلته طائفة لا يريدون به بأسا، وأبت عليه طائفة أخرى لا تحبه ولا تريد أن تستقيم له طائعة.
ونظر الخليفة الجديد ونظر أصحابه معه فإذا هم يواجهون أمورا عظاما، وقد أحاطت بهم فتنة مشبهة معماة إذا أخرج الرجل فيها يده لم يكد يراها.
أمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة وجد علي نفسه كأحسن ما يجد الرجل نفسه، صدق إيمان بالله ونصحا للدين وقياما بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل ولا يدهن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحا أو إخفاقا، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتا، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى ضميره ورضى الله.
الفصل الثالث
وكان علي وعمه العباس يريان حين قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن الخلافة حق لبني هاشم لا ينبغي أن تصرف عنهم ولا أن يقوم بها أحد من دونهم، ولولا أن العباس أسلم بأخرة لفكر في نفسه أن يرشح نفسه خليفة لابن أخيه فيتلقى عنه تراثه في القيام بشأن المسلمين، ولكنه نظر في الأمر فرأى ابن أخيه عليا أحق منه بوراثة هذا السلطان؛ لأنه ربيب النبي وصاحب السابقة في الإسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها، ولأن النبي كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن ذات يوم مداعبة: «تدعوه أخاك وتزوجه ابنتك!» ولأن النبي قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.» وقال للمسلمين يوما آخر: «من كنت مولاه فعلي مولاه.» من أجل ذلك كله أقبل العباس بعد وفاة النبي على ابن أخيه فقال له: «ابسط يدك أبايعك.» ولكن عليا أبى مخافة الفتنة، وذكره العباس بذلك بعد أعوام طوال.
وكان هناك رجل آخر من قريش أراد أن يبايع عليا بعد وفاة النبي لا حبا له ولا رضى به ولا اعترافا بمكانته الخاصة من النبي بل عصبية لبني عبد مناف، وهذا الرجل هو أبو سفيان زعيم قريش أثناء حربها للنبي ومقاومتها للإسلام، والذي لم يسلم إلا كارها حين رأى جيوش المسلمين مطبقة على مكة فأدخله العباس على النبي فأسلم كرها لا طوعا، لم يتردد في الاعتراف بأن لا إله إلا الله؛ لأنه لم ير بهذا الاعتراف بأسا، ولكنه حين طلب إليه أن يشهد أن محمدا رسول الله قال: «أما هذه فإن في نفسي منها شيئا.» ولولا حث العباس له وتخويفه القتل لما اعترف بهذه الشهادة التي كان في نفسه منها شيء، ولكنه أسلم على كل حال، وعرف النبي له مكانته في قريش فجعل داره مثابة يأمن من أوى إليها من أهل مكة حين دخلها الجيش، فهو إذن أحد هؤلاء الطلقاء الذين عفا النبي عنهم حين دخل مكة فاتحا منتصرا، ولم يخطر له قط أن يكون خليفة للمسلمين، ولكنه رأى النبي من بني أبيه عبد مناف، ورأى عليا أحق الناس بوراثة سلطانه، ورأى الخلافة تساق إلى رجل من بني تيم هو أبو بكر، وقدر أنها ستساق بعد أبي بكر إلى رجل من بني عدي هو عمر، فآثر بني أبيه الأدنين على بني عمه، وقال لعلي: «ابسط يدك أبايعك.» ولكن عليا أبى أن يستجيب له كما أبى أن يستجيب لعمه العباس، ولو قد استجاب لهذين الشيخين لأثار بين المسلمين فتنة لم يكونوا في حاجة إليها، ولعلهم لم يكونوا قادرين على احتمالها فضلا عن مقاومتها والخروج منها ظافرين.
فقد علمت ما كان من خلاف الأنصار في أمر البيعة حين قبض النبي، فكيف لو اختلفت قريش نفسها؟! وقد علمت ما كان من ارتداد العرب في أول خلافة أبي بكر، فكيف لو اختلف الذين وفوا للإسلام من قريش والأنصار؟! كان علي موفقا إذن كل التوفيق، ناصحا لله وللإسلام كل النصح حين امتنع على هذين الشيخين فلم ينصب نفسه للخلافة ولم ينازعها أبا بكر وإنما بايعه كما بايعه الناس وصبر نفسه على ما كانت تكره، وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقا له، وكأنه قدر أن الأمر لن يعدوه بعد وفاة أبي بكر، وعذر المسلمين في استخلاف هذا الشيخ الذي أمره النبي أثناء مرضه أن يصلي بالناس، على أنه لم يسرع إلى بيعة أبي بكر وإنما تلبث وقتا غير قصير، ولعله وجد على أبي بكر كما وجدت عليه فاطمة رحمها الله؛ لأنه أبى أن يدفع إليها ما طلبت من ميراث أبيها
صلى الله عليه وسلم
وروى لها قوله: «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» ولكنه على كل حال أقبل فبايع واعتذر عن تلبثه بأنه لم يرد أن يخرج من بيته حتى يجمع القرآن، وقبل أبو بكر منه عذره.
وكان أبو بكر شيخا قد جاوز الستين من عمره قليلا، وكان علي ما يزال في نضرة شبابه قد نيف على الثلاثين، فكان يرى أن المستقبل أمامه وأمام المسلمين فسيح، وأن حقه سيرد إليه حين يختار الله لجواره هذا الشيخ الذي قدمه النبي لأمر من أمور الدين فقدمه المسلمون لأمور الدنيا.
ولكن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر، وقبل المسلمون عهده مجمعين على قبوله لم يمار فيه منهم أحد، فاستبان لعلي يومئذ أن بينه وبين المهاجرين من قريش خلافا واضحا، فهو يرى لنفسه الحق في الخلافة، والمهاجرون لا يرون له هذا الحق، وإنما يرونه واحدا منهم يجري عليه من الأمر ما يجري عليهم.
فأما الأنصار فقد استيأسوا من الخلافة وطابت بها نفوسهم للمهاجرين من قريش يبايعون منهم من ينصبونه للبيعة، وقد بايع علي ثاني الخلفاء كما بايع أولهم كراهية الفتنة وإيثارا للعافية ونصحا للمسلمين، ولم يظهر مطالبة بما كان يراه حقا له بل لم يجمجم به، وإنما صبر نفسه على مكروهها ونصح لعمر كما نصح لأبي بكر، فلما طعن عمر وجعل الخلافة في هؤلاء الستة من أصحاب الشورى لم يشك علي في أن قريشا لا ترى رأيه ولا تؤمن له بحقه ورأى ألا يدعو إلى نفسه وألا يستكره الناس على ما لا يريدون، ولو قد أراد أن يستكرههم لما وجد إلى ذلك سبيلا، فلم تكن له فئة ينصرونه ولم يكن يأوي إلى ركن شديد، وإنما كان نفر يسير من خيار المسلمين يرون رأيه ويجمجمون بالدعوة إليه، ولكنهم كانوا من المستضعفين الذي لم يقووا إلا بالإسلام، ولم تكن لهم عصبية ولا قوة مادية، ومن هؤلاء الناس عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود.
وقد بايع علي عثمان كما بايع الشيخين وهو يرى أنه مغلوب على حقه، ولكنه على ذلك لم يتردد في البيعة ولم يقصر في النصح للخليفة الثالث، كما لم يقصر في النصح للشيخين من قبله، حتى كانت الخطوب التي صورناها في الجزء الأول من هذا الكتاب.
فكان طبيعيا إذن حين قتل عثمان أن يفكر علي في نفسه وفيم غلب عليه من حقه، ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة ولم ينصب نفسه للبيعة إلا حين استكره على ذلك استكراها، وحين هدده بعض الذين ثاروا بعثمان بأن يبدءوا به فيلحقوه بصاحبه المقتول، وحين فزع إليه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة يلحون عليه في أن يتولى أمور المسلمين ليخرجهم من هذه الفتنة المظلمة، ثم هو حين قبل البيعة لم يكره عليها أحدا من أصحاب النبي، وإنما قبل البيعة ممن بايعه وترك من لم يرد أن يبايعه، ترك سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وترك جماعة من الأنصار على رأسهم محمد بن مسلمة، ولم يستثن إلا هذين الرجلين: طلحة والزبير، خاف منهما الفتنة لموقفهما من عثمان والثائرين به، فرضي أن يستكرههما على البيعة، فيما يقول أكثر المؤرخين. وأكاد أعتقد أنا أنهما لم يستكرها، كما زعما وكما زعم كثير من الرواة، وإنما أقبلا على البيعة راضيين ثم بدا لهما بعد ذلك حين رأيا من الخليفة ما لم يكونا ينتظران، كانا يقدران في أكبر الظن أن عليا محتاج إليهما أشد الاحتياج، لأحدهما قوة في الكوفة ولأحدهما قوة في البصرة، وقد شارك أهل الكوفة وأهل البصرة في الثورة مشاركة خطيرة، وكان الناس يظنون أنهم إنما شاركوا في هذه الثورة عن تحريض، أو على أقل تقدير عن رضى من طلحة والزبير.
فكانا إذن يفكران في أن عليا سيعرف لهما مكانتهما وقوتهما وسلطانهما على حزبيهما من أهل البصرة والكوفة وسيشركهما في أمره، وستكون الخلافة ثلاثية يتقاسمها هؤلاء النفر الثلاثة من أصحاب الشورى: لعلي الحجاز ومصر وما وراءهما من بلاد العرب ومما فتح أو يفتح في شمال إفريقيا، وللزبير البصرة وما يليها، ولطلحة الكوفة وما وراءها. وكانا يظنان أن هذه الخلافة الثلاثية إن استقامت لهم كان أمر الشام يسيرا، ولكن عليا أبى عليهما ولاية هذين المصرين وأراد أن يسير فيهما سيرة عمر فيحبسهما معه في المدينة كما كان عمر يحبس أعلام المهاجرين من قبل، إلا أن عليا لم يعنف بهما كما كان عمر يعنف بمن يستأذنه في الخروج إلى الأقطار، وإنما قال لهما في رفق رفيق: «أحب أن تكونا معي أتجمل بكما؛ فإني أستوحش لفراقكما.» هنالك عرف الشيخان أن ظنهما لم يصدق وأن تقديرهما لم يكن صوابا، وأن عليا سيستأنف سيرة عمر من حيث انقطعت يوم طعنه ذلك الغلام، وأن أمرهما معه في المدينة سيكون كأمرهما وكأمر غيرهما من أعلام المهاجرين مع عمر، سيقيمان في المدينة وسيأخذان عطاءهما كل عام، ولن يلقيا من علي بعض ما كان يمنحهما عثمان من الرفق والتسامح واللين، فلم يطالبا بالكوفة ولا بالبصرة، وإنما سكتا على مضض ودبرا أمرهما في روية وأناة.
الفصل الرابع
ولعلهما لم يعرضا عن المطالبة بالبصرة والكوفة إثر هذا الرد الرفيق الحازم الذي تلقياه من علي، فقد يحدثنا البلاذري بأن المغيرة بن شعبة أشار على علي بأن يثبت معاوية على الشام ويولي طلحة والزبير مصري العراق ليستقيم له الأمر، وأن عبد الله بن عباس عارض هذا الرأي بأن البصرة والكوفة هما عين المال ومصدر الفيء، فإذا وليهما هذان الشيخان ضيقا على الخليفة المقيم بالمدينة، وبأن ولاية معاوية للشام تضر عليا أكثر مما تنفعه، فاستمع علي لرأي ابن عباس ولم يقبل مشورة المغيرة بن شعبة.
ولكن مؤرخين آخرين يروون القصة على غير هذا الوجه، فيقولون: إن المغيرة بن شعبة أراد أن يمتحن عليا ليعلم علمه، فأشار عليه بأن يثبت عمال عثمان على أعمالهم - وفيهم معاوية - عامه الأول حتى يستقيم له الناس وتأتيه طاعة الأقاليم ثم يغيرهم بعد ذلك كما يحب، فأبى علي ذلك كراهة الادهان في دينه، ثم أقبل المغيرة من غده على علي فأنبأه بعدوله عن رأيه الأول واقتناعه برأي علي، ودخل ابن عباس على علي فلقي المغيرة خارجا من عنده، وسأل ابن عباس عليا عما قال له المغيرة فأنبأه برأييه اللذين أشار بهما عليه، فقال ابن عباس: لقد نصحك أمس وغشك اليوم. ثم ألح ابن عباس على الخليفة في أن يثبت معاوية على الأقل تقدير، ولكن عليا أبى عليه ذلك مخافة الادهان في الدين، وعرض عليه إمرة الشام، فاعتذر ابن عباس.
ومهما يكن من اختلاف المؤرخين فليس من شك في أن عليا لم يكن يستطيع أن يستبقي عمال عثمان، كان دينه يمنعه من ذلك لأنه طالما لام عثمان على تولية هؤلاء العمال، وطالما أنكر على هؤلاء العمال سيرتهم في الناس، فلم يكن يستطيع أن يطالب بعزلهم أمس ويثبتهم على عملهم اليوم، وتمنعه السياسة من هذا؛ فهؤلاء الثائرون الذين شبوا نار الفتنة وقتلوا عثمان لم يكونوا يكتفون بتغيير الخليفة، وإنما كانوا يريدون تغيير السياسة كلها وتغيير العمال قبل كل شيء، ولعلهم لم يكونوا يستثنون من هؤلاء العمال إلا أبا موسى الأشعري الذي اختاره أهل الكوفة عاملا عليهم، وأقر عثمان اختيارهم إياه مبتغيا بذلك استصلاحهم وصدهم عن الفتنة.
وعلى كل حال فقد كان اختيار العمال على الأقاليم أول شيء فكر فيه علي بعد أن فرغ من بيعة أهل المدينة، وقد اختار عماله اختيارا حسنا: فأرسل إلى البصرة عثمان بن حنيف من أعلام الأنصار، وأرسل أخاه سهل بن حنيف إلى الشام، وأرسل قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر. وهذا يدل على أنه أراد أن يرضي الأنصار بهذا الاختيار، فهو قد اختار منهم ثلاثة لهذه الأمصار الخطيرة: البصرة، والشام، ومصر.
أما الكوفة فيروي بعض المؤرخين أنه اختار لها عمارة بن شهاب، ولكنه لقي في طريقه من أهل الكوفة من رده إلى علي وأنذره بالموت إن لم يرجع وأنبأه بأن أهل الكوفة لا يرضون بغير أميرهم أبي موسى، فرجع عمارة من حيث أتى، وأرسل أبو موسى إلى علي بيعته وبيعة أهل الكوفة، واختار علي ابن عمه عبيد الله بن عباس عاملا على اليمن، فلما بلغها رحل عنها عامل عثمان يعلى بن أمية، واحتمل ما كان عنده من المال ولحق بمكة، واختار علي لولاية مكة أول الأمر رجلا من بني مخزوم هو خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة، ولكن أهل مكة أبوا أن يبايعوه لعلي. ويقال: إن فتى من فتيانهم أخذ صحيفة علي، فمضغها، ثم رمى بها؛ فسقطت في سقاية زمزم. ولمكة أمر خاص سنعرض له بعد قليل.
وقد سار عمال علي إلى أقاليمهم: فأما قيس بن سعد فدخل مصر في غير جهد، وأخذ البيعة لعلي من عامة أهلها إلا فريقا اعتزلوا الناس وأووا إلى خربة يطلبون بثأر عثمان، ولكنهم لا يقاتلون أحدا ولا يشقون عصا، وإنما ينتظرون له. وأما عثمان بن حنيف فدخل البصرة ولم يجد من أهلها كيدا، وقد رحل عنها عامل عثمان عبد الله بن عامر وحمل ما استطاع حمله من المال حتى أتى مكة فأقام فيها.
وأكاد أعتقد أن عليا لم يرسل إلى الكوفة أحدا على رغم ما قدمت من بعض الروايات، وإنما أثبت أبا موسى لأنه كان رضى لأهل مصره، وذهب سهل بن حنيف إلى الشام فلم يكد يبلغ حدودها حتى لقيته خيل لمعاوية، فلما سألوه: من يكون؟ أنبأهم بأنه الأمير، فقالوا له: إن كنت أميرا من قبل عثمان فدونك إمرتك، وإن كنت أميرا من قبل غيره فارجع إلى من أرسلك. فرجع سهل إلى علي، ولم يكد الناس يعلمون بمرجعه ذاك حتى أخذ منهم القلق كل مأخذ، عرفوا أن معاوية محارب وأرادوا أن يعرفوا أمر علي، أيريد حربا أم يريد مسالمة وترقبا؟ ولكن عليا لم يكن صاحب مسالمة في الحق، وكان يؤثر الصراحة في القول والعمل على التربص والكيد، وهو مع ذلك لم يعجل معاوية وإنما أرسل إليه مسور بن مخرمة بكتاب منه يطلب إليه فيه أن يبايع وأن يقبل إلى المدينة في أشراف أهل الشام، ولم يذكر في الكتاب أنه يوليه ثغره. ويقال إنه أرسل إليه سبرة الجهني بكتابه ذاك، فلما قرأ معاوية الكتاب لم يجب إلى شيء مما فيه وإنما آثر التربص والكيد، وجعل كلما تنجزه رسول علي جوابه يرد عليه بهذه الأبيات:
أدم إدامة حصن أو خذا بيدي
حربا ضروسا تشب الجزل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله
شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا المسود بها والسيدون فلم
يوجد لها غيرنا مولى ولا حكما
حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان دعا رجلا من بني عبس فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه: «من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب» وأمره إذا دخل المدينة أن يرفع الطومار للناس حتى يقرءوا عنوانه ثم يدفعه بعد ذلك إلى علي، وأوصاه بما يقول لعلي إن حاوره في بعض ما قدم فيه، وأقبل العبسي حتى دخل المدينة، فرفع الطومار حتى عرف الناس أنه يحمل رد معاوية؛ فثار لذلك شوقهم إلى العلم بما في هذا الكتاب. وأكبر الظن أن كثيرا منهم تبعوا العبسي حتى بلغ باب علي فأدخل عليه ودفع إليه الطومار، فلما فضه علي لم يجد فيه شيئا مكتوبا إلا: «بسم الله الرحمن الرحيم» فسأل العبسي: ما وراءك؟ واستأمن العبسي، فلما أمن أنبأ عليا بأنه ترك أهل الشام وقد صمموا أن يثأروا لعثمان ونصبوا قميصه للناس وجعلوا يلتفون حوله يبكون، ثم أنبأه بأن أهل الشام يتهمونه بقتل عثمان ولا يرضون إلا أن يقتلوه به، ثم خرج العبسي، ولم يكد يفلت من الثائرين الساخطين على معاوية إلا بعد مشقة وجهد وعناء.
ثم دعا علي أعلام الناس في المدينة، وبينهم طلحة والزبير، فأنبأهم بما ارتفع إليه من أمر معاوية، وأنبأهم بأنها الحرب، وبأن الخير في أن يميتوا الفتنة قبل أن تستشري ويعظم أمرها وفي أن يغزوا أهل الشام قبل أن يغير عليهم أهل الشام، وكأنه لم يجد من الناس جوابا مقنعا ولا حماسة للحرب، وقد استأذنه طلحة والزبير في أن يلحقا بمكة، ولم يكونا في استئذانهما رفيقين وإنما أظهرا شيئا من شدة وعناد، وأنذرا بالمكابرة إن لم يأذن لهما، فقال علي: سنمسك هذا الأمر ما استمسك.
وكثير من المؤرخين يروون أن طلحة والزبير استأذنا عليا في الخروج إلى مكة معتمرين، وأن عليا أظهر لهما شيئا من الشك فيما صمما عليه، فأكدا له أنهما لا يريدان إلا العمرة. ومهما يكن من شيء فقد خرجا إلى مكة عن رضى أو عن كره من علي، وجعل علي يتجهز لحرب أهل الشام يريد أن يغير عليهم قبل أن يغيروا عليه، وإنه لفي ذلك إذ جاءته من مكة أنباء مقلقة غيرت رأيه وخطته ومصير أمره كله تغييرا تاما.
الفصل الخامس
وقد قتل عثمان - كما تعلم - أثناء الموسم، فكان كثير من أهل المدينة قد مضوا إلى حجهم ثم جعلوا يعودون بعد أن قضوا مناسكهم، وجعلت أنباء الكارثة تبلغهم في طريقهم إلى المدينة، فمنهم من سمع هذه الأنباء ثم أقبل إلى المدينة فبايع عليا، ومنهم من سمعها فرجع أدراجه إلى مكة معتزلا للفتنة أو منكرا لما كان من الأحداث مضمرا السخط والخلاف على الإمام الجديد، بل إن بعض أهل المدينة الذين شهدوا بيعة علي فبايعوا أو رفضوا البيعة قد جعلوا يتركون المدينة ويفرون بما أضمروا في نفوسهم من الخلاف أو الاعتزال إلى مكة؛ لأنها كانت حرما آمنا لا يغار عليه ولا يذعر من أوى إليه، فقد انطلق إلى مكة عبد الله بن عمر فارا بنفسه ودينه من الفتنة، وهم علي أن يرسل الخيل في طلبه لولا أن أقبلت بنته أم كلثوم، وكانت زوجا لعمر، فأكدت له أنه لم يخرج لفتنة ولا لخلاف. وخرج إلى مكة طلحة والزبير يظهران أنهما يريدان العمرة أو يظهران اعتزالهما لحرب معاوية ومن قبله من أهل الشام.
وأوى إلى مكة عمال عثمان الذين استطاعوا أن يأووا إليها: أوى إليها عبد الله بن عامر ويعلى بن أمية، كما أوى إليها كثير من بني أمية، منهم مروان بن الحكم وسعيد بن أبي العاص، وكان في مكة من أزواج النبي: حفصة بنت عمر، وأم سلمة، وعائشة بنت أبي بكر. وقد أخذت عائشة طريقها إلى المدينة بعد أن قضت مناسكها، وعرفت أثناء سفرها مقتل عثمان وخبرت بأن طلحة قد بويع له فأظهرت بذلك ابتهاجا؛ فقد كان طلحة مثلها تيميا، ولكنها لقيت في طريقها من أنبأها بحقيقة الأمر وبأن عليا هو الذي تمت له البيعة في المدينة؛ فضاقت بذلك ضيقا شديدا وأعلنت أنها كانت تؤثر انطباق السماء على الأرض قبل أن ترى عليا وقد أصبح للمسلمين إماما، ثم قالت لمن كان معها: ردوني. فرجعوا بها أدراجهم إلى مكة.
وكان معروفا أن عائشة - رحمها الله - لم تكن تحب عليا ولا تهواه، بل كان معروفا أنها كانت تجد عليه موجدة شديدة منذ حديث الإفك حين أراد علي أن يواسي النبي
صلى الله عليه وسلم
فأشار عليه بأن يطلقها، وقال له: «إن النساء غيرها كثير.» وكان ذلك قبل أن ينزل الله براءتها في القرآن، فلم تنس لعلي قوله ذاك.
وكانت عائشة شخصية من أقوى الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين في ذلك العهد، لم تكن رفيقة كأبيها وإنما كانت شديدة كعمر، على احتفاظ منها بكثير مما ورثت العرب عن جاهليتها، فكانت تحفظ الشعر وتكثر من حفظه وإنشاده والتمثل به، حتى إنها رأت أباها وهو يحتضر، فتمثلت قول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وسمعها خليفة رسول الله أبوها، فقال لها كالمنكر عليها: «بخ بخ يا أم المؤمنين! هلا تلوت قول الله عز وجل:
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد » وكانت من أشد نساء النبي إنكارا على عثمان، لم تتحرج أن تصيح به من وراء سترها - وهو على المنبر - حين عاب عبد الله بن مسعود، فأسرف في عيبه، ولم تكن تتحفظ من الاعتراض على كثير من أعمال عثمان ومن سيرة عماله، حتى ظن كثير من الناس أنها كانت من المحرضين على الثورة به. وكانت تنكر على علي - فيما أعتقد - أمرين آخرين: أحدهما لم يكن لعلي فيه خيرة؛ فقد تزوج فاطمة بنت رسول الله ورزق منها الحسن والحسين، فكان أبا الذرية الباقية للنبي، ولم يتح لها هي الولد من رسول الله، مع أنه قد أتيح لمارية القبطية أم إبراهيم في أواخر أيام النبي، فكان هذا العقم يؤذيها في نفسها بعض الشيء، ولا سيما وهي كانت أحب نساء النبي إلى النبي.
أما الأمر الآخر؛ فهو أن عليا قد تزوج أسماء الخثعمية بعد وفاة أبي بكر رحمه الله، وأسماء الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر علي، فكانت عائشة تجد على علي لهذا كله.
وقد عادت إلى مكة مغاضبة حين عرفت أن أهل المدينة قد بايعوا له، فلما رجعت إلى مكة عمدت إلى الحجر فاتخذت فيه سترا، وجعل الناس يجتمعون إليها فتحدثهم من وراء الستر: تنكر قتل عثمان وتقول: «لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله وقبل المسلمون منه، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصوه موص الثوب الرخيص حتى قتلوه، واستحلوا بقتله الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام.»
وجعل الناس يسمعون لها ويتأثرون بها، وكيف لا يتأثرون وهي أم المؤمنين وحبيبة رسول الله التي مات بين سحرها ونحرها، وبنت أبي بكر الصديق الذي صحب النبي في الهجرة وأنزل الله فيه ما أنزل من القرآن، والذي لم يكن المسلمون يعدلون به أحدا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟!
كان الناس إذن يسمعون لها ويتأثرون بما كانوا يسمعون منها، وكان كتاب علي بتولية خالد بن العاص بن المغيرة على مكة قد وصل إلى مكة وهي أشد ما تكون من الثورة؛ لما كانت تسمع من حديث عائشة، فكان ما كان من رفض البيعة وإلقاء الكتاب الذي كتبه علي في سقاية زمزم، وبعد ذلك بقليل أقبل طلحة والزبير، فانضموا إلى من كان بها من الغاضبين لعثمان المخالفين لعلي، ومنذ ذلك اليوم أصبحت مكة مثابة لكل من كان ينكر إمامة علي من غير أهل الشام.
الفصل السادس
وقد جعل القوم يأتمرون، فاتفقوا على أن هذه الفتنة قد أحدثت في الإسلام حدثا خطيرا: قتل الخليفة مظلوما، ولا بد من القيام في هذا الأمر بما يرأب الصدع ويقيم دين الله كما ينبغي أن يقام، وأول ذلك أن يثأر لعثمان من الذين قتلوه مهما يكونوا، ثم يرد أمر المسلمين شورى بينهم فيختاروا لخلافتهم من يريدون عن رضى النفوس وهوى القلوب واطمئنان الضمائر والنصح للإسلام والمسلمين، لا عن عنف ولا استكراه ولا خوف من السيوف المسلطة على الأعناق، ثم جعلوا يأتمرون في الطريقة التي ينفذون بها ما صمموا عليه؛ فرأى بعضهم الغارة على علي وأصحابه في المدينة، ولكنهم ردوا هذا الرأي إشفاقا من قوة أهل المدينة - فيما يقول المؤرخون - وتحرجا من غزو مدينة رسول الله وإحياء قصة الأحزاب، كما فعل الثائرون بعثمان في أكبر الظن، ورأى بعضهم الذهاب إلى الكوفة ونصب الحرب فيها لعلي وأصحابه، ولكنهم ردوا هذا الرأي أيضا لمكان أبي موسى من الكوفة وكراهيته للفتنة؛ لأن أشد الثائرين بعثمان والجادين في أمره كانوا من أهل الكوفة؛ فكان من الطبيعي أن يمنعهم قومهم ولا يقبلوا فيهم الدنية. وآثروا الذهاب إلى البصرة لكثرة المضرية فيها، ولأن عبد الله بن عامر زعم لهم أن له بين أهلها صنائع وأن له عند كثير منهم مودة وإلفا؛ فهم أجدر أن يسمعوا له ويطيعوا وأن يعينوه ويعينوا أصحابه على ما يريدون، ولم يخطر لهم أن يتخذوا مكة دار حرب؛ لأنها حرم آمن لا تسفك فيه الدماء. وقد كفاهم معاوية أمر الشام، وكان جديرا أن يكفيهم أمر مصر أيضا إن غلبوا هم على العراق وما وراءه من الثغور.
وقد جعلوا يستعدون للرحيل، وأمدهم عبد الله بن عامر ويعلى بن أمية بكثير من المال والظهر والأداة، وانتدب الناس للسير معهم؛ فكانت جماعتهم قريبا من ثلاثة آلاف، وقد رأى طلحة والزبير أثر عائشة وأحاديثها في الناس؛ فرغبا إليها في أن تصحبهم إلى البصرة، فقالت: أتأمرانني بالقتال؟ قالا: لا، ولكن تعظين الناس وتحرضينهم على الطلب بدم عثمان. فقبلت في غير تردد، وأقنعت حفصة أم المؤمنين بالسير معها، ولكن أخاها عبد الله بن عمر ردها عن أن تخالف ما أمر الله به نساء النبي في قوله عز وجل:
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى
إلى آخر الآية. فأقامت.
وأزمع القوم الرحلة، وجاءت أخبارهم عليا فتحول عن قتال أهل الشام ليرد هؤلاء الثائرين مما قصدوا إليه.
الفصل السابع
وكذلك استقبل علي خلافة المسلمين بما لم يستقبلها أحد من الذين سبقوه، فلم يخالف أحد من أصحاب النبي عن أبي بكر إلا ما كان من سعد بن عبادة رحمه الله، ولم يخالف أحد منهم عن عمر ولا عن عثمان، ولكن عليا يرى جماعة من خيار أصحاب النبي الذين مات وهو عنهم راض وشهد لكثير منهم بالجنة يخالفون عن بيعته، منهم من يريد اعتزال الفتنة، ومنهم من يريد أن ينصب له الحرب.
ولعل الحسن بن علي قد أصاب الحق حين تحدث إلى أبيه في طريقهما إلى البصرة بأنه كان قد أشار عليه أن يعتزل أمر عثمان، فيترك المدينة أيام الفتنة، فيلحق بمكة - في بعض الروايات - أو يلحق بماله بينبع - في رواية أخرى - فأبى علي إلا أن يشهد أمر الناس. ثم أشار عليه بعد مقتل عثمان أن يعتزل الناس إلى حيث شاء من الأرض حتى تثوب إلى العرب عوازب أحلامها، وقال له: لو كنت في جحر ضب لاستخرجوك منه فبايعوك دون أن تعرض نفسك لهم. ثم هو يشير عليه في طريقه تلك بألا يأتي العراق مخافة أن يقتل بمضيعة لا ناصر له فيها، ولكن عليا لم يقبل من ابنه شيئا مما أشار به؛ لم يكن ليترك الناس في فتنتهم دون أن يؤدي ما أخذه الله به من أمر بمعروف ونهي عن منكر، فنصح للخليفة، يلين له مرة ويخشن عليه مرة أخرى، ونصح للرعية ينهاها عن الإثم والعدوان ويعينها على أن تبلغ من خليفتها الرضى، ثم هو لم يطلب إلى الناس أن يبايعوه على ما كان يرى لنفسه من حق في الخلافة، وإنما استكرهه الناس على البيعة استكراها، استكرهه الثائرون بعثمان ليأمنوا بعض عواقب ثورتهم، واستكرهه المهاجرون والأنصار ليقيموا للناس إماما ينفذ فيهم أمر الله.
ولم يكن يستطيع أن يبقى في المدينة منتظرا حتى يغزوه فيها معاوية وأهل الشام، ولا أن يبقى في المدينة منتظرا حتى يبلغ طلحة والزبير العراق، فيحتازا ما وراءه من الثغور وما فيها من الفيء والخراج، ثم يكرا عليه بعد ذلك ليغزواه في المدينة.
لم يكن له بد إذن من أن يستعد للخروج إلى الشام حين أبى معاوية عليه البيعة، وحجته على معاوية ظاهرة؛ فقد بايعته الكثرة الكثيرة من المسلمين في الحجاز والأقاليم، وأصبحت طاعته لازمة. وكان الحق على معاوية - لو أنصف وأخلص نفسه للحق - أن يبايع كما بايع الناس، ثم يأتي إلى علي مع غيره من أولياء عثمان فيطالبوا بالإقادة ممن قتله، ولكن معاوية لم يكن يريد أن يثأر لعثمان بمقدار ما كان يريد أن يصرف الأمر عن علي؛ وآية ذلك أن الأمر استقام له بعد وفاة علي - رحمه الله - ومصالحة الحسن إياه، فتناسى ثأر عثمان ولم يتتبع قتلته؛ إيثارا للعافية وحقنا للدماء وجمعا للكلمة.
ولم تكن حجة علي على طلحة والزبير وعائشة أقل ظهورا من حجته على معاوية؛ فقد بايع طلحة والزبير، وكان الحق عليهما أن يفيا بالعهد ويخلصا للبيعة التي أعطياها، فإن كرها الإذعان لعلي أو معونته على بعض ما كان يريد، فقد كانا يستطيعان أن يعتزلا كما اعتزل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وغيرهم من خيار أصحاب النبي، فلا ينصبا حربا ولا يدفعا الناس إليها ولا يفرقا المسلمين على هذا النحو المنكر الذي ستراه.
وأما عائشة، فقد أمرها الله فيمن أمر من نساء النبي أن تقر في بيتها، وكان عليها أن تفعل أيام علي كما كانت تفعل أيام الخلفاء من قبله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر دون أن تخالف عما أمرت به من القرار في بيتها لتذكر ما كان يتلى عليها من آيات الله والحكمة ولتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كما فعل غيرها من أمهات المؤمنين. ولو قد أبت أن تبايع عليا أو تؤمن له بالخلافة لما وجدت منه شيئا تكرهه؛ فهي أم المؤمنين وحبيبة رسول الله وبنت أبي بكر، وكان من الطبيعي أن تلقى من علي مثال ما لقي المعتزلون على أقل تقدير؛ وآية ذلك أنها لم تلق منه بعد يوم الجمل إلا الكرامة والإكبار.
وقد يقال إن القوم لم يكونوا يغضبون لعثمان فحسب، وإنما كانوا يريدون أن يختار الخليفة عن مشورة بين المسلمين، وكانوا يكرهون أن يفرض الثائرون بعثمان عليهم إماما بعينه، ولكن أبا بكر لم يبايع بالخلافة عن مشورة من المسلمين، وإنما كانت بيعته فلتة وقى الله المسلمين شرها، كما قال عمر. كما أن عمر نفسه لم يبايع عن مشورة من المسلمين، وإنما عهد إليه أبو بكر فأمضى المسلمون عهده ثقة منهم بالشيخين وحبا منهم لهما. ولم تكن الشورى التي تمت بها خلافة عثمان مقنعة ولا مجزئة؛ فقد اختص عمر بها ستة من قريش على أن يختاروا واحدا منهم، فاختاروا عثمان. وأكبر الظن أنهم نصحوا للمسلمين وتجنبوا الفتنة والخلاف جهدهم.
فكان الحق على طلحة والزبير والمعتزلين أيضا أن يمسكوا الأمر ما استمسك، وأن يبايعوا لعلي عن رضى لا عن كره، وأن يجتهدوا معه بعد ذلك في إصلاح ما أفسد الثائرون من جهة، وفي وضع نظام مستقر دائم لاختيار الخليفة وتدبير أمور الدولة بحيث لا يتعرض المسلمون لمثل ما تعرضوا له من الفتنة والمحنة أيام عثمان من جهة أخرى. ولكن القوم كانوا يفكرون بعقول غير عقولنا، ويشعرون بقلوب غير قلوبنا، ويجتهدون لدينهم ولأنفسهم ما استطاعوا.
وقد لقي أبو بكر في أول خلافته شيئا يشبه من بعيد ما لقيه علي؛ فقد انتفضت عليه عامة العرب ورفضوا أن يؤدوا إليه الزكاة، ولكن أبا بكر وجد من أصحاب النبي جميعا أعوانا وأنصارا، فما أسرع ما أخمد الفتنة! ثم رمى بالعرب وجوه الأرض فشغلهم بالفتح. وجاء عمر فدفعهم إلى الفتح دفعا، وسار عثمان على سنة الشيخين، فأمعن المسلمون في الفتح صدرا من خلافته.
أما علي فلم يكد يرقى إلى الخلافة حتى تنكر له قوم من الذين كانوا يعينون أبا بكر وعمر، ثم لم يلبث الأمر كله أن انتشر وأصبح المسلمون حربا على المسلمين، ووقف أصحاب الثغور عند ثغورهم لا يتجاوزونها فاتحين، بل ترك بعض أصحاب الثغور في الشام ثغورهم ليقاتلوا إخوانهم من أصحاب علي، حتى طمع الروم في استرجاع ما أخذ منهم المسلمون، وهموا أن يغيروا على الشام لولا أن اشترى معاوية منهم السلم بما كان يؤدي إليهم من المال، حتى فرغ لهم بعد اجتماع الكلمة.
ومهما يكن من شيء، فقد ارتحل طلحة والزبير وعائشة يريدون البصرة، وصرف علي همه عن الشام وأزمع الخروج ليرد طلحة والزبير وعائشة عما صمما عليه، وأتيح لمعاوية من الوقت والعافية ما مكنه من أن يحكم أمره ويهيئ جنده ويكيد لعلي في مصر.
وقد خرج علي من المدينة والناس كارهون لخروجه متشائمون به، ولكن عليا لم يقدر أنه سيترك المدينة إلى غير رجعة إليها، وإنما كان يظن أنه سيلقى هؤلاء القوم فيناظرهم ويبلغ منهم الرضى ويردهم إلى الجماعة، ويعود معهم آخر الأمر إلى المدينة، فيقيم فيها كما أقام الخلفاء من قبله ويدبر منها أمر المسلمين كما كانوا يفعلون، ولكنه لم يكد يمضي في طريقه ليلقى القوم حتى عرف أنهم فاتوه وأنهم سيبلغون البصرة وسيفتنون الناس فيها عن بيعتهم. وهو مع ذلك لم يستيئس من الصلح، ولكنه احتاط للحرب حتى لا يؤخذ على غرة، فمضى في طريقه وأرسل إلى أهل الكوفة من يستنفرهم لنصره.
الفصل الثامن
وأقبل رسل علي إلى الكوفة، فوجدوا أميرها أبا موسى الأشعري راغبا عن الفتنة كارها للقتال مخذلا للناس عن نصر إمامهم، وكانت حجته في هذا يسيرة؛ فإن الإمام لم يكن يريد أن يحارب عدوا من الكفار، وإنما كان يوشك أن يحارب قوما مثله يؤمنون مثله بالله ورسوله واليوم الآخر، فكره أن يقاتل المسلمون المسلمين. رأى ذلك لنفسه ثم لم يلبث أن رآه لأهل مصره جميعا، وأيسر ما يأمر به الدين أن يحب الإنسان للناس ما يحب لنفسه.
فقد كان أبو موسى إذن ناصحا لنفسه ولأهل الكوفة حين نهاهم عن القتال وخذلهم عن نصر الإمام، ولكن أبا موسى كان قد بايع عليا وأخذ له بيعة أهل الكوفة، وهذه البيعة تفرض عليه نصر الإمام بنفسه وبأهل مصره، فإن تحرج من ذلك استقال الإمام وترك عمله وانضم إلى أولئك المعتزلين فاجتنب من الفتنة ما يجتنبون. فأما أن يكون قد بايع عليا وقبل أن يكون له واليا ثم يأبى بعد ذلك أن ينفر مع أهل مصره حين استنفرهم الإمام فشيء لا يكاد يستقيم؛ ولذلك أرسل علي إليه يلومه ويعنفه ويعزله عن عمله، وأرسل واليا جديدا هو قرظة بن كعب الأنصاري، وأرسل الحسن بن علي وعمار بن ياسر يستنفران الناس.
ويروي بعض المؤرخين أن الأشتر استأذن عليا في أن يلحق برسله إلى الكوفة، فأذن له، فلما بلغ المصر جمع نفرا من قومه أولي بأس وأغار بهم على قصر الإمارة، وأبو موسى يخطب الناس، فاحتاز القصر وبيت المال، واضطر أبا موسى إلى أن يعتزل العمل، ففعل وخرج من الكوفة حتى أتى مكة فأقام فيها مع المعتزلين، ونفر أهل الكوفة لنصر إمامهم؛ فأتوه حيث كان ينتظرهم بذي قار.
الفصل التاسع
وكان أمر البصرة أشد من أمر الكوفة تعقيدا، فقد كان أهل هذا المصر بايعوا عليا واستقاموا لعامله عثمان بن حنيف، فلم يلبثوا إلا قليلا حتى أظلهم الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الجند، فأرسل إليهم عثمان بن حنيف سفيرين من قبله، هما: عمران بن حصين الخزاعي صاحب رسول الله، وأبو الأسود الدؤلي. فلما أقبلا سألا القوم: ماذا يريدون؟ فقالوا: نطلب بدم عثمان ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من يشاءون، وهم السفيران أن يحاورا القوم في هذا الأمر، فأبى القوم أن يسمعوا منهما فعادا إلى عثمان بن حنيف ينبئانه أن القوم يريدون الحرب ولا يريدون غيرها، فتأهب عثمان للقتال وخرج في أهل البصرة حتى واقف القوم، ثم تناظروا فلم يصلوا إلى خير.
خطب طلحة والزبير فطلبا بدم عثمان وجعل الأمر شورى بين المسلمين، فرد عليهما من أهل البصرة من كانت تأتيهم كتب طلحة بالتحريض على قتل عثمان، واختلف أهل البصرة، وقال قوم: صدقا وتكلما بالصواب. وقال قوم: كذبا ونطقا بغير الحق. وارتفعت الأصوات واشتد الخلاف، وجعل أهل البصرة يتسابون.
ثم جيء بعائشة على جملها، فخطبت الناس وأبلغت في الخطابة - لسان زلق ومنطق عذب وحجة ظاهرة القوة - تقول: «غضبنا لكم من سوط عثمان وعصاه، أفلا نغضب لعثمان من السيف؟! ألا وإن خليفتكم قد قتل مظلوما، أنكرنا عليه أشياء وعاتبناه فيها، فأعتب وتاب إلى الله، وماذا يطلب من المسلم إن أخطأ أكثر من أن يتوب إلى الله ويعتب الناس؟! ولكن أعداءه سطوا عليه، فقتلوه واستحلوا حرما ثلاثا: حرمة الدم، وحرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام.»
وقد استمع لها الناس في صمت عميق، ولكنها لم تكد تتم حديثها حتى عادت الأصوات فارتفعت يصدقها قوم ويكذبها قوم، وأولئك وهؤلاء يتسابون ويتضاربون بالنعال . ومع ذلك ثبت مع عثمان بن حنيف جند قوي من أهل البصرة، فاقتتلوا قتالا شديدا وكثرت فيهم الجراحات، ثم تحاجزوا وتداعوا إلى الهدنة حتى يقدم علي، وكتبوا بينهم كتابا بذلك يقر عثمان بن حنيف على الإمرة ويترك له المسلحة وبيت المال، ويبيح للزبير وطلحة وعائشة وممن معهم أن ينزلوا من البصرة حيث يشاءون.
وعاد أمر الناس إلى عافية ظاهرة، ومضى عثمان بن حنيف على شأنه يصلي بالناس ويقسم المال ويضبط المصر، ولكن القوم الطارئين ائتمروا فيما بينهم، فقال قائلهم: لئن انتظرنا مقدم علي ليأخذن بأعناقنا. ثم أجمعوا على أن بيتوا عثمان بن حنيف، وانتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح، فعدوا على عثمان وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة، فأخذوه ووكلوا به من ضربه ضربا شديدا ونتف لحيته وشاربيه، ثم عدوا على بيت المال فقتلوا من حرسه أربعين رجلا، وحبسوا عثمان بن حنيف وأسرفوا عليه في العذاب. هنالك غضب من أهل البصرة قوم أنكروا نقض الهدنة، وكرهوا هذا العدوان على الأمير، وكرهوا كذلك استئثار القوم ببيت المال، واجتنبوا المدينة وخرجوا إلى بعض ضاحيتها يريدون الحرب وحماية ما اتفق القوم على أنه حرام لا ينبغي أن يعرض له أحد بسوء.
وكانت هذه الفتنة من ربيعة يرأسها حكيم بن جبلة العبدي، فخرج لهم طلحة في قوم من أصحابه، فقاتلوهم حتى قتلوا منهم أكثر من سبعين رجلا، وقتل حكيم بن جبلة بعد أن أبلى بلاء حسنا عظم القصاص من أمره فيما بعد، فزعموا أن رجلا من أصحاب طلحة ضربه ضربة قطعت رجله، فحبا حكيم حتى أحذ رجله تلك المقطوعة، فرمى بها من ضربه فصرعه، وجعل يرتجز:
يا نفس لا تراعي
إن قطعوا كراعي
إن معي ذراعي
ثم قاتل رغم جراحته وهو يرتجز:
ليس علي في الممات عار
والعار في الحرب هو الفرار
والمجد ألا يفضح الذمار
وما زال يقاتل حتى قتل.
وكذلك لم يكتف هؤلاء القوم بنكث البيعة التي أعطوها عليا، وإنما أضافوا إليها نكث الهدنة التي اصطلحوا عليها مع عثمان بن حنيف، وقتلوا من قتلوا من أهل البصرة الذين أنكروا نقض الهدنة، وحبس الأمير، وغصب ما في بيت المال، وقتل من قتلوا من حرسه، وكلهم كان من الموالي.
ولم يقف أمرهم عند هذا الحد، وإنما هموا أن يبطشوا بعثمان بن حنيف، لولا أن ذكرهم بأن أخاه سهل بن حنيف يدبر أمر المدينة من قبل علي، وبأنه خليق أن يضع السيف في بني أبيهم إن أصابوه بمكروه؛ فخلوا سبيله. وانطلق حتى أتى عليا في بعض طريقه إلى البصرة، فلما دخل عليه قال له مداعبا: يا أمير المؤمنين، أرسلتني إلى البصرة شيخا فجئتك أمرد.
ولم يكن من شأن هذه الأحداث التي أحدثها القوم في البصرة إلا أن توغر صدر علي وأصحابه، وتزيد الفرقة بين أهل البصرة الذين انقسموا على أنفسهم شر انقسام وأشده نكرا؛ فقد غضبت عبد القيس لحكيم بن جبلة؛ فخرجت مكابرة حتى أتت عليا فانضمت إلى جيشه، وأفلت من أصحاب حكيم حرقوص بن زهير، وهو من الذين ألبوا أشد التأليب على عثمان؛ فغضب له قومه وحموه وأبوا أن يسلموه، ثم اعتزلوا الناس مع الأحنف بن قيس في ستة آلاف.
واشتد الخلاف بين الناس بعد ذلك: قوم يخرجون إلى علي مسللين أو مكابرين، وقوم ينتظرون مقدم علي لينضموا إليه، وقوم ينضمون إلى طلحة والزبير ليحموا ثقل رسول الله عائشة ولينصروا حواري رسول الله الزبير، وقوم يريدون أن يعتزلوا الفتنة فرارا بدينهم، فمنهم من يتاح له الاعتزال ومنهم من يضطر إلى الفتنة اضطرارا. والرؤساء بعد ذلك ليسوا من الرضى وراحة الضمير بحيث يحبون، فطلحة والزبير يختلفان أيهما يصلي بالناس، ثم يتفقان بعد خطوب على أن يصليا بالناس هذا يوما وهذا يوما، وفي ضمير عائشة قلق لا يكاد يبين، مرت في طريقها بماء فنبحتها كلابه، وسألت عن هذا الماء، فقيل لها إنه الحوأب؛ فجزعت جزعا شديدا، وقالت: ردوني ردوني؛ قد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول وعنده نساؤه: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟» وجاء عبد الله بن الزبير، فتكلف تهدئتها، وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب.
فرقة ظاهرة واختلاف بين، وقلق خفي في الضمائر، وأطماع تظهر على استحياء ثم تستخفي على كره من أصحابها، كذلك كانت حال القوم حين أظلهم علي بمن معه من جند كثيف.
الفصل العاشر
وكانت حال علي وأصحابه على خلاف ذلك من جميع الوجوه، فلم يشك علي قط في أنه كان أحق الناس بالخلافة، فلما جاءته الخلافة استمسك بها ورأى أن حقه قد صار إليه.
وما كان الثائرون بعثمان ليكرهوا خيار أصحاب النبي الذين كانوا في المدينة من المهاجرين والأنصار على غير ما يحبون، وهم الذين شهدوا المشاهد مع النبي وصبر كثير منهم على الفتنة وامتحنوا في مواطن الشدة على اختلافها؛ فآثروا دينهم على دنياهم، وآثروا الموت في سبيل الله على الحياة في سبيل أنفسهم.
وقوم مثل هؤلاء لا يستكرهون على شيء يرونه مخالفا لدينهم؛ فهم قد بايعوا عليا إذن راضين به مؤثرين له، لا راهبين ولا راغبين؛ وآية ذلك أن فريقا منهم لم يطمئنوا إلى بيعة علي فلم يكرههم علي على بيعته، وإنما خلى بينهم وبين ما أرادوا من الاعتزال، وقبل منهم ما قدموا إليه من عذر، وقام دونهم يمنع الثائرين من أن يصلوا إليهم، وجعل نفسه كفيلا لعبد الله بن عمر حين أبى عبد الله أن يأتي بكفيل. ولأمر ما سكت علي عن استكراه طلحة والزبير على البيعة؛ فقد شاركا في الإنكار على عثمان والجد في أمره، وكان كل واحد منهما ينظر إلى نفسه، فخشي منهما وخشي عليهما الفتنة.
لم يكن علي إذن مترددا ولا شاكا ولا قلق الضمير حين هم بقتال أهل الشام حين رفضوا البيعة، وحين تحول عنهم إلى أمر طلحة والزبير حين أظهرا النكث والخلاف، ولكنه في بعض مواطنه قال كالنادم المحزون: لو علمت أن الأمر يبلغ هذا المبلغ ما دخلت فيه. يريد أنه لم يكن يظن بهذين الشيخين وبأم المؤمنين عائشة أن يبلغ الأمر بهم ما بلغ من تفريق كلمة المسلمين وحمل بعضهم على أن يسلوا سيوفهم على بعض ، ولو قد علم أن خلافته ستكون مصدر فتنة وفرقة لأعرض عنها إيثارا لعافية المسلمين واجتماع كلمتهم، ولصبر نفسه على ما تكره كما فعل حين بويع للخلفاء الثلاثة من قبله، فأما وقد بايعه من بايعه من عامة المسلمين وخاصتهم، فقد مضى في أمره على بصيرة، وكره أن يرجع بعد أن مضى ويحجم بعد أن أقدم، وكان كثيرا ما يقول: والله، إني لعلى بينة من ربي، ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضل بي.
ولم يكن أصحاب علي في طريقه إلى البصرة شاكين ولا مترددين، إلا ما كان من أمر أبي موسى، وقد ظهر أن أهل البصرة لا يشاركونه في رأيه، وإنما أراد أفراد أن يستوثقوا لأنفسهم في أمر دينهم وفي أمر آخرتهم خاصة؛ فسألوا عليا عما كان يريد من شخوصه وإشخاصه إياهم إلى البصرة، فكان يجيبهم بأنه يريد أن يلقى بهم إخوانهم من أهل البصرة، فيدعوهم إلى الصلح، ويبين لهم الحق ويناظرهم فيه، لعلهم أن يثوبوا فتجتمع الكلمة وتلتئم وحدة الجماعة، وكان هؤلاء النفر يسألونه: فإن لم يثوبوا إلى الحق ولم يقبلوا الصلح؟ فكان يجيب: إذن لا أبدؤهم بقتال حتى يبدءونا، فكانوا يسألونه: فإن بدءونا؟ وهنالك كان يجيبهم: إذن نقاتلهم على الحق حتى يرجعوا إليه. وقد أراد بعض هؤلاء أن يستوثقوا لأمر آخرتهم؛ فسألوه: ما يكون أمر الذين يقتلون منهم إن كانت حرب؟ فأجابهم بأن من قاتل صادق النية في نصر الحق مبتغيا وجه الله ورضاه فمصيره مصير الشهداء. وقد سأله رجل منهم ذات يوم: أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فقال: إنك لملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله. وما أعرف جوابا أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحدا مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته بعد أن سكت الوحي وانقطع خبر السماء.
كان علي إذن على بصيرة من أمره، وكان أصحابه يمضون معه على بصائرهم يشفقون من أن يسلوا سيوفهم على قوم من المسلمين أمثالهم، ولكنهم لا يرون أن يعرضوا عن ذلك إذا لم يكن منه بد.
وكان علي يريد أن يعارض القوم في الصلح ويناظرهم على الحق ولا يبدأهم بقتال إلا أن يبدءوه به؛ فقد كان الأمر مختلفا إذن بين هذين الفريقين: أهل البصرة مختلفون كما قدمنا آنفا وأصحاب علي مؤتلفون، وأهل البصرة مترددون بحيث يحبون. فطلحة والزبير يختلفان أيهما يصلي بالناس، ثم يتفقان بعد خطوب على أن يصليا بالناس هذا يوما وهذا يوما، وفي ضمير عائشة قلق لا يكاد يبين؛ مرت في طريقها بماء فنبحتها كلابه، وسألت عن هذا الماء، فقيل لها إنه الحوأب؛ فجزعت جزعا شديدا، وقالت: ردوني ردوني؛ قد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول وعنده نساؤه: «أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟» وجاء عبد الله بن الزبير، فتكلف تهدئتها وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها أن هذا الماء ليس بماء الحوأب.
فرقة ظاهرة واختلاف بين وقلق خفي في الضمائر وأطماع تظهر على استحياء ثم تستخفي على كره من أصحابها، كذلك كانت حال القوم حين أظلهم علي بمن معه من جند كثيف.
الفصل الحادي عشر
فقد أرسل إليهم القعقاع بن عمرو صاحب رسول الله، وأمره أن يعلم علمهم ويسألهم عما يريدون، ويناظرهم فيما خرجوا من أجله، فمضى القعقاع حتى أذن له على عائشة، فسألها عما أقدمها إلى البصرة. قالت: إصلاح بين الناس. فسألها أن تدعو طلحة والزبير ليقول لهما ويسمع منهما وهي شاهدة. فأرسلت إليهما، فلما أقبلا قال لهما القعقاع: إني سألت أم المؤمنين عما أقدمها إلى هذه البلدة، فقالت: إصلاح بين الناس، أفأنتما متابعان لها أم مخالفان عنها؟ قالا: متابعان. قال القعقاع: فأنبئاني عن هذا الإصلاح الذي تريدونه، فإن كان خيرا وافقناكم عليه، وإن كان شرا اجتنبناه. قال قائلهما: قتل عثمان مظلوما، ولا يستقيم الأمر إذا لم يقم الحد على قاتليه. قال القعقاع: فإنكم قد قتلتم من قتلة عثمان ستمائة رجل في البصرة إلا رجلا واحدا هو حرقوص بن زهير؛ غضب له قومه فخالفوا عنكم، وغضب لمن قتل قومهم، فتفرقت عنكم مضر وربيعة وفسد الأمر بينكم وبين كثير من الناس، ولو مضيتم في الأمصار تفعلون فيها مثل ما فعلتم في البصرة لفسد الأمر فسادا لا صلاح بعده. قالت عائشة: فأنت تقول ماذا؟ قال القعقاع: أقول إن هذا أمر دواؤه التسكين واجتماع الشمل، حتى إذا صلح الأمر وهدأت الثائرة وأمن الناس واطمأن بعضهم إلى بعض؛ نظرنا في أمر الذين أحدثوا هذه الفتنة، وإني لأقول هذا وما أراه يتم حتى يأخذ الله من هذه الأمة ما يشاء، فقد انتثر أمرها وألمت بها الملمات وتعرضت لبلاء عظيم. فاستحسن القوم كلامه، أو أظهروا له أنهم يستحسنون كلامه، وقالوا: قد رضينا منك رأيك، فإن أقبل علي بمثل هذا الرأي صالحناه عليه. ورجع القعقاع راضيا فأنبأ عليا بما قال وبما قيل له، فسر علي بذلك أشد السرور وأعظمه.
وكان الأفراد من أهل البصرة يلمون بمعسكر علي، يأتي الربعي من أهل البصرة قومه من ربيعة الكوفة، ويأتي المضري قومه المضريين، ويأتي اليمني قومه اليمانية، فلا يكون الحديث بينهم إلا في الصلح وإيثار العافية، حتى ظن أولئك وهؤلاء أن الأمر ملتئم بعد قليل. وهنا يروي الغلاة من خصوم الشيعة قصة ما أراها تستقيم؛ لأنها تخالف طبيعة الأشياء ولا يسيغها إلا أصحاب السذاجة أو الذين يتكلفون أو يريدون تصوير التاريخ كما كان بمقدار ما يريدون تصويره كما تمنوا أن يكون.
فقد زعم هؤلاء الغلاة أن الذين تولوا كبر الثورة بعثمان جزعوا حين أحسوا أن أمر الناس صائر إلى الصلح وأشفقوا أن يكونوا ثمن هذا الصلح، فاجتمع ناديهم بليل وجعلوا يديرون الرأي بينهم على نحو ما تجد في السيرة من اجتماع قريش بدار الندوة وائتمارهم بالنبي وحضور ذلك الشيخ النجدي الذي اتخذ إبليس صورته ليشهد أمر القوم ويشير عليهم.
وكان إبليس الجماعة في هذه القصة ذلك اليهودي الذي أسلم بأخرة ومضى في الأمصار يفسد على الناس أمور دينهم وأمور دنياهم ويؤلبهم على عثمان، وهو عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء.
وقد جعل القوم يتشاورون، وجعل إبليس القوم يسفه ما كان يعرض من الآراء حتى انتهوا إلى رأي أعجب به ابن السوداء كما أعجب إبليس برأي أبي جهل في أمر النبي. وكان هذا الرأي الذي أعجب ابن السوداء هو أن يحزموا أمرهم ويكتموا سرهم، حتى إذا التقى الجمعان أنشبوا القتال عن غير أمر من علي، فأثاروا الحرب وحالوا بين الفريقين وبين ما كانوا يريدون من الصلح. وتمضي القصة فتروي أن القوم أنفذوا خطتهم كما دبروها، فأنشبوا القتال على حين كان طلحة والزبير وعلي قد أجمعوا أمرهم على الصلح.
والتكلف في هذه القصة أظهر من أن نحتاج إلى كثير عناء في ردها، فلم يكن علي وأصحابه من الغفلة بحيث تدبر الخيانة في معسكرهم ويدبرها قوم من قادتهم وهم لا يشعرون، وإنما الوجه الذي يلائم طبيعة الأشياء هو ما رواه المعتدلون من المؤرخين من أن القوم قد التقوا عند البصرة ووقف بعضهم لبعض وتناظروا ولم تغن المناظرة عنهم شيئا، فكان ما لم يكن بد من أن يكون.
الفصل الثاني عشر
وكان كعب بن ثور حبرا صالحا من أحبار المسلمين، كان في الجاهلية نصرانيا، فلما أسلم مضى في إسلامه متتبعا للخير متوخيا للبر متفقها في الدين ناصحا لله وللناس، مرتفعا عن صغائر الأمور وأعراض الدنيا. وقد وثق به عمر فولاه قضاء البصرة، وأثبته عثمان على قضائها، ولم يعرض له عامل علي، فظل قاضيا حتى كانت الفتنة، وأقبلت أم المؤمنين ومعها هذان الشيخان إلى البصرة، وحاول كعب أن يصلح بين الناس فلم يبلغ من ذلك شيئا. وحاول أن يحمل قومه الأزد على اعتزال الفتنة وترك البصرة فلم يبلغ من ذلك شيئا، وقال له رئيس القوم صبرة بن شيمان: ما أرى إلا أن نصرانيتك القديمة قد أدركتك، أتريد أن نترك ثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! وأراد أن يعتزل الفتنة وحده بعد أن أبى قومه أن يتبعوه فلم يبلغ من ذلك شيئا، عزمت عليه أم المؤمنين ألا يتركها، فأقام معها مستجيبا لعاطفته الدينية من جهة ولعاطفة الجوار من جهة أخرى، كأنه قدر أن أم المؤمنين حين عزمت عليه ألا يتركها قد أرادت أن تتخذه لها جارا، فأقام معها وجعل مع ذلك يحاول الإصلاح بين الناس، ولم يكن يشفق من شيء كما كان يشفق من التقاء الجمعين ووقوف بعض القوم لبعض، كان يرى أن في ذلك تحريضا على القتال ودعاء إليه، فما أسرع ما يعزب حلم الحليم! وما أسرع ما يستخف الطيش سفهاء الناس في مثل هذه المواطن!
ولكن الجمعين قد التقيا على تعبئة ذات صباح، وخرج علي حتى كان بين الفريقين فدعا إليه طلحة والزبير ليكلمهما، فخرجا إليه، وتواقف ثلاثتهم وسأل علي صاحبيه: ألم تبايعاني؟ قالا: بايعناك كارهين ولست أحق بها منا. فقال لطلحة: أحرزت عرسك وخرجت بعرس رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تعرضها لما تتعرض له؟! وقال للزبير: كنا نعدك من آل عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن سوء ففرق بينك وبيننا. يريد ابنه عبد الله وأمه أسماء بنت أبي بكر؛ تعصب لأخواله من تيم فخرج مع عائشة خالته ومع طلحة التيمي من عمومته، ولم يحفل بأن أباه الزبير كان ابن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله وعمة علي، ثم قال علي للزبير: أتذكر يوم قال لك رسول الله: إنك ستقاتلني ظالما لي؟ فذكر الشيخ هذا الحديث وتأثر به، وتأثر كذلك بقرابته من علي والنبي، وقال لعلي: لو ذكرت ذلك ما خرجت، والله لا أقاتلك أبدا.
ورجع إلى أم المؤمنين فقال لها: إني لا أرى في هذا الأمر بصيرة. قالت: فتريد ماذا؟ قال: أريد أن أعتزل الناس. وهنا يختلف المؤرخون؛ فقوم يرون أنه مضى لوجهه حتى أدركه ابن جرموز فقتله في وادي السباع بأمر من الأحنف بن قيس أو عن غير أمر منه. وقوم يقولون إن ابنه عبد الله عيره الجبن، وقال له: رأيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أن تحتها الموت فجبنت! وما زال به حتى أحفظه. فقال له الزبير: ويلك! إني قد حلفت لا أقاتل عليا. فقال عبد الله: ما أكثر ما يكفر الناس عن أيمانهم! فأعتق غلامك سرجيس وقاتل عدوك. ففعل وانهزم مع الناس.
ونحن إلى الرواية الأولى أميل، فقد كان الزبير رقيق القلب، شديد الخوف من الله، شديد الحرص على مكانته من رسول الله. وكانت حيرته شديدة منذ وصل إلى البصرة ورأى ما رأى من افتتان الناس واختلافهم، وازدادت حيرته حين عرف أن عمار بن ياسر قد أقبل في أصحاب علي، وكان المسلمون يتسامعون بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
لعمار: «ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» فلما عرف أن عمارا في جيش علي أصابته رعدة شديدة إشفاقا من أن يكون من هذه الفئة الباغية، وقد تماسك مع ذلك حتى لقي عليا وسمع منه ما سمع، وهنالك استبانت له بصيرته، فانصرف عن القوم ولم يقاتل حتى قتل غيلة بوادي السباع، وقد حزن علي لمقتله وبشر قاتله بالنار، وأخذ سيف الزبير بيده وهو يقول: سيف طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
مضى الزبير إذن ولم يقاتل، وكأن انصرافه قد فت في أعضاد أصحابه فلم يقتتلوا إلا ضحوة يومهم ذاك ثم انهزموا، وجعل طلحة يحرضهم وهو جريح، أصابه سهم طائش في بعض الروايات، أو سهم رماه به مروان بن الحكم، وكان من أصحابه. وكان مروان يقول: والله، لا طالبت بثأر عثمان بعد اليوم. وقال لبعض ولد عثمان: لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة.
ومهما يكن من شيء، فقد انهزم الناس وأصيب طلحة وعرف أنه ميت، فجعل ينظر إلى دمه وهو ينزف ويقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى يرضى. ثم أمر مولاه أن يأوي به إلى مكان ينزل فيه، فأوى به - بعد جهد - إلى دار خربة من دور البصرة، فمات فيها بعد ساعة.
وظن الناس أن الحرب قد وضعت أوزارها، وأن النصر قد كتب لعلي وأصحابه، وكان علي قد تأذن في أصحابه ألا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا هاربا، ولا يدخلوا دارا، ولا يحوزوا مالا، ولا يؤذوا امرأة. وإن عليا لفي بعض أمره يظن أن الحرب قد وضعت أوزارها، وأن النصر قد أتيح له، وإذا هو يسمع عجيجا وضجيجا شديدين، فيسأل فيقال له: إنما عائشة تحرض الناس وتلعن قتلة عثمان، والناس يلعنون معها قتلة عثمان. فيقول علي: يلعنون قتلة عثمان؟! والله ما يلعنون إلا أنفسهم، فهم قتلوه، اللهم العن قتلة عثمان.
الفصل الثالث عشر
وكان علي - صباح ذلك اليوم حين استيأس من طلحة وعرف أنه يأبى إلا الحرب - قد كف أصحابه كفا شديدا عن أن يبدءوا بالقتال حتى يأمرهم، وجعل شباب أهل البصرة والسفهاء منهم خاصة، يحاولون إنشاب القتال؛ فينضحون أصحاب علي بالنبل حتى أصابوا منهم نفرا، فجعل أصحاب علي يحملون من أصيب منهم إلى علي ويتعجلون إذنه بالقتال، وهو مع ذلك مستأن لا يجيبهم إلى ما يطلبون. فلما كثر ذلك من أهل البصرة دفع علي مصحفا إلى فتى من أهل الكوفة وأمره أن يقف به بين الصفين وأن يدعو القوم إلى ما فيه، وأنذره بأنه مقتول إن نهض بهذه المهمة، فشك الفتى غير طويل، ثم أخذ المصحف وانطلق به حتى وقف بين الصفين وجعل يدعو القوم إلى ما فيه، فرشقوه بالنبل رشقا واحدا فقتلوه.
وتكثر الرواة بعد ذلك، فقالوا: رفع الفتى المصحف بيمينه فقطعوها، فأخذ المصحف بشماله فقطعوها، فأخذ المصحف بأسنانه أو بين منكبيه حتى قتل.
والشيء المحقق أن الفتى قتل وهو يدعوهم إلى ما في القرآن، فقال علي لأصحابه: الآن طاب الضراب. وكانت الموقعة الأولى صدر النهار، وكانت الهزيمة حتى زالت الشمس، فلما انهزم الناس أقبل المتحمسون من أصحاب طلحة والزبير، وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير في أكبر الظن، فأخرجوا أم المؤمنين من بيتها في المسجد الذي استترت فيه، وأدخلوها هودجا مصفحا بالدروع، وحملوها على جملها ذاك، وأشهدوها ميدان الوقيعة، فثاب المنهزمون إلى أمهم ورأوا أنهم لا يحمون أمهم فحسب وإنما يحمون زوج رسول الله وحبيبته؛ فثارت في نفوسهم عقدة غريبة؛ فيها الشعور الديني القوي، وفيها الشعور بحرمة العرض وحماية الأم والذود عن الذمار. واجتمع الناس حول أمهم مستقتلين يكرهون أن تصاب أم المؤمنين بأذى في بلدهم وهم شهود.
وكان جمل عائشة - فيما يقول بعض من شهد الوقعة - راية أهل البصرة، يلوذون به كما يلوذ المقاتلون براياتهم، وما أسرع ما أفاق المنتصرون من انتصارهم حتى أقبلوا على خصمهم أولئك يريدون أن يهزموهم آخر النهار كما هزموهم وجه النهار! وهنا يظهر كعب بن ثور قاضي البصرة، وقد برز بين الصفين وعلق في عنقه مصحفا، وجعل يدعو أولئك وهؤلاء إلى كتاب الله وما فيه وينهاهم عن الشر. ولكن أصحاب علي رشقوه بالنبل رشقا واحدا فقتلوه، كأنهم ثأروا لفتاهم ذاك الذي قتل وهو يحمل المصحف بين الصفين حين ارتفع الضحى.
واقتتل الفريقان قتالا شديدا منكرا، يريد أصحاب علي ألا يفلت منهم النصر بعد أن أحرزوه، ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أم المؤمنين ويموتوا دونها، واقتتل القوم حتى كره بعضهم بعضا وحتى مل بعضهم بعضا وحتى يئس بعضهم من بعض. ثم هذه صيحات ترتفع في الجو تأتي من يمين ومن شمال، وتدعو المقاتلين إلى أن يطرفوا، أي إلى أن يقطع بعضهم أطراف بعض. وهم يقبلون على هذا النكر من الأمر يقطع بعضهم أيدي بعض ويقطع بعضهم أرجل بعض، ولا يكاد أحدهم تقطع يده أو رجله حتى يستقتل إلى أن يقتل. وقد كاد أصحاب عائشة أن ينهزموا، ولكن الجمل قائم لا يريم، وعليه هودجه لا يضطرب، وفي الهودج أم المؤمنين تحرض الناس فتردهم إلى الحماسة والجرأة بعد الخوف والفرق، وهم يثبتون حول الجمل لا يريدون انتصارا ولا يريدون فوزا، وإنما يريدون أن يحموا أمهم، وراجزهم يرتجز:
يا أمنا عائش لا تراعي
كل بنيك بطل المصاع
وهي تتحدث إلى من عن يمينها محرضة، وإلى من عن شمالها محمسة، وإلى من أمامها مذكرة، وأصحاب علي يلحون على هؤلاء المستقتلين، وراجزهم يرتجز:
يا أمنا أعق أم نعلم
والأم تغذو ولدها وترحم
أما ترين كم شجاع يكلم
وتختلى منه يد ومعصم؟!
فيجيبه راجز أصحاب عائشة:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
ننازل القرن إذا القرن نزل
والقتل أشهى عندنا من العسل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وما يزال أولئك يستقتلون وهؤلاء يشتدون عليهم، حتى كان لا يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل من دونه، وقد رأى علي هذا القتل الذريع، فراعه نكر ما رأى، وصاح بأصحابه: اعقروا الجمل؛ فإن في بقائه فناء العرب. فيهوي إليه رجل من أصحابه بالسيف فيعقره، ويخر الجمل إلى جنبه وله عجيج منكر لم يسمع مثله.
وهنالك - وهنالك فحسب - يتفرق حماة الجمل كما ينتشر الجراد، ويقبل محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر فيحتملان الهودج وينحيانه ناحية، ويضرب محمد على هودج أخته فسطاطا، ويأمره علي أن ينظر أأصابها مكروه، فيدخل رأسه في الهودج، فتسأله: من أنت؟ فيقول: أبغض أهلك إليك. فتقول: ابن الخثعمية؟ فيقول: نعم؛ أخوك محمد. ويسألها: أأصابها مكروه؟ فتقول: مشقص في عضدي. فينتزعه، ويأتي علي مغضبا، ولكنه على ذلك متماسك يملك نفسه ويضبطها أشد الضبط، فيضرب الهودج برمحه ويقول: كيف رأيت صنيع الله يا أخت إرم؟! فتقول: يا ابن أبي طالب، ملكت فأسجح. فيقول علي: غفر الله لك. وتجيب عائشة: وغفر لك.
ثم يأمر علي محمد بن أبي بكر أن يدخل أخته دارا من دور البصرة، فيحملها حتى يدخلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، فتقيم فيها أياما.
الفصل الرابع عشر
وكذلك اقتتل الناس حول طلحة حتى انهزموا وجه النهار وقتل طلحة، ثم اقتتلوا آخر النهار حتى انهزموا حين أقبل الليل وسلمت عائشة، ورأى المسلمون يوما لم يروا مثله شناعة ولا بشاعة ولا نكرا، سل المسلمون فيه سيوفهم على المسلمين، وقتل خيار المسلمين فيه خيار المسلمين، فقتل من أولئك وهؤلاء جماعة من جلة أصحاب النبي ومن خيرة فقهاء المسلمين وقرائهم، وحزن علي لذلك أشد الحزن وأقساه. فكان يتعرف القتلى من أصحابه ومن خصمه ويتوجع لأولئك وهؤلاء، ويترحم على أولئك وهؤلاء، ويتجه إلى الله ربه فيقول:
أشكو إليك عجري وبجري
شفيت نفسي وقتلت معشري
وكأن العرب في ذاك اليوم قد عادت إلى جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، ونسيت دينها السمح أو كادت تنساه، أو كأن العرب في ذلك اليوم قد جن جنونها وفقدت صوابها فلم تدر ما تأتي ولا ما تدع، أو كأن الفتنة قد شبهت على العرب حتى رأى المسلمون أنفسهم في ظلمة ظلماء لا يرون، حتى كأنهم الذين وصفهم الله في القرآن حين قال:
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق
إلى آخر الآيات، إلا أنهم كانوا مسلمين، يرى كل منهم أنه يغضب لله ويقاتل ويقتل ويموت في سبيل الله؛ ولهذا لم يبعد علي حين قال لأصحابه حين سألوه قبل الموقعة: إن من قاتل فقتل وهو لا يريد بقتاله إلا الحق ولا يبتغي به إلا رضى الله فهو شهيد، وقد أنفذ علي أمره كله، فأمن الناس إثر سقوط الجمل، واشتد على أصحابه في ألا يجهزوا على جريح ولا يتبعوا فارا ولا يدخلوا دارا ولا يهتكوا سترا، ولم يقسم بين أصحابه غنيمة إلا ما أجلب به أهل البصرة من خيل أو سلاح، لم يكن ملكا لبيت المال، بل تجاوز إلى أبعد من ذلك وأمر بجمع ما ترك أهل البصرة في الميدان وحمله إلى المسجد، ونادى مناديه في الناس: من عرف منه شيئا فليأخذه.
وكأن الليل قد رد إلى القوم عوازب أحلامهم، وأصبحوا جميعا محزونين لا فرق في ذلك المنتصر والمنهزم، وأقبل علي من غده فصلى على القتلى جميعا من شيعته ومن خصمه، وأذن للناس في دفن موتاهم، وجمع الأطراف الكثيرة فاحتفر لها قبرا كبيرا ودفنها فيه، وأقام في معسكره خارج البصرة، فلم يدخل المدينة إلا بعد ثلاث.
وواضح أن هذه الموقعة المنكرة قد تركت في نفوس المسلمين أعمق الأثر وأبقاه، وقد كانت على ذلك كله مصدرا خصبا لخيال القصاص والشعراء، فقصوا حتى أسرفوا في القصص، وأضافوا من رائع الشعر والرجز إلى المقتتلين ما لم يقولوا إلا أقله، وهم على ذلك لم يبلغوا وصف هذه الموقعة الشنيعة البشعة، ومتى استطاع الأدب - على خصبه ونفاذه وقوته - أن يصور ما في قتال الإخوان للإخوان، وفتك الآباء بالأبناء، والأبناء بالآباء، وتجاوز هذه الحرمات التي لا يباح للناس أن يتجاوزوها، فيصيب بتصويره الغاية ويبلغ به المدى؟! وصدق من قال من أصحاب النبي حين بلغه قتل عثمان: لقد كنتم تحتلبونها لبنا؛ فلن تحتلبوها منذ اليوم إلا دما.
وقد كثر القتلى والجرحى من أولئك وهؤلاء، واختلف الرواة في إحصاء القتلى، فمنهم من بلغ بهم عشرين ألفا، ومنهم من لا يتجاوز بهم عشرة آلاف، وفي هذا الإحصاء وأمثاله إسراف كثير، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن كثيرا جدا من دور البصرة والكوفة قد سكنها الحزن والثكل والحداد، وكان ذلك ابتداء مشئوما لخلافة كان يرجى أن تكون كلها بركة ويمنا للمسلمين.
ولكن ستة أشهر لم تمض على خلافة علي حتى جرت دماء المسلمين غزارا بأيدي المسلمين وأصبح بأسهم بينهم شديدا.
الفصل الخامس عشر
ودخل علي البصرة بعد الموقعة بثلاثة أيام، فجاء المسجد فصلى فيه وجلس للناس صدر النهار، فلما أمسى ركب لزيارة عائشة ومعه جماعة من أصحابه، فبلغ دار عبد الله بن خلف الخزاعي، وكانت أعظم دار في البصرة، ولم يكد يدخل حتى لقيته ربة الدار صفية بنت الحارث العبدرية شر لقاء، قالت له: يا علي، يا قاتل الأحبة، يا مفرق الجماعة، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت بني عبد الله. وكان زوجها عبد الله بن خلف وأخوه عثمان قد قتلا في الموقعة، فلم يجبها علي وإنما مضى حتى دخل على عائشة، فلما جلس إليها قال: جبهتنا صفية، أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم. ثم أخذ معها فيما كان بينهما من حديث، فلما انصرف تلقته صفية فأعادت عليه مقالتها تلك، وأراد علي أن يسكتها عنه، فجعل يقول - وهو يشير إلى أبواب الحجرات المغلقة: لقد هممت أن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه، وأن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه. فلما سمعت صفية ذلك سكتت عنه وخلت له طريقه، وكان في تلك الحجرات كثير من الجرحى من أصحاب عائشة، آوتهم عائشة إلى هذه الدار وأمرت بتمريضهم حتى يبرءوا، وكان علي يعلم بمكانهم، ولا شك في أنه لم يكن يريد أن يقتل منهم أحدا، وإنما خوف تلك القرشية فخلت بينه وبين طريقه.
وهم بعض أصحاب علي أن يبطشوا بهذه القرشية، فزجرهم علي زجرا عنيفا، وقال: لقد كنا نؤمر بالكف عن النساء وهن مشركات، ولقد كان الرجل ينال المرأة بالضربة فيعير بذلك عقبه، فلا يبلغني أن أحدا منكم قد عرض لامرأة بسوء إن آذتكم وشتمت أمراءكم؛ فأنزل به أشد العقوبة.
ولم يكد يبعد عن الدار قليلا حتى أقبل رجل فأنبأه بأن اثنين من أهل الكوفة قاما على باب الدار فقالا لعائشة قولا غليظا، يرفعان به صوتهما لتسمعه، قال أحدهم: جزيت عنا أمنا عقوقا. وقال الآخر: يا أمنا توبي؛ لقد خطئت.
فأرسل علي من جاءه بالرجلين وبمن كان معهما من الرجال، فلما تثبت أنهما قالا مقالتهما تلك أمر بقتلهما بادي الرأي، ثم خفف العقوبة، فأمر بأن يضرب كل واحد منهما مائة سوط.
وسار علي في أهل البصرة سيرة الرجل الكريم الذي يقدر فيعفو ويملك فيسجح، وكان يقول: سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في أهل مكة. ثم جلس لهم فبايعوه على راياتهم، بايعه منهم الصحيح والجريح، ثم عمد بعد ذلك إلى بيت المال، فقسم ما وجد فيه على الناس، وقوم يرون أنه قسمه في أصحابه دون خصمه من أهل البصرة، ووعدهم مثل ذلك إلى أعطياتهم إن أظفرهم الله بأهل الشام، والأشبه بسيرة علي أنه قسم المال في الغالبين والمغلوبين جميعا. ومن أجل ذلك غضب الثائرون بعثمان؛ لأنه لم يفرق بين شيعته وبين عدوه، وغضبوا كذلك لأنه لم يبح لهم أن يأخذوا ما ظفروا به بعد الهزيمة، وقال قائلهم: أحل لنا دماءهم وحرم علينا أموالهم!
ويقول بعض المؤرخين: إن هؤلاء الثائرين - الذين يحب الطبري ورواته أن يسموهم السبئية - قد خفوا من البصرة إلى الكوفة؛ فأعجلوا عليا واضطروه إلى أن يلحقهم مخافة أن يحدثوا في الكوفة حدثا. وأكبر الظن أن الأمر لم يبلغ بهم هذا الحد، وإنما جمجموا ببعض ما وجدوا من الغضب ثم لم يزيدوا على ذلك ، كما جمجم الأشتر - فيما يروى - حين ولى علي على البصرة عبد الله بن عباس. وقال الأشتر - فيما يروى: ففيم قتلنا الشيخ إذن؟! عبد الله على البصرة وعبيد الله على اليمن وقثم على مكة، وكلهم من بني العباس. ويزعم رواة الطبري أن الأشتر غضب وارتحل مسرعا إلى الكوفة، فأمر علي بالرحيل ليلحق به قبل أن يحدث حدثا.
وما أرى إلا أن هذا كله قد تكلفه الرواة بأخرة، وما أكثر ما كان الناس ينكرون من خلفائهم هذا الأمر أو ذاك ثم لا يتجاوزون هذا الإنكار بألسنتهم! أنكروا على أبي بكر، وأنكروا على عمر، وأنكروا على عثمان في الصدر الأول من خلافته، ثم لم يزيدوا على ذلك شيئا.
والناس يختلفون في المدة التي أقامها علي بالبصرة، قوم يرون أنه لم يقم فيها إلا شهرا أو أقل من شهر، وقوم يرون أنه أقام فيها شهرين أو أكثر قليلا، ونميل نحن إلى أنه لم يطل المقام في البصرة، وإنما كانت أمامه أمور دبرها ثم ارتحل إلى الكوفة متعجلا، يريد أن يستعد لحرب أهل الشام بعد أن صرفته عن حربهم فتنة هؤلاء الذين كان يسميهم الناكثين؛ لأنهم بايعوا ثم نقضوا البيعة. وكان من أهم هذه الأمور أن يفرغ من أمر الموقعة وأعقابها، وأن يطمئن على أمر البصرة بعد انصرافه عنها، وقد جعل يستصلح الناس فيعفو عنهم ويعطيهم الرضى، ويؤمن الخائف منهم ويتجاهل مكان العدو.
وقد أظهر الجهل بما كان من أمر جماعة بني أمية، أصابتهم جراحات في الموقعة وأشفقوا ألا يؤمنهم علي فتشتتوا في الأرض وطلبوا الجوار إلى أشراف العرب، فأجاروهم وأقاموا على تمريضهم ثم أبلغوهم مأمنهم، وعلي يعلم هذا كله ويخفي علمه به لأنه لم يكن يريد بأحد بعد الموقعة شرا، وكان يعلم أن عائشة قد ضمت إليها كثيرا من الجرحى، فلم يعرض لهم بسوء ولم يخف علمه بمكانهم، وإنما قاله لصفية بنت الحارث حين اعترضته شاتمة له داعية عليه.
واستخفى عبد الله بن الزبير بجراحاته الكثيرة، ثم أرسل إلى أم المؤمنين ينبئها بمكانه وطلب إلى رسوله ألا يؤذن بذلك محمد بن أبي بكر؛ فذهب الرسول فأبلغ أم المؤمنين، فأرسلت إلى أخيها محمد وقالت له: اذهب إلى مكان ابن أختك فأتني به. وذهب محمد إلى ابن أخته فأتى به، وجعل يتشاتمان طول الطريق، يشتم محمد عثمان ويشتم عبد الله خاله محمدا.
وكذلك ثاب الناس إلى كثير من العافية والإسماح، وجعلت ثورة القلوب تهدأ قليلا قليلا وتترك فيها حسرات تختلف قوة وضعفا باختلاف هذه القلوب.
وكانت عائشة - فيما يروي المؤرخون والمحدثون - أشد المغلوبين حسرة وأعظمهم ندما وكانت تتلو:
وقرن في بيوتكن
إلى آخر الآية، ثم تبكي حتى يبتل خمارها، وكانت تقول: وددت لو أني مت قبل هذا اليوم بعشرين عاما. وكانت تقول بعد رجوعها إلى الحجاز: والله إن قعودي عن يوم الجمل لأحب إلي لو أتيح لي من أن يكون لي عشرة بنين من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وكان أشد الناس حسرة وأعظمهم أسى بين الغالبين علي نفسه، فقد كان يقول: لو عرفت أن الأمر يبلغ بنا ما بلغ لما دخلت فيه. وكان يقول:
أشكو إليك عجري وبجري
شفيت نفسي وقتلت معشري
وكان يقول: وددت لو أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. كما كانت تقول عائشة.
وكان من الأمور ذات الخطر التي أراد علي أن يفرغ منها قبل أن يترك البصرة رد عائشة إلى المدينة لتقر في بيتها كما أمرها الله، وقد تعجلها في الرحيل فاستأجلته أياما، كأنها كانت تريد أن تطمئن على الجرحى، فأجلها علي أياما ثم جهزها بجهاز ملائم لمكانتها، وأرسل معها جماعة من رجال ونساء. وخرجت عائشة يوم سفرها فسلم الناس عليها وودعوها، وأمرتهم بالخير وأنبأتهم أنه لم يكن قط بينها وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وصدق علي أمام الناس مقالتها وشيعها، وشيعها الناس معه حتى أبعدوا، وأمر بنيه فساروا معها يوما كله ثم رجعوا.
وأمر علي على البصرة عبد الله بن عباس، وما نرى أنه كان يستطيع أن يؤمر غيره؛ فالكثرة في البصرة مضرية، وما ينبغي أن يؤمر عليها بعد الفتنة إلا رجل من مضر شديد القرابة من علي، وأمر علي زيادا على الخراج، وارتحل إلى الكوفة، فلما بلغها وجد فيها حزنا وخوفا، وجد الحزن عند الذين أصيب أبناؤهم وإخوانهم وآباؤهم، ووجد الخوف عند الذين لم ينفروا معه فأشفقوا أن يسخط عليهم، ولكنه واسى أولئك واستصلح هؤلاء وجعل يستعد لحرب أهل الشام.
الفصل السادس عشر
ولم يضع شيئا من وقته، ولم يرفق بنفسه ولا بأصحابه، فلم يكد يفرغ من حرب الناكثين - كما كان يسميهم - حتى جعل يتأهب لحرب القاسطين كما كان يسميهم كذلك. وصل إلى الكوفة في أواخر رجب، فلم يقم فيها إلا أربعة أشهر استعد أثناءها للحرب.
ولم يكن أصحابه يرفقون بأنفسهم أيضا، فقد كان المنتصرون منهم حراصا على أن يضيفوا نصرا إلى نصر، وكان المتخلفون منهم حراصا على أن يعوضوا ما فاتهم به أصحابهم الذين قاتلوا يوم الجمل، وأن يرضوا عليا عن أنفسهم بما يبلون في الحرب المقبلة من بلاء.
وكانت الحرب المقبلة محتاجة إلى البلاء الحسن كله؛ فالخصم في الشام عنيف يحيط به جند أولو قوة وأولو بأس شديد، فأما عنف هذا الخصم وهو معاوية فيمكن أن نقدره حين نلاحظ أنه ابن أبي سفيان الذي حارب النبي بعد بدر، فأبلى في حربه أشد البلاء وأقواه، وأظهر في هذه الحرب قوة وقسوة وكيدا ودهاء، ولم يسلم إلا بأخرة حين لم ير من الإسلام بدا، وحين لم يكن له إلا أن يختار بين الإسلام والموت. وقد ورث معاوية عن أبيه قوته وقسوته وكيده ودهاءه ومرونته كذلك، ولم تكن أم معاوية بأقل من أبيه تنكرا للإسلام وبغضا لأهله وحفيظة عليهم، وهم قد وتروها يوم بدر، فثأر لها المشركون يوم أحد، ولكن ضغنها لم يهدأ وحفيظتها لم تسكن حتى فتحت مكة فأسلمت كارهة كما أسلم زوجها كارها. وقد ولى عمر معاوية على الشام، فلم يعزله عنها على كثرة ما كان عمر يحب أن يغير العمال، رضي عن سياسته للشام وجند الشام وعن ثباته للروم، وكان عمر يكفكف من غلواء معاوية وطموحه إلى الفتح ورغبته في أن يغزو البحر كما غزا البر، ثم جاء عثمان فغير عمال عمر جميعا بعد ولايته بوقت قصير إلا معاوية، فإنه أقره على عمله رضى عنه كما رضي عنه عمر، وركن إليه أكثر مما ركن إلى غيره من العمال لقرابته وقوته وحسن تدبيره للأمر وحسن تصرفه في المشكلات، وخروجه من المآزق ونفوذه في الخطوب حين تدلهم، وكان إذا ضاق عماله ببعض المعارضين من أهل الكوفة والبصرة أمر عامله في هذا المصر أو ذاك بنفي هؤلاء المعارضين إلى الشام حيث يتلقاهم معاوية فيؤدبهم باللين والرفق ما وسعه اللين والرفق، ويؤدبهم بالشدة والعنف حين لا يرى من الشدة والعنف بدا.
وقد ضاق معاوية برجل عظيم الخطر من أصحاب النبي هو أبو ذر، كما رأيت فيما مضى من هذا الكتاب، ولم يستطع أن يبطش به لمكانه من رضى رسول الله عنه وإيثاره إياه ولسابقته في الإسلام، ولم يستطع أن يفتنه عن دينه بالمال، فشكاه إلى عثمان، وأمره عثمان بتسييره إلى المدينة، ولم يطق عثمان نفسه معارضة أبي ذر فأخرجه من المدينة واضطره إلى أن يقيم في الرملة حتى مات.
ووفد معاوية على عثمان في آخر أيامه، حين كثر قول الناس فيه وإنكارهم عليه، فاقترح - فيما يروي المؤرخون - أن ينتقل معه إلى الشام، فكره عثمان أن يترك جوار النبي
صلى الله عليه وسلم ، فاقترح عليه معاوية أن يرسل إليه جندا من أهل الشام يحتلون المدينة ويقومون فيها دونه، فأبى عثمان أن يضيق بهؤلاء الجند على أهل المدينة، وخرج معاوية فأوصى المهاجرين بالشيخ خيرا ولمح لهم بالنذير إن هم أعانوا عليه أو قصروا في ذاته.
ولكنه عاد بعد ذلك إلى الشام وعرف اشتداد النكير على عثمان، وعرف بعد ذلك أن عثمان قد حصر فلم يخف لنصره ولم يرسل إليه جندا، ثم جاءه كتاب عثمان يستغيثه كما استغاث غيره من العمال، فأبطأ عن نصره كما أبطئوا وظل متربصا حتى قتل الشيخ، وهنالك نهض يطلب بدمه، وكان خليقا لو أراد أن يحقن هذا الدم قبل أن يراق، ولكنه أقام في الشام مطرقا إطراق الشجاع ينتظر الفرصة المواتية، وقد واتته الفرصة فاهتبلها غير مقصر في اهتبالها وغير متهالك عليها أيضا، كان مستأنيا بعيد الأناة، وكان متحفظا شديد التحفظ، وكان على ذلك نشيطا أشد النشاط، يعمل عقله ورويته في غير انقطاع، ويدعو الناس إلى نصره في غير إلحاح أول الأمر، وإنما كان يعظم قتل الخليفة المظلوم، ويهول من أمر هذا الحدث المنكر، حتى انقادت إليه قلوب أهل الشام وضمائرهم، وإذا هم يظهرون من الغضب لعثمان والطلب بدمه أكثر مما كان يظهر، وإذا هم يتعجلونه في النهوض وهو مع ذلك يبطئهم ويستأني بهم، ويحتاط في الأمر لنفسه ولهم، ويبلغ مع ذلك في تألف القلوب واستهواء الضمائر والنفوس، يطمع هؤلاء ويخيف أولئك، وينتظر بهؤلاء الشيوخ من أصحاب الشورى من المهاجرين والأنصار ليرى ما يصنعون، يدس لبعضهم من بني أمية المرغبين والمرهبين والمبشرين والمنذرين، حتى إذا رأى انحياز طلحة والزبير وعائشة إلى مكة وائتمارهم بقتال علي غضبا لعثمان لم يدعهم إليه ولم ينصرهم بجنده، وإنما ألقى أنصاره في روعهم أن معاوية سيكفيهم الشام وقد يكفيهم مصر، وأن عليهم أن يستأثروا بالعراق من دون علي ليحصر علي في الحجاز، ثم يؤخذ بين من يخف لحربه من شرق الدولة وغربها.
وقد سمع الشيخان وسمعت عائشة للمشيرين بذلك من بني أمية، فقصدوا إلى البصرة يريدون أن يحتازوها ثم يغيروا بعد ذلك بأهلها على الكوفة، فإذا فرغوا من العراق كان التعاون بينهم وبين معاوية على علي، ثم تنظم بعد ذلك خلافة ثلاثية، قوامها طلحة والزبير ومعاوية، بعد أن أبى علي هذه الخلافة الثلاثية التي طلبها إليه الشيخان بعد أن بايعاه.
وقد انصرف علي عما كان يتأهب له من حرب معاوية وأهل الشام واشتغل بالشيخين وأم المؤمنين يريد أن يردهم إلى الطاعة، ويريد إن أبوا أن يقاتلهم، ورضي معاوية كل الرضى عن اشتغال هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار بأنفسهم، وفرغ هو لأمره يدبره ويحكم تدبيره، وكان يرى في أكبر الظن أن هؤلاء الشيوخ إذا اقتتلوا وصار بأسهم بينهم شديدا وهنت قوتهم وذهبت ريحهم وأصبح هو أقواهم قوة وأشدهم بأسا، فكان مثله مثل ذلك الشجاع الذي ذكره الشاعر القديم في قوله:
مطرق ينفث سما كما
أطرق أفعى ينفث السم صل
وقد اقتتل هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار، فقتل طلحة والزبير، وعادت عائشة إلى بيتها في المدينة فاستقرت فيه، وكثر القتل في أهل البصرة والكوفة واستقر الحداد في كثير من دورهم.
ونظر معاوية فإذا هو قد أصبح يلقى عليا وجها لوجه، وهو بعد ذلك لم يتعرض لحرب، لم يكلم أحدا ولم يكلمه أحد؛ قوته موفورة، وعدته كاملة، وأصحابه وافرون لم يصابوا في أنفسهم ولا في أموالهم، وهم قد اجتمعوا على حبه ونصره حتى يثأر لابن عمه الخليفة المظلوم.
فأما علي فقد خاض حربا منكرة قتل فيها من شيعته ومن عدوه خلق كثير، فعدوه واجدون عليه لأنه وترهم فيمن قتل منهم، وشيعته لا تبرأ من الواجدين عليه لأنه قتل إخوانهم في حرب البصرة.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الفرق بين علي ومعاوية في السيرة والسياسة كان عظيما بعيد المدى، عرفت أن معاوية كان ينتظر عليا في ثبات وثقة واطمئنان. كان الفرق بين الرجلين عظيما في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمنا بالخلافة كما تصورها المسلمون أيام أبي بكر وعمر وفي الصدر الأول من خلافة عثمان، يرى أن من الحق عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، لا يؤثر منهم أحدا على أحد؛ ويرى أن من الحق عليه أن يحفظ على المسلمين مالهم لا ينفقه إلا بحقه، فهو لا يستبيح لنفسه أن يصل الناس من بيت المال، بل هو لا يستبيح لنفسه أن يأخذ من بيت المال لنفسه وأهله إلا ما يقيم الأود لا يزيد عليه، وإن استطاع أن ينقص منه فعل. وكان علي لا يحب الادخار في بيت المال وإنما ينفق منه على مصالح المسلمين، فإن بقي بعد ذلك شيء قسمه بين الناس بالعدل.
وكان يحب أن يدخل بيت المال فإن وجد فيه شيئا لا يحتاج إليه لمصلحة عامة فرقه بين الناس بالقسط، ثم يأمر ببيت المال، فيكسح وينضح بالماء، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يقول: هكذا يجب أن يكون بيت المال. كان علي إذن في إنفاق دائم على الناس، ولكن على أساس ثابت من العدل والقسط.
فأما معاوية فكان يسير سيرة أقل ما توصف به أنها سيرة الرجل العربي الجواد الداهية، يعطي الناس ما وسعه إعطاؤهم، ويصل الذين يريد أن يتألفهم من الرؤساء والقادة، لا يجد في ذلك بأسا ولا جناحا، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يحبون.
وما رأيك في رجل جاءه أخوه عقيل بن أبي طالب مسترفدا، فقال لابنه الحسن: إذا خرج عطائي فسر مع عمك إلى السوق فاشتر له ثوبا جديدا ونعلين جديدتين. ثم لم يزد على ذلك شيئا؟ وما رأيك في رجل آخر يأتيه عقيل هذا نفسه بعد أن لم يرض صلة أخيه فيعطيه من بيت المال مائة ألف؟
كان معاوية إذن يعتمد على مذهبه هذا في السياسة، ويعلم أنه سيضم إليه كل من كان له أرب في الدنيا، ثم لم يكن يقف صلاته على أهل الشام، وإنما كان له عيونه في العراق يرغبون ويرهبون ويوصلون الأموال سرا، ولم يكن علي من هذا كله في شيء، لم يكن يحرص على شيء كما كان يحرص على الأمانة في المال وعلى الوفاء بالعهد وعلى ألا يدهن في الدين، ولم يكن يبغض شيئا كما كان يبغض وضع درهم من بيت مال المسلمين في غير وضعه أو إنفاقه في غير حقه، كما كان يبغض المكر والكيد وكل ما يتصل بسبب من أسباب الجاهلية الأولى، كان الحق أمامه بينا، فكان يمضي إليه مصمما ويدعو أصحابه إلى أن يمضوا إليه مصممين.
وكان الباطل بينا، فكان يعرض عنه عازما ويدعو أصحابه إلى أن يعرضوا عنه عازمين، وكان له من أجل ذلك أنصار يحبونه ويخلصون له الحب ويذودون عن سلطانه بأنفسهم وأموالهم، وهو لذلك لم يكد يستقر في الكوفة حتى جعل أصحابه يطلبون إليه أن ينهض بهم إلى عدوهم من أهل الشام، ولكنه على ذلك أبى أن يمضي إلى الشام قبل أن يرسل السفراء إلى معاوية يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه الناس، لتكون حجته ظاهرة، وليتبعه من تبعه على بينة من أمره وعلى هدى من الله.
الفصل السابع عشر
وقد أرسل علي رجلا من أصحاب النبي؛ هو جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية، يطلب إليه أن يبايع وأن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويبين له حجة علي فيما يطلب إليه. وانتهى جرير إلى معاوية فكلمه ووعظه وألح عليه في الكلام والوعظ، ولكن معاوية جعل يسمع منه ولا يقول له شيئا، وإنما يطاوله ويسرف في مطاولته، ويدعو مع ذلك وجوه أهل الشام ورؤساء الأجناد فيظهر مشاورتهم فيما يطلب إليه علي، ويعظم لهم قتل عثمان ويحرضهم على الوفاء للخليفة المظلوم والطلب بدمه.
وهنا يظهر عمرو بن العاص الذي لم يكن أقل دهاء ولا أدنى مكرا ولا أهون كيدا من معاوية، وكان عمرو بن العاص قد وجد على عثمان حين عزله عن مصر، فلما ظهرت الفتنة كان من المعارضين لعثمان، وكانت معارضته الخفية أشد من معارضته الظاهرة، فكان يؤلب الناس ويحرضهم ما وسعه ذلك سرا، على أنه مع ذلك لم يتردد أن قال لعثمان جهرة في المسجد: «إنك قد ركبت بالناس نهابير وركبناها معك؛ فتب إلى الله نتب.» وتلقى عثمان منه ذلك أسوأ لقاء، فلما اشتدت الفتنة وعرف عمرو أنها منتهية إلى غايتها آثر أن يعتزلها في طورها ذاك، فخرج إلى أرض كان يملكها بفلسطين فأقام فيها وجعل يتنسم الأخبار.
وخرج معه إلى فلسطين ابناه عبد الله ومحمد، وكان عبد الله رجل صدق مخلصا في دينه، زاهدا في دنياه، قد صحب النبي وأخذ عنه كثيرا من سننه، والتزم سيرة الورع والتقوى والترفع عن الدنيات، وكان أخوه محمد فتى من فتيان العرب ثم من فتيان قريش، لم يعرض عن الدنيا ولم يزهد فيها، وإنما طمع فيما يطمع فيه أمثاله من السعة والدعة والتقدم وبعد الصوت.
وكان عمرو وابناه على ما هم عليه في فلسطين حين جاءهم النبأ بقتل عثمان، فقال عمرو: «أنا أبو عبد الله ما حككت قرحة إلا أدميتها.» يريد أنه قد مهد للفتنة والثورة بعثمان فأحكم التمهيد وانتهى الأمر إلى غايته. ثم جاءه الخبر بأن الناس قد بايعوا عليا، وبأن معاوية يأبى البيعة ويطالب بثأر عثمان، وبأن أهل الشام جميعا له ناصرون، فأدار عمرو الأمر بينه وبين ابنيه أي موقف يقف من هذين الرجلين؟
فأما ابنه عبد الله فقد أشار عليه أن يعتزل الناس، حتى إذا اجتمعت الكلمة والتأم الشمل دخل فيما دخل فيه المسلمون، وألح عبد الله على أبيه في ذلك، وذكره بأن النبي والشيخين من بعده قد فارقوا الدنيا وهم عنه راضون، فما ينبغي أن يضيع ما أتيح له من الفضل والمنزلة.
وأما محمد، فقال له: أنت ناب من أنياب العرب، وما ينبغي أن تبرم الأمور وأنت متخلف. وأشار عليه بأن يلحق بمعاوية.
فقال عمرو: أما عبد الله فقد أشار علي بما ينفعني في ديني وآخرتي، وأما محمد فقد أشار علي بما ينفعني في دنياي. وأنفق ليلا مسهدا يضرب أمره أخماسا لأسداس، يكره بيعة علي لأنه لا ينتظر من هذه البيعة منفعة أو ولاية أو مشاركة في الحكم، ولأنه يعلم أن عليا سيجعله رجلا من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، ويشفق من اللحاق بمعاوية لأنه يرى أن معاوية يسمو إلى شيء ليس له أهلا، ولأنه لم يكن يستحب بادئ الرأي أن يفرط في أمر دينه، ولكنه فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، وحاول أن يصبر نفسه على اعتزال الناس، فلم يطق صبرا على الخمول والانتظار.
ولم يكن عمرو قد نسي ولاية مصر التي أتيحت له أيام عمر، ولم يكن قد طاب نفسا عن عزل عثمان إياه عن هذه الولاية، فكان فيما يظهر يحن إلى مصر حنينا متصلا، ولم يسفر الصبح له حتى كان رأيه قد استقر على أن يلحق بمعاوية، فارتحل إلى دمشق وارتحل معه ابناه، فلما بلغها ألفى أهل الشام يحرضون معاوية على الطلب بدم عثمان ويحضضونه على النهوض لحرب علي. فما أسرع ما انضم عمرو إلى المحرضين والمحضضين! وجعل يلقى معاوية فيعظم له أمر الخليفة المظلوم، ومعاوية يسمع منه دون أن يظهر احتفالا بما كان يقول له، كان يؤثر الأناة والتمهل، وكان أهل الشام يتحرقون شوقا إلى الحرب، يرون في ذلك أداء لحق الخليفة المقتول وقياما بواجب يفرضه عليهم الدين.
وكان عمرو يتعجل الحرب لتظهر حاجة معاوية إليه، فلما طال عليه إعراض معاوية عنه دخل عليه ذات يوم، فتحدث إليه حديثا صريحا فهمه معاوية حق فهمه، فلم يلبث أن أظهر العناية بعمرو وجد في أن يتخذه له حليفا؛ ذلك أن عمرا أظهر لمعاوية عجبه من هذا الإعراض عنه، مع أنه إنما يضحي بشيء كثير حين ينضم إليه ويعرض عليه معونته بالرأي واليد واللسان، على ثقة منه بأن معاوية ليس على الحق، وبأن خصمه هو صاحب الحق، وبأن الانتصار لمعاوية واللياذ به إنما هما سبيل الدنيا لا سبيل الدين. فقد سمع معاوية ذلك وفهمه واستيقن أن عمرا إن انصرف عنه كاد له فأبلغ في الكيد، وأن من الخير أن يستصلحه ويستخلصه لنفسه ويعطيه جزاءه من هذه الدنيا التي يطلبها ويتهالك عليها.
وعمرو بعد ذلك صاحب حرب ومكيدة، فتح فلسطين وفتح مصر واطمأن إليه عمر منذ فتح مصر إلى أن قتل، وهو بعد هذا كله داهية من دواهي العرب وشيخ ذو مكانة من شيوخ قريش. ويقول المؤرخون: إن معاوية سأل عمرا عما يريده ثمنا لانضمامه إليه، فطلب إليه عمرو أن يطعمه مصر حياته، واستكثر معاوية هذا الثمن، وكان بين الرجلين شيء من مشادة، حتى كاد عمرو أن يرتحل ويعود أدراجه مغاضبا، ولكن عتبة بن أبي سفيان دخل بين الرجلين، وما زال بمعاوية أخيه حتى أرضاه بالنزول لعمرو عن مصر أثناء حياته، وكتب بهذا الاتفاق بين الرجلين عهد مؤكد.
فلما لقي عمرو ابنيه لم يرضيا عن هذا الثمن وإنما استقلاه وسخرا منه، يذهب عبد الله في ذلك إلى أن أباه قد باع دينه بثمن قليل، ويذهب محمد إلى أن أباه قد باع رأيه بثمن قليل.
ومهما يكن من شيء فقد التأم حول معاوية جمع ليس به بأس من أولي مشورته في الشام، وهم: رؤساء الأجناد، وشيوخ القبائل، وأهل بيته من بني أبي سفيان، وبنو عمومته من بني أمية، وانضم إليه عمرو بن العاص. وكلهم كانوا يحرضون معاوية على النهوض للحرب ويستبطئونه، ويوشك بعضهم أن يتهمه بالعجز والقصور.
فلما اجتمع لمعاوية أمره رد جرير بن عبد الله البجلي سفير علي إلى الكوفة دون أن يعطيه شيئا، وعاد جرير فأنبأ عليا بامتناع معاوية عليه، وعظم له من أمر أهل الشام، وكأن عليا لم يرض عن سفارة جرير، وكأن جماعة من أصحاب علي على رأسهم الأشتر أسمعوا جريرا بعض ما يكره، فغضب وارتحل بأهله، فلحق بطرف من أطراف الشام في قرقيسياء، فأقام فيه مجانبا للخصمين، وبعض المؤرخين يرى أنه انضم لمعاوية.
ثم أخذ معاوية يتأهب للحرب، ولكنه هو أيضا أسفر إلى علي كما أسفر علي إليه.
الفصل الثامن عشر
ويظهر أن بعض أصحاب معاوية لم تكن نفوسهم مطمئنة إلى القتال، كما أنها لم تكن كذلك راضية عن قتل عثمان وإعفاء الذين قتلوه من العقاب، فقد يقال إن رجلا من أصحاب معاوية، هو أبو مسلم عبد الرحمن، أو عبد الله بن مسلم الخولاني، قام إليه أثناء تشاوره في أمر الحرب، فقال له: علام تقاتل عليا، وليس لك مثل فضله وسابقته في الإسلام؟ فقال معاوية: إني لا أقاتله وأنا أدعي أن لي مثل فضله أو سابقته، وإنما أطالبه بأن يدفع إلينا قتلة عثمان حتى أقتص منهم. قال أبو مسلم: فاكتب إليه في ذلك، فإن أجابك إلى ما تريد فقد صرفت عنا الحرب، وإن أبى قاتلناه على بصيرة. وكأن معاوية أراد أن يقطع حجة أبي مسلم وأمثاله من المترددين، فكتب إلى علي كتابا وأرسله مع أبي مسلم نفسه.
وهذا نص الكتاب كما رواه البلاذري: «بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، أما بعد، فإن الله اصطفى محمدا بعلمه وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه، ثم اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده بهم، فكانوا في المنازل عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، وكان أنصحهم لله ورسوله خليفته، ثم خليفة خليفته، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلما عثمان، فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وقولك الهجر، وتنفسك الصعداء، وإبطائك عن الخلفاء، في كل ذلك تقاد كما يقاد الجمل المخشوش، ولم تكن لأحد منهم أشد حسدا منك لابن عمتك، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك لقرابته وفضله، فقطعت رحمه، وقبحت حسنه، وأظهرت له العداوة، وأبطنت له الغش، وألبت الناس عليه، حتى ضربت آباط الإبل إليه من كل وجه، وقيدت الخيل من كل أفق، وشهر عليه السلاح في حرم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقتل معك في المحلة وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل، ولعمري يا ابن أبي طالب لو قمت في حقه مقاما تنهى الناس فيه عنه، وتقبح لهم ما اهتبلوا منه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة له والبغي عليه، وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين، إيواؤك قتلته، فهم عضدك ويدك وأنصارك، وقد بلغني أنك تنتفي من دم عثمان وتتبرأ منه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليكن بيننا وبينك السيف، ووالذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله، والسلام.»
وقد انتهى أبو مسلم بهذا الكتاب إلى علي، فجمع له الناس في المسجد، وأمر، فقرئ عليهم الكتاب، فتصايح الناس في جنبات المسجد: «كلنا قتل عثمان، وكلنا كان منكرا لعمله.» وكذلك رأى أبو مسلم نفسه أن أصحاب علي كانوا يرون قتل عثمان صلاحا لأمور دينهم ودنياهم ويأبون أن يسلموا أحدا من قاتليه، ورأى كذلك أن عليا لو أراد أن يسلم قتلة عثمان كلهم أو بعضهم لما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن أجل ذلك أبى أن يدفع أحدا إلى معاوية، فجعل أبو مسلم يقول: الآن طاب الضراب.
وأنت ترى من كتاب معاوية أنه لم يكن يريد سلما ولا عافية، وإنما كان يريد أن يعذر نفسه عند أصحابه من أهل الشام وعند المترددين والمتأثمين منهم خاصة، فطالب السلم والعافية لا يكتب إلى خصمه ليؤذيه ولا ليحفظه ولا ليغيظه ويثير في نفسه الموجدة والشنآن.
وليس من اليسير على علي أن يقرأ في كتاب معاوية اتهامه بحسد الخلفاء والبغي عليهم والتلكؤ في البيعة لهم حتى يضطر إليها اضطرارا ويقاد إليها كارها.
وليس من اليسير كذلك على علي أن يقرأ في كتاب معاوية اتهامه بحسد ابن عمته والبغي عليه وقطع رحمه وإغراء الناس به والقعود عن نصره حين ضيق عليه الثائرون به، ثم ليس من اليسير على علي آخر الأمر أن يقرأ هذا التحدي الواضح والدعاء إلى أن يثبت براءته من دم عثمان بتسليم قاتليه، فإن لم يفعل فليس بينه وبين معاوية إلا السيف.
وقد أبلغ معاوية في التحدي حتى زعم لعلي أنه إن دفع إليه قتلة عثمان أسرع وأسرع معه أهل الشام إلى بيعته وطاعته، ومعاوية كان يعلم حق العلم أن عليا لن يقبل هذا التحدي ولن يسلم إليه قتلة عثمان، وهو يتحدى السلطان وينذره على هذا النحو، وإنما كانت سبيله، لو قد آثر السلم والعافية، أن يبايع ويطيع أولا ثم يتقدم إلى الخليفة طالبا أن ينصفه من الذين قتلوا ابن عمه، وأن ينصف أبناء عثمان من الذين قتلوا أباهم.
ثم كان معاوية يعلم حق العلم بعد هذا كله أن عليا لو قدر على قتلة عثمان لأقاد منهم في المدينة، حين تحدث إليه في ذلك من بايعه من المهاجرين والأنصار، فكيف وقد صار إلى العراق وأقام بين أظهر الكثرة التي ثارت بعثمان حتى قتلته؟!
كل ذلك كان معاوية يعلمه، ولكنه أراد أن يبرئ نفسه أمام أهل الشام وأمام المتأثمين منهم خاصة من تبعة الحرب التي لم يكن منها بد، فليس غريبا بعد ذلك أن يرفض علي ما طلب إليه، وأن يرد على كتابه مع سفيره نفسه بهذا الكتاب الذي رواه البلاذري أيضا: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا وما أكرمه الله به من الهدى والوحي، فالحمد لله الذي صدق له الوعد، ومكن له في البلاد، وأظهره على الدين كله، وقمع به أهل العداوة والشنآن من قومه الذين كذبوه وشنعوا عليه وظاهروا عليه وعلى إخراج أصحابه، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم له كارهون، فكان أشد الناس عليه الأدنى فالأدنى من قومه إلا قليلا ممن عصم الله، وذكرت أن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه اختار له من المؤمنين أعوانا أيده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم خليفته وخليفة خليفته من بعده، ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم وإن المصاب بهما لرزء جليل، وذكرت أن ابن عفان كان في الفضل ثالثا، فإن يكن عثمان محسنا فسيلقى ربا شكورا يضاعف الحسنات ويجزي بها، وإن يكن مسيئا فسيلقى ربا غفورا رحيما لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، وإني لأرجو إذا أعطى الله المؤمنين على قدر أعمالهم أن يكون قسمنا أوفر قسم أهل بيت من المسلمين، إن الله بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
فدعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له، فكنا أهل البيت أول من آمن وأناب، فمكثنا وما يعبد الله في ربع سكن من أرباع العرب أحد غيرنا، فبغانا قومنا الغوائل، وهموا بنا الهموم، وألحقوا بنا الوسائط، واضطرونا إلى شعب ضيق وضعوا علينا فيه المراصد، منعونا من الطعام والماء العذب، وكتبوا بينهم كتابا ألا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا أو ندفع إليهم نبينا فيقتلوه أو يمثلوا به، وعزم الله لنا على منعه والذب عنه، وسائر من أسلم من قريش أخلياء مما نحن فيه، منهم من حليف ممنوع وذي عشيرة لا تبغيه كما بغانا قومنا، فهم من التلف بمكان نجوة وأمن، فمكثنا بذلك ما شاء الله، ثم أذن الله لرسوله في الهجرة وأمره بقتال المشركين، فكان إذا حضر البأس ودعيت نزال قدم أهل بيته فوقى بهم أصحابه؛ فقتل عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفر يوم مؤتة، وتعرض من لو شئت أن أسميه سميته لمثل ما تعرضوا له من الشهادة، لكن آجالهم حضرت ومنية أخرت.
وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي لهم، فأما الحسد فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته! وأما الإبطاء فما أعتذر إلى الناس منه، ولقد أتاني أبوك حين قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبايع الناس أبا بكر، فقال: «أنت أحق الناس بهذا الأمر، فابسط يدك أبايعك.» وقد علمت ذلك من قول أبيك، فكنت الذي أبيت ذلك مخافة الفرقة؛ لقرب عهد الناس بالكفر والجاهلية، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك، وإلا تفعل فسيغني الله عنك.
وذكرت عثمان وتأليبي الناس عليه، وإن عثمان صنع ما رأيت فركب الناس منه ما قد علمت وأنا من ذلك بمعزل، إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك، وذكرت قتلته بزعمك وسألتني دفعهم إليك، وما أعرف له قاتلا بعينه، وقد ضربت الأمر إلى أنفه وعينيه فلم أره يسعني دفع من قبلي ممن اتهمته وأظننته إليك، ولئن لم تنزع عن غيك وشقائك لتعرفن الذين تزعم أنهم قتلوه طالبين لا يكلفونك طلبهم في سهل ولا جبل، والسلام.»
وقد بدأ معاوية كما رأيت بالعنف في كتابه إلى علي، فكان رد علي على كتابه أقسى قسوة وأعظم شدة، لم يكد يذكر إنعام الله على نبيه بالهدى والوحي واتباع أهل بيته له حتى ذكر بغي قريش عليه ومكرها به واضطراره مع أهل بيته ومع بني عبد المطلب إلى شعب ضيق من شعاب مكة، إلى آخر ما هو معروف من أمر الصحيفة.
وعلي في كل هذا يعرض ببني أمية وتأخرهم عن الإسلام واجتهادهم مع المجتهدين في التضييق على النبي ومن تبعه من أهل بيته، ثم ذكر علي أن الله قد اختص بيت أهل النبي بالسبق إلى الإسلام كما اختصهم بالصبر على المكروه في شعبهم ذاك الذي اضطروا إليه، على حين كان غيرهم من المسلمين في سعة ودعة، تمنعهم عشائرهم كما منعت تيم أبا بكر، وكما منعت عدي عمر، وكما منعت أمية عثمان، أو يمنعهم حلفاؤهم إن لم يكونوا من قريش.
ومعنى ذلك أن أهل البيت احتملوا في الإسلام ما لم يحتمل غيرهم وما لم يحتمل أبو بكر وعمر وعثمان خاصة، فهم لم يحصروا ولم يهجروا ولم يضيق عليهم في الرزق، فهم إذن أولى الناس بالنبي وأحقهم بالأمر بعده، ثم ذكر الهجرة وما كان من القتال في سبيل الله، وذكر أن النبي كان يقدم أهل بيته لحماية أصحابه في مواطن البأس حتى استشهد منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وجعفر بن أبي طالب يوم مؤتة، وتعرض علي نفسه للشهادة التي أتيحت لغيره من أهل البيت، فأهل البيت إذن قد جاهدوا قبل الهجرة، وجاهدوا بعد الهجرة كما لم يجاهد أحد غيرهم.
ثم ذكر قيام الخلفاء بعد وفاة النبي فبرأ نفسه من الحسد لهم سرا أو جهرا، ولم يعتذر إلى الناس من إبطائه في بيعتهم، ثم ذكر معاوية بأن أباه كان يرى حق علي في البيعة حين أراده عليها، وقال له بعد ذلك: إن كنت ترى ما رأى أبوك من حقي تصب رشدك، وإن لم تفعل يغن الله عنك. ثم ذكر عثمان وما أنكر الناس عليه وما ركبوا من أمره واعتزاله الثورة، وبين رأيه صريحا في عثمان، وهو التوقف وترك أمر عثمان إلى الله يضاعف له الأجر إن كان قد أحسن، ويغفر له الذنب إن كان قد أساء.
ثم ذكر قتلة عثمان، فأنبأ معاوية أنه لا يعرف لعثمان قاتلا بعينه بعد أن بحث واستقصى، وأنه لا يستطيع أن يسلم إليه من اتهمهم، لا لشيء إلا لأنه اتهمهم وظن بهم الظنون؛ لأن أمور الحدود لا تستقيم إلا على المحاجة والمقاضاة وإحضار البينة، وهذا كله لا يستقيم إلا بعد البيعة والدخول في الطاعة، ثم أنذر معاوية بأنه ليس في حاجة إلى أن يطلب في السهل والجبل ولا في البر والبحر من يتهمهم بقتل عثمان؛ لأنه سيراهم ساعين إليه طالبين له جادين في حربه.
وكذلك أخفق سفير معاوية كما أخفق سفير علي من قبل، واستبان لأهل الشام كما استبان لأهل العراق أن ليس من الحرب بد، يرى أهل الشام أن يثأروا للخليفة المظلوم، ويرى أهل العراق ومن معهم من المهاجرين والأنصار أن يكرهوا أهل الشام على البيعة والطاعة قبل كل شيء، ويرى أهل الشام أن طاعة علي لا تلزمهم؛ لأن الناس لم يبايعوه عن رضى منهم جميعا؛ ولأنه عطل حدا خطيرا من حدود الله، وهو القصاص ممن قتل الخليفة المظلوم، ويرى أهل العراق ومن معهم من المهاجرين والأنصار أن كثرة المسلمين الضخمة قد بايعت عليا في الحرمين والمصرين وفي مصر أيضا، فأصبحت طاعته واجبة وأصبح أهل الشام طائفة باغية يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى أمر الله.
ولم يأت شهر ذي الحجة من سنة ست وثلاثين حتى كان علي قد قدم طلائعه بين يديه، وأمرهم إن لقوا أهل الشام ألا يبدءوهم بقتال حتى يدركهم، وسار هو في معظم جيشه حتى انتهى وانتهت طلائعه إلى صفين بعد خطوب كثيرة لسنا في حاجة إلى أن نطيل بذكرها.
الفصل التاسع عشر
وكان معاوية قد سار في جموع أهل الشام حين علم بتأهب علي للمسير، وقدم بين يديه الطلائع أيضا، وقد انتهى قبل علي إلى صفين فأنزل أصحابه أحسن منزل وأرحبه وأقربه إلى شريعة الفرات، وأقبل علي في جيشه الضخم فأنزل أصحابه بإزاء أصحاب معاوية، ولكن أصحاب علي لم يجدوا على الفرات شريعة يستقون منها، فأرسل علي سفراءه إلى معاوية يطلبون إليه أن يخلي الماء حرا يشرب منه الجيشان. وقد ناظر السفراء معاوية في ذلك فلم يظفروا منه بجواب، وعادوا إلى علي بغير طائل، ثم لم يلبث أصحاب علي أن رأوا معاوية يكثر من الحرس على شرعة الفرات ليقهر عليا وأصحابه بالظمأ، يريد أن يحرمهم الماء كما حرموا الماء عثمان حين كان محصورا، ويقال إن عمرو بن العاص ألح على معاوية في أن يخلي بين أصحاب علي وبين الماء ليؤخر المناجزة، فإن أصحاب علي لن يظمئوا وخصمهم راوون، ولكن عصبية بني أمية غلبت مشورة أصحاب الرأي، وانقاد معاوية لهذه العصبية فلم يكن بد من أن يقتتل الناس على الماء، واشتد القتال على الشرعة حتى كاد يبلغ الحرب، وأتيح النصر لأصحاب علي فغلبوا خصمهم على مورد الماء، وأرادوا أن يضطروهم إلى الظمأ ويقهروهم به كما كانوا هم يريدون بهم مثل ذلك، ولكن عليا أبى عليهم ما أرادوا، آثر العافية حتى لا يتعجل الحرب قبل الإعذار إلى خصمه وقبل مناظرتهم فيما بينهم من خلاف، وكره كذلك أن يظمئ خصمه والله قد أجرى النهر ليشرب منه الناس جميعا لا ليستأثر به فريق دون فريق.
وكذلك أتيح للقوم أن يلتقوا آمنين أياما، يلتقون على الماء ويسعى بعضهم لبعض، ليس بينهم قتال، ولكن بينهم جدالا شديدا وخصاما عنيفا، ثم رأى علي أن يعذر إلى معاوية وأصحابه، فاختلف السفراء بين الفريقين دون أن ينتهوا إلى صلح أو شيء يشبه الصلح، فلما استيأس علي من خصمه عبأ أصحابه على راياتهم وجعلت فرقهم تخرج إلى فرق معاوية، تخرج فرقة في هذا اليوم من أصحاب علي فتخرج لها فرقة من أصحاب معاوية، فتقتتل الفرقتان نهارهما أو وجها من نهارهما ثم تتحاجزان، وعلي لا يتجاوز ذلك إلى الحرب العامة رجاء أن يثوب خصمه إلى رشدهم وأن يفيئوا إلى أمر الله ويؤثروا العافية بين المسلمين.
ومضى الأمر على هذا أياما عشرة أو أقل أو أكثر من آخر ذي الحجة، ثم أظل الناس شهر المحرم، وهو شهر حرام، فتوادعوا شهرهم كله وآمن بعضهم بعضا، وسعت بينهم السفراء سعيا متصلا، ولكنهم أنفقوا شهرهم كله دون أن يصلوا إلى صلح أو شيء يشبه الصلح، واستبان لأولئك وهؤلاء في غير شك ولا لبس أن ليس بد من أن يصطدم الجمعان.
الفصل العشرون
ومع ذلك فقد مضى القوم على حربهم بعد شهر المحرم كما كانوا قبله، تخرج الكتيبة للكتيبة والقبيلة للقبيلة وربما خرج الرجل للرجل، وهم في أثناء هذا كله لا يختصمون بالسيف وحده وإنما يختصمون بالألسنة أيضا، وربما كانت بين رؤسائهم الكتب، كالذي روي أن عمرو بن العاص كتب عن أمر معاوية إلى ابن عباس يستعينه على أن يثوب الناس إلى العافية ويكفوا عن الحرب ويتقوا غوائلها، ورد ابن عباس عليه ردا عنيفا موئسا.
ثم كان القوم إذا كفوا عن القتال آخر النهار سمروا، كما تعودت العرب أن تسمر، فتناشدوا الشعر وذكروا المآثر القديمة والحديثة وذكروا بلاء من حسن بلاؤه منهم أو من عدوهم في أيامهم تلك؛ حتى مضى صدر في شهر صفر وهم على هذه الحال لا يبلغ أحد الفريقين من خصمه أربا، وكأن القوم سئموا هذه الحرب المتقطعة الفاترة وتعجلوا الكارثة، وكأن عليا سئم هذه المطاولة التي لا تغني عنه ولا عن أحد شيئا، وإنما تزيد الفتنة امتدادا والشر انتشارا، وتضيف أحقادا إلى أحقاد وحفيظة إلى حفيظة، وتضيع أيامه وأيام أصحابه في قتال لا يقدم ولا يؤخر، وترجئ اجتماع الكلمة والتئام الشمل إلى أجل غير مسمى ولا معروف؛ فعبأ أصحابه للهجوم العام، ورأى معاوية منه ذلك ففعل مثل ما فعل، وتزاحف الجيشان العظيمان فالتقوا صباح نهارهم كله وشطرا من ليلهم دون أن يبلغ أحد من صاحبه ما كان يريد، ثم أصبحوا فاقتتلوا نهارهم كله أشد قتال وأعظمه نكرا، وانكشفت ميمنة علي انكشافا بلغ الهزيمة أو كاد يبلغها، وتضعضع ما كان يليها من قلب الجيش، وانحاز علي إلى ميسرته من ربيعة، فاستقتلت ربيعة من دونه وقال قائلها: يا معشر ربيعة، لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن أصيب أمير المؤمنين وهو فيكم. فتحالفت ربيعة على الموت، ثم ثابت ميمنة علي بفضل الأشتر ومن ثبت معه من أصحابه، فالتأم جيش علي كعهده أول النهار، وأقبل الليل فلم يكف بعض القوم عن بعض وإنما مضوا في حربهم تلك المجنونة حتى استقبلوا صباح اليوم الثالث، وحتى ظهر الضعف في جيش معاوية.
وكاد أصحاب معاوية يبلغون فسطاطه، وهم معاوية نفسه أن يفر لولا أن ذكر قول ابن الإطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
فرده هذا الشعر إلى الثبات والصبر، كما كان يتحدث بذلك في أيام العافية، وارتفع الضحى والقوم ماضون في حربهم تلك لا يريحون ولا يستريحون، وأصحاب علي لا يشكون في النصر، وإنهم لفي ذلك وإذا المصاحف قد نشرت ورفعت على الرماح من قبل أهل الشام، وإذا منادي أهل الشام يقول: هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته، الله الله في العرب، الله الله في الإسلام، الله الله في الثغور! من لثغور الشام إذا هلك أهل الشام؟! ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق؟!
ويرى أصحاب علي هذه المصاحف المنشورة، ويسمعون هذا الدعاء إلى ما فيها من أمر الله، ويسمعون الدعاء إلى العافية والبقية، فيبهر كثرتهم ما ترى وما تسمع، وإذا الأيدي تكف عن الحرب، وإذا القلوب تتردد ثم تذكر السلم ثم تحبها ثم تطمع فيها، وإذا رؤساء الجيش من أصحاب علي يسرعون إليه يدعونه إلى قبول ما يعرض القوم، فيأبى عليهم ويبين لهم أن القوم ليسوا بأصحاب قرآن، ولم يرفعوا المصاحف ثائبين إلى ما فيها وإنما رفعوها كائدين يبغون خصمهم الفتنة، ويبين لهم كذلك أنهم لم يبتكروا رفع المصاحف، وإنما عرفوا أنه رفع المصاحف لأهل البصرة قبل القتال فقلدوه، وليس بعد القتال وحين جزعوا من الحرب، ولم يشكوا في الهزيمة ولكن أصحاب علي يلحون عليه في الاستجابة إلى ما يدعى إليه من كتاب الله، ويشتدون في الإلحاح حتى ينذروا عليا بمفارقته، ومنهم من أنذره بتسليمه إلى معاوية.
وقوم آخرون رأوا رأي علي ولم ينخدعوا بكيد أهل الشام، وقالوا: إنما حاربنا القوم على كتاب الله لا نشك في أننا على الحق، وفي أن صاحبنا هو أمير المؤمنين، وفي أن عدونا هم الفئة الباغية، ولو قد شككنا في شيء من ذلك ما قاتلنا ولا استبحنا سفك الدماء منا ومنهم.
ولكن أصحاب علي قد اختلفوا، ما في ذلك شك؛ قوم يرون الكف عن القتال وقوم يرون المضي فيه، وإذا وقع الخلاف بين رؤساء الجيش وبلغ هذا الحد فليس ينتظر من الجيش نفسه خير. ومن أجل ذلك اضطر علي إلى كف القتال، ولم يكف الأشتر عن المضي فيه إلا بعد جهد متصل وعزيمة مؤكدة.
ثم قارب معاوية وأرسل إليه الرسل يسألونه عما أراد إليه برفع المصاحف، فأجابهم معاوية: أردت إلى أن نختار منا رجلا وتختارون منكم رجلا ونأمرهما أن يحكما بما في كتاب الله فيما شجر بيننا من الخلاف، وعاد الرسل إلى علي بجواب معاوية، فرضيت كثرة أصحابه وسخطت قلتهم، ونزل علي عند رأي الكثرة كارها.
الفصل الحادي والعشرون
وليس من اليسير أن نقطع برأي في عدد الجيشين اللذين التقيا بصفين واقتتلا قتالا طويلا منكرا لم ير مثله قط في الإسلام؛ أي لم ير مثله قط بين المسلمين، فقوم يبلغون بجيش علي مائة ألف، ويبلغون بجيش معاوية سبعين ألفا، وقوم ينزلون بهذين الرقمين إلى أقل من ذلك. وليس من اليسير كذلك أن نحصي عدد القتلى من أولئك وهؤلاء، وقد زعم قوم أن القتلى من أهل الشام بلغوا خمسة وأربعين ألفا، وأن القتلى من أهل العراق بلغوا خمسة وعشرين ألفا.
وليس المهم الآن أن نحصي الجيشين إحصاء دقيقا، ولا أن نحصي القتلى منهما إحصاء دقيقا، وإنما المهم هو أن نلاحظ أن الخصمين قد تأهبا كأحسن ما تكون الأهبة وأقواها، واضطرهما ذلك إلى أن يكشفا ثغورهما المحاذية للعدو قليلا أو كثيرا. وآية ذلك أن الروم طمعوا في الشام وهموا بغزوها، لولا أن معاوية وادعهم وصانعهم واشترى كفهم عنه بالمال، ولم تكن بإزاء ثغور العراق في الشرق دولة قوية منظمة كدولة الروم، ولكن كثيرا من مدن الفرس تنكر للمسلمين وهم بالثورة لولا ما كان من رجوع علي إلى الكوفة وتكلفه ضبط هذه الثغور، وإذا طال القتال بين جيشين عظيمين واشتد، وبلغ من القبح والشناعة ما صوره المؤرخون وأصحاب القصص، كثر القتلى والجرحى من الفريقين، وإن بالغ القصاص بعد ذلك في عدد أولئك وهؤلاء.
والشيء الذي لا شك فيه هو أن جماعة من خيار المسلمين وأعلامهم من أهل العراق وأهل الشام قد قتلوا في هذه الحرب، وكان قتلهم مروعا لمن شهده ولمن سمع الحديث بذكره بعد انقضاء الحرب، وما زال مروعا للذين يقرءونه الآن في كتب القصص والتاريخ.
فقد قتل من أصحاب معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب، قاتل الهرمزان، كما قتل جماعة من خيار أصحابه وأعظمهم شجاعة ونجدة وبأسا، وقتل من أصحاب علي: عمار بن ياسر، وما زال قتله من الأحاديث المأثورة بين المسلمين؛ فهو ابن أول شهيدين في الإسلام، فتن أبو جهل أباه ياسرا وأمه سمية حتى قتلهما كما هو معروف، وهو الذي قال له النبي: «ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» وقد أشفق الزبير - كما رأيت - من حرب علي حين عرف أن عمارا معه، وكان خزيمة بن ثابت الأنصاري يتبع عليا في صفين ولكنه لا يقاتل، وإنما يتحرى أمر عمار، فلما عرف أنه قد قتل قال: الآن استبانت الضلالة. ثم قاتل حتى قتل، رأى أن أهل الشام قد قتلوا عمارا فعرف أنهم الفئة الباغية التي ذكرها النبي في حديثه ذاك، ووقع قتل عمار من معاوية وأصحابه وقعا أليما مروعا، لم يشكوا في أن النبي قال له: تقتلك الفئة الباغية، وإنما حاولوا أن يخفوا علمهم بهذا الحديث، فلما لم يجدوا إلى ذلك سبيلا تأولوه، وقال معاوية: أنحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به.
ولم يجئ أحد بعمار إلى صفين، لم يستكرهه علي على الحرب ولا على الخروج معه، وإنما كان عمار شيخا قد نيف على التسعين، شاخ جسمه ولكن قلبه وعقله وبصيرته ظلت بمأمن من الشيخوخة، فكان شاب الحديث، وكان شاب المناظرة، وكان شاب الجهاد. وهو الذي سلم على عائشة بعد وقعة الجمل، ثم قال لها: كيف رأيت ضرابنا يا أمه؟ قالت: لست لك بأم ولست لي بابن. قال متضاحكا: بل أنت أمي وأنا ابنك وإن كرهت. يريد أن القرآن قد نزل بأن أزواج النبي أمهات المؤمنين، فلن تستطيع عائشة أن تغير ما نزل به القرآن، وكان عمار أشد أصحاب علي تحريضا على الحرب. وكان يحارب يوما تجاه عمرو بن العاص، وهو يرتجز:
نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
وكان يقول لأصحابه يومئذ مشيرا إلى راية عمرو: والله لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات، وهذه الرابعة، وما هي بأبرهن. وكان يقول لأصحابه حين رأى بعض انكشافهم: والله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل.
ويقال إنه استسقى قبل أن يقدم على الموقعة التي قتل فيها، فجاءوه بشيء من لبن، فلما رآه كبر وقال: أنبأني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن آخر زادي من الدنيا ضيح من لبن. ثم شربه واندفع إلى الموقعة وهو يدعو أصحابه: من رائح إلى الجنة؟ الجنة تحت البوارق، الماء مورود اليوم، غدا ألقى الأحبة؛ محمدا وحزبه.
وكان صاحب الراية في الكتيبة التي كان أمرها إلى عمار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وكان من فرسان قريش وأخيارهم وأحبهم لعلي وأنصحهم له، وكان أعور، فكان عمار يدفعه إلى التقدم عنيفا به مرة فيقول: تقدم يا أعور؛ ورفيقا به مرة أخرى فيقول: أقدم فداك أبي وأمي. وكان هاشم بن عتبة يهدئ عمارا ويقول له: مهلا أبا اليقظان، إنك رجل تستخفك الحرب، وإني إنما أزحف زحفا ولعلي أبلغ ما أريد، وكان ابن عتبة مع ذلك يقاتل، وهو يرتجز:
أعور يبغي نفسه محلا
قد أكثر القول وما أقلا
وعالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا
أشلهم بذي الكعوب شلا
وما زال عمار يدفعه وهو يتقدم حتى قتلا جميعا.
وقتل من أصحاب علي جماعة كثيرة من قراء الناس وصلحائهم، كانوا يقاتلون على بصائرهم، وكان الناس يرون منهم ذلك فيتأثرونهم ويفعلون فعلهم.
ولم يكن من قتل من أصحاب معاوية أقل أخطارا في أهل الشام ممن قتل من أصحاب علي في أهل العراق، كان كثير من أولئك وهؤلاء يرون القتال دينا ويتقربون به إلى الله، يذكر أهل العراق مكان علي من النبي وقول النبي لأصحابه: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» فلما قالوا له: بلى، أخذ بيد علي وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.» ويذكرون كذلك قول الله في القرآن الكريم:
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
ثم يذكرون قول الله عز وجل:
قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين .
فهم كانوا يرون أنهم حين يقاتلون مع علي كأنهم يقاتلون مع النبي نفسه جهادا في سبيل الله، فليس الغريب إذن أن يطلبوا الشهادة ويتهالكوا عليها، وإنما الغريب أن يحجموا أو يدبروا أو يترددوا، وكان أصحاب معاوية يرون أن بيعة عثمان في أعناقهم وأن الذين قتلوه قد أحدثوا في الإسلام حدثا خطيرا، واستحلوا من دمه ما حرم الله، واستحلوا من الإمامة ما لا يحل للمسلمين أن يفرطوا فيه، فضلا عن أن ينتهكوا حرمته.
وكان معاوية وأصحابه قد ألقوا في روع كثير من أهل الشام أن عليا يحول بينهم وبين إقامة حد خطير من حدود الله وهو القصاص، فكان كثير منهم إذن يقاتل لا غضبا لمعاوية ولكن غضبا للدين الذي انتهكت حرمته وعطلت حدوده، ولم يقم علي في تقويم ما اعوج من أمره وإصلاح ما فسد من سيرة الناس فيه، فإذا أضيفت إلى هذا كله أمور أخرى لا ترجع إلى الدين ولا تتصل به، وإنما ترجع إلى العصبية العربية التي أخمدها عمر حينا، والتي شغلت عن نفسها بحرب العدو من الفرس والروم، ثم فرغت لنفسها منذ شبت نار الفتنة فعادت إلى حالها في الجاهلية الأولى، وجعلت كثيرا من العرب يذكرون قديمهم ويريدون أن يكون حديثهم ملائما له، واندفعوا فيما كانوا قد نهوا عنه من التفاخر والتكاثر والاعتداد بالنفس، وترجع كذلك إلى طلب الدنيا والحرص على متاعها وأعراضها، أقول: إذا أضفت هذا إلى الدوافع الدينية التي كانت تدفع القوم إلى القتال العنيف البشع، لم تنكر من شناعة هذه الحرب شيئا.
غلب على قوم دينهم فقاتلوا لنصره كما يقاتل المؤمنون الصادقون، وغلبت على قوم دنياهم فقاتلوا لاحتيازها كما يقاتل الطامعون الجامحون، وخلت في أثناء هذا كله الثغور أو كادت تخلو، فطمع أعداء المسلمين فيما لم يكن لهم أن يطمعوا فيه.
الفصل الثاني والعشرون
وأكاد أعتقد أن مكيدة عمرو بن العاص تلك التي كادها برفع المصاحف لم تكن من عند نفسه، لا لأنه قلد فيها عليا فحسب، بل لشيء آخر سنراه قريبا، فقد ينبغي أن نذكر أن عليا إنما رفع المصاحف بين الصفين في حرب البصرة قبل أن ينشب القتال، يريد أن يعذر إلى خصمه. وقد ينبغي أن نذكر أيضا أن مكان طلحة والزبير وأم المؤمنين من النبي، كان يدعوه إلى أن يحتاط ويتأنى ويذكرهم بالقرآن وما فيه، ولا يقاتلهم حتى يستيئس من استجابتهم إلى ما دعاهم إليه، فلما رشق أهل البصرة ذلك الفتى الذي أمره علي فرفع المصحف بين الصفين بالنبل حتى قتلوه، قال علي: الآن طاب الضراب.
فلو قد أراد أهل الشام أن يتقوا الفتنة والحرب حقا لرفعوا المصاحف ودعوا إلى ما فيها قبل بدء القتال، ولكنهم لم يفعلوا، وما أكثر ما ذكروا بالقرآن فلم يذكروه! وما أكثر ما ردوا سفراء علي دون أن يعطوهم الرضى أو شيئا يشبه الرضى! فما كان رفعهم للمصاحف بعد أن اتصلت الحرب أياما وأسابيع، وبعد أن توادع الجيشان شهر المحرم كله، إلا كيدا لا يتقون به الفتنة وإنما يتقون به الهزيمة.
وأكبر الظن أن بعض الرؤساء من أصحاب علي لم يكونوا يخلصون له نفوسهم ولا قلوبهم، ولم يكونوا ينصحون له لأنهم كانوا أصحاب دنيا لا أصحاب دين، وكانوا يندمون في دخائل أنفسهم على تلك الأيام الهينة اللينة التي قضوها أيام عثمان ينعمون بالصلات والجوائز والإقطاع.
ولست أذكر من هؤلاء إلا الأشعث بن قيس الكندي، ذلك الذي أسلم أيام النبي ثم ارتد بعد وفاته، وألب قومه حتى ورطهم في الحرب ثم أسلمهم وأسرع إلى المدينة تائبا، فلم يعصم دمه من أبي بكر فحسب، ولكنه أصهر إليه وتزوج أخته أم فروة، ثم خمل في أيام عمر وظهر في أيام عثمان فتولى له بعض أعماله في فارس، فلما هم علي أن ينهض إلى الشام عزله عن ولايته، ويقال إنه طالبه بشيء من مال المسلمين، ثم استصحبه واستصلحه، فلما رفعت المصاحف ودعي إلى التحكيم كان أشد الناس على علي في الدعاء إلى قبول التحكيم.
ويجب أن نذكر أيضا أن عليا لم ينهض إلى الشام بأهل الكوفة وبمن تابعه من أهل الحجاز وحدهم، وإنما نهض كذلك بألوف من أهل البصرة كان منهم من وفى له يوم الجمل، وكان منهم من اعتزل الناس في ذلك اليوم أيضا، وكان منهم مع ذلك كثير من الذين انهزموا بعد مقتل طلحة والزبير، فهم إذن كانوا عثمانية لا يقاتلون مع علي عن رضى وصدق، وإنما يقاتلون معه كارهين، وهم إذن كانوا واجدين عليه لأنه قتل منهم من قتل، واضطرهم إلى الهزيمة اضطرارا، لم يكن أصحاب علي إذن كلهم مخلصين له مؤمنين به، وإنما كان منهم المخلص والمدخول.
وقد قدمنا أن الفريقين كانا يلتقيان في أمن ودعة أثناء شهر المحرم الذي توادعا فيه، ونضيف الآن أن القتلى كثروا ذات يوم، فطلب علي هدنة موقوتة ليدفن الناس قتلاهم، وأجيب إلى ما طلب.
وإذن فقد كان أهل الشام وأهل العراق يلتقون ويختلطون في غير موطن، ولم يكن من العسير أن يتناجوا ولا أن يأتمروا بينهم بما يشاءون، فما أستبعد أن يكون الأشعث بن قيس - وهو ماكر أهل العراق وداهيتهم - قد اتصل بعمرو بن العاص - ماكر أهل الشام وداهيتهم - ودبروا هذا الأمر بينهم تدبيرا، ودبروا أن يقتتل القوم فإن ظهر أهل الشام فذاك، وإن خافوا هزيمة أو أشرفوا عليها رفعوا المصاحف فأوقعوا الفرقة بين أصحاب علي وجعلوا بأسهم بينهم شديدا. وقد تم لهم ما دبروا إن كانوا قد دبروا شيئا، واستكره الأشعث ومن أطاعه عليا على كف القتال، فلم ير بدا من الإذعان لما أرادوا.
وأكبر الظن عندي كذلك أن المؤامرة لم تقف عند هذا الحد وإنما تجاوزته إلى ما هو أشد منه خطرا، وهو اختيار الحكمين، فلأمر ما ألح الأشعث ومن تبعه من اليمانية في أن يختار علي أبا موسى الأشعري، ولم يطلقوا له الحرية في اختيار حكم يثق به ويطمئن إليه، وهم يعلمون أن أبا موسى قد خذل الناس عن علي في الكوفة حتى عزله عن عمله، فقد كان علي إذن مكرها على قبول التحكيم ومكرها على اختيار أحد الحكمين، ولم تأت الأمور مصادفة، وإنما جاءت عن ائتمار تدبير بين طلاب الدنيا من أصحاب علي وأصحاب معاوية جميعا.
الفصل الثالث والعشرون
ومهما يكن من شيء فقد اتفق الفريقان على أن يحكموا هذين الحكمين، يحكمون عمرا من قبل معاوية ويحكمون أبا موسى من قبل علي، وأبى أصحاب علي على إمامهم أن يختار ابن عباس؛ لأنه شديد القرب منه، وأبوا عليه أن يختار الأشتر لأن اجتهاده في الحرب كان عظيما وحرصه على الغلب كان شديدا، ولم يستطع علي أن يقبل ما عرضه عليه الأحنف بن قيس من أن يكون مندوبه في الحكم، بل لم يستطع أن يجعله ثانيا لأبي موسى؛ لأن أصحابه أبوا إلا أن يندبوا أميرهم القديم الذي كره لهم الفتنة والذي لم يشترك في الحرب مع هذا الخصم أو ذاك، ولم يذكروا أن عمرو بن العاص قد شارك في الحرب برأيه ولسانه وسيفه، بل لعلهم ذكروا ذلك ولكنهم لم يقفوا عنده ولم يلتفتوا إليه.
واجتمع المفوضون من الفريقين فكتبوا صحيفة سجلوا فيها ما اتفق عليه الخصمان من وضع الحرب وإيثار الحكومة واختيار الحكمين وتحديد الزمان والمكان لاجتماعهما، وتأمينهما على أنفسهما وأموالهما مهما يكن حكمهما، واستنصار الأمة كلها على من خالف عما في هذه الصحيفة.
حددوا هذا كله تحديدا دقيقا، ولكن شيئا واحدا أطلقوه إطلاقا ولم يحددوه تحديدا قريبا أو بعيدا، وهو موضوع القضية التي يجب أن يفصل فيها الحكمان، واقرأ أولا نص هذه الصحيفة كما رواه البلاذري: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين: أنا ننزل عند حكم الله، وبيننا كتاب الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله فإنهما يتبعانه، وما لم يجداه مما اختلفا فيه في كتاب الله نصا أمضيا فيه السنة العادلة الحسنة الجامعة غير المفرقة، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه ليحكمان بما وجدا في كتاب الله نصا، فما لم يجداه في كتاب الله مسمى، عملا فيه بالسنة الجامعة غير المفرقة، وأخذا من علي ومعاوية ومن الجندين كليهما وممن تأمرا عليه من الناس عهد الله ليقبلن ما قضيا به عليهما، وأخذا لأنفسهما الذي يرضيان به من العهد ومن الثقة بالناس أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما وأموالهما، وأن الأمة لهما أنصار على ما يقضيان به على علي ومعاوية، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما، وأن على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يصلحا بين الأمة ولا يرداهم إلى فرقة ولا حرب، وأن أجل القضية إلى شهر رمضان، فإن أحبا أن يعجلاها دون ذلك عجلا، وإن أحبا أن يؤخراها عن غير ميل منهما أخراها، وإن مات أحد الحكمين قبل القضاء فإن أمير كل شيعة وشيعته يختارون مكانه رجلا، لا يألون عن أهل المعدلة والنصيحة والإقساط، وأن يكون مكان قضيتهما التي يقضيانها فيه مكان عدل بين الكوفة والشام والحجاز، لا يحضرهما فيه إلا من أرادا، فإن رضيا مكانا غيره فحيث أحبا أن يقضيا، وأن يأخذ الحكمان من كل واحد من شاءا من الشهود، ثم يكتبا شهادتهم في هذه الصحيفة أنهم أنصار على من ترك ما فيها: اللهم نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادا أو ظلما ...
وشهد من كل جند على الفريقين عشرة، من أهل العراق: عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس، وسعد بن قيس الهمداني، وورقاء بن سمي، وعبد الله بن طفيل، وحجر بن عدي الكندي، وعبد الله بن حجل الأرحبي البكري، وعقبة بن زياد، ويزيد بن حجبة التميمي، ومالك بن كعب الأرحبي.
ومن أهل الشام: أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق بن الحارث الزبيدي، وزمل بن عمرو العذري، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان، ويزيد بن الحر العبسي.»
وقد رويت هذه الصحيفة من غير طريق البلاذري على شيء من الاختلاف في اللفظ ليس بذي خطر، وعلى شيء من التقديم والتأخير ليس بذي خطر أيضا، ولكن الخطير كما قدمنا هو أن الفريقين قد حددا في صحيفتهما كل شيء إلا هذا الموضوع الذي اختلفا فيه والذي يجب أن يقضي فيه الحكمان.
ففيم كانا يختلفان بالفعل؟ كان معاوية يطلب بدم عثمان ويريد أن يسلم إليه علي قتلة الخليفة المظلوم، وكان علي لا يعرف لعثمان قاتلا بعينه ولا يقدر على أن يسلم إلى معاوية جميع من ثاروا بعثمان حتى قتل. أفكان الفريقان يريدان من الحكمين أن يفصلا في هذه القضية؟ وإذن فما بالهما لم ينصا عليها بل لم يذكرا عثمان وقتلته في الصحيفة أصلا؟
وكان معاوية يرى بعد مقتل طلحة والزبير، وبعد أن استحصد أمره واشتد بأسه أن يكون أمر الخلافة شورى بين المسلمين، وكان علي يرى أنه قد بويع كما بويع الخلفاء من قبله، بايعه أهل الحرمين وهم أصحاب الحل والعقد، وبايعه أهل الأمصار إلا الشام، فقد اجتمعت له إذن بيعة الكثرة الكثيرة من المسلمين عامة، ومن المهاجرين والأنصار خاصة، ولم يبق لمعاوية إلا أن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويدخل معه أصحابه من أهل الشام، فإن لم يفعلوا فهم الفئة الباغية التي أمر المسلمون بقتالها إن أبت الصلح وكرهت العافية حتى تفيء إلى أمر الله. وإذن فما بال الفريقين لم ينصا على ذلك في صحيفتهما؟! بل لم يذكرا الخلافة ولا الشورى في الصحيفة أصلا! والغريب أن هذه الصحيفة التي رواها المؤرخون قد أرضت الفريقين المختصمين، لم ينكرا فيها غموضا ولا عموما ولا إبهاما، مع أنها من أشد ما كتب المسلمون غموضا وعموما وإبهاما فيما يتصل بموضوع القضية الذي كان يجب أن يحدد تحديدا لا لبس فيه!
وأكبر الظن أن الذين كتبوا الصحيفة من الفريقين لم يحفلوا بدقة ولا بتحديد، وإنما كرهوا الحرب وسئموا القتال وتعجلوا السلم، وكان أصحاب معاوية يكفيهم أن تنحسر الحرب عنهم وأن يختلف أهل العراق، وكانت عامة أهل العراق يكفيهم أن يثوبوا إلى السلم، وكان الماكرون منهم - إن استقام الفرض الذي افترضته آنفا - يعنيهم أن تكون القضية غامضة غير بينة الحدود، يرون ذلك أنفع لمعاوية وأضر لعلي، وأحرى أن ينيلهم من السلطان ومتاع الدنيا ما يريدون.
وهذا كله يفسر لنا ما كان بعد أن كتبت هذه الصحيفة من الاختلاف في صفوف أهل العراق، والائتلاف في صفوف أهل الشام، وأكبر الظن أن عليا ضاق بأصحابه حين رأى أنهم يعصونه في كل ما يأمرهم به أو يشير عليهم فيه، فخلى بينهم وبين ما أرادوا، وتمثل قول دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى
غوايتهم وأنني غير مهتد
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وأكاد أشهد الأشعث بن قيس وقد استقام له كل ما أراد، فهو جذلان مسرور لا يكتفي بالرضى والغبطة، وإنما يأخذ الصحيفة فيمشي بها في الجيش يقرؤها على الجند ويكلف من يقرؤها عليهم حين تجهده القراءة، والجند يسمعون فيرضى كثير منهم؛ لأن الحرب قد كفت عنهم، وتسخط منهم جماعة غير قليلة لأنهم يرون في هذه الحكومة وصحيفتها انحرافا عن الدين، ومخالفة عما أمر الله به في القرآن، فمنهم من كان يقول: أتحكمون الرجال في دين الله؟ ومنهم من كان يكتفي بهذه الصيحة التي أصبحت شعارا للخوارج فيما بعد: «لا حكم إلا لله»، ومنهم من كان يخرجه الغضب عن طوره فلا يكتفي بالقول وإنما يضيف إليه العمل، فقد يقال إن رجلا من هؤلاء المنكرين للحكومة كره أن يشارك أصحابه، فاستل سيفه وصاح: لا حكم إلا لله. ورمى بنفسه جيش أهل الشام، فقاتل حتى قتل.
ومن المحقق أن عروة بن أدية، أخا ذلك الخارجي الذي حفظ التاريخ اسمه، وهو مرداس أبو بلال، لم يكد يسمع ما قرئ عليه من الصحيفة حتى ثار بالأشعث يريد أن يقتله، فنفرت دابة الأشعث وأصاب سيف عروة عجزها، وكاد الشر أن يقع بين اليمانية أصحاب الأشعث والتميمية قوم عروة، لولا أن مشت وجوه تميم فاعتذروا إليه حتى رضي.
وما ينبغي أن ندع جيش علي يترك صفين دون أن نبين حجة هؤلاء الذين أنكروا الصحيفة وكرهوا الحكومة، وكان لهم بعد ذلك في تاريخ الإسلام شأن أي شأن! وحجتهم كانت واضحة أشد الوضوح وأقواه، جاء بها القرآن صريحة لا لبس فيها؛ فالله عز وجل يقول:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
وكان علي وأصحابه - وهم كثرة المسلمين - يرون أن معاوية وأصحابه قد بغوا، وقد أسفر علي إلى معاوية ومن معه من أهل الشام فردوا سفراءه، وأبوا أن يكون بينه وبينهم إلا السيف، ثم سبق معاوية وأصحابه إلى الماء فآثروا به أنفسهم وأرادوا تظمأ علي وأصحابه، فاقتتل الفريقان على الماء حتى خلص لعلي، ثم أذن لمعاوية وأصحابه أن يردوا وأن يشربوا، فهاتان طائفتان من المؤمنين قد اقتتلوا.
ثم أرسل علي سفراءه إلى معاوية يعرضون عليه أن يدخل في الطاعة وألا يفرق المسلمين، فلم يجدوا عنده خيرا، فاقتتلوا أياما ثم توادعوا شهر المحرم، وحاول علي وأصحابه الصلح فلم يجدوا من أهل الشام استجابة إليه، فاقتتلوا في صفر، وكان يجب أن يمضوا في القتال بحكم الآية الكريمة حتى يفيء معاوية وأهل الشام إلى أمر الله، وحينئذ تكف عنهم الحرب ويرفع عنهم السيف ويصبحون لخصمهم أولئك إخوانا، ويجب الإصلاح بين الأخوين.
وقد كاد جيش علي أن يظفر بالطائفة الباغية ويضطرها إلى أن تفيء إلى أمر الله، ولكن المصاحف ترفع، وإذا الحرب تكف، وإذا القوم يدخلون في حكومة غامضة مبهمة لا حظ لها من وضوح أو جلاء، فلم يخطئ الذين قالوا: «لا حكم إلا لله.» إذن، وحكم الله هو أن يستمر القتال حتى يخضع معاوية وأصحابه، وليس أدل على ذلك من أن عليا نفسه - وهو الإمام - أبى أن ينخدع برفع المصاحف وقال: إن معاوية ورهطه الأدنين ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنما هم يكيدون ويخادعون ويتقون حر السيف. فقد كان الإمام إذن يرى ألا حكم إلا لله، وأن السبيل إلى حكم الله هو القتال حتى يذعن أهل الشام، ولكن كثرة أصحابه لم تذهب مذهبه واستكرهته على غير ما أحب، فكانت هذه الحكومة.
إلى هنا يظهر في غير لبس أن الذين حكموا لم يخطئوا وإنما التزموا أمر القرآن والتزموا رأي الإمام أيضا، ويقال إنهم ألحوا عليه في أن يمضي بهم في القتال حتى ينفذ حكم الله، ولكن عليا رآهم قلة قليلة، ورأى أنه إن قبل مشورتهم أوقعهم بين عدوهم من أهل الشام وأصحابهم من أهل العراق، فألقى بأيديهم إلى التهلكة؛ ولذلك أبى عليهم وجعل يرفق بهم ويهدئهم، ويدعوهم إلى اختيار ما فيه لهم ولأصحابهم العافية.
وهنا يبدأ خطأ هؤلاء الذين حكموا، كانوا على صواب حتى شاوروا الإمام فنصح لهم واستأنى بهم وأمرهم بالقصد، وهم ليسوا أعلم بالقرآن من علي ولا أحفظ منه للسنة ولا أبصر منه بالمصلحة، وقد ينبغي أن يترك للإمام شيء من حرية يمضي به الأمر بين رعيته، فهذه كثرة أصحابه تطالبه بالسلم والحكومة، وهذه قلة أصحابه تطالبه بالحرب ورفض الحكومة، وأولئك وهؤلاء يركبون رءوسهم ويغلون فيما يذهبون إليه، وليس للإمام خيار إلا أن يمضي مع الكثرة إلى السلم والحكومة، والأمل في صلح يحقن الدم ويجمع الشمل، أو يمضي مع القلة إلى الحرب واليأس المبير. وقد آثر المضي مع الكثرة، فكان على القلة أن تؤثر ما آثرت محتفظة برأيها منتظرة مع الإمام، فإن كان الصلح المقنع فذاك، وإن لم يكن رجعت الكثرة إلى رأي القلة وعادوا جميعا إلى الحرب.
ولكن كلا الفريقين من الكثرة والقلة أبى أن يتبع إلا رأيه، وانحاز علي إلى الكثرة كارها، ولم يمض يومان على كتابة الصحيفة، أنفقهما القوم في دفن القتلى حتى أذن مؤذن علي في أصحابه بالرحيل عن صفين، فرجعوا إلى الكوفة شر مرجع. خرجوا منها أشد ما يكونون مودة وإلفا وتصافيا، وعادوا إليها أشد ما يكونون موجدة وفرقة واختلافا، يتشاتمون ويتضاربون بالسياط، تقول القلة للكثرة: خالفتم أمر الدين، وانحرفتم عن حكم القرآن، وحكمتم الرجال فيما لا حكم فيه إلا لله. وتقول الكثرة للقلة: خالفتم الإمام وفرقتم الجماعة وابتغيتموها عوجا.
ثم لم يدخلوا الكوفة جميعا كما خرجوا منها جميعا، وإنما انحازت المحكمة إلى حروراء فاعتزلوا فيها، وكانوا ألوفا يصل بها المكثرون إلى اثني عشر ألفا، ويهبط بها المقللون إلى ستة آلاف، وقد اعتزلوا في حروراء فنسبوا إليها، وأذن مؤذنهم ألا إن على الحرب شبث بن ربعي التميمي، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري، والبيعة لله عز وجل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنذ ذلك اليوم نشأ في الإسلام حزب جديد كان له في تاريخه أثر بعيد، ودخل علي الكوفة منقلبه من صفين كما دخلها منقلبه من البصرة، فلم ير في مدخله هذا كما لم ير في مدخله ذاك فرحا بقدومه ولا ابتهاجا بلقائه، وإنما رأى في مدخله هذا كما رأى في مدخله ذاك لوعة وحسرة وبكاء، إلا أن ما رأى من ذلك بعد عودته من صفين كان أكثر كثرة وأشد نكرا، فقد كان قتلى صفين بالقياس إلى قتلى يوم الجمل أضعافا وأضعافا.
الفصل الرابع والعشرون
والغريب أن المؤرخين الذين أكثروا من ذكر ابن السوداء عبد الله بن سبأ وأصحابه حين رووا أمر الفتنة أيام عثمان، وأكثروا من ذكرهم بعد مقتل عثمان قبل أن يشخص علي من المدينة للقاء طلحة والزبير وأم المؤمنين، ثم أكثروا من ذكرهم حين كان علي يسفر إلى طلحة والزبير وأم المسلمين في الصلح، ثم زعموا أنهم أئتمروا على حين غفلة من علي وأصحابه بإنشاب القتال، ثم زعموا أنهم أنشبوا القتال فجاءة حين التقى الجمعان عند البصرة وورطوا المسلمين في شر عظيم، الغريب أن هؤلاء المؤرخين قد نسوا السبئية نسيانا تاما، أو أهملوها إهمالا كاملا حين رووا حرب صفين.
فابن السوداء لم يخرج مع علي إلى الشام، وأصحاب ابن السوداء خرجوا معه ولكنهم كانوا أنصح الناس له وأوفى الناس بعهده وأطوع الناس لأمره، لم يأتمروا ولم يسعوا بالفساد بين الخصمين، وإنما سمعوا وأطاعوا وأخلصوا الإخلاص كله، حتى إذا رفعت المصاحف خرج بعضهم مع المحكمة الذين أنكروا الصحيفة وما فيها كحرقوص بن زهير، وأقام بعضهم على طاعة علي وإن أنكر الصحيفة وكره الحكومة كالأشتر.
وأقل ما يدل عليه إعراض المؤرخين عن السبئية وعن ابن السوداء في حرب صفين أن أمر السبئية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفا منحولا، قد اخترع بأخرة حين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية. أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم، ولو قد كان أمر ابن السوداء مستندا إلى أساس من الحق والتاريخ الصحيح لكان من الطبيعي أن يظهر أثره وكيده في هذه الحرب المعقدة المعضلة التي كانت بصفين، ولكان من الطبيعي أن يظهر أثره حين اختلف أصحاب علي في أمر الحكومة، ولكان من الطبيعي بنوع خاص أن يظهر أثره في تكوين هذا الحزب الجديد الذي كان يكره الصلح وينفر منه ويكفر من مال إليه أو شارك فيه.
ولكنا لا نرى لابن السوداء ذكرا في أمر الخوارج، فكيف يمكن تعليل هذا الإهمال؟ أو كيف يمكن أن نعلل غياب ابن سبأ عن وقعة صفين وعن نشأة حزب المحكمة؟
أما أنا فلا أعلل الأمرين إلا بعلة واحدة؛ وهي أن ابن السوداء لم يكن إلا وهما، وإن وجد بالفعل فلم يكن ذا خطر كالذي صوره المؤرخون وصوروا نشاطه أيام عثمان وفي العام الأول من خلافة علي، وإنما هو شخص ادخره خصوم الشيعة للشيعة وحدهم ولم يدخروه للخوارج؛ لأن الخوارج لم يكونوا من الجماعة ولم يكن لهم مطمع في الخلافة ولا في الملك، وإنما كانوا قوما يثورون بكل خلافة وينتفضون على كل ملك، ويحاربون الخلفاء والملوك ما وجدوا إلى حربهم سبيلا، ثم هم لم يكونوا حزبا باقيا متصلا عظيم الخطر، ولا سيما بعد أن انقضى عصر بني أمية، وإنما ضعف أمرهم وفل حدهم بعد أن تقدم الزمان بدولة بني العباس، وبقي مذهبهم معروفا بين المتكلمين، ولكنه اتخذ في الحياة العملية أطوارا مختلفة، قد نعرض لها في غير هذا الجزء من هذا الكتاب.
فلم يكونوا إذن حزبا تحتاج خصومته إلى الجدال الشديد المتكلف الذي يبغضهم إلى الناس ويزهد فيهم أصحاب التقى والورع، كما كان أمر الشيعة الذين ظلوا ينازعون الملوك والخلفاء سياسة المسلمين إلى الآن.
أما البلاذري فقد رأينا فيما سبق من هذا الكتاب أنه لم يذكر ابن السوداء ولا أصحابه السبئية في أمر عثمان، وهو كذلك لم يذكره في أمر علي إلا مرة واحدة في أمر غير ذي خطر؛ إذ جاء عليا مع آخرين يسألونه عن أبي بكر، فردهم ردا عنيفا لائما لهم على تفرغهم لمثل هذا، على حين كانت مصر قد فتحت وقتلت فيها شيعة علي.
وكتب علي كتابا يذكر فيه ما صارت إليه الأمور بعد تخاذل أهل العراق، وأمر أن يقرأ هذا الكتاب على الناس لينتفعوا به.
قال البلاذري: وكانت عند ابن سبأ منه نسخة حرفها. وابن سبأ عند البلاذري ليس ابن السوداء، وإنما هو عبد الله بن وهب الهمداني. والبلاذري يروي هذا الخبر كله متحفظا متوخيا للصدق ما استطاع، وهو كثيرا ما يروي بعض الأحاديث، ثم يعقب عليها بما يظهر الشك فيها؛ لأنها من اختراع أهل العراق.
والواقع أن الخصومة بين الشيعة وأهل الجماعة قد اتخذت ألوانا من الجدل والإذاعة ونشر الدعوة بعد أن استقام الأمر لبني العباس، كثر فيها المكر والكيد والاختراع، بحيث يجب على المؤرخ المنصف أن يحتاط أشد الاحتياط حين يصور هذه الفتن في عهدها الأول، وأي شيء أيسر من أن يكذب أهل الشام على أهل العراق، ومن أن يكذب أهل العراق على أهل الشام ولا سيما بعد أن يمضي الزمن ويبعد العهد ويصبح التحقق من الوقائع الصحيحة عسيرا؟! والذين استباحوا لأنفسهم أن يضعوا الأحاديث على النبي وأصحابه لا يتحرجون من أن يستبيحوا لأنفسهم وضع الأخبار على أهل الشام والعراق.
ومؤرخ هذا العصر الذي نحاول تصويره ممتحن أعسر الامتحان وأشقه من ناحيتين: إحداهما ناحية القصاص الذين كانوا يتحدثون بأمر الفتن في البصرة والكوفة فيرسلون خيالهم على سجيته ويتعصبون للقبائل المختلفة من العرب، ولعلهم كانوا يأخذون المال من أولئك وهؤلاء ليحسنوا ذكرهم ويعظموا أمرهم ويذكروا لهم من المآثر ما كان وما لم يكن، ويرووا في هذه المآثر من الشعر ما قيل وما لم يقل؛ ولذلك كان كل الناس شعراء يوم الجمل ويوم صفين، ولذلك رويت الأخبار التي لا تستقيم في العقل.
فذلك الفتى الذي أمره علي برفع المصحف لأهل البصرة يوم الجمل، يأخذ المصحف بيمينه، فإذا قطعت أخذه بشماله، فإذا قطعت أخذه بأسنانه أو بمنكبيه حتى يقتل، ورجل آخر يصرع وتصيبه ضربة قاتلة فينشد الشعر وهو محتضر يذم به هذا ويمدح به ذاك، إلى غير ذلك من الأخبار والأشعار التي يظهر فيها التكلف والاختراع.
والناحية الثانية هي ما كان من أصحاب الجدل، ومن أولئك الذين أمدوهم بالأخبار والأحاديث يؤيدون بها مذاهبهم وآراءهم. ويزداد الأمر في هذه الناحية تعقيدا وعسرا لأنه يتصل بالدين ؛ فالجدال بين الفرق لم يكن عند القدماء جدالا في أمور الدنيا، وإنما كان جدالا في أصول الدين وفيما ينبني عليها من الفروع، فكان من اليسير أن يتهم المجادلون خصومهم بالكفر والفسق والزندقة والإلحاد، وأن يشنعوا عليهم ما شاء الله مما يصح لهم من الحديث والسير وما يبتكر لهم ابتكارا.
ومهما يكن من شيء، فالبلاذري لا يذكر ابن السوداء وأصحابه في شيء من الفتنة أيام عثمان وأيام علي، والطبري ورواته الذين أخذ عنهم والمؤرخون الذين أخذوا عنه فيما بعد، يذكرون ابن السوداء وأصحابه في أمر الفتنة أيام عثمان وفي العام الأول من أيام علي، ثم ينسونهم بعد ذلك. والمحدثون وأصحاب الجدل متفقون مع الطبري وأصحابه فيما ذهبوا إليه، إلا أن المحدثين وأصحاب الجدل ينفردون من دون الطبري وأصحابه بشيء آخر، فيزعمون أن ابن السوداء وأتباعه ألهوا عليا وأن عليا حرقهم بالنار. ولكنك تبحث عن هذا في كتب التاريخ فلا تجد له ذكرا، فلسنا نعرف في أي عام من أعوام الخلافة القصيرة التي وليها علي كانت فتنة هؤلاء الغلاة، وليس تحريق جماعة من الناس بالنار في الصدر الأول للإسلام وبين جماعة من أصحاب النبي ومن صلحاء المسلمين بالشيء الذي يغفل عنه المؤرخون فلا يذكرونه ولا يوقتونه، وإنما يهملونه إهمالا تاما.
وكل ما رواه المؤرخون هو ما ذكره البلاذري في حديث قصير وقع إليه من أن قوما ارتدوا بالكوفة فقتلهم علي، وحكم الإسلام فيمن ارتدوا معروف، وهو أن يستتاب فإن تاب حقن دمه، وإن لم يتب قتل، فلا غرابة إذن في أن يقتل علي نفرا ارتدوا ولم يتوبوا، إن صح هذا الخبر. وإن كان البلاذري لم يسم أحدا ولم يوقت لهذه الحادثة وقتا، وإنما رواها مطلقة إطلاق من لا يطمئن إليها. فلندع إذن ابن السوداء هذا وأصحابه، سواء أكان أمرهم وهما خالصا أم أمرا غير ذي خطر بولغ فيه كيدا للشيعة، ولنعد إلى علي وقد استقر بالكوفة، وإلى المحكمة وقد استقرت بحروراء.
الفصل الخامس والعشرون
فلم يكن علي وأصحابه مطمئنين إلى خروج هذه الخارجة التي انتبذت من الجماعة مكانها بحروراء، ولم تكن هذه الجماعة نفسها مطمئنة الاطمئنان كله إلى ما هي مستقبلة من أمرها. وآية ذلك أنهم أقاموا على حربهم شبث بن ربعي التميمي، فلم يلبث إلا قليلا حتى رجع إلى الكوفة وأقام مع الجماعة على ما كانت مقيمة عليه. وكان علي يرجو أن يستصلح هؤلاء الناس، وكان هؤلاء الناس أنفسهم يأملون أن ينتهي الأمر بينهم وبين قومهم إلى مخرج من هذا المأزق الذي تورطوا فيه، فكانوا يوفدون وفودهم إلى علي يفاوضونه ويناظرونه ويدعونه إلى استئناف القتال مع عدوهم من أهل الشام، وكان علي يرد على أولئك الوفود بأنه لم يكره القتال وإنما هم الذين كرهوه وجزعوا منه، وبأنه قد أعطى معاوية وأصحابه ميثاقا على القضية؛ فليس ينبغي له إلا أن ينزل عند ما أعطى من الميثاق، وكانت الوفود ترجع إلى أصحابها بما سمعت من كلام علي فيزداد إصرارهم على المقاطعة والمخاصمة.
ثم أرسل إليهم علي عبد الله بن عباس في جماعة من أصحابه، فناظرهم تلك المناظرة المشهورة عند أهل الفرق وأصحاب الكلام؛ سألهم ماذا نقموا من أمير المؤمنين؟ فقالوا: تحكيمه الحكمين. فقال ابن عباس: إن الله قد أمر بالتحكيم في الصيد الذي يصيبه المحرم، فقال:
يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام . وأمر بتحكيم حكمين بين الزوجين إن خيف بينهما الشقاق، فقال:
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا
فالله إذن قد حكم الرجال في الأمور اليسيرة، فكيف بالأمور الكبار التي تمس اجتماع الأمة وحقن الدماء؟!
وكان رد الخوارج عليه مقنعا حاسما فقالوا: إن ما نص الله عليه من الأحكام لا تجوز المخالفة عنه، وما أذن للناس فيه في الرأي جاز لهم أن يجتهدوا فيه برأيهم، ألا ترى إلى أمر الله في الزاني والسارق وقاتل النفس المؤمنة بغير حقها، فليس للإمام أن يخالف عن هذا الأمر ولا أن يغير فيه، وأمر الله في معاوية وأصحابه واضح في آية الطائفة الباغية، فلم يكن لعلي أن يغيره، وإنما كان الحق عليه أن يمضي في قتال هؤلاء البغاة حتى يفيئوا إلى أمر الله.
وتقدم صعصعة بن صوحان من أصحاب ابن عباس فوعظهم وخوفهم الفتنة، فيقال إن قوما منهم نحو ألفين عادوا إلى الكوفة مع ابن عباس، ويقال إن عليا أرسل ابن عباس وأمره ألا يناظر القوم حتى يلحقه، فتعجل ابن عباس هذه المناظرة وأدركه علي، وقد كاد القوم يظهرون عليه، فأخره وتقدم فناظر القوم حتى ردهم إلى الصواب.
وأنا أرجح أن عليا اكتفى أول الأمر بإرسال ابن عباس في جماعة من أصحابه، فلما رأى أنهم لم يغنوا الغناء الذي كانوا يرجوه ذهب بنفسه إلى الخوارج بعد أن أرسل إليهم في أن يندبوا للمناظرة اثني عشر رجلا منهم، ويأتي هو في مثلهم. ثم خرج علي حتى أتى فسطاط يزيد بن مالك الأرحبي، وكان الخوارج يعظمونه ويطيفون به، فصلى في الفسطاط ركعتين ثم تقدم فناظر الناس، سمع منهم حجتهم وهي واضحة قد قدمناها من قبل غير مرة، ثم رد عليهم بما تعود أن يقول دائما من أنه لم يكره القتال ولم يدع إلى تركه، وإنما كرهه أصحابه واستكرهوه على وضع الحرب كما استكرهوه على قبول الحكومة، وكأن الخوارج قبلوا منه أن يذعن حين استكرهه أصحابه على ترك القتال، ولكنهم لم يفهموا كيف استكرهوه على قبول الحكومة، فهو لا يستطيع أن يقاتل وحده، ولا يستطيع أن يقاتل بالقلة من أصحابه حين ينخذل عنه أكثرهم، ولكنه في رأيهم كان يستطيع - لا أدري كيف - أن يرفض الحكومة وليس لأحد أن يكرهه عليها، فرد عليهم بأنه كره أن يتأول الناس عليه قول الله عز وجل:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون .
كما كره أن يتأول الناس عليه آية التحكيم في الصيد وآية التحكيم في الشقاق، وقالوا: فلم لم تثبت في الصحيفة أنك أمير المؤمنين؟ أتراك شككت في إمرتك؟ قال علي: فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
محا من صحيفة الحديبية وصفه بأنه رسول الله، وما شك في نبوته ولا في رسالته.
ثم عاد علي إلى أمر الحكمين، فقال: إنه أخذ عليهما العهد أن يحكما بما في كتاب الله، فإن وفيا بما أعطيا من العهد فالحكم له، ما في ذلك شك، وإن خالفا عما في كتاب الله فلا حكم لهما، وليس بد حينئذ من النهوض لحرب أهل الشام، وكأن القوم قد تأثروا بحجج علي ورأوا منه مقاربة شديدة لهم، وأحس علي ذلك فأبلغ في مقاربتهم وقال: «ادخلوا مصركم رحمكم الله.» فدخلوا معه عن آخرهم، ولكنهم دخلوا وبينهم وبين علي شيء من سوء التفاهم كما يقال الآن، يرى علي أنه قد أقنعهم بقبول الحكومة وانتظار ما ينتهي إليه الحكمان، ويرون هم أن عليا قد قاربهم أشد المقاربة، وأنه لا ينتظر إلا أن يستريح الجيش ويسمن الكراع ويجدد السلاح، ثم ينهض بهم إلى عدوهم.
وقد جعلوا يتحدثون بذلك في الكوفة حتى شاع ذلك بين الناس، ولعله تجاوز الكوفة وانتهى إلى أهل الشام بواسطة عيونهم الذين كانوا يقيمون بين أظهر الكوفيين، فقد جاء رسول معاوية يستنجز عليا الوفاء ويحذره أن يلفته عنه أعراب بكر وتميم، وجعل علي يكذب ما أرجفت به المحكمة من عدوله عن الحكومة.
ثم أشخص أبا موسى إلى مكان الحكومة وأرسل معه أربعمائة من أصحابه عليهم شريح بن هانئ، ومعهم ابن عباس يصلي بهم، فعاد الأمر بينه وبين المحكمة إلى الفساد، جعلوا يقاطعونه في الخطبة محكمين من جوانب المسجد، وجعل علي يقول - كلما سمع قولهم: «لا حاكم إلا الله»: كلمة حق أريد بها باطل. وقطع بعضهم على علي خطبته تاليا قول الله عز وجل:
لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين
فأجابه علي بآية أخرى:
فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ، وجعل الأمر يمعن في الفساد بين علي وبينهم حتى اعتزلوه مرة أخرى، وخرجوا مغاضبين قد أكفروه وأكفروا معاوية وانتبذوا محاربين، وجعل علي يقول: إن سكتوا تركناهم، وإن تكلموا حاججناهم، وإن أحدثوا فسادا قاتلناهم. ثم لم يلبثوا أن أحدثوا الفساد في الأرض، فكان القتال.
الفصل السادس والعشرون
واجتمع الحكمان في دومة الجندل أو في أذرح، أو في دومة الجندل أولا ثم في أذرح بعد ذلك، على اختلاف في ذلك كثير، ولكنهما اجتمعا وشهدهما أربعمائة من أصحاب علي، فيهم عبد الله بن عباس، وأربعمائة من أصحاب معاوية، وبعض المؤرخين يزعم أن معاوية كان من أصحابه، أو كان منهم غير بعيد.
ودعا الحكمان إلى شهود أمرهما جماعة من الذين اعتزلوا الفتنة منذ أولها فيهم عبد الله بن عمر، ومن الذين اعتزلوا الفتنة بأخرة فلم يشهدوا صفين كعبد الله بن الزبير، ودعوا سعد بن أبي وقاص فلم يستجب لهم على كثرة ما ألح عليه أحد أبنائه، ودعوا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فلم يستجب لهم أيضا.
ثم أخذ الحكمان في أمرهما، ولم تكن مفاوضتهما على ملأ من الناس، وإنما كان كل واحد منهما يخلو إلى صاحبه فيديران الأمر بينهما، والغريب أن مقامهما في مكان التحكيم قد طال، وتفاوضهما في أمره قد كثر. ولكن المؤرخين لا يروون من ذلك إلا أطرافا مقتضبة فيها كثير من التناقض والاختلاف، وليس لذلك مصدر إلا أن الوثيقة التي جعلت إليهما الحكم في القضية كانت غامضة غير مبينة، وقد استيقن الحكمان فيما يظهر أنهما مفوضان في أن يتناظرا في كل ما اختلف الناس فيه، ثم يقضيان بعد ذلك برأي عدل ملائم لما في كتاب الله ولما في السنة الجامعة غير المفرقة، فاتفقا أولا على أن عثمان قتل مظلوما، وعلى أن معاوية هو ولي دمه، فمن حقه إذن أن يطالب بالقصاص من قاتليه، ولكن إلى من ينبغي أن يطلب معاوية هذا القصاص ؟ أيطلبه من علي، وهو يتهمه في التأليب على عثمان والتخذيل عنه؟ أم يأخذه بنفسه؟ فإذن فهي الحرب التي أمر الحكمان ألا يردا المسلمين إليها، وإذن فلا بد من اختيار إمام يرضاه الناس ويستطيع معاوية أن يطلب إليه إنفاذ قول الله عز وجل:
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .
ويقول المؤرخون إن عمرو بن العاص اقترح أن يكون هذا الإمام معاوية نفسه، وما أكاد أصدق هذا، فما أرى أن عمرا كان يستطيع بعد أن أثبت أن معاوية هو ولي عثمان أن يختاره للخلافة ليطلب إلى نفسه إنفاذ أمر الله، ولينفذه بعد ذلك فيقيد من قتلة عثمان ويكون خصما وحكما.
وقد يقال: لو قبل اقتراح عمرو ذاك وأصبح معاوية إماما لتنحى عن المطالبة بدم الخليفة المظلوم لأبناء عثمان أنفسهم، ولكن قوة معاوية إنما كانت تأتيه من النهوض في أمر عثمان، فلو قد تنحى عنه لما استطاع أحد أن يفهم لماذا صار إماما، ولم يكن في ذلك الوقت خير الأحياء من أصحاب النبي، فقد كان منهم نفر هم أعظم منه فضلا وسابقة، وأحسن منه بلاء وأقرب منه مكانا من رسول الله.
كان هناك سعد بن أبي وقاص من أصحاب الشورى، ومن العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة، وكان هناك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد أولئك العشرة أيضا، ثم كان هناك عبد الله بن عمر، الطيب ابن الطيب، كما كان أبو موسى يقول.
أنا إذن أستبعد أن يكون عمرو قد رشح معاوية، ومهما يكن من شيء فالذين يروون هذا الترشيح يروون كذلك أن أبا موسى قد رفضه، وفضل عليه عليا لسابقته وبلائه ومكانه من النبي. ويقال كذلك إن أبا موسى جاء باقتراح معارض لاقتراح عمرو، فذكر الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر، ورأى أن في استخلافه إحياء لذكرى عمر، ولكن عمرا رفض هذا الاقتراح؛ لأن عبد الله لم يكن صاحب بأس ولا بطش ولا قوة على النهوض بهذا الأمر. وأكبر الظن أن عمرا ذكر أبا موسى بأن عمر نفسه قد أحضر ابنه الشورى ولم يجعل له من الأمر شيئا، وبأن رأي عمر في ابنه معروف، وقد كان يقول: إنه لا يحسن يطلق امرأته.
ويتزيد الرواة من أهل العراق فيزعمون أن عمرا لقي عبد الله بن عمر وخلا إليه وعرض عليه الخلافة إن أعطاه مصر، فأبى عبد الله أن يشتري الخلافة بالرشوة ويعطي الدنية من دينه.
وما أرى إلا أن هذا غلو دفع إليه الذين أبغضوا عمرا من أهل العراق، والشيء المحقق هو أن الحكمين لم يتفقا على رجل يرشحانه للخلافة، فاتفقا عن اقتراح أبي موسى أو عن اقتراح عمرو على أن يخلعا من هذا الأمر عليا ومعاوية جميعا، وأن يتركا للأمة أمرها شورى بينها تختار له من تشاء، ثم لم يضعا نظاما لهذه الشورى ولا شيئا يشبه النظام، ولم يقدرا أن الأمة ستختلف حين تستقبل أمرها، فينحاز أهل العراق إلى علي وينحاز أهل الشام إلى معاوية، ويتبع أولئك وهؤلاء من مال إليهم من المسلمين. وربما نهض أهل الحجاز فاختاروا سعد بن أبي وقاص، أو سعيد بن زيد، أو عبد الله بن عمر، أو غيرهم من أصحاب النبي من المهاجرين. لم يفكرا في شيء من ذلك ولم يحتاطا له، وإنما اكتفيا بما انتهيا إليه من خلع الرجلين ورد سلطان الأمة إليها.
وهنا تأتي المشكلة الخطيرة التي اتفق المؤرخون عليها، لم يكد يشذ منهم أحد، فقد ظهر الحكمان للناس وأعلنا أنهما قد اتفقا على ما فيه الرضى للمسلمين، ثم قدم عمرو أبا موسى ليبدأ بإعلان ما اتفقا عليه، وكان عمرو - فيما يقال - يظهر دائما تقديم أبي موسى وإكباره؛ لسبقه إلى صحبة النبي ولسنه أيضا. ويقال كذلك إن ابن عباس أشفق من خداع عمرو، فأشار على أبي موسى أن يتأخر، حتى إذا تكلم عمرو استطاع هو أن يتكلم بعده، ولكن أبا موسى لم يسمع لابن عباس، وإنما قام فحمد الله وأثنى عليه ثم أعلن أنهما قد اتفقا على خلع علي ومعاوية ورد الأمر شورى بين المسلمين، وأمر الناس أن يستقبلوا أمرهم ويختاروا لخلافتهم من يرضون.
ثم قام عمرو فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد خلع صاحبه وأنا أخلعه مثله، ولكني أثبت صاحبي. فقال له أبو موسى: ما لك، لا وفقك الله؟! غدرت وفجرت، إنما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وقال له عمرو: إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وماج القوم، فأقبل شريح بن هانئ رئيس الوفد من أصحاب علي فقنع عمرا بسوطه، وقام محمد بن عمرو فقنع شريحا بسوطه، وأقبل الناس فحجزوا بينهما، وانطلق أبو موسى فركب راحلته ورمى بها مكة، وعاد أهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بإمرة المؤمنين.
وإذن فقد غدر عمرو غدرة منكرة، إن صح ما كاد المؤرخون أن يجمعوا عليه، اتفق مع أبي موسى على خلع الرجلين ثم لم يخلع منهما إلا واحدا، جار إذن عن العهد الذي أعطاه على نفسه في الصحيفة، فسقط حكمه وسقط حكم صاحبه أيضا.
وتفرق القوم على غير شيء كأنهم لم يجتمعوا، وكان الظافر في هذا كله معاوية، فقد رفعت الحرب عن أصحابه وأتيح له أن يريحهم وأن يستعد لاستقبال أمره أشد قوة وأمضى عزما وأعظم بأسا، وورط أصحاب علي في الخلاف والفرقة، واضطرهم إلى الفتنة وجعل بأسهم بينهم شديدا.
ومن المؤرخين من زعم أن عمرا لم يبلغ بكيده إلى هذه المنزلة من الغدر، وإنما اكتفى بخلع الرجلين كما خلعهما أبو موسى، فسوى بين علي ومعاوية، وكان هذا ظفرا عظيما.
ولكن هذه الرواية الشاذة لا تستقيم، فلو قد قال عمرو كما قال أبو موسى: إنهما اتفقا على خلع الرجلين جميعا، لما عاد أهل الشام مسلمين على معاوية بالخلافة، وفيهم عمرو نفسه. ولما قبل كثير من أهل العراق إمرة علي بعد أن خلعه الحكمان اللذان ارتضاهما وأعطاهما العهد على نفسه بأن ينفذا حكمهما، ولكان من الطبيعي أن يضطرب الأمر أشد الاضطراب في مكة والمدينة، فهؤلاء قوم أعطوا على أنفسهم عهدا ليسمعن لحكم الحكمين إن لم يجورا، ثم هم ينقضون ما أعطوا من العهد ويسيرون سيرة جاهلية، فكيف يرضى عن ذلك من اعتزل الناس من أخيار الصحابة ومن بايعوا عليا من خيارهم أيضا؟!
وليس لهذه الرواية معنى إلا أنها تتهم الأمة كلها بإيثار المنفعة الخاصة واتباع الهوى والمخالفة عن أمر الله عز وجل حين قال:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون .
وليس من المعقول أن تجتمع الأمة كلها على نقض العهد وإيثار الضلالة على الهدى، والغدر على الوفاء، ولكن أحد الحكمين - وهو عمرو - خدع صاحبه وهو أبو موسى، ولم يكن أبو موسى مغفلا كما قال المؤرخون، ولو كان مغفلا لما اختاره عمر لولاية الأمصار، ولما اختاره أهل الكوفة لولاية مصرهم حين ظهرت الفتنة واشتدت أيام عثمان، ولكنه كان رجلا تقيا ورعا سمح النفس، رضي الخلق، يظن أن المسلمين - ولا سيما الذين صحبوا النبي منهم خاصة - أرفع مكانة في أنفسهم وفي دينهم من أن ينزلوا إلى الغدر، فأخلف ظنه عمرو، ولا أكثر من ذلك ولا أقل، وهو من أجل ذلك فر بدينه إلى مكة، فاعتزل فيها مجاورا نادما على أنه لم يسمع لابن عباس. وعاد الوفد من أهل العراق إلى علي فنبأوه بما كان، ولعل النبأ كان قد سبقهم إليه في الكوفة، فلم يدهش لذلك كأنه كان يتوقعه، وإنما ذكر تحذيره لأصحابه في صفين حين رفعوا المصاحف، فقال لهم: «إن القوم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن.»
وقد حنق الصالحون من أهل الكوفة على هذا الغدر وأصحابه وجعلوا يستعدون للقتال، وأخفى الماكرون من طلاب الدنيا مكرهم وجعلوا يظهرون الاستعداد للحرب كغيرهم من الناس، ولكن الخوارج حالوا بين علي وبين أن ينهض بأصحابه إلى الشام.
الفصل السابع والعشرون
وقد خطب علي أصحابه بعد أن أتاه أمر الحكمين، فقال فيما روى البلاذري: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق المجرب تورث الحسرة وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ونخلت لكم رأيي لو يطاع لقصير رأي، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما وارتأيا الرأي من قبل أنفسهما، فأماتا ما أحيا القرآن وأحييا ما أمات القرآن، ثم اختانا في حكمهما فكلاهما لم يرشد ولم يسدد، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للمسير وأصبحوا في معسكركم يوم الإثنين إن شاء الله.
وأصبح الناس في معسكرهم في الموعد الذي ضربه لهم إمامهم، وكتب علي إلى أهل البصرة، فجاءه منهم جند صالح، ولم يشخص ابن عباس هذه المرة، وإنما اكتفى بتسريح الجند إلى علي، ونهض علي بأصحابه يريد الشام، ولكنه لم يمض بهم إلا قليلا حتى جاءته أنباء قلبت خطته كلها رأسا على عقب، وكانت تلك الأنباء متصلة بأمر الخوارج، فهم كانوا رجعوا مع علي كما رأيت، وظنوا أنه قد عدل عن القضية، فلما رأوا أنه ماض فيها عادوا إلى تحكيمهم وخرجوا أرسالا من الكوفة، منهم من خرج سرا ومنهم من خرج مباديا بخروجه لا يتستر ولا يحتاط، وكتبوا إلى إخوانهم من أهل البصرة فانضموا إليهم في بعض الطريق وساروا جميعا إلى النهروان.
وكان علي يعلم هذا كله ويقول دائما مقالته المشهورة: «كلمة حق يراد بها باطل.» يقولها كلما سمع تحكيمهم أو تحدث إليه أحد بهذا التحكيم، وكان كذلك يقول: لا نمنعهم الفيء ولا نهيجهم ولا نبغيهم شرا ما لم يحدثوا حدثا أو يفسدوا في الأرض. وكان يقول: إن سكتوا تركناهم وإن تكلموا حاججناهم وإن أفسدوا قاتلناهم.
ويقال إنه كتب إليهم ينبئهم بافتراق الحكمين على غير اتفاق ويدعوهم إلى أن يكونوا مع أصحابهم للشخوص إلى حرب أهل الشام، ولكنهم أبوا عليه، وقالوا: قد دعوناك إلى ذلك قبل القضية فأبيت، فأما الآن فإنا نأبى عليك لأنك لا تقاتل لله وإنما تقاتل لنفسك. كنت تظن أن قرابتك من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ستحمل الناس على ألا يعدلوا بك أحدا، فلما رأيت أنهم قد انحرفوا عنك نهضت لقتالهم تبتغي الدنيا، فلسنا منك ولا من الدنيا التي تبتغيها في شيء، إلا أن تشهد على نفسك بالكفر، ثم تتوب كما تبنا، فإن فعلت فنحن معك على عدوك، وإلا فليس بيننا وبينك إلا السيف.
ومع هذا كله لم يرد علي أن يهيجهم وإنما أزمع المضي إلى الشام، وقال: لعلهم يتدارسون أمرهم ويثوبون إلى رشدهم، ولكن الأنباء تصل إليه بأنهم قد نشروا الفساد في الأرض، فقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وخباب من خيار الصحابة، وقتلوا نسوة كن مع عبد الله، وجعلوا يستعرضون الناس ويذيعون الذعر، فأرسل إليهم علي رجلا من أصحابه يسألهم عن هذا الفساد، ويطلب إليهم أن يسلموا إليه أولئك الذين استحلوا قتل النفس التي حرم الله بغير الحق، فلم يكد الرسول يدنو منهم حتى قتلوه، وجاء الخبر عليا، فكره أصحابه أن ينهضوا إلى الشام ويتركوا من ورائهم هؤلاء الخوارج يفسدون في الأرض ويستبيحون أموالهم وعيالهم وهم غائبون. وألحوا على إمامهم في أن ينهض بهم إلى هؤلاء الخوارج، حتى إذا فرغوا منهم تحولوا إلى عدوهم من أهل الشام فحاربوا وهم مطمئنون على ما وراءهم.
وسمع لهم علي، فسار بهم إلى النهروان، حتى إذا صار بإزاء الخوارج جعل يطلب إليهم قتلة عبد الله بن خباب ومن كان معه، وقتلة رسوله إليهم، فلا يظفر منهم إلا بجواب واحد هو: «كلنا هؤلاء القتلة.» وجعل علي يعظهم بالكتابة مرة وبالخروج إليهم ووعظهم مشافهة مرة أخرى، وقد أجدى وعظه هذا فجعل كثير من الخوارج يتسللون ويعودون إلى الكوفة، وجعلت طوائف منهم تعتزل جيش الخوارج، منهم من يعود إلى جيش علي، ومنهم من يعتزل الحرب دون أن يعود إلى الجماعة، حتى لم يبق حول عبد الله بن وهب الراسبي ذي الثفنات رئيس الخوارج إلا ثلاثة آلاف أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك قليلا. فلما استيأس علي من هؤلاء عبأ جيشه وأمر بألا يبدءوهم بقتال حتى يقاتلوا هم، ولم يكد الخوارج يرون التعبئة حتى تعبئوا، وينتصف النهار ذات يوم وإذا هذه الفئة القليلة من الخوارج تتحرق إلى الحرب تحرق الظمآن إلى الماء، وإذا مناديهم يصيح فيهم: «هل من رائح إلى الجنة؟» فيتصايحون جميعا: «الرواح إلى الجنة.» ثم يشدون على جيش علي شدة منكرة تنفرج لها خيل علي فرقين: فرق يمضي إلى الميمنة وفرق يمضي إلى الميسرة، والخوارج يندفعون بين الفرقين، فيلقاهم رماة علي بالنبل فيصرعون منهم خلقا كثيرا، ثم يلتئم الفرقان من الخيل، وما هي إلا ساعة حتى يقتل الخوارج عن آخرهم، وفيهم رئيسهم ذو الثفنات وجماعة كانوا قبل التحكيم من أشد الناس نصحا لعلي وجهادا في سبيله؛ لأنهم كانوا يرون سبيله هي سبيل الله.
وينظر أصحاب علي إلى علي فإذا هو قلق لا يطمئن، يطلب إلى من حوله أن يلتمسوا ذا الثدية، رجلا مخدج اليد، على عضده شامة تشبه ثدي المرأة، وعلى هذه الشامة شعرات سود، فيبحث الناس عنه في القتلى والصرعى، ثم يعودون فيقولون: بحثنا ولم نجد. ويزداد علي قلقا ويقول: «والله ما كذبت ولا كذبت، ويحكم! التمسوا الرجل فإنه في القتلى.» فيبحثون ثم يأتي آت فينبئ عليا بأنهم قد وجدوه، فإذا سمع النبأ خر ساجدا وسجد معه من كان حوله من أصحابه، ثم يرفع رأسه يقول: «والله ما كذبت ولا كذبت، ولقد قتلتم شر الناس.»
ويتحدث المؤرخون والمحدثون وأصحاب السير بأن هذا الرجل المخدج ذا الثدية هو الذي قال للنبي
صلى الله عليه وسلم
حين قسم الغنائم يوم حنين وتألف من تألف من العرب: «اعدل يا محمد فإنك لم تعدل.» وأعرض النبي عنه مرة ومرة، فلما أعاد مقالته للمرة الثالثة قال له النبي، وقد ظهر الغضب في وجهه: «ومن يعدل إذا لم أعدل ؟»
وهم بعض المسلمين بقتله فكفهم النبي عنه، وقال فيما يروي المحدثون والمؤرخون: «يخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم.»
وقد فرغ علي إذن من قتال الخوارج فقتلهم جميعا، إلا من انسل منهم إلى الكوفة أو اعتزل الحرب، وكان علي فرحا بهذا الانتصار، ولا سيما بعد أن رأى ذلك المخدج ذا الثدية الذي كان قبل ذاك من أشد الناس لزوما له وأكثرهم حرصا على مجالسته. وكان مما أرضى عليا أنه قد فرغ - فيما يرى - من عدوه المخالط له الذي كان خطرا على ما يترك في العراق من الأموال والعيال، وخطرا على الجيش نفسه يستطيع أن يأخذه من وراء، ويستطيع أن يقطع عليه رجعته إلى العراق.
ظن علي أن الأمور قد استقامت له فلم يبق إلا أن يرمي بجيشه هذا المنتصر أهل الشام، ولكن الشيء الذي لم يكن يفكر فيه علي، ولم ينتبه إليه أحد يومئذ، هو أن هذه الآلاف الثلاثة من الرجال الذين قتلوا كانوا كلهم من أهل العراق، أكثرهم من أهل الكوفة، وبعضهم من أهل البصرة، وليس منهم إلا من ينتمي إلى عشيرة في أحد هذين المصرين، وكثير منهم كانت عشائرهم في جيش علي ذاك الذي قتلهم، فقد كان عدي بن حاتم مثلا مع علي في النهروان، وكان ابنه زيد في الخوارج الذين قتلوا. وما أكثر أبناء الأعمام الذين قتل بعضهم بعضا في ذلك اليوم! وقل ما شئت في البواعث التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى أن يقتل بعضهم بعضا، كانوا جميعا يخلصون في الدفاع عما كانوا يرون أنه الحق، وكانوا جميعا يصدرون عن شعور ديني صادق لا شك فيه، ولكنهم كانوا جميعا ناسا من الناس يجدون في قلوبهم ما يجد الإنسان من الحزن على فقد الابن والأخ والصديق، ويجدون ما يجد العربي في نفسه من الموجدة حين يقتل ابنه أو صديقه أو أخوه، ويشعرون كما كان يشعر ذلك الفارس الجاهلي حين قال:
فإن أك قد بردت بهم غليلي
فلم أقطع بهم إلا بناني
وكما كان يشعر جاهلي آخر حين قال:
قومي هم قتلوا أميم أخي
فإذا رميت أصابني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللا
ولئن سطوت لأوهنن عظمي
وكما كان علي نفسه يشعر يوم الجمل حين كان يقول بعد أن نظر إلى القتلى من الفريقين:
أشكو إليك عجري وبجري
شفيت نفسي وقتلت معشري
وقد ابتهج أهل الكوفة في حزن بعد يوم الجمل بانتصارهم على أهل البصرة، وشجعهم هذا الانتصار على أن ينهضوا إلى صفين، أما في هذا اليوم يوم النهروان فأهل الكوفة يقتلون أهل الكوفة وأهل البصرة يقتلون أهل البصرة، فأي غرابة في أن يشيع الحزن في القلوب وتغشى النفوس كآبة لا تؤذن بخير؟! وأي غرابة في أن يدعوهم علي إلى النهوض إلى الشام فيعتل عليه رؤساؤهم، منهم الصادق ومنهم الماكر الكاذب. يقولون له: قد نفدت السهام وتكسرت السيوف ونصلت الرماح، فأعدنا إلى مصرنا لنريح ونجدد أداتنا ثم ننهض معك إلى عدونا.
ولا يكاد علي يعود بهم إلى معسكرهم في النخيلة خارج الكوفة ويحرج عليهم ترك المعسكر ودخول المصر حتى ينظر فإذا هم يتسللون أفرادا وجماعات، حتى لا يبقى في المعسكر إلا عدد يسير لا يغنون عنه شيئا، وحتى يضطر هو إلى أن يدخل الكوفة ويفكر في الاستعداد للحرب من جديد.
وكان معاوية قد بلغه نهوض علي إلى الشام، فنهض في أصحابه يسبق إلى صفين، ولكن عليا لم يقدم، فلما عرف معاوية ما كان من أمره مع الخوارج، ومن رجوعه إلى الكوفة وتخاذل أصحابه عن القتال عاد إلى دمشق موفورا دون أن يلقى كيدا.
الفصل الثامن والعشرون
وترك علي أصحابه أياما ليريحوا ويستريحوا ويستعدوا، كما زعم له رؤساؤهم في النهروان، فلما ظن أنهم قد بلغوا من ذلك ما أرادوا دعاهم إلى الخروج وحثهم عليه وحرضهم على الجهاد، ولكنهم سمعوا له ثم لم يصنعوا شيئا، فأمهلهم أياما ثم خطبهم كالمستيئس من نصرهم، فقال: «يا عباد الله، ما بالكم إذا أمرتم أن تنفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة بدلا، وبالذل والهوان من العز والكرامة خلقا؟! أفكلما دعوتكم إلى الجهاد دارت أعينكم في رءوسكم كأنكم من الموت في سكرة وكأن قلوبكم قاسية، فأنتم أسود الشرى عند الدعة، وحين تنادون للبأس ثعالب رواغة، تنتقص أطرافهم فلا تخاشون، ولا ينام عدوكم عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إن لكم علي حقا: فالنصيحة لكم ما نصحتم، وتوفير فيئكم عليكم، وأن أعلمكم كيلا تجهلوا، وأؤدبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصح في المغيب والمشهد، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم.»
على أن خطبته هذه بلغت أسماع أصحابه دون أن تتجاوزها إلى قلوبهم، فانصرفوا عنه ولم يصنعوا شيئا، لم ينفروا للحرب ولم يتأهبوا لها، بل لم يظهروا ميلا إلى التأهب فضلا عن أن يظهروا الميل إلى النفير، وإنما قروا في مصرهم وأقبلوا على حياتهم وادعين يدبرون أمورهم في أمن وفراغ بال، كأنهم لم يهموا بغزو الشام وكأنهم لم يستأذنوا عليا في العودة إلى مصرهم، ليكون استعدادهم للحرب أتم وتأهبهم لها أشد وأمضى، وليس من شك في أن لهذه الظاهرة أسبابها المختلفة وعللها المتباينة.
وقد أشرنا إلى بعض ذلك حين ذكرنا كآبة المنتصرين يوم النهروان، وما اندس إلى قلوبهم من الحزن على من قتل في ذلك اليوم من الخصم والولي جميعا، فقد كان أولئك وهؤلاء أبناءهم وإخوانهم وصديقهم وذوي عصبتهم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن عليا منذ نهض بأمر الخلافة لم يدفع جيوش المسلمين من أصحابه إلا إلى هذه الحرب الوبيلة، التي تقطع الأرحام وتوهي العرى وتفسد الصلات التي يجب أن ترعى، حرب الآباء للأبناء وحرب الإخوان للإخوان وحرب الصديق للصديق والولي للولي، أقول: إذا أضفنا هذا كله عرفنا أن أهل العراق معذورون إن شاع الملل في نفوسهم وكرهوا هذا الصراع الذي لا يعقبهم إلا حسرة وحزنا، وليس على الإمام في ذلك لوم، وما ينبغي أن يلومه فيه لائم، فقد كان يؤمن أشد الإيمان وأنقاه بأن على المسلمين أن ينصروا الحق مهما يكلفهم ذلك من جهد، ومهما يجر عليهم ذلك من خطب، ومهما يدفعهم ذلك إلى المكروه.
وكان أصحابه يرون ذلك كما كان يراه، يؤمنون به على أنه الدين؛ ولذلك بذلوا نفوسهم ودماءهم يوم الجمل، وبذلوها في صفين، وكانوا يهمون ببذلها مرة أخرى، قد نهضوا لذلك ومضوا إليه ولكنهم اضطروا إلى النهروان ليحموا ظهورهم وليؤمنوا من وراءهم وما وراءهم من الأهل والمال، فلم يجنوا في النهروان إلا شرا، أضافوا دماء إلى دماء وحزنا إلى حزن وحسرات إلى حسرات، وهم بعد ذلك قد ألفوا منذ أيام أبي بكر وعمر جيوشا أرصدت للفتح، وعبئت لبسط سلطان الإسلام، واستعدت لقتال العدو من غير المسلمين، وقد امتحنوا بقتال المسلمين مرات فلم يروا إلا شرا. وهم ينظرون فيرون الفتح قد وقف، وسلطان الدولة قد أخذ يضطرب في الثغور؛ طمع الروم في الشام وهموا بالغزو فلم يتقهم معاوية إلا بالمال، وجعلت الثغور الشرقية تضطرب على عمال علي نفسه، فلا يكاد يردها إلى الطاعة إلا بعد الجهد أي الجهد، والعناء أي العناء.
وهم يرون بعد هذا كله قوما من خيار أصحاب النبي قد اعتزلوا الفتنة واجتنبوا الحرب، وكرهوا أن يقاتلوا أهل القبلة، وأن ينصبوا الحرب لقوم يقولون: «لا إله إلا الله» ويشهدون بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من كسر سيفه؛ لأن سيوف المسلمين قد أرصدت لقتال العدو لا لقتال الصديق.
وليس كل الناس من اليقين وقوة الإيمان ومضاء العزم وتصميم الرأي بحيث كان علي رضي الله عنه، فليس غريبا إذن أن يجتمع هذا كله على هؤلاء الناس فيثير في نفوسهم الحزن، ويشيع في قلوبهم الشك، ويقر في ضمائرهم هذا الندم الغامض الذي يدفع أصحابه إلى الحيرة، والذي يفل الحد ويثبط الهمم.
هذا كله إلى أن أصحاب علي في العراق كانوا يجدون في السلم والأمن راحة مغرية ودعة مطمعة، فهم قارون في أمصارهم يوفر عليهم فيئهم في غير حرب، وقد سن فيهم علي سنة لم يألفوها من قبل، أشار بها على عمر فلم يستجب له، فكان طبيعيا أن ينفذها حين يصير السلطان إليه، فقد أشار علي على عمر حين استشار الناس في هذا المال الكثير، الذي أخذ يحمل إليه من الثغور، بأن يقسم كل ما يحمل إليه من هذا المال على الناس حتى لا يبقى منه في بيت المال شيء، فلم يقبل عمر هذا الرأي وإنما قبل رأي الذين أشاروا عليه بتدوين الديوان وفرض الأعطيات للناس.
فلما صار الأمر إلى علي جعل يقسم ما يأتي من المال إثر وصوله على الناس، بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن ينفق منه في المرافق العامة، ولم يكن علي يكره شيئا كما كان يكره الادخار في بيت المال، كان يتحرج من ذلك أشد التحرج، حتى روي أنه كان يحب بين حين وحين أن يأمر فيكنس بيت المال ويرش، ثم يأتي فيصلي فيه ركعتين. كان يكره أن يلم به الموت فجأة ويترك في بيت المال شيئا لم يردده إلى أصحابه، فكان يقسم على الناس الفاكهة حين تحمل إليه الفاكهة قلت أو كثرت، وكان يقسم عليهم العسل والزيت وأشباه العسل والزيت، حتى قسم عليهم ذات يوم إبرا وخيطا، فقد كان السلم إذن محببا إلى هؤلاء الناس الذين كان يحمل إليهم فيء الثغور وخراج ما فتح على المسلمين من أرض المشرق، فلا يكاد يبلغ المصر حتى يصير في أيديهم قليلا كان أو كثيرا.
كان هذا السلم محببا إليهم، وكان على كل حال أحب إليهم من هذه الحرب العقيم التي لا غنم فيها، وفيها الغرم كل الغرم، وفيها بعد ذلك قتل الولي والصديق.
وكذلك مضى أصحاب علي في إيثار الراحة والدعة والنكوص عن الحرب كلما دعوا إليها.
ثم جاء مكر معاوية فأضاف مالا إلى مال، وثراء إلى ثراء، وزاد السلم حبا إلى سراتهم ورؤسائهم؛ فقد اتصلت كتب معاوية إلى هؤلاء السراة والرؤساء تحمل إليهم الوعود والأماني، وتقدم بين يدي الوعود والأماني العطايا والصلات، يعجل من ذلك بما يرغب في عاجله، وما يغري قليله المعجل بكثيره الموعود، حتى اشترى ضمائر هؤلاء السراة والرؤساء وأفسدهم على إمامهم، وجعلهم بالقياس إليه منافقين، يعطونه الطاعة بأطراف ألسنتهم، ويطوون قلوبهم على المعصية والخذلان، ويذيعون ذلك فيمن وراءهم من الناس.
لم يكن علي يستبيح لنفسه مكرا ولا كيدا ولا دهاء، كان يؤثر الدين الخالص على هذا كله، وكان يحتمل الحق مهما تثقل مئونته، لا يعطي في غير موضع للعطاء، ولا يشتري الطاعة بالمال، ولا يحب أن يقيم أمر المسلمين على الرشوة، ولو شاء علي لمكر وكاد، ولكنه آثر دينه وأبى إلا أن يمضي في طريقه إلى مثله العليا من الصراحة والحق والإخلاص والنصح لله والمسلمين، عن رضى واستقامة لا عن كيد والتواء.
وقد جعل يدعو الناس بين حين وحين، يرفق بهم كثيرا ويعنف عليهم أحيانا، حتى قال لهم ذات يوم: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة قلوبهم وأهواؤهم، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، إذا دعوتكم إلى الجهاد قلتم كيت كيت، وذيت ذيت، أعاليل بأباطيل، وسألتموني التأخير، فعل ذي الدين المطول حيدي حياد، لا يدفع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد والعزم واستشعار الصبر، أي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحت لا أطمع في نصركم ولا أصدق قولكم، فرق الله بيني وبينكم، أبدلني بكم من هو خير لي منكم، أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وأثرة يتخذها الظالم فيكم سنة، فيفرق جماعتكم، ويبكي عيونكم، ويدخل الفقر بيوتكم، وتتمنون عن قليل أنكم رأيتموني فنصرتموني، فستعلمون حق ما أقول، ولا يبعد الله إلا من ظلم.»
ولكنهم سمعوا منه وتفرقوا عنه ولم يصنعوا شيئا حتى أيأسوه من أنفسهم، وحتى روى بعض الرواة عمن رآه، وقد رفع المصحف حتى وضعه على رأسه، ثم قال: «اللهم إني سألتهم ما فيه فمنعوني ذلك، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وأبغضتهم وأبغضوني، وحملوني على غير خلقي وعلى أخلاق لم تكن تعرف لي، فأبدلني بهم خيرا لي منهم، وأبدلهم بي شرا مني، ومث قلوبهم ميث الملح في الماء.»
وقد كانت حياة علي بعد النهروان محنة متصلة، محنة شاقة إلى أقصى حدود المشقة، كان يرى الحق واضحا مضيئا صريحا له كما تضيء الشمس، وكان يرى في أصحابه من القوة والبأس ومن العدد والعدة ما يمكنه من بلوغ هذا الحق وإعلاء كلمته، ولكنه كان يرى أصحابه قاعدين عن حقهم متخاذلين عن نصره، يدعون فلا يجيبون، ويؤمرون فلا يطيعون، ويوعظون فلا يتعظون، قد أحبوا الحياة وكرهوا الموت، وآثروا العافية وضاقوا بالحرب، واستلذوا الراحة وسئموا التعب، حتى أخذ معاوية ينتقص أطرافهم في العراق ويغير على الأقاليم خارج العراق، وعلي يدعو فلا يجاب، ويأمر فلا يطاع، ويقول فلا يسمع له إلا قليل من أصحابه لا يكادون يغنون عنه شيئا.
وقد كان يرى أنه أحق الناس بالخلافة منذ وفاة النبي، ولكنه صبر حين صرفت عنه إلى الخلفاء الذين سبقوه، فلما جاءته الخلافة لم تجئه صفوا ولا عفوا، وإنما جاءته بعد فتنة منكرة وكلفته وكلفت أصحابه معه أهوالا ثقالا، ثم أسلمته بعد ذلك إلى هذا الموقف البغيض إلى كل نفس أبية، وإلى كل مؤمن صادق الإيمان، موقف الإمام الذي لا يطاع، والذي يريد الحق فلا يبلغه، لا لضعف فيه ولا لقلة في أصحابه ولا لوهن في أداته، بل لأن أصحابه لا يريدون أن يطيعوه ولا أن ينصروه، بعد أن جربوا الطاعة والحرب، فلم يجنوا منهما إلا تقطيع الأرحام وقتل الصديق واحتمال المشقة والتعرض للهلكة في غير غنيمة، فآثروا الدعة واطمأنوا إليها، ثم لم يؤثروا الدعة وحدها وإنما فرغوا لأنواع الجدال العقيم، ينفقون فيه أوقاتهم وجهودهم، حتى جاءه نفر منهم ذات يوم يسألونه عن رأيه في أبي بكر رضي الله عنه، يسألونه عن ذلك وقد جاءته من إحدى نواحيه أنباء ثقال ملأت قلبه حزنا وغيظا، فقال لهم محزونا: «أوقد فرغتم لذلك، وهذه مصر قد فتحها أهل الشام وقتلوا واليها محمد بن أبي بكر؟»
الفصل التاسع والعشرون
ثم لم تقف محنته في أصحابه عند هذا الحد، ولكنها تجاوزته إلى شر منه وأقسى، فقد استبان له بعد قليل أن انتصاره في النهروان لم يغن عنه شيئا، على ما كلفه من مشقة وما أعقب في نفسه وفي نفوس أصحابه من حزن وحسرة، فهو لم يقتل الخوارج في النهروان، وإنما قتل منهم جماعة ليس غير، وقد ظل الخوارج معه بعد ذلك يعايشونه في الكوفة، ويعايشون عامله في البصرة، وينبثون في أطراف السواد بين المصرين.
كانوا يعيشون موتورين لا ينسون ثأر إخوانهم الذين صرعوا في النهروان، محتفظين بآرائهم كلها لم تغير الهزيمة منها شيئا، وإنما زادتها قوة إلى قوة، وأضافت إليها قوة أخرى منكرة فظيعة، تأتي من البغض والحقد والحرص على طلب الثأر.
وقد رسمت الظروف لهؤلاء الخوارج خطة محتومة لم ينحرفوا عنها قط أثناء تاريخهم الطويل، وهي أن يكيدوا للإمام ويمكروا به ويخذلوا عنه ويحرضوا عليه، ويدعوا إلى مذهبهم حين لا تواتيهم القوة ولا يسعفهم البأس، فإذا كثر عددهم واستطاعوا مكابرة السلطان خرجوا من أمصارهم مستخفين أو ظاهرين، ثم ابتعدوا مكانا يلتقون فيه، فإذا التقوا أظهروا المعصية وسلوا السيف.
فقد عاش الخوارج إذن مع علي في الكوفة يدبرون له الكيد ويتربصون به الدوائر ويصرفون عنه قلوب الناس وعقولهم، يشهدون صلاته ويسمعون خطبه وأحاديثه، وربما عارضه منهم المعارض فقطع عليه الخطبة أو الحديث، وهم على ذلك مطمئنون إلى عدله، آمنون من بطشه، مستيقنون أنه لن يبسط عليهم يدا ولن يكشف لهم صفحة حتى يبادوه، وهم يأخذون نصيبهم من الفيء وحظوظهم من المال الذي يقسم بين حين وحين، فيتقوون به على الحرب ويستعدون به للقتال.
وكان علي قد أخذ نفسه بألا يعرض لهم بشر حتى يبتدئوه، وأعلن إليهم ذلك وإلى الناس، فأطمعهم عدله وإسماحه فيه، وأغراهم لينه وبره بهم، وكان يعلم منهم ذلك حق العلم، وقد استقر في نفسه أنهم قاتلوه حتى لقد كان كثيرا ما يقوله: «لتخضبن هذه من هذه.» يشير إلى لحيته ويشير إلى جبهته.
وكان من ألقي إليه من النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما يظهر أنه سيموت مقتولا، وأن قاتله أشقى هذه الأمة، فكان كثيرا ما يقول في خطبه حين يشتد سأمه لأصحابه وضيقه بعصيانهم: ما يؤخر أشقاها؟
ولم يكن الخوارج يتحرجون من الجهر بآرائهم بين حين وحين، حتى جاءه أحدهم ذات يوم وهو الخريت بن راشد السامي - من ولد سامة بن لؤي - ذات يوم، فقال له: والله لا أطعت أمرك ولا صليت خلفك. فقال له علي: ثكلتك أمك، إذن تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تغر إلا نفسك، ولم تفعل ذلك؟ قال: «لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق حين جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك زار وعليهم ناقم.» فلم يغضب علي لذلك ولم يبطش به، إنما دعاه إلى أن يناظره ويبين له وجه الحق لعله أن يثوب إليه، فقال له الخريت: أعود إليك غدا. فقبل منه علي وخلى بينه وبين حريته، لم يرتهنه في سجن حتى يناظره فيسمع منه ويقول له، وإنما ترك له الطريق، فانصرف الرجل إلى قومه من بني ناجية، وكان فيهم مطاعا، شهد بهم يوم الجمل وصفين، فأخبرهم بما كان بينه وبين علي، ثم خرج بهم في ظلمة الليل من الكوفة يريد الحرب، ولقي الخريت وأصحابه في طريقهم رجلين سألوهما عن دينهما، وكان أحدهما يهوديا، فلما أنبأهم بدينه خلوا سبيله لأنه ذمي، وأما الآخر فكان مسلما من الموالي، فلما أنبأهم بدينه سألوه عن رأيه في علي فقال خيرا، فوثبوا عليه فقتلوه، وأنبأ اليهودي بما رأى عاملا من عمال علي على السواد، فكتب العامل إلى علي، وأرسل علي جيشا لتتبع هؤلاء القوم وردهم إلى الطاعة ومناجزتهم إن أبوا، ولحق بهم الجيش.
وكانت بين القائد وبين الخريت مناظرة لم تجد شيئا، فطلب إليه القائد أن يسلموا إليه قتلة ذلك المسلم، فأبى الخريت، وكان بينهم قتال شديد لم يبلغ فيه أحد من صاحبه شيئا، ثم تحاجز القوم آخر النهار وهرب الخريت بأصحابه نحو البصرة.
وأرسل علي جيشا آخر أعظم قوة وأكثر عددا، وأمره بتعقب هؤلاء القوم، وكتب إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة أن يمد هذا الجيش، ففعل. والتقى الفريقان، فاقتتلوا أشد قتال وظهر الضعف في أصحاب الخريت، ولكنه استطاع في هذه المرة أيضا أن يهرب بأصحابه تحت الليل.
ولم يلبث أمر هذا الرجل أن استبان وظهر أنه لم يخرج غضبا للحق ولا إنكارا للحكومة، وإنما كان مغامرا يوهم الخوارج أنه معهم، ويوهم العثمانية أنه يطلب بدم عثمان، وقد جعلت أخلاط كثيرة من الناس تنضم إليه، وجعل يمضي في طريقه على ساحل البحر، لا يكاد يتقدم إلا انضم إليه من الأخلاط والعلوج طوائف، حتى كثف جيشه وعظم أمره، وتبعه قوم من النصارى، فمنهم من كان أسلم فعاد إلى نصرانيته، ومنهم من ظل على دينه ولكنه أراد أن يتخلص من أداء الجزية، وجعل جيش علي يتبع الخريت وأصحابه حتى أظلهم ذات يوم، وكانت بينه وبينهم موقعة قتل فيها الخريت، وأخذ قائد علي من بقي من أصحابه أسرى، فمن كان منهم مسلما من عليه، ومن كان منهم قد ارتد استتابه، فإن أسلم من عليه أيضا، وإن لم يسلم أخذه أسيرا سبيا.
وكتب بذلك إلى علي، وعاد بأصحابه وأسراه نحو الكوفة، وكان هؤلاء الأسرى خمسمائة، فمروا بخطة من خطط فارس عليها عامل لعلي هو مصقلة بن هبيرة الشيباني، فجعل الأسرى يتصايحون بالدعاء لمصقلة والاستغاثة به واستعانته على تخليصهم من أسرهم، وكانت كثرتهم من قومه بكر بن وائل، فاشتراهم مصقلة من قائد علي وأعتقهم، ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم.
وانتهى الجيش إلى الكوفة، وعرف علي قصة مصقلة مع الأسرى، فأثنى على القائد وصوب رأيه، وانتظر أن يرسل مصقلة ما عليه من دين، فلما أبطأ طالبه وألح في مطالبته وإنذاره، ثم أرسل إليه من يتقاضى منه المال، فإن التوى به حمله إلى أمير البصرة ابن عباس.
وكان أمر مصقلة هذا من أوضح الأدلة وأقواها على طبيعة الطاعة التي كان كثير من أشراف أهل العراق يبذلونها لعلي، فقد التوى بدينه وحمل إلى ابن عباس، فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال: «لو قد طلبت أكثر من هذا المال إلى ابن عفان ما منعني إياه.» ثم احتال حتى هرب من البصرة ولحق بمعاوية، فتلقاه معاوية أحسن لقاء وأطمعه وأرضاه، حتى طمع مصقلة في أن يحمل أخاه نعيم بن هبيرة على أن يلحق به. كتب إليه في ذلك مع رجل من نصارى تغلب يقال له جلوان، ولكن هذا النصراني لم يكد يبلغ الكوفة حتى عرف علي أمره وعرف أنه لا يبلغ الرسالة فحسب، وإنما يتجسس أيضا، فقطع يده ومات الرجل في إثر ذلك، فقال نعيم يخاطب أخاه:
لا تأمنن هداك الله عن ثقة
ريب الزمان ولا تبعث كجلوانا
ماذا أردت إلى إرساله سفها
ترجو سقاط امرئ ما كان خوانا
عرضته لعلي إنه أسد
يمشي العرضنة من آساد خفانا
قد كنت في منظر عن ذا ومستمع
تأوي العراق وتدعى خير شيبانا
لو كنت أديت مال القوم مصطبرا
للحق أحييت بالإفضال موتانا
لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا
فضل ابن هند وذاك الرأي أشجانا
فالآن تكثر قرع السن من ندم
وما تقول وقد كان الذي كانا
وظلت تبغضك الأحياء قاطبة
لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا
فلم تكن طاعة مصقلة إذن لعلي طاعة الرجل الذي يصدر في كل ما يأتي عن معرفة الحق والإيمان به والقيام دونه والصبر على ما يكون من نتائج هذا كله، وإنما كانت طاعته طاعة رجل من الناس لخليفة من الخلفاء، رجل يؤثر العافية وينتهز الفرصة ويبتغي لنفسه الخير مهما يكن مصدره، يعنيه أمر نفسه قبل أن يعنيه أي شيء آخر، ولم يكن مصقلة فذا في ذلك، وإنما كان له أشباه من أشراف الناس فضلا عن عامتهم في الكوفة والبصرة جميعا.
فهو يشتري الأسرى ويعتقهم لا يبتغي ثواب الله ولا يبتغي حسن الأحدوثة، وإنما يستجيب للعصبية وحدها ويتخذ المكر بالسلطان وسيلة إلى إرضائها، فإذا عرف السلطان مكره وطالبه بالحق لم يصطبر له ولم يؤد منه ما لزمه، وإنما فر إلى الذين يحاربون الخليفة ويكيدون له، فأصبح عدوا بعد أن كان وليا، ولم يكن لقاء معاوية له وترحيبه به وإيثاره إياه بالمعروف خيرا من التوائه هو بالدين وفراره هو إلى الشام، وإنما كان كيدا من الكيد، ومكرا من المكر، ومكافأة على ما لا يحسن أن يكافأ عليه المسلم الصدوق، إنما كان ذلك يحسن لو قد فر إلى معاوية رجل من الروم ليكيد معه لقيصر ويعينه على غزو العدو، فأما أن يؤوي من كاد لإمامه لا بشيء، ونكث عهده لا لشيء، إلا لأنه قد يعينه على إفساد أمر العراق، فهذا هو الذي يبين وجها خطيرا من وجوه السياسة التي أراد معاوية أن يقيم عليها أمر السلطان الجديد، سياسة الدنيا بأعراضها وأغراضها، وبمنافعها ومآربها، وبأهوائها وشهواتها.
وهنا يظهر الفرق واضحا بين مذهب علي في السياسة التي تخلص للدين، ومذهب معاوية في السياسة التي تخلص للدنيا.
أما علي فلم يزد حين بلغه فرار مصقلة على أن قال: «ما له قاتله الله؟! فعل فعل السيد وفر فرار العبد!» ثم أمر بدار مصقلة فهدمت.
الفصل الثلاثون
ومضى امتحان علي على هذا النحو المر، خيانة من الولي وكيدا من العدو، وهو بين ذلك كله مصمم على خطته الواضحة، لا يرضى الدنية من الأمر ولا يدهن في دينه، ولا يتحول عن سياسته الصريحة قليلا ولا كثيرا، والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها إثر بعض، وهو ماض في طريقه لا ينحرف عنه إلى يمين أو إلى شمال، يبلغ منه الغيظ أقصاه، ويضيق بحياته أشد الضيق، فلا يزيد على أن يجمجم ويظهر غيظه دون أن يلفته شيء من ذلك عما صمم عليه.
ولم يكد يفرغ من أمر النهروان حتى امتحن في دولته نفسها، فقد أخذ معاوية يغير على أقطارها وينتقص أطرافها، وقد أطاعه أهل الشام مخلصين في الطاعة، لا يناقشونه إذا أمرهم ويقبلون عليه إذا دعاهم، وكانت نفسه قد تعلقت بمصر منذ نهض علي بالخلافة؛ لقربها منه وبعدها من علي، ولأن الثائرين من أهلها كانوا أشد أهل الأقاليم على عثمان وأسرعهم إلى الفتك به، وقد هم معاوية أن يصل بالكيد إلى ما أراد من مصر، وكأنه قد بلغ بكيده ما أحب بعد خطوب طوال ثقال.
كان علي قد ولى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي أمر مصر، وكان لهذا الأمر كفئا ولهذا العبء حاملا، قدم مصر وقرأ على أهلها عهد علي، فقام الناس إليه فبايعوا لعلي واستقام له الأمر، إلا أن فريقا منهم اعتزلوا وكتبوا إلى قيس أنهم لا يريدون أن ينصبوا له حربا ولا أن يمنعوه خراجا، ولكنهم ينتظرون بالبيعة حتى يروا ما يصير إليه أمر الناس، فوادعهم قيس ولم يهجهم، ثم كتب إليه معاوية وعمرو بن العاص يستميلانه إليهما؛ فرد عليهما ردا رفيقا لم يوئسهما من نفسه ولم يطمعهما فيها، وإنما أراد أن يتقي شرهما ويأمن مكرهما في إقليمه هذا البعيد من مركز الخلافة، ولكن معاوية لم يرض منه بذلك وإنما كتب إليه، وكتب ليعرف الصريح من رأيه وليتبين أصديق هو أم عدو، فلما استيأس منه فسد الأمر بينهما حتى كتب إليه يسبه، ويدعوه اليهودي ابن اليهودي، فرد عليه قيس سبا بسب، ودعاه الوثني ابن الوثني، ووصفه وأباه بأنهما دخلا في الإسلام كارهين وخرجا منه طائعين.
فعرف معاوية أن أمر قيس لن يستقيم له بالكيد الرقيق ولا بالنذير العنيف، فلم يكد له في مصر وإنما كاد له في العراق، كتب على لسانه كتابا أظهر فيه انحرافه عن علي وغضبه لعثمان ومطالبته بدم الخليفة المظلوم، ودس الكتاب إلى أهل الكوفة، فأما علي فلم يصدق ما جاء في الكتاب ولم يزد على أن قال لأصحابه: إني أعلم بقيس منكم، وإنما هي فعلة من فعلاته. ولكن أصحابه صدقوا وثاروا وألحوا في عزل قيس. وتريث علي مع ذلك وكتب إلى قيس يأمره أن يناجز القوم الذين اعتزلوا، ولا يقبل منهم إلا البيعة، فأجابه قيس متعجبا من إسراعه إلى حرب هؤلاء القوم الوادعين، طالبا إليه أن يخلي بينه وبين إقليمه يدبره كما يرى لأنه قريب وعلي بعيد، ولأنه يخشى إن هاج هؤلاء الناس أن يفسد عليه الأمر، وأن يجدوا من قومهم من ينصرهم، وأن يستعينوا معاوية فيعينهم.
ولم يشك أهل الكوفة بعد أن عرفوا ذلك من أمر قيس في أنه قد أضمر الشر وخالف عن أمر إمامه، فألحوا في عزله، وما زالوا يلحون حتى عزله علي وولى مكانه محمد بن أبي بكر.
وكان الفرق بين محمد بن أبي بكر وبين قيس بن سعد أن محمدا كان شابا حدثا، وأن قيسا كان رجلا قد جرب الأمور وبلا حلو الدهر ومره، وأن محمدا كان قد شارك في أمر عثمان، وأن قيسا لم يكن قد شارك فيه، وأن محمدا كان رجلا تستخفه الحرب ولا يستجيب إلا لعواطف نفسه وشبابه، وأن قيسا كان رجلا يؤثر الأناة ويزن الأمور ولا يحب الحرب إلا حين لا يكون منها بد.
فلما وصل محمد بن أبي بكر إلى مصر رحل عنها قيس إلى المدينة، فلم يقم فيها إلا قليلا، ثم قدم على علي فشهد معه صفين ونصح له في المحضر والمغيب، ودعا محمد بن أبي بكر أولئك المعتزلة إلى الطاعة، فلما أبوا عليه أخذ في حربهم، فأرسل إليه جندا لم يلبث أن انهزم، وأرسل إليهم جيشا آخر لم يلبث أن انهزم أيضا، وثار لهؤلاء الناس قوم من أنصارهم، وظهرت الدعوة للثأر بعثمان في مصر، واضطرب أمر الإقليم، وعرف علي ذلك فولى الأشتر النخعي مصر وعزل عنها محمد بن أبي بكر، ولكن الأشتر لم يكد يصل إلى القلزم حتى مات. وأكثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية أغوى صاحب الخراج في القلزم وحط عنه الخراج ما بقي إن احتال في موت الأشتر، وبأن هذا الرجل دس للأشتر سما في شربة من عسل فقتله ليومه أو لغده، وكان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان: إن لله جنودا من عسل.
ثم جهز معاوية جيشا لغزو مصر وأمر عليه عمرو بن العاص، واضطر علي إلى أن يثبت محمد بن أبي بكر في ولايته ويأمره بالتحرز والاحتراس ويعده بإرسال المال والجند، وجعل يدعو أهل الكوفة إلى نصر إخوانهم في مصر، فلم ينتدبوا لذلك، فلما اشتد عليهم في الإلحاح انتدب له جنيد ضئيل، فأرسلهم علي إلى مصر، ولكنه لم يلبث أن تلقى الأنباء بأن عمرا قد دخل مصر فاحتازها، وبأن محمد بن أبي بكر قد قتل وحرقت جثته في النار، فرد جنده الضئيل وخطب أهل الكوفة لائما مشتدا في اللوم كعادته، ولكن أهل الكوفة لم يزيدوا على أن سمعوا ثم تفرقوا.
ومنذ ذلك اليوم انقسمت الدولة الإسلامية شطرين؛ شطر المغرب: وأمره إلى معاوية، وقوامه الشام ومصر وما فتح على المسلمين من إفريقية وما وراء ذلك من أرض كانت تنتظر الفتح، وشطر المشرق: وأمره إلى علي، وقوامه العراق وما فتح على الفرس وجزيرة العرب. على أن معاوية لم يقنع بما احتاز من هذا المغرب، وإنما أطمعه انتصاره، واجتماع أصحابه عليه، وطاعتهم له، وكيده لعلي في العراق، ونجحه فيما كان يحاول من استهواء أصحاب علي، فلم يلبث أن فكر ثم حاول فلم يخطئه النجح فيما فكر ولا فيما حاول، ولم يفكر في أقل من أن يغزو أهل العراق في عقر دارهم، ولم يحاول أقل من أن يشيع الذعر والهلع فيما بقي لعلي من الأرض.
الفصل الحادي والثلاثون
وفي أثناء هذا كله أضاف أقرب الناس إلى علي وآثرهم عنده محنة إلى محنه الكثيرة، وهو ابن عمه وعامله على البصرة عبد الله بن عباس صاحب رأي علي، وأعرف الناس بدخيلة أمره، وأقدرهم على نصحه ونصره، وأجدرهم أن يعينه ويخلص له حين تتنكر له الدنيا ويمكر به العدو ويلتوي عليه الصديق.
ولم يقصر علي في ذات ابن عمه، لم يخف عليه من أمره شيئا، ولم يحتجز عنه سرا من أسراره، وإنما كان يراه وزيرا طبيعيا له، أقام هو في الكوفة وولى وزيره وابن عمه البصرة، وهي أعظم أمصاره وأجلها خطرا، وكان علي ينتظر أن يمتحن في الناس جميعا إلا في ابن عمه هذا وفي بنيه.
وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المكانة في بني هاشم خاصة وفي قريش عامة وفي نفوس المسلمين جميعا ما كان خليقا أن يعصمه من الانحراف عن ابن عمه، مهما تعظم الكوارث ومهما تدلهم الخطوب، ولكنه فيما يظهر عاد من صفين منكسر النفس بعد ما رأى من ظهور معاوية بالكيد والمكر وطاعة أهل الشام، ومن تفرق أصحاب علي على إمامهم، وانحراف كثير منهم عنه إلى الحرب الخفية، وانحراف كثير منهم عنه إلى الحرب الظاهرة، ثم شهد أمر الحكمين فرأى تخاذل أهل العراق وتظاهر أهل الشام، وعاد وقد استيقن أن الدنيا قد أدبرت عن ابن عمه، وأن الأيام قد تنكرت له، وأن الأمور تريد أن تستقيم لمعاوية، ورأى أن ابن عمه على ذلك كله ماض في طريقه المستقيمة لا يعوج ولا يلتوي، ولا يحب اعوجاجا ولا التواء من أحد، وإنما يجري سياسته سمحة هينة، ويسير سيرة عمر بالرفق بالمسلمين والعطف عليهم، ولكنه لا يشتد شدة عمر ولا يعنف بالناس، وإنما يحارب من حاربه في غير هوادة، ويسالم من سالمه في غير احتياط، لا يعاقب على الكيد ولا يأخذ بالظنة، ولا يبادي الناس بالشر حتى يبادوه.
وقد رأينا أن ابن عباس لم يقدم على علي حين أراد الشخوص إلى الشام، ولم يشهد معه النهروان، وإنما أقام بالبصرة وسرح الجند إلى علي كأنه قد ضاق بهذه الحرب التي لا تغني، فقعد عنها وانتظر عاقبتها، ثم لم يلبث أن رأى عاقبتها شرا وفرقة وتخاذلا، فقد أوقع علي بالخوارج فلم يزد علي أن قتل جماعة من أصحابه، ثم لم يمض إلى الشام بعد ذلك وإنما عاد إلى الكوفة، ثم لم يستطع أن يخرج منها بعد أن عاد إليها. رأى ابن عباس نجم ابن عمه في أفول ونجم معاوية في صعود، فأقام في البصرة يفكر في نفسه أكثر مما يفكر في ابن عمه وفي هذه الخطوب التي كانت تزدحم عليه، وكأنه آثر نفسه بشيء من الخير وسار في بيت المال سيرة تخالف المألوف من أمر علي ومن أمره هو، حين كانت الأيام مقبلة على ابن عمه وعليه، وكأنه آنس من صاحب بيت المال في البصرة، وهو أبو الأسود الدؤلي شيئا من النكير، فأغلظ له في القول ذات يوم.
وضاق أبو الأسود بما رأى وما سمع، فكتب إلى علي: «أما بعد، فإن الله جعلك واليا مؤتمنا وراعيا مسئولا، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ناصحا للرعية توفر لهم فيئهم، وتظلف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم، وإن عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك، ولا يسعني كتمانك ذلك، فانظر - رحمك الله - فيما قبلنا من أمرك، واكتب إلي برأيك إن شاء الله، والسلام.»
وليس من شك أن هذا الكتاب قد روع عليا وأضاف هما عظيما إلى همومه العظام، وحزنا ثقيلا إلى أحزانه اللاذعة الممضة، ولكنه صبر نفسه على ما تكره كما تعود أن يفعل دائما، وكتب إلى أبي الأسود: «أما بعد، فقد فهمت كتابك، ومثلك نصح للإمام والأمة، ووالى على الحق وفارق الجور، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي فيه من أمره ولم أعلمه بكتابك إلي فيه، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح؛ فإنك بذلك محقوق، وهو عليك واجب، والسلام.»
وكتب في الوقت نفسه إلى ابن عباس: «أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وأخربت أمانتك وعصيت إمامك وخنت المسلمين، بلغني أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس.»
وليس غريبا من علي أن يشجع أبا الأسود على أن ينبئه بحقائق ما يكون بحضرته، وأن يرضى منه ما فعل حين كتب إليه من أمر ابن عمه بما كتب، فقد كان علي في أمر المال والعمال متحرجا أشد التحرج، أمره في ذلك كأمر عمر، وكان أحرص الناس على ألا يخفى عليه شيء من أمر عماله، كما سترى في غير هذا الموضع.
وليس غريبا كذلك أن يكتب إلى ابن عباس بما كتب، فهو لم يتعود الرفق في أمر المال ولا الإدهان في أمر من أمور المسلمين، ولكن الغريب هو أن يتلقى ابن عباس هذا الكتاب فلا يزيد على أن يكتب إلى علي: «أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فلا تصدق علي الأظناء، رحمك الله، والسلام .»
كتاب لا يبرئ صاحبه ولا يرضي قارئه، وإنما يدل على غلو في الثقة بالنفس واستخفاف بغيره من الناس، وابن عباس بعد ذلك قد صحب عمر وعرف سيرته وتشدده في حساب العمال، وهو قد صحب ابن عمه وعرف أنه لا يرق في أمر المال ولا يلين، ومن أجل ذلك لم يقنع علي بهذا الكتاب الذي لا يغني عنه ولا عن صاحبه شيئا، فكتب إلى ابن عباس يتشدد في مطالبته برفع حسابه إليه مفصلا ما يريد من ذلك: أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه؛ فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام.
والغريب أن ابن عباس تلقى هذا الكتاب فلم يكد يقرؤه حتى خرج عن طوره، فلم يصنع صنيع العامل الذي يرفع إلى أمير المؤمنين حساب ما كلف حفظه وضبطه من أموال المسلمين، ولم يصنع صنيع ابن العم الذي يرعى لابن عمه حق القرابة وإخاء الصديق، ولم يصنع صنيع الراعي الذي يعرف للإمام حقه في أن يستقصي أمر ما اؤتمن عليه من أموال الأمة ومصالحها، فيعينه على ما يريد من ذلك، ويذكره به إن نسيه، ويعظه فيه إن قصر في ذاته. لم يصنع صنيع أحد من هؤلاء، وإنما جعل نفسه ندا لإمامه وكفئا لخليفته، ورأى أنه أكبر من أن يسأله إمامه عن شيء أو يحاسبه في شيء، فضلا عن أن يتهمه أو يتظنن فيه، وابن عباس كان أعلم الناس بأن سنة الشيخين قد جرت على أن يكون لكل مسلم الحق في أن يحاسب الإمام ويسأله عما يأتي وما يدع. وجرت كذلك على أن من حق الإمام، بل من الحق عليه أن يحاسب الولاة والعمال عن كل ما يأتون ويدعون، وأن يشتد في ذلك ليعصم عماله وولاته من التقصير، وليجعلهم بمأمن من أن يسوء بهم ظن الرعية ويفسد فيهم رأي الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يتقوا ظلمهم أو يأمنوا غوائلهم إذا خلي بينهم وبين السلطان يصرفونه كما يحبون.
وكان ابن عباس يعلم حق العلم أن سنة عمر جرت على أن يسمع من الرعية كل ما يعيبون على ولاتهم وعمالهم بمشهد من هؤلاء الولاة والعمال أو بغيب منهم، وكان يحقق كل ما يرفع إليه من ذلك تحريا للعدل وإبراء لذمته أمام الله والناس، وكان يعلم أن عمر كثيرا ما قاسم الولاة أموالهم بعد اعتزالهم عمله، وأنه كان يحصي عليهم أموالهم حين يوليهم ويحصيها عليهم بعد أن يعزلهم، وكانوا يقبلون منه ذلك في غير إنكار له أو ضيق به أو إكبار لأنفسهم عنه، وكان فيهم نفر من خيرة أصحاب النبي، ثم كان ابن عباس يعلم أن كثيرا من المسلمين - وعسى أن يكون منهم - قد أنكروا على عثمان إسرافه في الأموال العامة، وأنكروا على ولاته وعماله ما أظهروا من الأثرة وما تورطوا فيه من العبث بهذه الأموال العامة، وأن عثمان قتل في سبيل هذا كله، وأن ابن عمه إنما قام ليحي سنة النبي والشيخين، فهو لم يتجاوز حده ولم يعد قدره حين طلب إلى أحد عماله - وإن كان ابن عباس - أن يقدم إليه حساب ما عنده من الأموال العامة.
وكان ابن عباس بعد هذا كله أعرف الناس بابن عمه وأقدرهم على أن يخاطبه الخطاب الذي يبلغ من نفسه الرضى، دون أن يسوءه أو يحفظه أو يشق عليه، كان يستطيع أن يكتب إليه في رفق ليبين له أنه لم يأخذ من الجزية لنفسه شيئا، ولم يضع منها شيئا في غير حقه، وكان يستطيع أن يلم به في الكوفة ويظهره على الجلي من أمره، ولكنه أعرض عن هذا كله وأنف أن يسير معه علي سيرته مع غيره من العمال، فاعتزل عمله، ولكنه مع ذلك لم يستعف إمامه، ولم ينتظر أن يعفيه، وإنما أعفى نفسه وترك المصر، ثم لم يتركه ليعود إلى الكوفة أو ليقيم في العراق، أو في حيث يستطيع الإمام أن يأخذه بتقديم الحساب ويسأله عن عمله قبل أن يعتزله، وإنما ترك المصر ولحق بمكة حيث لا يبلغه سلطان الإمام، وحيث لا يقدر الإمام على أن يناله بالعقاب، إن تبين استحقاقه للعقاب، وإنما أقام بالحرم آمنا بأس إمامه علي وبأس خصمه معاوية.
ثم لم يكتف بهذا الخطأ كله وإنما صرح لابن عمه عما يؤذي نفسه ويترك في قلبه وضميره حزنا لاذعا وألما ممضا، فأعلن إليه أنه يؤثر أن يلقى الله وفي ذمته شيء من أموال المسلمين، على أن يلقى الله وفي ذمته تلك الدماء التي سفكت يوم الجمل، والتي سفكت في صفين، والتي سفكت في النهروان، ثم يضيف إلى ذلك ما هو أمض منه وأشد إيذاء، فيزعم لابن عمه أنه سفك ما سفك من دماء المسلمين في سبيل الملك؛ فهو إذن لم يكن يعتقد أن عليا إنما قاتل في سبيل الحق، وقاتل قوما كان يجب عليه أن يقاتلهم.
كتب هذا كله إلى ابن عمه ولم ينس إلا شيئا يسيرا جدا خطيرا جدا، وهو أنه شارك ابن عمه في سفك هذه الدماء، فشهد الجمل، وشهد صفين، وقاد جيوش ابن عمه في هاتين الموقعتين، فهو إذن لن يلقى الله بما قد يكون في ذمته من أموال المسلمين فحسب، ولكنه سيلقاه بما في ذمته من هذه الدماء التي شارك في سفكها، مع الفرق بينه وبين علي؛ لأن عليا سفكها وهو مؤمن بأنه يقاتل في سبيل الحق، وهو سفكها وهو يعتقد أنه يقاتل في سبيل الملك.
ولذلك قرأ علي كتاب ابن عمه، فلم يزد على أن قال هذه الجملة التي تصور الحزن اللاذع واليأس الممض من الصديق والعدو: «وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء!»
واقرأ كتاب ابن عباس إلى ابن عمه وإمامه لترى مقدار ما فيه من الغلظة والقسوة، وجحود ما مضى من إخائه لعلي قبل الخلافة ونصحه له بعد الخلافة: «أما بعد، فقد فهمت تعظيمك علي مرزئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد، ووالله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبطلاع ما على ظهرها أحب إلي من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة، فابعث إلى عملك من أحببت.»
وإلى هنا جرت الأمور على نحو من المغاضبة بين الخليفة وبين عامله، ثم بين رجل وابن عمه، على نحو من العنف كان خليقا أن يجتنب لو ذكر ابن عباس سيرة الشيخين وسيرة علي، ولو نسي ابن عباس نفسه قليلا، ولكنه لم ينس نفسه قليلا ولا كثيرا، ولم يضعها بحيث كان يجب عليه أن يضعها منذ قبل أن يكون واليا لعلي على مصر من أمصار المسلمين، وبعد أن بايع عليا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله والعدل بين الرعية.
وأبو الأسود الدؤلي أحد الرعية، فمن حقه أن يخاصم الوالي عند الإمام؛ ثم هو أمين الإمام على بيت مال البصرة، فمن الحق عليه أن يرفع إليه كل ما يريبه من تصرفات الوالي فيما اؤتمن عليه من المال، ولكن ابن عباس لم يكتف بما بلغ من هذه المغاضبة، ولا بما انتهى إليه من هذا التصرف الغريب، بل أضاف إليه شرا عظيما، لم يسؤ به الإمام وحده وإنما ساء به الرعية كلها وعامة أهل البصرة خاصة، فهو قد أجمع الخروج إلى مكة، ولكنه لم يخرج منها فارغ اليدين من المال كما دخلها حين ولي عليها، وإنما خرج منها وقد ملأ يديه بما كان في بيت المال مما ينقل، وهو يعلم أن ليس له في هذا المال حق إلا مثل ما لأهل البصرة جميعا فيه.
وقد علم أن أهل البصرة لن يخلوا بينه وبين هذا المال الذي يريد أن يستأثر به من دونهم، والذي يقدره المؤرخون بستة ملايين من الدراهم، فدعا إليه من كان في البصرة من أخواله بني هلال وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه، ففعلوا.
وخرج ابن عباس ومعه مال المسلمين يحميه أخواله من بني هلال، وثار أهل البصرة يريدون أن يستنقذوا منه ما أخذ، وكادت الفتنة تقع بين بني هلال الغاضبين لابن أختهم، الذين ذكروا عصبية العرب القديمة وأزمعوا أن ينصروا جارهم ظالما أو مظلوما، وبين سائر العرب من أهل مصر الذين غضبوا لمالهم وأبوا أن يغتصب وهم شهود، لولا أن تناهى حلماء الأزد وآثروا جيرانهم في الدار من بني هلال، وتبعتهم في ذلك حلماء ربيعة، وتبعهم الأحنف بن قيس ومن معه من بني تميم، ولكن سائر تميم أزمعوا أن يقاتلوا على هذا المال حتى يستردوه. وبدأت المناوشة بينهم وبين بني هلال، وكادت الدماء تسفك بين الفريقين، لولا أن رجع إليهم حلماء أهل البصرة، فما زالوا ببني تميم حتى ردوهم إلى المصر.
ومضى ابن عباس آمنا يحميه أخواله ويحمون ما أخذ من المال حتى بلغ مأمنه في ظل البيت الحرام، ولم يكد يستقر بمكة حتى أقبل على شيء من الترف، واشترى - فيما يروي المؤرخون - ثلاثة جوار مولدات حور بثلاثة آلاف دينار. وعرف علي ذلك، فكتب إليه:
أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فتنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلظت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهزيلة وظالعها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك - لا أبا لغيرك - إنما حزت لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟! أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟! فاتق الله، وأد أموال القوم، فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم وأنصف المظلوم، والسلام.
ولست أعرف كلاما أبلغ في تصوير الحزن اللاذع، والأسى الممض، والغضب لحق الله وأموال المسلمين في مرارة اليأس من الناس، والشك في وفائهم للصديق، وحفظهم للعهد، وأدائهم للأمانة، وقدرتهم على التزام الجادة ومعصية الهوى من هذا الكلام.
ولكن انظر كيف رد ابن عباس على هذا الكتاب المر بهذه الكلمات، التي إن صورت شيئا فإنما تصور الإمعان في الثقة بالنفس والاستخفاف برأي غيره فيه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك تعظم علي إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه، والسلام.»
ولست في حاجة إلى أن أطيل الوقوف عند هذا الكتاب الغريب الذي لا يثبت حقا ولا يبرئ من تبعة، وإنما أختم هذه المناقشة المؤلمة بين الرجلين برد علي على ابن عمه في هذا الكتاب الرائع: «أما بعد، فإن من أعجب العجب تزيين نفسك لك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، ولقد أفلحت إن كان ادعاؤك ما لا يكون وتمنيك الباطل ينجيك من الإثم، عمرك الله! إنك لأنت البعيد البعيد إذن، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا وصيرتها عطنا، واشتريت مولدات المدينة والطائف تتخيرهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك، والله ما أحب أن يكون الذي أخذت من أموالهم لي حلالا أدعه ميراثا، فكيف لا أتعجب اغتباطك بأكله حراما؟! فضح رويدا، مكانك قد بلغت المدى، حيث ينادي المغتر بالحسرة، ويتمنى المفرط التوبة، والظالم الرجعة، ولات حين مناص، والسلام.»
وبعض الرواة يزعمون أن عمر هم أن يولي ابن عباس بعض أعماله، ولكنه خاف منه وخاف عليه، خاف منه أن يتأول في أكل الفيء، وخاف عليه أن يورطه ذلك في الإثم.
ويزعم هؤلاء الرواة أن ابن عباس حين ولاه علي البصرة تأول فيما أباح لنفسه قول الله عز وجل:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
ومكان ابن عباس من النبي قريب، فله الحق في بعض هذا الخمس الذي قسمه الله للرسول وأولي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
ولكن ابن عباس عندي أصح رأيا وأعقل عقلا وأعلم بدينه من هذا التأول، فهو كان يعلم من غير شك أن حقه في هذا الخمس لن يعدو أن يكون كحق غيره من أولي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وكان يعلم أنه لا ينبغي له بل لا يحل له أن يأخذ حقه من هذا الخمس بنفسه، وإنما ينبغي أن يتلقاه من الإمام الذي نصب ليقسم بين المسلمين فيئهم، وينفق منه في مرافقهم، وهو الذي يقسم بين أولي القربى واليتامى والمساكين حقهم من هذا الخمس.
ولو أن غير ابن عباس من المسلمين عرف أن له حقا في بيت المال فأخذه بنفسه، دون أن يعدوه أو يزيد فيه، لكان بذلك معتديا على السلطان متجاوزا للحد، ولكان من الحق على الإمام أن ينزل به ما يستحق من العقاب.
وكان ابن عباس يعلم بعد هذا كله أن ابن عمه الخليفة هو بحكم قرابته وخلافته أجدر الناس أن يخلف رسول الله في توزيع هذا الخمس على مستحقيه.
والغريب أن كثيرا من المحدثين أهملوا هذه القصة ولم يشيروا إليها تحرجا من ذكرها، فمكان ابن عباس من النبي ومكانه من الفقه بالدين أعظم من أن يظن به مثل هذا التجاوز للحق والخلاف على الإمام.
على أن رواة آخرين يسرفون في هذه القصة نفسها بعض الإسراف، فيزعمون أن ابن عباس رد على الكتاب الأخير لعلي قائلا: «لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به.» وما أحسب أن الأمر قد بلغ بابن عباس هذا الحد من التأليب الصريح على ابن عمه، على أن لهذه القصة نتائجها القريبة المباشرة، التي كانت محنة لعلي في أصحابه وفي سلطانه أيضا.
الفصل الثاني والثلاثون
وقد ظهرت هذه النتائج كأظهر ما كان يمكن أن تكون بشاعة وشناعة ونكرا، لم تمتحن عليا في أسرته وأصحابه وسلطانه، وإنما امتحنت النظام السياسي الذي كان علي يظن أنه نهض لصيانته وحياطته، وهو نظام الخلافة. وامتحنت الإسلام نفسه في أخص ما كان يحرص عليه النبي والخلفاء، وهو محو العصبية التي ألفها العرب في عصرهم الجاهلي القديم، فقد رأى معاوية وانتثار أمر علي في العراق وتفرق أصحابه وعجزهم ووهنهم وامتناعهم عليه، فلم يكد يفرغ من أمر مصر حتى طمع في إقليم آخر ليس أقل من مصر خطرا، وهو إقليم البصرة وما يتبعها من بلاد الفرس، وقد ذكر معاوية أن العثمانية فاشية في البصرة، وأن أهلها قد ثاروا مع عائشة وصاحبيها للطلب بدم عثمان، وأنهم لم ينسوا وقعة الجمل بعد، وأن لهم أوتارا لم تشف كلومها بعد، ورأى أن ابن عباس قد ترك البصرة مغاضبا لابن عمه، فطمع في أن يستفز أهلها ويذكرهم أوتارهم ويثيرهم للطلب بها.
واستشار في ذلك عمرو بن العاص فصوب رأيه وحرضه على إمضائه، فاختار رجلا صليبا له رحم بعثمان، وهو عبد الله بن عامر الحضرمي، ابن خالة الخليفة المقتول، فأرسله إلى البصرة وأوصاه أن يأتي بني تميم ويتحبب إلى الأزد ويتجنب ربيعة؛ لأنها علوية الهوى. ولم يكد عبد الله بن عامر الحضرمي يصل إلى البصرة حتى استهوى بني تميم، إلا الأحنف بن قيس فإنه عاد إلى العزلة التي التزمها يوم الجمل مع جماعة من أصحابه.
وكان ابن عباس قد ترك البصرة لزياد، فهم زياد أن يستجير ربيعة، ولكنه رأى من بعض أشرافها ترددا واعتلالا، فاستجار الأزد، وأجاره هؤلاء على أن يترك دار الإمارة ويتحول إلى رحالهم وينقل معه منبره وبيت المال، ففعل، وأصبحت البصرة وقد انقسم أهلها طوائف، طائفة مالت إلى معاوية وقامت دون رسوله ابن الحضرمي، وطائفة اعتزلت الفتنة مع الأحنف بن قيس، وطائفة جعلت تنتظر الأحداث وتترقب الخطوب على شيء من الفرقة في صفوفها، وهي ربيعة، وطائفة أخرى لم تحفل بأمر علي ولا بأمر عثمان ومعاوية وإنما حفلت بأمر أحسابها، وقامت دون جارها تحميه بعد أن لجأ إلى دورها، وعسى أن تكون قد وجدت على ابن الحضرمي ؛ لأنه نزل في بني تميم واعتمد عليهم، ولم ينزل عندها، وهي الأزد.
وكذلك ظهرت العصبية واضحة بشعة، وجعل جند البصرة يرعون قبائلهم أكثر مما يرعون السلطان، ويحفلون بأحسابهم أكثر مما يحفلون بالإمام، ويغضبون لهذه الأحساب أكثر مما يغضبون للدين، ويتنافسون فيما بينهم أيهم يكون أحسن من صاحبه بلاء في حماية جاره.
وكتب زياد إلى علي ينبئه بما وقع، فلم يمل علي إلى الحرب، وإنما أرسل إلى تميم رجلا منهم، هو أعين بن ضبيعة، ليرد عليهم بعض أحلامهم، فلم يكد أعين يناظر قومه حتى اختلفوا عليه وتفرقوا عنه، ثم بيتوه ذات ليلة فقتلوه، وأراد زياد أن يثأر له، وأن يناوش القوم، ولكن الأزد امتنعت عليه لأنها لم تحالفه على أن تكون حربا على من حارب وسلما لمن سالم، وإنما حالفته على أن تحميه وتحمي بيت المال.
وقد كتب زياد إلى علي ينبئه بما صار إليه أمر أعين بن ضبيعة، فدعا إليه تميميا آخر، هو جارية بن قدامة، فأرسله إلى قومه، ولكنه لم يرسله وحده هذه المرة وإنما أرسل معه بعض الجند، وقد وصل جارية بن قدامة إلى البصرة، فقال لزياد وسمع منه، وناظر قومه من بني تميم، فاستجاب له بعضهم وامتنع عليه بعضهم الآخر، فنهض بمن جاء معه من الكوفة ومن انضم إليه من أهل البصرة لقتال ابن الحضرمي، وما زال به وبأصحابه حتى اضطرهم إلى الهزيمة، وألجأ ابن الحضرمي وسبعين من أصحابه إلى دار من دور البصرة. وبعض المؤرخين يقول: إلى حصن قديم من حصون البصرة، فأنذرهم جارية وأعذر إليهم، ولكنهم أبوا وتهيئوا للحصار، وهنالك أمر جارية بن قدامة بالحطب فجمع، وأحيطت به الدار وأضرمت فيه النار، فاحترقت الدار بمن فيها، لم ينج منهم أحد. وتغنت العصبية الأزدية بهذا الفوز بعد أن عاد زياد وبيت المال إلى دار الإمارة، وبعد أن عاد المنبر إلى مكانه من المسجد الجامع، فقال قائل الأزد عمرو بن العرندس العودي يفخر بأحساب قومه، كما كان الشعراء يفعلون في الجاهلية:
رددنا زيادا إلى داره
وجار تميم دخانا ذهب
لحى الله قوما شووا جارهم
وللشاء بالدرهمين الشصب
ينادى الخناق وخمانها
قد سمطوا رأسه باللهب
ونحن أناس لنا عادة
نحامي عن الجار أن يغتصب
حميناه إذ حل أبياتنا
ولا يمنع الجار إلا الحسب
ولم يعرفوا حرمة للجوار
إذا أعظم الجار قوم نجب
كفعلهم قبلنا بالزبير
عشية إذ بزه يستلب
فانظر إلى هذا الشاعر لم يذكر عليا ولا عثمان، ولا أشار إلى رأي أو دين، ولا حفل بطاعة للإمام أو استجابة للسلطان، وإنما ذكر زيادا الذي استجار قومه فأجاروه وأحسنوا جواره، وعير تميما ما كان من تركهم جارهم حتى أكلته النار وذهب دخانا، غدروا به وخفروا ذمته بعد أن بذلوا له الجوار والأمن، كما غدروا بالزبير من قبل فقتلوه وابتزوا سلبه.
وقال جرير بعد ذلك بزمن غير قصير يمدح الأزد ويهجو مجاشعا رهط الفرزدق:
غدرتم بالزبير فما وفيتم
وفاء الأزد إذ منعوا زيادا
فأصبح جارهم بنجاة عز
وجار مجاشع أمسى رمادا
فلو عاقدت حبل أبي سعيد
لذاد القوم ما حمل النجادا
وأدنى الخيل من رهج المنايا
وأغشاها الأسنة والصعادا
ولو قد أقام عبد الله بن عباس على عهد ابن عمه لهابه معاوية، ولما طمع في ملك ضيعه أصحابه وتركوه نهبا لمن شاء أن ينهبه، بل لو أقام ابن عباس على عهد ابن عمه لحال بين العصبية وبين هذا الظهور الفجائي البشع، ولجنب إمامه هذه المحنة القاسية التي تضاف إلى محن قاسية أخرى فلا تزيدها إلا نكرا.
وبعض المؤرخين يزعم أن هذه الأحداث حدثت حين كان ابن عباس قد ذهب إلى الكوفة مواسيا لعلي بعد مقتل محمد بن أبي بكر، واحتياز عمرو بن العاص لمصر.
وهذا كلام لا يستقيم، فلو قد كان ابن عباس عند علي لعاد إلى البصرة مسرعا حين بلغته هذه الأنباء، ولما أقام عند علي ينتظر أن يغني عنه زياد وأعين بن ضبيعة وجارية بن قدامة.
والواقع أن ابن عباس قد ضعف عن أمر ابن عمه بعد قضية الحكمين، فهو لم ينهض معه إلى الشام حين هم بالنهوض إليها، ولم يشهد معه النهروان، وإنما أرسل إليه جندا من أهل البصرة، ثم لم يزد على ذلك، وإنما أقام حتى كان من أمره ما كان.
الفصل الثالث والثلاثون
ومع أن معاوية لم ينجح فيما قصد إليه من أخذ البصرة كما أخذ مصر، أو إثارة الفتنة فيها والكيد لعلي، ولم يزد على أن أرسل ابن الحضرمي إلى الموت المنكر، فإنه على ذلك قد أفسد من أمر البصرة شيئا كثيرا، فليس قليلا أن يثير فيها الفتنة وقتا طويلا أو قصيرا، وأن يلجئ زيادا وبيت ماله إلى حي من أحياء العرب يجيرونه من سائر الناس، صنيع العرب في جاهليتهم، وأن يترك المصر مضطربا قد اختلط فيه الأمر وانتشرت فيه الضغائن والإحن وفسد بعض أهله على بعض.
ثم هو بعد ذلك قد انتفع بالتجربة وعرف أن الحرب الظاهرة المجاهرة لعلي في العراق لم يئن أوانها بعد، فاتخذ لنفسه خطة أخرى ليست أقل من الحرب الظاهرة شرا ولا أهون منها شأنا، ولعلها أن تكون أشد ترويعا للنفوس وإشاعة للذعر ونشرا للقلق، ولعلها أن تكون أبلغ في إشعار أهل العراق بالخوف المتصل والفزع المقيم، وإقناعهم بأن سلطان علي قد بلغ من الضعف والوهن وكلال الحد أنه أصبح لا يغني عنهم شيئا، ولا يدفع عنهم شرا، ولا يرد عنهم مكروها، وإنما هم معرضون لمعاوية يصيب من أموالهم ودمائهم ما شاء ومتى شاء وكيف شاء.
فهذه القطع الخفيفة اليسيرة من الجند يؤمر عليها رجل صليب مجرب لحرب الكر والفر، ثم تكلف الغارة على هذا المكان أو ذاك من حدود العراق، وربما كلفت أن توغل في الأرض وتشيع الفساد والنكر ما وجدت إلى ذلك سبيلا، ثم تعود أدراجها بما احتوت من غنيمة، وتترك وراءها فرقا وهلعا، فهي أشبه بالإبر النافذة المسمومة التي تخز هذا الجسم المستقر في العراق وخزا سريعا خاطفا، ثم تنصرف عنه وقد تركت فيه شيئا من سم يجري فيه مع الدم، فيملؤه خورا وضعفا وتفرقا ويأسا، ويضطره إلى ذل لا عز معه، وإلى ضعة ليس بعدها ارتفاع، فهو يرسل الضحاك بن قيس في قطعة من الجند إلى هذا الطرف من بادية العراق التي تلي الشام، ويرسل سفيان بن عوف إلى طرف آخر ويأمره أن يمعن في الأرض حتى يبلغ الأنبار، فيوقع بأهلها ثم يعود موفورا، ثم يرسل النعمان بن بشير إلى طرف ثالث، وابن مسعدة الفزاري إلى طرف رابع، وأنباء هذه الغارات تبلغ عليا فتحفظه وتثيره، ولكنه يدعو فلا يستجيب له أحد، ويأمر فلا يطيعه أحد.
وقد امتلأت قلوب أهل الكوفة خوفا وذلة وانكسارا، فتخاذلوا وتواكلوا وقنعوا بالعافية في مصرهم وفيما حولهم من هذا السواد القريب، لا يطمعون في أكثر من أن يعيشوا، حتى بلغ الغيظ من علي أقصاه فخطبهم ذات يوم خطبته الرائعة التي تصور ما انتهت به المحنة إليه من هم مقيم، وغيظ ممض، ويأس من أصحابه لا يبقي على شيء من أمل، قال:
أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل وسيم الخسف وديث بالصغار، وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم: اغزوهم من قبل أن يغزوكم فوالذي نفسي بيده، ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتخاذلتم وتواكلتم وثقل عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريا، حتى شنت عليكم الغارات، هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقتلوا حسان بن حسان ورجالا منهم كثيرا ونساء، والذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على المرأة المسلمة والمعاهدة فتنتزع أحجالهما ورعثهما، ثم انصرفوا موفورين لم يكلم أحد منهم كلما، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا ما كان عندي فيه ملوما، بل كان به عندي جديرا، يا عجبا كل العجب! عجب يميت القلب ويشغل الفهم ويكثر الأحزان من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم وفشلكم عن حقكم! حتى أصبحتم غرضا ترمون ولا ترمون، ويغار عليكم ولا تغيرون، ويعصى الله فيكم وترضون، إذا قلت لكم: اغزوهم في الشتاء، قلتم: هذا أوان قر وصر، وإن قلت لكم: اغزوهم في الصيف، قلتم : هذه حمارة القيظ، أنظرنا ينصرم الحر عنا. فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون ... فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربات الحجال، والله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان، ولقد ملأتم جوفي غيظا حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا رأي له في الحرب. لله درهم، ومن ذا يكون أعلم بها مني أو أشد لها مراسا؟! فوالله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، ولقد نيفت اليوم على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع، لا رأي لمن لا يطاع.
وكانت هذه الخطبة وأشباهها تثير الحفائظ في بعض النفوس التي كانت ما تزال تعرف للأحساب بعض أقدارها، فتنتدب منهم عصب يؤمر عليها علي بعض الرؤساء ويرسلها في آثار أولئك المغيرين، فتدركهم أحيانا ويفوتونها أحيانا أخرى، والشيء المحقق هو أن معاوية قد طمع في علي وأهل العراق، فاتخذ خطة الهجوم الخاطف المتصل، وألزم خصمه خطة الدفاع البطيء الذي لا يدفع شرا ولا يصلح فسادا.
الفصل الرابع والثلاثون
وقد رضي معاوية عن هذه التجارب، فأراد أن يمعن فيها، وأن يتجاوز بغاراته العراق إلى بلاد العرب، وكانت بلاد العرب موطأة لمعاوية، فمكة حرام لا يقاتل أهلها ولا يحب أحد من الخصمين أن يقاتل حولها، وأهل المدينة وادعون يرون أن مكانهم من دار الهجرة ونزولهم حول مسجد النبي وانتقال السلطان عنهم إلى الكوفة قد أمنهم أن يغير عليهم أحد، ومقاتلتهم بعد ذلك قد لحق أكثرهم بعلي ولحق أقلهم بمعاوية.
وفي اليمن شيعة لعثمان يناوئون عامل علي عليها، وهو عبيد الله بن عباس، ولكنهم لا يبلغون بمناوأته الحرب، وإنما يضطرونه إلى أن يصطنع فيهم الشدة فيلقونه بالنكير.
وقد عظم أمر هذه الشيعة حتى كتب العامل فيهم إلى علي، وأرسل علي من يحاول إصلاحهم، ويرهبهم بمقدم الجند، فكتبوا إلى معاوية يستنصرونه ويستحثونه، واختار معاوية رجلا جلدا صليبا قاسي القلب غليظ الكبد جافي الطبع من قريش، هو بسر بن أرطاة، فأمره أن يختار الجند على عينه، ففعل، ثم وجهه إلى بلاد العرب وأوصاه أن يقسو على أهل البادية من شيعة علي حتى يملأ قلوبهم ذعرا، وأن يأتي المدينة فيرهب أهلها حتى يروا أنه الموت، ثم يأتي مكة فيرفق بأهلها ولا يروعهم، ثم يأتي اليمن فيخرج عنها عامل علي وينصر فيها شيعة عثمان.
ومضى بسر بن أرطاة فأنفذ أمر معاوية وأضاف إليه من عند نفسه قسوة وغلظة وإسرافا في الاستخفاف بالدماء والأموال والحقوق والحرمات، فكان كثير الفتك في البادية، وجاء المدينة فروع أهلها حتى أراهم الكارثة رأي العين، ثم أمرهم بالبيعة لمعاوية ففعلوا، وأتى مكة فلم يرع فيها أحدا، وهم أن يروع أهل الطائف ويوقع بهم، ولكن المغيرة بن شعبة نصح له وأشار عليه، فكف عنهم ومضى إلى اليمن، ففر عنها عامل علي وأعوانه، ونشر فيها الروع بالإسراف في القتل، ثم أخذ البيعة لمعاوية، وبلغ خبره عليا فأرسل جارية بن قدامة لرده عن اليمن في ألفي رجل، ولم يكد جارية يدنو من اليمن حتى فر منها بسر بن أرطاة ورجع إلى الشام مفسدا في الأرض أثناء رجوعه، مسرفا في القتل والنهب حتى ذبح ابني عبيد الله بن عباس، وكانا صبيين، وانتهى جارية بن قدامة إلى اليمن، فأضاف قتلا إلى قتل بمن أهلك من شيعة عثمان، ورد اليمن إلى طاعة علي، وعاد إلى مكة فعرف فيها أن عليا قد قتل، فمضى راجعا إلى الكوفة بعد أن أخذ بيعة المكيين والمدنيين للخليفة الجديد في العراق.
وقد رجع بسر بن أرطاة إلى معاوية موفورا، ولكنه أسرف في سفك الدماء على الناس كما أسرف على نفسه أيضا، فما رأى إلا أن نفسه قد تأثرت بكثرة ما سفك من هذه الدماء، وما اقترف من إثم ونكر، فانطبع هذا كله في أعماق ضميره، ولعل صورا منه كانت تبدو له بشعة مروعة إذا اشتمل عليه النوم، وهو على ذلك قد جن حين تقدمت به السن، فجعل يهذي بالسيف فيما يقول المؤرخون، لا يطمئن إلا إذا أعمله فأكثر إعماله، حتى اتخذوا له سيفا من خشب كانوا يضعونه في يده ويقربون إليه الوسائد، فما يزال يعمل سيفه ضربا لها حتى يدركه الإعياء فيغشى عليه، فإذا أفاق عاد إلى مثل ما كان فيه، وما زال هذا دأبه حتى قضى.
ولم يقنع معاوية بهذه الغارات التي أشرنا إليها آنفا، وإنما مضى في الغارات يصبها على أطراف علي، ومضى عمال الأطراف يقاومون هذه الغارات، يفلحون في مقاومتها حينا ويخفقون فيها حينا آخر، حتى شغل بها أهل العراق، فأرق ليلهم وأقلق نهارهم وزادهم إيثارا للعافية ورغبة في السلم وفزعا من الموت.
الفصل الخامس والثلاثون
ثم لم تكن هذه الغارات وحدها هي التي أقلقت عليا وأقضت مضاجع أهل العراق، وإنما كانت هناك حروب داخلية يسيرة، ولكنها على ذلك مزعجة، وكان الخوارج بالطبع هم الذين يثيرون هذه الحروب، فقد قتلهم علي في النهروان، ولكنه لم يأت عليهم جميعا ولم يستأصل مذهبهم، ومتى استطاعت القوة القوية، والبأس البئيس والإرهاب الرهيب قضاء على رأي أو استئصالا لمذهب، وعسى أن يكون هذا كله مقويا للرأي ومعينا على نشره وداعيا ملحا إلى نصره.
وقد ترك علي في نفوس من بقي من الخوارج وفي نفوس أحيائهم وذوي عصبتهم أوتارا لم يكن بد من الطلب بها، وقد طلبوا بها جادين في ذلك غير وانين ولا مقصرين، فخرجوا أرسالا، يخرج الرجل ومعه المائة أو المائتان فيمضون أمامهم حتى ينتهوا إلى مكان يؤثرونه، فيقيمون فيه وقتا يقصر أو يطول، يهيئون أنفسهم أثناء ذلك للقتال، فإذا تم لهم من ذلك ما يريدون نصبوا للحرب، وأخافوا الناس من حولهم، وعرضوا الأمن العام للخطر الشديد، فيضطر علي إلى أن يرسل إليهم رجلا من أصحابه ويجرد معه طائفة من الجند، فيمضي هذا الرجل حتى يلقى القوم فيقاتلهم أشد القتال، حتى إذا قتلهم أو فض جمعهم عاد إلى علي، ولم يكن يعود حتى يخرج رجل آخر، ومعه قوم آخرون من الخوارج، وتتجدد القصة ثم لا تنقضي إلا لتتجدد.
وكذلك خرج أشرس بن عوف الشيباني، فلما قتل وقتل معه أصحابه خرج هلال بن علفة التيمي، من تيم الرباب، فلم يكد علي يفرغ من أمره حتى خرج الأشهب بن بشر البجلي، فلما قتل خرج سعيد بن قفل التيمي، من تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، فلم يكد يعود الذين حاربوه وقاتلوه من أصحاب علي حتى خرج أبو مريم السعدي، من سعد مناة بن تميم، وقد امتاز هذا الرجل بأنه لم يخرج في أصحابه من العرب وحدهم وإنما تبعه كثير من الموالي.
ومعنى ذلك أن مذهب الخوارج قد تجاوز العرب إلى غيرهم من المغلوبين الذين كانوا إلى الآن يستظلون بظل الفاتحين، يسلم منهم من يسلم فيظل جديدا في إسلامه يؤدي ما يجب عليه من حق، لا يكاد يتجاوز ذلك إلى ما يكون بين العرب من خلاف.
ولكنا نراهم الآن قد أخذوا ينكرون التحكيم ويخرجون على الإمام، وجعل العرب من الخوارج لا يكرهون الاستعانة بهم على حرب نظرائهم، أصبحت العصبية العربية عندهم أقل خطرا وأهون شأنا من الرأي والمذهب، وقد عير أصحاب علي أبا مريم - حين لقوه في كثرته من الموالي - قتاله للعرب مع هذه الطبقة غير ذات الشأن من الناس، فلم يحفل بما قالوا له، وإنما شد عليهم مع هؤلاء الناس غير أولي الشأن شدة منكرة كشفتهم عن أماكنهم، واضطرتهم إلى أن يرجعوا منهزمين إلى الكوفة، إلا قائدهم، فإنه أقام في نفر يسير ينتظر المدد.
وقد خرج علي نفسه لقتال أبي مريم الذي كان قد دنا من الكوفة، فلما قتله وقتل أصحابه رجع محزون النفس مكلوم القلب تساوره الهموم، وما باله لا يجد هذا كله وهو يقضي حياته بين أمرين ليس أحدهما أقل نكرا من الآخر: حرب داخلية قد أصبحت نظاما مستقرا فهو لا يفرغ منها إلا ليعود إليها، وغارات تصب على أطرافه من أهل الشام قد أصبحت هي الأخرى نظاما مستقرا؟! فهو لا يسد ثغرة إلا فتحت له ثغرة أخرى، وأصحابه على رغم ذلك ممعنون في العجز مغرقون فيما أحبوا من العافية، قد فل حدهم، وكسرت شوكتهم، وطمع فيهم العدو البعيد منهم، وأغرى بهم العدو المقيم بين أظهرهم، كأن حلفا خفية قد انعقدت بين الخوارج وبين أهل الشام على غير علم من أولئك ولا من هؤلاء، وقوام هذه الحلف أن يجرعوا عليا الغصص ويرهقوه من أمره عسرا.
وقد أقام معاوية في الشام يرى ويسمع من أمر خصمه ما يزيده فيه طمعا، وها هو ذا قد طمع أن يرسل من قبله من يقيم للناس الحج في الموسم، وما له لا يفعل وقد بايعه أهل الشام بالخلافة، ودانت له مصر واستقام له كثير من أهل البادية، وضعف خصمه عن النهوض لحربه، بل ضعف حتى عن الدفاع عن سلطانه في داخل حدوده نفسها؟!
وكذلك أرسل معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي أميرا على الموسم يقيم للناس حجهم، وكان يزيد عثمانيا مخلص الحب لمعاوية، ولكنه كان يكره القتال في المكان الحرام والشهر الحرام، فلما استيقن أن معاوية لا يرسله للحرب وإنما يرسله لأمر ظاهره الدين ومن ورائه السياسة مضى لمهمته، ولم يكد يدنو من مكة حتى خافه قثم بن العباس، عامل علي عليها، فاعتزل أمره، ودخل يزيد مكة فأمن الناس ووسط أبا سعيد الخدري في أن يختار الناس لهم رجلا غير عامل علي، يقيم لهم الصلاة ليصلي المسلمون جميعا غير مفترقين، فاختار الناس عثمان بن أبي طلحة العبدري، فأقام للناس صلاتهم، وانقضى الموسم في عافية، وعرف علي مسير يزيد بن شجرة إلى مكة، فندب الناس لرده عنها، فتثاقلوا، وانتهى علي آخر الأمر إلى أن أرسل معقل بن قيس في جند من أصحابه، فلم يبلغوا غايتهم، فقد كان يزيد أتم الحج وعاد إلى الشام، وإنما أدرك معقل وأصحابه مؤخرة أصحاب يزيد، فأسروا منهم نفرا وعادوا بهم إلى الكوفة.
الفصل السادس والثلاثون
وقد انتهت كل هذه الأمور بعلي إلى عزيمة أتمها الله له، فيها كثير من اليأس وفيها كثير من المغامرة، ولكنها كادت أن تبلغه مأربه لولا أن الناس يدبرون وأمر الله غالب، والكلمة الأخيرة للقضاء المحتوم لا لما يدبرون، فقد خطب علي أصحابه داعيا لهم أن يتجهزوا لقتال أهل الشام محرضا لهم على ذلك أشد التحريض، كما تعود أن يفعل، فسمعوا منه وانصرفوا عنه ولم يصنعوا شيئا، كما تعودوا أن يفعلوا.
فلما استيأس منهم دعا إليه رؤساءهم وقادتهم وأولي الرأي فيهم، وتحدث إليهم حديثا صريحا لا لبس فيه، وجعل تبعاتهم أمامهم يرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم، إن أمكن أن ترى التبعات بالعيون وتلمس بالأيدي. بين لهم أنهم أرادوه على الخلافة دون أن يطلبها إليهم، وعرضوا عليه بيعتهم دون أن يعرض عليهم نفسه، ثم هم الآن يظهرون طاعة ويضمرون نكثا، وقد طاولهم حتى سئم المطاولة، وانتظر نشاطهم لما يدعوهم إليه حتى مل الانتظار. وعظهم في غير طائل، وحرضهم في غير غناء، وقد أزمع أن يمضي لحرب خصمه في الشام مع من تبعه من أهله ومن قومه، فإن لم يتبعه منهم أحد مضى وحيدا فقاتل حتى يبلي في سبيل الله ويلقى الموت في ذات الحق.
ولست أرى بدا من أن أثبت هنا نص حديثه إليهم كما رواه البلاذري، ففيه الحجة البالغة على هؤلاء الذين أفسدوا عليه رأيه بالعصيان حتى ظنت قريش به الظنون، وقالت فيه الأقاويل، وحتى عصي الله وهم ينظرون لا يغضبون لحق ولا دين. قال: «أما بعد، أيها الناس، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردكم عنها، ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها، فتوثب علي متوثبون كفى الله مئونتهم، وصرعهم لخدودهم، وأتعس جدودهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وبقيت طائفة تحدث في الإسلام حدثا، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق، ليست بأهل لما ادعت، وهم إذا قيل لهم تقدموا قدما تقدموا، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل، ولا يبطلون الباطل كإبطالهم الحق، أما إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم، فبينوا لي ما أنتم فاعلون، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحب، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أر رأيي، فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين؛ لأدعون الله عليكم ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة، أأجلاف أهل الشام وأغراؤها أصبر على نصرة الضلال وأشد اجتماعا على الباطل منكم على هداكم وحقكم؟! ما بالكم وما دواؤكم؟! إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة.»
وكأن الرؤساء والقادة قد استحوا من علي، واستخزوا في أنفسهم، وأشفقوا أن ينفذ ما صمم عليه فيمضي وحده أو في قلة من الناس لقتال أهل الشام، فيلحقهم بذلك عار أي عار، وتصيبهم المحنة في دينهم وفي نفوسهم وفي أمورهم كلها، فقام خطباؤهم إلى علي فأحسنوا له القول وأخلصوا له النصح، ثم تفرقوا عنه فتلاوموا، ومضوا لإنجاز ما وعدوا به عليا.
فجمع كل رئيس قومه فوعظهم وحرضهم، حتى اجتمع لعلي جيش صالح قد تعاقد الجند فيه على الموت، ثم أرسل علي معقل بن قيس يعبئ له أهل السواد ليضمهم إلى من اجتمع له في الكوفة، وأخذ يرسل إلى عماله فيما وراء العراق من شرق الدولة يدعوهم إلى النهوض إليه ليكونوا معه في حربه، وأرسل زياد بن خصفة في جماعة من أصحابه طليعة بين يديه، وأمره أن يغير على أطراف الشام ليروع أهلها.
وإن عليا لفي هذا الاستعداد وقد تراءت له غايته، إذا القضاء يقول كلمته، فينقض عليه وعلى أهل العراق كل تدبير.
الفصل السابع والثلاثون
ولم تستغرق أمور الحرب على كثرتها واختلاطها وقت علي كله ولا جهده كله أثناء إقامته في الكوفة، وإنما كان يقسم وقته بين شئون الحرب وشئون السياسة وشئون الدين، لا يصرفه عما يجب عليه في ذلك كله صارف، مهما يكن، ولا يشغله عنه هم مهما يثقل، وقد رأيت من نشاطه في الحرب ما رأيت، فأما نشاطه في أمور الدين فلم يكن قليلا ولا فاترا، وإنما كان يرى من الحق عليه - شأنه في ذلك شأن غيره من الخلفاء الذين سبقوه - أن يقيم للناس صلاتهم وأن يعظهم ويفقههم في دينهم ويبصرهم بما يحب الله من المسلمين وما يحب لهم، وبما يكره الله من المسلمين وما يكره لهم، وكان يعظهم جالسا على المنبر أو قائما، وكان يجلس لهم في المسجد فيسألهم عن أمورهم ويجيب من سأله منهم عما يهمه من أمر دينه أو أمر دنياه، ثم لم يكن يعظهم ويعلمهم بما كان يقول لهم حين يخطبهم أو يحاورهم فحسب، وإنما كان يعلمهم ويعظهم بسيرته فيهم، كان لهم إماما، وكان لهم معلما، وكان لهم قدوة وأسوة، وكان يسير فيهم سيرة عمر فيمن حضره من أهل المدينة، لا يلقاهم إلا وفي يده درته يخيفهم بها، كما كان عمر يخيف بدرته الناس عظيمهم وصغيرهم، وكان يخالطهم حين كانوا يضطربون في حياتهم، فكان يمشي في الأسواق ويأمر الناس بتقوى الله ويذكرهم الحساب والمعاد، ويرقبهم حين كانوا يبيعون ويشترون، وكان يمشي في الأسواق وهو يقول بأرفع صوته: اتقوا الله وأوفوا الكيل والميزان ولا تنفخوا في اللحم. وكان يؤدب بالزجر والدرة من رأى منه انحرافا عما ينبغي له في بيع أو شراء أو حديث، وكأنه رأى أن درة عمر لا ترهب هذا الخلف الذي خلف من الناس، تطوروا وغلظت أخلاقهم وانحرفت طباعهم عما ألف المسلمون أيام عمر، فاتخذ الخيزرانة، رآها أوجع من الدرة، ثم استبان له أن الخيزرانة لا ترهبهم، فكان يقول لأشرافهم ولعامتهم: إني لأعرف ما يصلحكم، ولكن لا أصلحكم بفساد نفسي.
رأى أنهم في حاجة إلى أن يؤخذوا بأكثر من الدرة والخيزرانة والزجر، وكره أن يضربهم بالسياط، أشفق أن يدفع من القسوة والتجبر إلى ما لا يلائم خلقه ودينه، وما لا ينبغي للخليفة الراشد من الرفق والوداعة والحلم والإسماح، وخرج يوما من داره فرأى جماعات ضخمة من العامة قد ازدحمت على بابه فجعل يفرقهم عن نفسه بالدرة حتى خلص منهم إلى بعض أصحابه، فسلم عليه ثم قال: إن هؤلاء ليس فيهم خير، لقد كنت أظن أن الأمراء يظلمون الناس فقد علمت أن الناس يظلمون الأمراء.
ثم لم يكن يكتفي بهذا كله، وإنما كان يحتاط لنفسه من مغريات الإمرة، وكان إذا أراد أن يشتري شيئا بنفسه تحرى بين السوقة رجلا لا يعرفه، فاشترى منه ما يريد، يكره أن يحابيه البائع إن عرف أنه أمير المؤمنين.
ثم كان لا يرضى عن نفسه إلا إذا أدى للناس حقهم عليه في دينه، فأقام لهم صلاتهم، وعلمهم بالقول والعمل، وقام على إطعام فقرائهم طعام العشاء، وتحرى ذوي الحاجة منهم فأغناهم عن المسألة، وإنما كان يخلو إلى نفسه إذا كان الليل فينصرف عن الناس إلى عبادته الخاصة مصليا متهجدا حتى يتقدم الليل، فإذا أخذ بحظه من النوم غلس بالخروج إلى المسجد، فجعل يقول - كأنه يريد أن يوقظ من أوى إلى المسجد من الناس فنام فيه: «الصلاة الصلاة يا عباد الله.»
وكذلك لم يكن ينسى الله لحظة من ليل أو من نهار، وإنما كان يذكره إذا خلا لنفسه أو دبر أمور الناس على اختلافها، وكثيرا ما كان يحرض الناس على أن يسألوه في أمور دينهم.
وقد رأيت طرفا من سيرته في أموال المسلمين، وعرفت أنه لم يكن ينفك يقسم فيهم كل ما يصل إليه من الولايات أو من السواد، قل أو كثر، عظم أو حقر، وكان يعتذر إليهم إن قسم فيهم شيئا قليلا، فيقول: إن الشيء ليرد علينا فنراه كثيرا فإذا قسمناه رأيناه يسيرا.
وكان شديد الحرص على أن يحقق المساواة بين الناس في قوله وعمله وفي وجهه، وفي قسمته لما كان يقسم فيهم من المال، بل كان يحرص على هذه المساواة حين يعطي الناس إذا سألوه. جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه وتبينان فقرهما، فعرف لهما حقهما وأمر من اشترى لهما ثيابا وطعاما وأعطاهما مالا، ولكن إحداهما سألته أن يفضلها على صاحبتها؛ لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئا من تراب فنظر فيه، ثم قال: ما أعلم أن الله فضل أحدا من الناس على أحد إلا بالطاعة والتقوى.
كذلك كانت سيرة علي، وكذلك كانت سيرة النبي والشيخين، ولكن عليا خالف عن سيرة عمر كما رأيت في شيء واحد، وهو أمر المال.
خالف عن سيرة عمر، ولكنه وفى لرأيه الذي أشار به على عمر، فقد أشار عليه حين كثر المال أن يقسم كل ما يرد عليه بين الناس حتى لا يترك في بيت المال شيئا، كان يؤثر ذلك لتبرأ ذمة الخليفة من أي حق قد يتعلق بالمال الذي يدخر أو يستبقى، ولكن النوائب تنوب والخطوب تلم، وما ينبغي لبيت المال أن يفاجأ بالأحداث حين تحدث، فكان عمر أحزم في سياسته وأنظر للمصلحة العامة، وكان علي أشد احتياطا لنفسه إن أمكن أن يحتاط إمام لنفسه أكثر مما احتاط لها عمر.
الفصل الثامن والثلاثون
أما سيرة علي في عمال الأقاليم وولاتها فلم تنحرف عن سيرة عمر قليلا ولا كثيرا، وإنما هي سنة سنها النبي والشيخان، وأحياها علي بعد أن أدركها شيء من الضعف والإهمال في الأعوام الأخيرة لخلافة عثمان.
كان علي شديد المراقبة لعماله، يشدد عليهم في الحساب، وفي استيفاء ما يلزمهم من حقوق الناس، ويشدد عليهم في سيرتهم العامة والخاصة فيعطي كل واحد منهم عهدا يقرؤه على الناس حين يتولى أمرهم، فإذا أقروه بعد قراءته عليهم فهو عقد بينهم وبين حاكمهم، لا يجوز لهم ولا له أن ينحرفوا عنه أو يتأولوه، فإن انحرفوا عنه وجبت عليهم العقوبة وأنفذ الحاكم في المخالفين هذه العقوبة، وإن انحرف الحاكم عنه وجبت عليه العقوبة وأنفذها فيه الإمام نفسه.
ثم كان علي يرسل الأرصاد والرقباء ليظهروا على سيرة العمال ويرفعوا منها إليه ما يجب أن يرفعوه، يستخفي بعض هؤلاء الأرصاد والرقباء بمهمتهم، ويظهر بها بعضهم، وكان كل رجل من أهل الأقاليم رصدا ورقيبا على حاكمه، يستطيع أن يشكوه إلى الإمام كلما انحرف عن العهد الذي أخذ عليه.
وربما توسط علي لأهل إقليم من الأقاليم عند أميرهم في بعض ما يرون لأنفسهم من مصلحة تنفعهم أو تسوق إليهم خيرا.
جاءه أهل ولاية من الولايات فزعموا له أن في بلادهم نهرا قد عفا ودرس، وأن في حفره وإعادته لهم وللمسلمين خيرا، وطلبوا إليه أن يكتب إلى الوالي في أن يسخرهم في احتفار هذا النهر، فقبل منهم احتفار النهر وكره منهم ما طلبوا من التسخير، وكتب إلى عامله قرظة بن كعب:
أما بعد، فإن قوما من أهل عملك أتوني فذكروا أن لهم نهرا قد عفا ودرس، وأنهم إن حفروه واستخرجوه عمرت بلادهم، وقووا على كل خراجهم، وزاد فيء المسلمين قبلهم، وسألوني الكتاب إليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه، ولست أرى أن أجبر أحدا على عمل يكرهه، فادعهم إليك فإن كان الأمر في النهر على ما وصفوا، فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل، والنهر لمن عمل دون من كرهه، ولأن يعمروا ويقووا أحب إلي من أن يضعفوا، والسلام.
وشكا إليه أهل ولاية أخرى أن عاملهم يزدريهم ويقسو عليهم، فنظر في أمرهم فاستبان له أنهم ليسوا أهلا للازدراء، فكتب في أمرهم إلى عامله عمرو بن سلمة الأرحبي:
أما بعد، فإن دهاقين بلادك شكوا منك قسوة وغلظة واحتقارا، فنظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولم أر أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، في غير ما أن يظلموا، ولا تنقض لهم عهدا، ولكن تفرغ لخراجهم وتقاتل من وراءهم، ولا يؤخذ منهم فوق طاقتهم، فبذلك أمرتك والله المستعان، والسلام.
وكان أمراؤه يهابونه وربما حاولوا أن يخفوا عليه اليسير من أمرهم فرارا من ملامته، فإذا عرف ذلك من أمرهم تجاوز لومتهم إلى الاتهام والتقريع والنذير.
وقد روي أنه أرسل إلى زياد حين كان خليفة لابن عباس على البصرة، قبل اعتزاله أو بعد اعتزاله العمل، من يحمل إليه ما عنده من المال.
فقال زياد للرسول فيما قال: إن الأكراد قد كسروا شيئا من الخراج، وإنه يداريهم، وطلب إليه ألا ينبئ بذلك أمير المؤمنين؛ فيتهمه بالاعتلال عليه في بعض الحق، وكان الرسول أمينا لمرسله، فأنبأه بكل ما قاله زياد، فكتب علي إلى زياد:
قد بلغني رسولي عنك ما أخبرته به عن الأكراد واستكتامك إياه ذلك، وقد علمت أنك لم تلق ذلك إليه إلا ليبلغني إياه، وإني أقسم بالله عز وجل قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا، صغيرا أو كبيرا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوقر ثقيل الظهر، والسلام.
وأقل ما يدل عليه هذا الكتاب هو أن عليا لم يكن من السذاجة بحيث يظن بعض خصمه، ولم يكن سهل التغفل كما يظن به بعض المسرفين عليه وعلى أنفسهم، وإنما كان من بعد الغور ونفاذ البصيرة والوصول إلى أعماق النفوس بحيث كان غيره من مهرة العرب ودهاتهم، ولكنه كان يؤثر الصراحة والصدق ومواجهة الحقائق على نحو مستقيم من التفكير، وكان يرفع نفسه عن المكر والكيد والدهاء؛ نصحا لدينه واستمساكا بأخلاق الرجل الكريم.
فهو قد فهم أن زيادا إنما أراد أن يعتذر عن قلة ما حمل إليه من المال، وأن يلطف للرسول في ذلك فينبئه بأمر الأكراد ويوصيه بإخفاء ذلك على الخليفة مخافة أن يتهم عنده، وقدر أن الرسول سيتعلق عليه بهذه التعلة وينبئ بها أمير المؤمنين، وقد رأيت شدة علي على زياد في النذير والتحذير، وأكبر الظن أنه لم يقف عند النذير والتحذير، وإنما كلف من يتلطف حتى يحقق من أمر الأكراد ما زعم زياد.
وبلغته هنات عن المنذر بن الجارود - عامله على إصطخر - فكتب إليه هذا الكتاب الذي يعزله به عن ولايته ويستقدمه إلى الكوفة:
إن صلاح أبيك غرني فيك، وظننت أنك متبع هديه وفعله، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك، لا تدع الانقياد لهواك وإن أزرى ذلك بدينك، ولا تسمع إلى الناصح وإن أخلص النصح لك، بلغني أنك تدع عملك كثيرا وتخرج لاهيا متنزها متصيدا، وأنك قد بسطت يدك في مال الله لمن أتاك من أعراب قومك، كأنه تراث عن أبيك وأمك، وإني أقسم بالله لئن كان ذلك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، وإن اللعب واللهو لا يرضاهما الله، وخيانة المسلمين وتضييع أموالهم مما يسخط ربك، ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يسد به الثغر ويجبى به الفيء ويؤتمن على مال المسلمين، وأقبل حين يصل كتابي هذا إليك.
فلما قدم حقق علي أمره مع من اتهمه من الناس، فظهر أن عليه من مال المسلمين ثلاثين ألفا، فطالبه بها، وجحدها المنذر، فطالبه علي باليمين، فنكل، وألقاه علي في السجن حتى شفع فيه وضمنه صعصعة بن صوحان، وكان من أتقى أهل الكوفة ومن آثر الناس عند علي، فأطلقه.
وأرسل علي بعض مواليه إلى زياد يستحثه على حمل ما عنده من المال، وكأن هذا المولى أثقل على زياد في الإلحاح، فنهره زياد، فرجع إلى الخليفة منكرا لأمر زياد وقال فيه فأكثر القول، فكتب علي إلى زياد واعظا مؤدبا:
إن سعدا ذكر لي أنك شتمته ظالما وجبهته تجبرا وتكبرا، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : الكبرياء والعظمة لله. فمن تكبر سخط الله عليه، وأخبرني أنك مستكثر من الألوان في الطعام، وأنك تدهن في كل يوم، فماذا عليك لو صمت لله أياما وتصدقت ببعض ما عندك محتسبا، وأكلت طعامك في مرة مرارا أو أطعمته فقيرا؟! أتطمع وأنت متقلب في النعيم، تستأثر به على الجار المسكين والضعيف الفقير والأرملة واليتيم، أن يجب لك أجر الصالحين المتصدقين؟! وأخبرني أنك تتكلم كلام الأبرار وتعمل عمل الخاطئين، وإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت وعملك أحبطت، فتب إلى ربك وأصلح عملك واقتصد في أمرك، وقدم الفضل ليوم حاجتك إذا كنت من المؤمنين، وادهن غبا ولا تدهن رفها، فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: ادهنوا غبا ولا تدهنوا رفها. والسلام.
وقد كره زياد هذه الوشاية به إلى الخليفة وحرص على أن يبرئ نفسه مما رمي به، فكتب إلى علي:
إن سعدا قدم علي فعجل، فانتهرته وزجرته، وكان أهلا لأكثر من ذلك، فأما ما ذكر من الإسراف في الأموال والتنعم واتخاذ الطعام، فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصادقين، وإن كان كاذبا فلا أمنه الله عقوبة الكاذبين، وأما قوله إني أتكلم بكلام الأبرار وأخالف ذلك بالفعل، فإني إذن من الأخسرين عملا، فخذه بمقام واحد قلت فيه عدلا ثم خالفت إلى غيره، فإذا أتاك عليه بشهيد عدل وإلا تبين لك كذبه وظلمه.
ومعنى ذلك أن زيادا يرى نفسه قد قذف ظلما ويطلب إلى علي إنصافه من قاذفه وأخذه بإقامة البينة على ما ادعى.
وكتب إلى أشعث بن قيس يعزله عن أذربيجان، وكان قد وليها أيام عثمان، وبعض الرواة يقول: إن عثمان كان قد ترك له خراجها:
إنما غرك من نفسك إملاء الله لك، فما زلت تأكل رزقه وتستمتع بنعمه وتذهب طيباتك في أيام حياتك، فأقبل واحمل ما قبلك من الفيء ولا تجعل على نفسك سبيلا.
وواضح أن هذا الكتاب لم يقع من نفس الأشعث موقعا حسنا، وإن من اليسير بعد ذلك أن نفهم مواقف الأشعث من علي فيما عرض من الخطوب.
ولم يكن علي مؤنبا لعماله، ولا سيئ الظن بهم دائما، وإنما كان يثني على المحسن منهم فيبلغ في الثناء، يعرف لهم بذلك حقهم ويشجعهم على ما أظهروا من الإخلاص لإمامهم، وحسن البلاء في النصح للمسلمين.
وانظر ما كتبه إلى عمر بن أبي سلمة عامله على البحرين حين عزله عن عمله ليصحبه في شخوصه إلى الشام:
إني قد وليت النعمان بن عجلان البحرين من غير ذم لك ولا تهمة فيما تحت يدك، ولعمري لقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل إلي غير ظنين ولا ملوم، فإني أريد المسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي أمرهم، فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين وجهاد العدو، جعلنا الله وإياك من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
وكذلك سار علي في عماله هذه السيرة الحازمة، يشجع المحسن منهم ويشتد على المسيء، لا يحابي في شيء من ذلك ولا يداجي، ولا يعرف مداراة ولا مجاراة، وإنما هو النصح للمسلمين والعدل في الرعية وإقامة الحق في أولئك وهؤلاء.
وقد رأيت سيرته مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وشدته على زياد، وعقابه بالعزل لمن لا يحسن القيام بأمره، وبالحبس لمن يتعلق بذمته حق من حقوق الناس، فليس غريبا ألا ينظر العمال إليه ولا إلى عمله إلا في كثير من التحفظ والتحرج والاحتياط، وليس غريبا أن يلتوي عليه أحد عماله مصقلة بن هبيرة ببعض الحق، ثم يشفق منه فيفر إلى معاوية ويلقى عنده ما رأيت آنفا من الرضى والإيثار.
وهذه السيرة التي سارها علي في عماله هي نفس السيرة التي سارها في الناس، فلم يكن يطمع الناس في نفسه، ولم يكن يوئسهم منها، وإنما كان يدنو منهم أشد الدنو ما استقاموا على الطريق وأدوا الحق، فإن انحرفوا عن الجادة أو التووا ببعض ما يجب عليهم بعد عنهم أشد البعد، وأجرى فيهم حكم الله غير مصطنع هوادة أو رفقا.
وقد روى المؤرخون أن ناسا من أهل الكوفة ارتدوا فقتلهم ثم حرقهم بالنار، وقد ليم في ذلك من ابن عباس، وأظن أن هذه القصة هي التي غلا خصوم الشيعة فيها، فزعموا أن هؤلاء الناس ألهوا عليا. ولكن المؤرخين، والثقات منهم خاصة، يقفون من هذه القصة موقفين: فمنهم من يرويها في غير تفصيل كما رويتها، ومن هؤلاء البلاذري، ومنهم من لا يرويها ولا يشير إليها كالطبري ومن تبعه من المؤرخين، وإنما يكثر في هذه القصة أصحاب الملل والمخاصمون للشيعة، وما أرى إلا أن القوم يتكثرون فيها ويحملونها أكثر مما تحتمل كما فعلوا في أمر ابن السوداء.
وربما بينت هذه الصورة الشعرية، التي تركها أعرابي من طيئ، عما كان في قلوب الناس من المهابة لعلي، وكان هذا الرجل يفسد في الطريق، فأرسل علي رجلين ليأتياه به، ففر منهما وقال:
ولما أن رأيت ابني شميط
بسكة طيئ والباب دوني
تجللت العصا وعلمت أني
رهين مخيس إن يثقفوني
فلو أنظرتهم شيئا قليلا
لساقوني إلى شيخ بطين
شديد مجامع الكتفين صلب
على الحدثان مجتمع الشئون
ومخيس: سجن بناه علي، والعصا: فرس لهذا الأعرابي، فهذا الشيخ البطين العظيم المنكبين الصلب على الحوادث ذو الرأس الضخم هو الذي هابه الأعرابي، كما كان عامة الناس من أمثاله يهابونه ويشفقون من بأسه، ثم كان علي بعد ذلك لا يستكره الناس على أمرين: أحدهما البقاء في ظل سلطانه، فما أكثر الذين كانوا يرحلون من العراق ومن الحجاز ليلحقوا بمعاوية! مؤثرين دنياه على دين علي، فلم يكن علي يعرض لهم، ولا يستكرههم على البقاء معه، ولا يصدهم عن اللحاق بالشام، كان يرى أنهم أحرار يتخذون الدار التي تلائمهم، فمن أحب الهدى والحق أقام معه، ومن رضي الضلال والباطل لحق بمعاوية.
وقد كتب عامله على المدينة سهل بن حنيف يذكر أن كثيرا من أهلها يتسللون إلى الشام، فكتب إليه علي يعزيه عن هؤلاء الناس وينهاه عن أن يعرض لهم أو يكرههم على البقاء في طاعته، وكانت هذه سيرته مع الخوارج أيضا، يعطيهم نصيبهم من الفيء ولا يعرض لهم بمكروه ما أقاموا معه، ولا يرد أحدا منهم عن الخروج إن هم به، ولا يأمر أحدا من عماله بالتعرض لهم في طريقهم، فهم أحرار في دار الإسلام يتبوءون منها حيث يشاءون، بشرط ألا يفسدوا في الأرض أو يعتدوا على الناس، فإن فعلوا أجرى فيهم حكم الله في غير هوادة ولا لين، وربما أنذره أحدهم بأنه لن يشهد معه الصلاة ولن يذعن لسلطانه، كما فعل الخريت بن راشد فيما مضى من خبره، فلم يبطش به ولم يعرض له وخلى بينه وبين حريته، فلما خرج مع أصحابه لم يحل بينهم وبين الخروج، فلما أفسدوا في الأرض أرسل إليهم من أنصف منهم.
كان إذن يعرف للناس حقهم في الحرية الواسعة إلى أبعد آماد السعة، لا يستكره الناس على طاعة ولا يرغمهم على ما لا يحبون، وإنما يشتد عليهم حين يعصون الله أو يخالفون عن أمره أو يفسدون في الأرض.
الأمر الثاني الذي لم يكن علي يستكره الناس عليه هو الحرب، كان يرى أن حرب الناكثين والقاسطين والمارقين حق عليه وعلى المسلمين، كجهاد العدو من المشركين وأهل الكتاب، ولكنه لم يكن يفرض ذلك عليهم فرضا ولا يدفعهم إليه بقوة السلطان، وإنما يندبهم له؛ فمن استجاب منهم رضي عنه وأثنى عليه، ومن قعد منهم وعظه ونصحه وحرضه وأبلغ في الوعظ والنصح والتحريض، وهو لم يكره أحدا على حرب الجمل ولا على حرب صفين ولا على حرب الخوارج، وإنما نهض لهذه الحروب كلها بمن انتدب معه على بصيرة من أمره ومعرفة لحقه، ولو شاء لجند الناس تجنيدا، ولكن هذا النحو من الخدمة العسكرية التي يجبر الناس عليها لم يكن قد عرف بعد، ولو شاء لرغب الناس بالمال في هذه الحرب حين نكلوا عنها، ولكنه لم يفعل هذا أيضا، كره أن يشتري نصرة أصحابه له بالمال وأراد أن ينصروه عن بصيرة وإيمان، بل هو قد فعل أكثر من هذا، فخاض بأصحابه غمرات هذه الحروب، ثم لم يقسم فيهم غنيمة إلا ما كان يجلب به العدو من خيل أو سلاح، وقد ضاق أصحابه بذلك، وقال قائلهم كما رأيت فيما مضى: أباح لنا دماء العدو ولم يبح لنا أموالهم!
وكان رأيه في هذا أن حرب المسلم للمسلم غير حرب المسلم للكافر، لا ينبغي أن يراد بحرب المسلم إلا اضطراره إلى أن يفيء إلى أمر الله، فإن فعل ذلك عصم نفسه وماله، ولا ينبغي أن يسترق ولا أن يصبح ماله غنيمة، ولا كذلك حرب غير المسلمين.
فليس غريبا أن يثاقل أصحابه عن حرب أهل الشام بعد ما جربوا من سيرته فيهم، فهي حرب تكلفهم عناء وتعرضهم للموت ثم لا تغني عنهم شيئا؛ لأنها لا تتيح لهم الغنيمة، ونحن نعلم أن العربي يفكر في الغنيمة كلما فكر في الحرب، ولأمر ما حرض الله المسلمين على الجهاد مع نبيه فقال:
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها
الآية. ففي هذين الأمرين: الخضوع لسلطانه، وحرب عدوه من المسلمين، كان علي يترك أوسع الحرية وأسمحها لأصحابه.
ومن المحقق أن معاوية لم يكن يجند الناس كرها لحرب علي، ولم يكن يستبقيهم في الشام وهم للبقاء فيها كارهون، ولكن من المحقق أيضا أنه كان يعطي فيحسن العطاء، ويشتري من الناس طاعتهم له وحربهم من دونه، وينفق على هذا كله من بيت المال، يرى أن ذلك مباح له، ويرى علي أن ذلك عليه حرام.
الفصل التاسع والثلاثون
ليس من شك في أن عليا قد أخفق في بسط خلافته على أقطار الأرض الإسلامية، ثم هو لم يخفق وحده وإنما أخفق معه نظام الخلافة كله، وظهر أن هذه الدولة الجديدة التي كان يرجى أن تكون نموذجا للون جديد من ألوان الحكم والسياسة والنظام لم تستطع آخر الأمر إلا أن تسلك طريق الدول من قبلها، فيقوم الحكم فيها على مثل ما كان يقوم عليه من قبل من الأثرة والاستعلاء ونظام الطبقات الذي تستذل فيه الكثرة الضخمة، لا من شعب واحد بل من شعوب كثيرة، لقلة قليلة من الناس، عسى أن تكون من شعب بعينه بين هذه الشعوب، وهو الشعب الذي استقر أمر الحكم فيه، بل لم يخفق علي ونظام الخلافة وحدهما، وإنما أخفقت معهما الثورة التي قامت أيام عثمان لتحفظ، فيما كان أصحابها يقولون، على الخلافة الإسلامية إسماحها وصلاحها ونقاءها من شوائب الأثرة والعبث والطغيان والفساد.
فأولئك الثائرون إنما ثاروا - فيما كانوا يزعمون - لأن عثمان لم يحسن سياسة أموالهم ومرافقهم، عجز عن هذه السياسة، على أحسن تقدير، فركب بنو أمية رقاب الناس، وعبث العمال بالولايات والفيء، وأسرف الخليفة في بيت المال يؤثر به ذوي رحمه والمقربين إليه من سائر الناس، فهم كانوا يريدون أن يردوا أمر الخلافة إلى مثل ما كان عليه أيام الشيخين بحيث يتحقق العدل وتمحى الأثرة، ولا توضع أموال الناس إلا في مواضعها، ولا تنفق إلا على مرافقهم، ولا تؤخذ إلا بحقها.
ولكن زعماءهم وقادتهم قتلوا في سبيل هذه الثورة قبل أن يتموا تثبيتها: قتل حكيم بن جبلة في البصرة قبل أن تقع موقعة الجمل، وقتل زميله البصري حرقوص بن زهير في النهروان، وقتل محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر في مصر، ومحمد بن أبي حذيفة في الشام، ومات الأشتر مسموما في طريقه إلى مصر، وقتل عمار بن ياسر بصفين.
فهؤلاء زعماء الثورة، منهم من قتل قبل أن تشب الحروب على علي، ومنهم من قتل أثناء هذه الحروب، ومنهم من خالف إمامه ثم قتل أثناء الخروج عليه، ومنهم من قتله معاوية وأصحابه جهرة أو سرا.
وواضح أن الذين ثاروا بعثمان حتى حصروه وقتلوه لم يقتلوا عن آخرهم، وإنما بقي منهم خلف كانوا أتباعا لأولئك الزعماء الذين ذكرنا قتلهم، والمهم أن قادة الثورة قد ماتوا من دونها، وأن الثورة قد فقدت بموتهم عقولها المفكرة المدبرة، فأدرك سائر أصحابها الفشل والتخاذل والتواكل، وألقوا بأيديهم وآثروا العافية، وكانت الظروف التي أرادوا أن يقاوموها بثورتهم أقوى من أن تقاوم.
ولكن كلمة الظروف هذه غامضة تحتاج إلى شيء من الوضوح، وأول هذه الظروف وأجدرها بالعناية والتفكير: الاقتصاد، فقد كان نظام الخلافة - كما تصوره الشيخان - يسيرا سمحا لا عسر فيه، أخص ما يوصف به أنه لا يستطيع أن يستقر ولا أن يستقيم إلا إذا آمن به أشد الإيمان وأعمقه أولئك الذين أقيم لهم من المسلمين، والإيمان بهذا النظام يقتضي قبل كل شيء إيمانا خالصا بالدين الذي أنشأه، إيمانا يتغلغل في أعماق القلوب، ويسيطر على دخائل الضمائر والنفوس، ويسخر لسلطانه عقول الناس حين تفكر، وأجسامهم حين تعمل، وألسنتهم حين تقول، إيمانا لا يقبل شركة مهما يكن لونها، إيمانا بالله لا شريك له من الآلهة والأنداد، وإيمانا بالدين لا شريك له من المنافع والأهواء، وهذا النوع من الإيمان، إن تحقق للكثرة من أصحاب النبي، فإنه لم يخلص من بعض الشوائب، لا بالقياس إلى الذين أسلموا بأخرة، ولا بالقياس إلى الذين كان النبي يتألفهم بالمال، ولا بالقياس إلى كثير من الأعراب الذين قال الله فيهم:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يعرف المنافقين من أهل المدينة ومن غيرهم، يدله الوحي عليهم وينبئه الله بأمرهم، وربما أنبأه الله بأن منهم قوما لا يعلمهم هو وإنما يستأثر الله وحده بعلمهم، فلما قبض النبي انقطعت أو كادت تنقطع وسائل العلم بهؤلاء المنافقين، فكان المؤمنون المخلصون كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، كما قال النبي، كانوا قلة قليلة، وليس أدل على ذلك من ارتداد العرب بعد وفاة النبي، وجهاد أبي بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الطاعة بعد تلك الخطوب الكثيرة التي نعرفها، ثم تجاوز الإسلام بلاد العرب وبسط سلطانه على ما فتح من الأرض أيام الشيخين وأيام عثمان، فكثر الذين خضعوا لهذا السلطان غير مؤمنين به ولا مخلصين له، وإنما الخوف وحده قوام ما كانوا يبذلون من طاعة.
وكذلك كان الفتح مصدر قوة ومصدر ضعف للدولة الجديدة في وقت واحد، كان مصدر قوة؛ لأنه بسط سلطانها ومد ظلها على أقطار كثيرة من الأرض، وكان مصدر ضعف لأنه أخضع لها كثرة من الناس لا يؤمنون بها وإنما يخافون منها ويرهبون سطوتها، وكان مصدر قوة لأنه جبى لها كثيرا من المال الذي لم يكن يخطر لها على بال، وكان مصدر ضعف لأن هذا المال أيقظ منافع كانت نائمة، ونبه مآرب كانت غافلة، ولفت إليه نفوسا كانت لا تفكر إلا في الدين، ثم خلق حاجات لم تكن معروفة ولا مألوفة، أظهر للعرب فنونا من الترف وخفض العيش فأغراهم بها ودعاهم إليها، ثم عودهم إياها، ثم أخذهم بها أخذا، إلا قلة قليلة جدا استأثر الدين بها من دون الدنيا، وشغلها التفكير في الله عن التفكير في المال والمنافع والحاجات.
وقد لقي عمر العناء كل العناء في سياسته للعرب أيام خلافته، ثم لم يشق وحده بهذا العناء الذي لقيه، وإنما شقي به العرب كلهم، ضاقوا بسياسته ضيقا شديدا، شق عليهم العدل الذي يسوي بين القوي والضعيف، وشق عليهم الشظف الذي كان يريد أن يمسكهم فيه ويضطرهم إليه، فلما مات سري عنهم وابتسموا للدنيا وابتسمت الدنيا لهم، ولكن هذا الابتسام لم يتصل إلا ريثما استحال إلى عبوس عابس وشر عظيم، فالابتسام للمال يغري بالاستزادة منه، والاستزادة منه تفتح أبوابا من الطمع لا سبيل إلى إغلاقها، وإذا وجد الطمع وجد معه زميله البغي، ووجد معه زميل آخر هو التنافس، ووجد معه زميل ثالث هو التباغض والتهالك على الدنيا. وإذا وجدت كل هذه الخصال وجد معها الحسد الذي يحرق قلوب الذين لم يتح لهم من الثراء ما أتيح لأصحاب الثراء، وإذا وجد الحسد حاول الحاسدون إرضاءه على حساب المحسودين، وحاول المحسودون حماية أنفسهم، وكان الشر بين أولئك وهؤلاء، وهذا كله هو الذي حدث أيام عثمان، وهو الذي دفع أهل الأمصار إلى أن يثوروا بعمالهم، ثم إلى أن يثوروا بخليفتهم، ثم إلى أن يحصروه ويقتلوه.
وقد هم علي أن يرد العرب إلى مثل ما كانوا عليه أيام عمر، ولكن أيام عمر كانت قد انقضت ولم يكن من الممكن أن تعود.
ملك المال قلوب أصحاب المال فقاتلوا عليه في العراق وقاتلوا عليه في الشام، وانتصر علي في العراق ولكنه انتصار لم يكد يتم حتى نسيه المغلوبون والغالبون جميعا، فما أسرع ما ذكر أهل البصرة عثمانيتهم بعد الجمل! وعثمانيتهم هذه ليس معناها حب عثمان والطلب بدمه فحسب، وإنما معناها أوسع من ذلك وأشمل، معناها هذا النظام الذي عرفوه فألفوه، نظام الطمع والجشع والتنافس في المال والتهالك عليه، والضيق بتلك الحياة التي فرضها عمر على العرب والتي كان علي يريد أن يعود إلى فرضها عليهم.
وقد شكا ابن عباس أهل البصرة إلى علي أنهم بعد خروجه عنهم إثر وقعة الجمل عادوا إلى شيء من الاضطراب لم يرضه منهم ابن عباس، لم ير منهم ما كان ينتظر أن يرى من الانقياد والطاعة السمحة، فكتب إليه علي هذا الكتاب الذي إن دل على شيء فإنما يدل على أن عليا قد فهمهم حق فهمهم، وأراد أن يستصلحهم ما وجد إلى ذلك سبيلا:
أتاني كتابك تذكر ما رأيت من أهل البصرة بعد خروجي عنهم، وإنما هم مقيمون لرغبة يرجونها أو عقوبة يخافونها، فأرغب راغبهم واحلل عقدة الخوف عن راهبهم بالعدل والإنصاف له إن شاء الله.
هم مقيمون على رغبة يرجونها أو عقوبة يخافونها، هذا حق ليس فيه شك، ولكن الدواء الذي اقترحه علي لم يكن ميسورا، فهو أراد أن يرغب الراغب ويحل عقدة الخوف عن الخائف، ولكنه أراد أن يكون هذا كله في حدود العدل والإنصاف.
والعدل لا يرغب راغبا وإن حل عقدة الخوف عن الخائف، وليس أدل على ذلك من أن عبد الله بن عباس لم يبلغ ما أراد علي من السياسة، وإنما أراد أن يرغب الراغبين فرغب معهم، فلما شكاه أبو الأسود إلى علي ولامه علي فيما فعل، حمل ما قدر عليه من بيت المال وفر به إلى مكة فأقام فيها بماله الكثير، وهم أهل البصرة أن يستجيبوا لمعاوية وأن يثوروا بزياد، لولا أن عليا زاد عقدة الخوف عليهم تعقيدا، فأرسل إليهم جارية بن قدامة الذي حرق فريقا منهم بالنار تحريقا.
ثم لم يكن المنتصرون مع علي يوم الجمل خيرا من المغلوبين، طمعوا في مال أهل البصرة بعد أن انتصروا عليهم، فلما ردهم علي عن ذلك جمجموا، وقال قائلهم: يبيح لنا دماءهم ثم لا يبيح لنا أموالهم!
ثم ذهب أهل الكوفة مع علي إلى صفين فقاتلوا وكادوا ينتصرون، ولكن المال أفسد على أشرافهم ورؤسائهم أمرهم كله، فكان رفع المصاحف وكان إكراه علي على قبول التحكيم.
ومنذ ذلك اليوم ظهر أن الثورة قد أخفقت، وظهر أن عليا لن يبلغ من إحياء سيرة عمر ما كان يريد، ثم لم يكن علي وحده هو الذي ظهر إخفاقه، فهذا أبو موسى الأشعري الذي اختاره أهل اليمن حكما على غير رضى من إمامهم تبين في وضوح واضح أنه كان يرى رأيا مخالفا أشد الخلاف لرأي الذين اختاروه، كان يريد أن يبايع للطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر ليحيي اسم عمر وسيرته، ولم يكن أهل اليمن يريدون عمر ولا ابنه ولا أحدا من الذين يشبهونهما، وإلا ففيم كانت خيانة علي وفيم كان استكراهه على ما لا يريد؟!
ثم تبين أن أهل الحجاز لم يكونوا خيرا من أهل البصرة والكوفة، فكثير منهم كانوا يتسللون إلى الشام إيثارا لدنيا معاوية، حتى شكا أمير المدينة سهل بن حنيف إلى علي من ذلك، فعزاه علي عن هؤلاء المتسللين كما رأيت.
وليس من شك في أن كثيرا من أهل مكة كانوا يفعلون فعل نظرائهم من أهل المدينة، بل ليس من شك في أن كثيرا من الذين كانوا يقيمون في الحرمين ويؤثرون البقاء في الحجاز على الذهاب إلى الشام كانوا يتلقون من معاوية هداياه ومنحه، لا يرون بذلك بأسا ولا يجدون فيه حرجا.
والغريب أنا نستعرض ما روى البلاذري لنا من كتب علي إلى عماله على المشرق، فلا نرى من هذه الكتب كلها إلا كتابين اثنين يثني فيهما علي على عاملين اثنين ثناء لا تحفظ فيه، وقد روينا لك أحد هذين الكتابين إلى عمر بن أبي سلمة حين عزله عن البحرين، فأما كتابه الثاني فقد أرسله إلى سعد بن معوذ الثقفي عامله على المدائن وهو:
أما بعد، فقد وفرت على المسلمين فيئهم، وأطعت ربك ونصحت إمامك، فعل المتنزه العفيف، فقد حمدت أمرك ورضيت هديك وأبنت رشدك، غفر الله لك، والسلام.
فأما سائر كتبه إلى أولئك العمال، ففي بعضها التأنيب والتوبيخ، وفي بعضها العتاب والتخويف، وفي بعضها الآخر الوعظ والتأديب، وقد علمت ما كان من مصقلة بن هبيرة ومن المنذر بن الجارود، أحدهما يلتوي بالمال حتى يفر إلى الشام، والثاني يلتوي بالمال حتى يحبس فيه، وليس أمر ابن عباس منك ببعيد.
بل لم يكن كل الذين اعتزلوا الفتنة بمأمن من هذه النكسة التي أصابت المسلمين بعد الفتح حين كثر عليهم المال، فإذا كان سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة قد فروا بدينهم من الفتنة فلم يدخلوا في حرب مع أحد الفريقين الخصمين، وصمموا على عزلتهم كما أرادوها خالصة لله ودينه، فقد كان المغيرة بن شعبة مثلا معتدلا، يؤثر العافية في الطائف، ولكنه كان ضيقا بهذه العافية، وكان يتحرق شوقا إلى العمل، ولعله لم يكن يضيق بشيء كما كان يضيق بما أتيح لعمرو بن العاص من نجح، على حين ظل هو يعلك لجامه كالجواد القارح الذي حيل بينه وبين النشاط.
وكان أبو هريرة يقيم في المدينة ولا يكره أن تناله النافلة من مال معاوية بين حين وحين، وقد نشط المغيرة بن شعبة في أمر معاوية بعد أن صار إليه الأمر كله، على حين احتفظ الشيخان سعد وابن عمر بعزلتهما الوادعة.
ولم يكن أهل الحرمين يحبون القتال بعد ما بلوا من الأحداث، فكانوا وادعين يقبلون ما يساق إليهم من خير مهما يكن مصدره، ويبايعون لصاحب السلطان والبأس، كانوا على طاعة علي، ثم بايع أهل المدينة لمعاوية حين أخافهم بسر بن أرطاة، فأما أهل مكة فأجابوا بسرا في غير ما خوف ولا رهب؛ لأن معاوية أوصاه بهم خيرا، فلما ألم بهم قائد علي بعد أن طرد بسرا، بايع أهل مكة لمن بايع له أهل الكوفة، دون أن يتبينوا من هو، وبايع أهل المدينة لمن بايع له أهل الكوفة، بعد أن عرفوا أنه الحسن بن علي.
كل شيء إذن كان يدل على أن سلطان الدين على النفوس لم يكن من القوة في المنزلة التي كان فيها أيام عمر، وعلى أن سلطان المال والسيف كان قد استأثر بالقلوب والنفوس، وكل شيء يدل على أن عليا والذين ذهبوا مذهبه من المحافظة على سيرة النبي والشيخين إنما كانوا يعيشون في آخر الزمان الذي غلب الدين فيه على كل شيء.
فقل إذن في غير تردد: إن أول الظروف التي كانت تقتضي أن يخفق علي في سياسته هو ضعف سلطان الدين على نفوس المحدثين من المسلمين، وتغلب سلطان الدنيا على هذه النفوس.
وكان العرب إلى أيام عمر لا يعرفون من شئون غيرهم إلا قليلا، يحمل إليهم التجار منهم - حين يعودون بتجارتهم - أخبارا مختلطة عن الفرس والروم والحبشة، وعن الشام ومصر والعراق خاصة، وينقل إليهم الوافدون عليهم من التجار الأجانب والمجلوبون لهم من الرقيق أخبارا عن هذه البلاد، لعلها كانت في نفوسهم واضحة، ولكنها كانت لا تكاد تنتقل إلى نفوس العرب حتى تختلط ويشوبها كثير من الإبهام والغموض، حتى كان علم العرب بشئون هذه البلاد أقرب إلى الأعاجيب وأنباء الأساطير منه إلى الحقائق الصحيحة والوقائع الصادقة.
فلما كان الفتح رأت جيوش المسلمين الكثير من حقائق هذه البلاد، ثم استقرت فيها واستقر المستعمرون من العرب فيها كذلك، فعرفوا هذه البلاد معرفة صحيحة، وبلوا من أمورها وأمور أهلها أشياء لم يكونوا يحققونها، وقد أخذهم شيء من الدهش أول الأمر لما رأوا وما سمعوا، ولكنهم ألفوا هذه الأشياء وهؤلاء الناس، ثم جعلوا يختارون مما رأوا من الأخلاق والسير وضروب الحياة ما يستطيعون اختياره، مما يلائم أمزجتهم وطبائعهم وأذواقهم.
وجعلت نفوس تتغير تغيرا بطيئا أول الأمر، ولكنه جعل يسرع ويقوى كلما طالت إقامتهم في هذه الآفاق، وقد رأوا حضارة راعتهم، وفنونا من الترف سحرت عيونهم، وألوانا من خفض العيش ورقته لم تكن تخطر لهم على بال، وقد تعلقت نفوس كثير منهم بهذه الطرائف التي رأوها، وتمنت ضمائرهم - شاعرة بذلك أو غير شاعرة به - أن تأخذ من هذه الحياة أطرافا، وأثر هذا كله في نظرها إلى الأشياء وحكمها عليها وتقديرها لقيم الحياة.
وقد بهرهم أول ما بهرهم جلال الملك الذي أزالوه في بلاد الفرس، والذي نقصوه من أطرافه في بلاد الروم، وقارن الأذكياء وأصحاب المطامع منهم بين ما أقبلوا عليه من ذلك وما تركوا وراءهم في المدينة أو في غيرها من حضر البلاد العربية وباديتها، فأكبروا هذا الجديد وصغر قديمهم في أنفسهم، واستحيا أكثرهم من إظهار ذلك، فتناجت به ضمائرهم، وهوت إليه قلوبهم، وجعلوا ينظرون إلى من وراءهم من أولئك الشيوخ أصحاب النبي في كثير من الإجلال والإكبار، ولكن في كثير من الرفق والرثاء أيضا يجلونهم ويكبرونهم لمكانهم من النبي وسابقتهم في الدين ويرفقون بهم ويرثون لهم لأنهم يمثلون جيلا قديما قد انقضت أيامه أو أوشكت أن تنقضي.
وكان الذين يعودون منهم إلى المدينة يلقون عمر فيتكلفون التجمل بسيرته ويحتالون في ألا يظهر على دقائق أمرهم وحقائقه، يلقونه مظهرين الشظف وغلظة الحياة وخشونة العيش ليرضى عنهم ويطمئن إليهم، فإذا خلوا إلى أنفسهم أو خلا بعضهم إلى بعض أخذوا بما ألفوا من لين الحياة، وأشفقوا على عمر من حياته الخشنة تلك، في كثير من الإكبار له والإعجاب به.
فلما كانت خلافة عثمان خفت عليهم مئونة هذا التكلف، فلم يكن عثمان يحب الشظف ولا خشونة العيش، فأظهروا من أمرهم ما كانوا يكتمون، ورقت الحياة في المدينة نفسها حتى دخلها الترف واستقر فيها، وحتى جعلت الدور والقصور ترتفع في المدينة وما حولها، وحتى جعل الشباب يقبلون على ألوان من اللعب لم يكن للعرب عهد بها من قبل، وحتى اضطر عثمان نفسه - على إسماحه وإيثاره للدعة - إلى أن يقاوم هذه الألوان من الفتنة المجلوبة التي جعلت تسلك سبيلها إلى النفوس.
ثم رأى العرب جماعة من شيوخ الصحابة وأصحاب السابقة والمكانة يستكثرون من المال ويقبلون على شيء من اللين، فأقبلوا على ما أقبل عليه أئمتهم ومعلموهم، ثم جلب الفتح إلى الحجاز وإلى بلاد العرب عامة أعدادا ضخمة من الرقيق، على اختلاف أجناسهم وعلى اختلاف طبقاتهم، في حياتهم القديمة التي كانوا يحيونها في بلادهم قبل الفتح، فلم يترك هؤلاء الرقيق من الرجال والنساء أخلاقهم وطباعهم وأمزجتهم وراءهم عند حدود البلاد العربية، وإنما حملوها معهم وأظهروا سادتهم على كثير منها، ثم أغروا سادتهم بكثير منها، فلم يجدوا من سادتهم مقاومة ولا امتناعا، وإنما وجدوا استجابة وإقبالا، فافتنوا فيما أحب سادتهم من هذا كله.
ثم لم يكن هذا كله مقصورا على الرقيق الذين حملوا إلى الأرض العربية، وإنما كان شاملا كذلك للرقيق الذين استقروا مع سادتهم في الأقطار المفتوحة، وكل هذا جدد النفس العربية تجديدا يوشك أن يكون تاما، وباعد بينها وبين الحياة الخشنة القديمة أشد المباعدة.
فلما قتل عثمان وأقبل الخليفة الرابع يريد أن يحملهم على الجادة، وأن يردهم إلى السيرة التي ألفها المسلمون أيام النبي والشيخين، لم ينشطوا لذلك ولم يطمئنوا إليه، وإنما نظروا فرأوا خليفة قديما يدبر جيلا جديدا، ويريد أن يدبره تدبيرا ينافر أشد المنافرة ما أحب من حياة الخفض واللين.
ثم نظروا بعد ذلك فرأوا أميرا آخر قد أقام في الشام، وقد جدد نفسه مع هذا الجيل الجديد، ثم لم يكتف بتجديد نفسه والملاءمة بينها وبين رعيته، إنما يغري رعيته بالتجديد ويعينها عليه بالمال، ويحتج لذلك بما شاء الله من الحجج، فهو مقيم في بلاد مجاورة لبلاد الروم، وهو يريد أن يلقي في روع الروم أنه ليس أقل منهم أبهة ولا أهون منهم شأنا ولا أرغب منهم عن طيبات الحياة، وأن أصحابه يشبهونه في ذلك، ثم هو يحارب هؤلاء الروم فينبغي أن يحاربهم بمثل أسلحتهم، ثم هو يحارب خصمه في العراق، فينبغي أن يكيد له ويغري به ويخذل عنه ويفرق الناس من حوله، كل الوسائل إلى ذلك مستحبة، بل مفروضة لا ينبغي أن يتردد في اتخاذها.
وكذلك جعل معاوية ينفق المال ويتألف الرجال ويكيد للذين يمتنعون عليه، وكل هذه الظروف مجتمعة كانت خليقة أن تقر في نفس علي أنه غريب في العصر الذي يعيش فيه، وبين هذا الجيل الذي يريد أن يدبر أمره من الناس، وأن تلقي في روعه كذلك أنه يحاول أمرا ليس إلى تحقيقه من سبيل.
هذا ابن عمه يخالف عنه إلى حيث يعيش ناعما رضي البال بمكة، وهؤلاء العمال يستخفون بما يستأثرون به من المال إلا أقلهم، وهؤلاء الأشراف يتلقون المال من معاوية ويهيئون له الأمر في العراق، وهؤلاء العامة يؤثرون العافية على الحرب وما تجلب من البلاء والهول، وعلي بين هؤلاء جميعا يدعو فلا يجاب، ويأمر فلا يطاع، حتى يفسد عليه رأيه، وحتى يمل قومه ويملوه، وحتى يسأل الله أن يبدله بهم خيرا منهم وأن يبدلهم به شرا منه، وحتى يتعجل أشقى هذه الأمة الذي ألقى إليه أنه سيقتله، فيقول: ما يؤخر أشقاها؟ وحتى ينتظر القتل بين ساعة وأخرى فيكثر التمثل بهذا الشعر:
اشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت
إذا حل بواديكا
وحتى يقول أثناء وضوئه بين حين وحين: لتخضبن هذه من هذه، مشيرا إلى لحيته وجبهته.
ولو قد أطاع علي ضميره الخفي لاستعفى أصحابه من بيعتهم، وأنفق ما بقي من أيامه يعبد الله وينتظر الآخرة، ولكن هيهات! قد آمنت نفسه بالحق، وبأن القعود عن نصره جبن ومعصية، وليس هو بالرجل الذي يسرع إليه اليأس أو يفشل عن حرب عدوه مهما تكن الظروف، ولذلك قال لأصحابه حين ضاق بتخاذلهم وعصيانهم: «لتنهضن معي لقتال أهل الشام أو لأمضين لقتالهم مع من يتبعني مهما يكن عددهم قليلا.»
كانت ظروف الحياة الجديدة كلها إذن مواتية لمعاوية منافرة لعلي، ولكنها على ذلك لم تضعف عليا عن الحق ولم تخرجه عن طوره في يوم من الأيام، فاحتفظ بمزاجه معتدلا، وبسيرته مستقيمة في جميع أطواره وأيامه.
وكان بينه وبين معاوية اختلاف آخر يغري الناس به ويجمعهم لخصمه، كان يدبر أمور أصحابه عن ملأ منهم، لا يستبد من دونهم بشيء، وإنما يستشيرهم في الجليل والخطير من أمره، وكان يرى لهم الرأي فيأبونه ويمتنعون عليه ويضطرونه إلى أن ينفذ رأيهم هم ويحتفظ برأيه لنفسه، وكان ذلك يغريهم به ويطمعهم فيه.
ولم يكن معاوية يعطي أصحابه بعض هذا الذي كان يعطيهم علي، لم يكن يستشيرهم، وإنما كان له المشيرون من خاصته الأدنين، فكان إذا أمر أطاعه أهل الشام دون أن يجمجموا فضلا عن أن يجادلوا، ثم كان معاوية يحتفظ بسره كله لا يظهر عليه إلا من أراد أن يظهره عليه من خاصته، وكانت أمور علي كلها تدبر وتبرم على ملأ من الناس، لا تخفى على أصحابه من أمره خافية مهما يكن خطرها.
كان علي يدبر خلافة وكان معاوية يدبر ملكا، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أظل.
الفصل الأربعون
وبينما كان علي يجاهد حياته المرة تلك، ويجاهد أصحابه ليحملهم على النهوض معه إلى حرب الشام، ويبعث البعوث لرد غارات معاوية على أطرافه في العراق والحجاز واليمن، ويجاهد الخوارج الذين يجاهرونه بالعداء وينشرون الروع في الناس، ويلين للخوارج الذين كانوا يعيشون معه في الكوفة يتربصون الفرص للخروج، ويجاهد عماله ليأخذهم بالأمانة في أعمالهم، بينما كان علي في هذا كله، كان ناس من الخوارج يشهدون الموسم ويرون اختلاف الحجيج من أصحاب علي ومعاوية، كل يأبى أن يصلي بصلاة أمير خصمه، حتى اختار الناس رجلا ليس بالأمير لهذا أو ذاك ليقيم للناس صلاتهم.
فضاق هؤلاء النفر من الخوارج بما رأوا، وذكروا مصارع إخوانهم الذين قتلوا في النهروان، وفيما كان بينهم وبين علي وأصحابه من المواقع الأخرى، وائتمروا أن يريحوا الأمة من هذا الاختلاف الذي تشقى به، وأن يقتلوا هؤلاء الثلاثة الذين هم أصل هذا الاختلاف: عليا ومعاوية وعمرو بن العاص، من جهة، وأن يثأروا لإخوانهم بقتل علي من جهة أخرى.
فانتدب أحدهم عبد الرحمن بن ملجم الحميري، حليف مراد لقتل علي، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصريمي، من تميم لقتل معاوية، وانتدب عمرو بن بكر أو ابن بكير التميمي صليبة أو بالولاء لقتل عمرو بن العاص، واتفقوا على يوم بعينه ينفذون فيه ما صمموا عليه، وأقتوا ساعة لاغتيال هؤلاء الثلاثة، وهي ساعة الخروج لصلاة الصبح من اليوم السابع عشر من شهر رمضان لعامهم ذاك سنة أربعين.
وأقاموا في مكة أشهرا ثم اعتمروا في رجب ثم تفرقوا، مضى كل واحد منهم لينفذ نصيبه من هذه الخطة.
فأما صاحب معاوية فعرض له في الساعة الموقوتة من اليوم الموقوت فلم يبلغ منه شيئا لأنه كان دارعا، فيما يقول بعض المؤرخين، أو لأنه لم يصب منه مقتلا، فيما يقول بعضهم الآخر، ولكنه هو أصاب حتفه.
وأما صاحب عمرو فعرض له في الساعة الموقوتة كذلك ولكنه لم يصبه؛ لأن عمرا لم يخرج للصلاة في ذلك اليوم، منعته العلة، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي وأصابه السيف فقتله، وقتل عمرو بعد ذلك هذا المغتال الذي أراد عمرا فأراد الله خارجة.
وأما عبد الرحمن بن ملجم فأقام في الكوفة يرقب يوم الموعد وساعته، ثم أقبل من آخر الليل ومعه رفيق له استعانه على ما أراد، فانتظرا خروج علي للصلاة، فلما خرج تلقياه بسيفيهما وهو يدعو الناس لصلاتهم، فأصابه سيف ابن ملجم في جبهته حتى بلغ دماغه، ووقع سيف صاحبه في جدار البيت، وخر علي حين أصابته الضربة وهو يقول: لا يفوتنكم الرجل.
وقد أخذ عبد الرحمن بن ملجم وقتل صاحبه وهو يحاول الفرار، وحمل علي إلى داخل داره، فأقام فيها يومين وليلة بينهما، ثم مات في ليلة اليوم الثاني.
ويروي المؤرخون أن قاتل علي لقيه بالسيف وهو يقول: الحكم لله يا علي لا لك. وعلي نفسه يقول: الصلاة عباد الله.
ويروي المؤرخون كذلك أن عليا أمر من حوله أن يحسنوا طعام ابن ملجم ويكرموا مثواه، فإن برئ من ضربته نظر، فإما عفا وإما اقتص، وأمرهم إن مات أن يلحقوه به ولا يعتدوا؛ إن الله لا يحب المعتدين.
ويروي المؤرخون كذلك أن آخر كلام سمع من علي قبل أن يموت هو قول الله عز وجل:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره
ويزعم الرواة من أصحاب الجماعة أن عليا لم يستخلف على المسلمين أحدا، وأنه سئل عن رأيه في بيعة الحسن ابنه بعده، فقال: لا آمركم ولا أنهاكم.
ويزعم الشيعة أنه أوصى بالخلافة للحسن نصا، وهذا خلاف يطول القول فيه وليس من شأننا أن نعرض له.
والشيء المحقق هو أن ولاة الدم لم ينفذوا وصية علي في أمر قاتله، فهو قد أمرهم أن يلحقوه به ولا يعتدوا، ولكنهم مثلوا به أشنع تمثيل، فلما مات حرقوه بالنار.
والرواة يختلفون بعد ذلك في قبر علي، يقولون: إنه دفن في الرحبة بالكوفة، وعمي قبره حتى لا ينبشه الخوارج، وقوم يقولون: إن الحسين نقله بعد ذلك إلى المدينة فدفنه إلى جانب فاطمة زوجه، والغلاة من خصوم الشيعة يزعمون أنه نقل إلى الحجاز في تابوت وضع على بعير، ولكن ناقليه أضلوا بعيرهم ذاك، فأخذه جماعة من الأعراب ظنوا أن عليه مالا في ذلك التابوت، فلما رأوا أن فيه جثة قتيل دفنوه في مكان مجهول من الصحراء.
والكلام في هذه الروايات المختلفة لا ينقضي وليس فيه طائل أو غناء.
وقد انتهى النبأ بموت علي إلى أهل المدينة، وبلغ عائشة فتمثلت قول الشاعر:
وألقت عصاها واستقرت بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
كأنها أرادت أن تقول: إن عليا قد أراح بموته واستراح، وليس من شك في أنه استراح بموته من شقاء كثير، ولكن الشك كل الشك في أنه أراح، بل اليقين كل اليقين هو أن موت علي رحمه الله لم يرح أحدا، وإنما أورث المسلمين عناء وخلافا لم ينقضيا بعد، وما أرى أنهما سينقضيان قبل وقت يعلم الله وحده أيقصر أم يطول.
الفصل الحادي والأربعون
وإلى هنا ينقضي حديث التاريخ عن علي رحمه الله، ويبدأ حديث القصاص وأصحاب السير والأساطير، وقد ذهب هؤلاء جميعا كل مذهب فيما أرادوا إليه من التعظيم والتفخيم ومن التهويل والتأويل، وخلطوا كل ذلك بالتاريخ خلطا عجيبا، حتى أصبح من أعسر العسر أن يخلص المؤرخ إلى الحق الواضح في أيسر الأمور من كل ما يتصل بشأن من شئون علي، فهم لم يكتبوا حديث علي متجردين فيه من شهوات القلوب ونزوات النفوس، ولا متبرئين من الهوى الذي يفسد الرأي، ولا من عبث الخبال الذي يخفي حقائق التاريخ.
منهم من أحب عليا في غير قصد فأفسد الحب عليه أمره كله، وقال بما أوحى إليه خياله لا بما صح لعقله من الحوادث والأخبار، ومنهم من أبغض عليا وأسرف في بغضه فأفسد البغض عليه أمره، وصور فيما كتب أو روى ما أوحى إليه الحقد وأملى عليه الخيال المضطغن، لا ما ألقى إليه الثقات من حقائق التاريخ، منهم العراقي الذي لا يحب عليا وحده وإنما يتعصب لأهل العراق عامة، ويتوخى في كل ما يكتب ويروي أن يكون لأهل العراق الفضل المحقق على أهل الشام في كل قول وفي كل عمل وفي كل مشهد من المشاهد، ومنهم الشامي الذي لا يبغض عليا فحسب، ولكنه يتعصب لأهل الشام ويرى لهم الفضل كل الفضل والتفوق كل التفوق.
وقد أسرف أهل الشام حين انتهت الأحداث باستقامة الأمر لمعاوية وخلفائه من الأمويين، وإن كان إسراف أهل الشام لم يكد يبقى لنا منه شيء بعد أن تغير مجرى التاريخ وانتقل السلطان إلى الهاشميين.
وأسرف أهل العراق بأخرة حين انتقل السلطان إلى بني العباس فلونوا التاريخ بما يلائم أهواء السلطان الجديد.
فإذا أضفت إلى هذا كله أن أهل الشام وأهل العراق عرب لم يبرءوا قط من العصبية الجاهلية، لم تجد بدا من أن تقدر تأثير هذه العصبية في وصف ما كان للقبائل من بلاء في الحرب وموقف في السلم، كل قبيلة تريد أن تؤثر نفسها بأعظم حظ ممكن من الفضل والسابقة.
ثم إذا أضفت إلى هذا أيضا أن أولئك وهؤلاء لم يستطيعوا في تلك العصور أن يفرقوا بين السياسة والدين، وإنما رأى أهل العراق أنهم يحبون عليا في الله، فحبه دين، وأنهم شاركوا في الثورة بعثمان في سبيل الله أيضا، فأرضوا الله بثورتهم، وأرضوه بقتل ذلك الخليفة الذي لم يجر أمور الخلافة في رأيهم كما كان ينبغي أن تجري.
وأهل الشام يبغضون عليا في الله لأنه - فيما زعم لهم قادتهم - قد شارك في قتل الخليفة المعصوم، فأحل ما حرم الله من هذا الدم الحرام في الشهر الحرام والبلد الحرام، وأبى - على أقل تقدير - أن يسلم قتلة عثمان إلى ولي دمه، فحمى العصاة المجرمين.
أقول: إذا أضفت هذا كله عرفت أن التاريخ لم يبرأ في أمر هذه الفتنة من أثر العواطف الجامحة التي تسدل دون الحق أستارا أي أستار: عواطف العصبية للوطن والعصبية للقبيلة، وعواطف الدين، ثم عاطفة الطمع الذي يغري بالتقرب إلى الخلفاء والرغبة فيما عندهم، واتخاذ القصص والتكثر والكذب على التاريخ وسيلة إلى رضى السلطان وطريقا إلى أخذ ما عنده من المال.
والأمور تتعقد بعد هذا تعقدا عجيبا ولكن أمره ليس عسيرا ولا مشكلا، فقد امتحن أهل العراق بعد موت علي رحمه الله أشد امتحان وأقساه، عارضوا خلفاء بني أمية، فأرسل إليهم هؤلاء الخلفاء من يقمع معارضتهم أعنف أنواع القمع وأغلظها، فكانوا إذن مضطهدين.
وليس شيء يدعو إلى التكثر والاختراع أكثر من الاضطهاد الذي يملأ القلوب روعا وفرقا، ويشيع في النفوس بعد ذلك من البغض والحقد والضغينة ما ينطق الألسنة ويجري الأقلام بالشكاة المرة والأحاديث التي ليس بينها وبين الحق صلة أو سبب.
وامتحن أهل الشام حين انتقل السلطان إلى العباسيين أشق امتحان وأمضه، فساروا سيرة أهل العراق من قبل، وكذلك نسجت كل هذه الأستار الكثاف التي ألقيت بيننا وبين حقائق التاريخ، فجعلت مهمة المؤرخ الصادق من أعسر المهمات عسرا وأقساها قسوة.
وما رأيك في قوم قعدوا عن نصر علي بعد صفين حتى بغضوا إليه الحياة وأرهقوه من أمره عسرا؟! فلما فارقهم وفارقتهم بموته سماحة الخلافة ولين العيش، كلفوا بذلك الذي قعدوا على نصره أشد الكلف، وهاموا في حبه أعظم الهيام، وقالوا في تعظيمه وإجلاله أعظم القول، وغلا بعضهم في ذلك بأخرة حتى رأوا في علي عنصرا من الألوهية يرفعه فوق غيره من الناس!
وما رأيك في قوم آخرين يرون من أهل العراق هذا كله، ويرون منهم إسرافهم فيما يضيفون إلى علي من الخصال، وتجاوزهم القصد في كل ذلك؟! فلا يكتفون منهم بما يسمعون عنهم أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا وأكثر مما فعلوا، ثم لا يكتفون بذلك وإنما يحملون هذا كله على علي نفسه وعلى معاصريه، فيتحدثون بأن قوما من أهل الكوفة ألهوا عليا وأعلنوا إليه ذلك، ثم يزعم الصالحون المصلحون - الذين يحسنون الظن بعلي كما يحسنون الظن بغيره من أصحاب النبي - أن عليا ضاق بهذا التأليه وحرق القائلين به تحريقا.
والغريب أن هذا التأليه استمر بعد موت علي وبعد تحريقه من حرق من مؤلهته، كأن هؤلاء الناس من شيعة علي قد ألهوه على رغمه وعلى علم منهم بأنه ينكر ذلك ويبغضه ويعاقب عليه بالتحريق.
ثم يغلو خصوم الشيعة فيزعمون أن الذين حرقهم علي بالنار قد ازدادوا تأليها له حين رأوا النار ورأوا أنهم يدفعون إليها ويلقون فيها، فقال قائلهم: لا جرم، لا يعذب بالنار إلا خالق النار!
وكل هذا خلط من الخلط ومراء من المراء، وتكثر دعا إليه الإغراق في اللجاج والغلو في الخصومة والإسراف في هذا البغض المعقد، والأمر بين علي وأصحابه أيسر من هذا كله يسرا، وأهون من كل هذا التكلف والإغراق، فقد حمل علي أصحابه كما رأيت على ما حملهم عليه من تلك الحروب المبيرة غير المغنية، وأفسد معاوية عليه رؤساء أصحابه بالمال والكيد فقعدوا عن نصره وفشلوا عن حقه وحقهم، وتنبأ لهم علي بأن قعودهم هذا سيجر عليهم الشر كل الشر وسيورطهم في النكر الذي لا حد له، فلم يسمعوا له حين قال، ولم يستجيبوا له حين دعا، فلما قتل واستقامت أمور العراق لمعاوية وخلفائه من بني أمية صحت لأهل العراق نذر علي كلها، وتحققت فيهم نبوءته لهم، فسامهم ولاة الأمويين الخسف كل الخسف، وحملوهم على أشد ما كانوا يكرهون، وامتحنوهم في أموالهم وأنفسهم وفي سرهم وعلانيتهم، وفي كل دينهم ودنياهم، فذكروا أيام علي وندموا على ما فرطوا في جنبه وما قصروا في ذاته، فدفعوا إلى ما دفعوا إليه من الغلو في حب علي والإسراف في الهيام به، والافتنان في تكبيره وتعظيمه، يرون في ذلك كله عزاء عما قدموا إليه من الإساءة إليه أثناء حياته.
وقد رأيت أن حياة علي في العراق قد كانت محنة كلها، فإذا علمت أن عليا نفسه كان يرى أن حياته في الحجاز بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
قد كانت محنة أيضا؛ لأنه كان يرى نفسه أحق بالخلافة، فامتحن بصرف الخلافة عنه إلى الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، وقد صبر على محنته تلك فأجمل الصبر، وأطاع الخلفاء الثلاثة فأحسن الطاعة، ونصح لهم فأبلغ في النصح، فلما ارتقى إلى الخلافة أو ارتقت الخلافة إليه لم يجن منها إلا شرا، وإلا شرا كان يزيد ويتضاعف كلما تتابعت أيامه في العراق، حتى كاد ينتهي به إلى اليأس، لولا أنه أجمل الصبر في العراق، كما أجمل الصبر في الحجاز.
فقد امتحن إذن أشد الامتحان وأعسره ثلاثين عاما من حياته، ثم انتهى آخر الأمر إلى أن قتل أثناء خروجه للصلاة، لم يقتله عبد أعجمي مأسور، وإنما قتله حر عربي عن ائتمار بينه وبين قوم مثله أحرار عرب، فميتته كانت أشق وأشنع من ميتة عمر.
ثم امتحن بنوه من بعده كما سترى، وامتحن أهل العراق بعد موته كما سترى أيضا، فأي غرابة في أن تقسو كل هذه المحن الجسام المتتابعة على أهل العراق ومن إليهم؟! فيرون في علي وبنيه غير ما يرى منهم سائر الناس، ويرفعونهم من أجل هذه المحن نفسها إلى هذه المكانة الممتازة التي رفعوهم إليها، ويغلو غلاتهم بعد ذلك، وبعد أن عرفوا من أمر اليهود والنصارى ما عرفوا، وبعد أن عرفوا كذلك من أمر الفرس ما عرفوا، فيضيفون إليه وإلى بنيه من خصال التقديس ما لا يضاف عادة إلى الناس، وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيفون إليهم أكثر مما قالوا وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال.
ثم يتقدم الزمان وتكثر المقالات ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقدا وإشكالا، ثم تختلط الأمور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحداث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما كان يمكن أن يبلغ من الإبهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.
والشيء الذي ليس فيه شك - فيما أعتقد - هو أن الشيعة - بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة - عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق لم توجد في حياة علي وإنما وجدت بعد موته بزمن غير طويل.
وإنما كان معنى كلمة الشيعة أيام علي هو نفس معناها اللغوي القديم الذي جاء في القرآن في قول الله عز وجل من سورة القصص:
ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه
الآية. وفي قول الله عز وجل من سورة الصافات:
وإن من شيعته لإبراهيم
فالشيعة في هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات معناها: الفرقة من الأتباع والأنصار الذين يوافقون على الرأي والمنهج ويشاركون فيهما، والرجل الذي كان من شيعة موسى كان رجلا من بني إسرائيل، والرجل الذي كان من عدو موسى كان رجلا من المصريين.
بذلك قال المفسرون القدماء الذين تلقوا التفسير عن الفقهاء من أصحاب النبي، وإبراهيم كان من شيعة نوح؛ أي على سنته ومنهاجه، يرى رأيه ويدين بدينه، كما قال هؤلاء المفسرون أيضا، فشيعة علي أثناء خلافته هم أصحابه الذين بايعوه واتبعوا رأيه، سواء منهم من قاتل معه ومن لم يقاتل.
ولم يكن لفظ الشيعة أيام علي مقصورا على أصحابه وحدهم، وإنما كان لمعاوية شيعته أيضا، وهم الذين اتبعوه من أهل الشام وغيرهم من الذين كانوا يرون المطالبة بدم عثمان والحرب في ذلك حتى يقام الحد على قاتليه، وليس أدل على ذلك من نص الصحيفة التي كتبت للتحكيم بعد رفع المصاحف في صفين، فقد جاء في هذه الصحيفة: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين.»
فلفظ الشيعة هنا لا يضاف إلى علي ومعاوية كما ترى، وإنما يضاف إلى أهل العراق وأهل الشام، يريد كاتب الصحيفة أن يذكر من يناصر عليا وأهل العراق من المؤمنين والمسلمين في البلاد الإسلامية كلها، ومن يناصر معاوية وأهل الشام من المؤمنين والمسلمين في البلاد الإسلامية كلها أيضا، ومعنى ذلك أن الصحيفة تلزم الفريقين المختصمين بما فيها، ولا تلزم هذه الفئة القليلة من المعتزلة الذين أبوا أن يشاركوا في الفتنة من قريب أو بعيد.
لم يكن للشيعة إذن معناها المعروف عند الفقهاء والمتكلمين منذ أيام علي، وإنما كان لفظا كغيره من الألفاظ يدل على معناه اللغوي القريب، ويستعمل في هذا المعنى بالقياس إلى الخصمين جميعا، ولست أعرف نصا قديما أضاف لفظ الشيعة إلى علي قبل وقوع الفتنة، فلم يكن لعلي قبل وقوع الفتنة شيعة ظاهرون ممتازون من غيرهم من الأمة.
والرواة يحدثوننا بأن العباس أراد عليا على أن يبسط يده ليبايعه، فأبى علي أن يحدث الفرقة بين المسلمين.
والرواة يحدثوننا أيضا ويحدثنا علي نفسه في بعض كتبه إلى معاوية بأن أبا سفيان أراد عليا على أن ينصب نفسه للخلافة حتى لا يخرج الأمر من بني عبد مناف، فأبى علي ذلك عليه كما أباه على عمه العباس، ولكن أحدا لم يقل إن العباس كان شيعة لعلي، ولا إن أبا سفيان كان شيعة لعلي أيضا، وإنما عرض لهما هذا الرأي، فلما لم يستجب لهما علي بايعا أبا بكر ودخلا فيما دخل فيه الناس ، كما فعل علي نفسه مع الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه.
ويحدثنا الرواة كذلك أن المقداد بن الأسود وعمار بن ياسر، وربما ذكر سلمان الفارسي، أظهروا الدعوة لعلي أثناء الشورى حتى خاف بعض أهل الشورى تفرق الناس، فطلب إلى عبد الرحمن بن عوف أن يتعجل القضاء في الأمر، فلما بايع عبد الرحمن عثمان دخل المقداد وعمار فيما دخل فيه الناس، كما فعل علي نفسه، ولم يقل أحد في ذلك الوقت إن المقداد أو عمارا كان شيعة لعلي، وإنما رأيا رأيا، ثم انصرفا عنه ليكونا مع جماعة المسلمين.
ومعنى هذا كله أن عليا لم تكن له شيعة ممتازة من الأمة قبل الفتنة، ولم تكن له شيعة بالمعنى الذي يعرفه الفقهاء والمتكلمون أثناء خلافته، وإنما كان له أنصار وأتباع، وكانت كثرة المسلمين كلها له أنصارا وأتباعا، حتى كانت موقعة صفين، وحتى افتتح معاوية مصر، وحتى جعل معاوية يغير على أطراف علي في العراق والحجاز واليمن.
وقد قتل علي وليس له حزب منظم ولا شيعة مميزة، بل لم ينظم الحزب العلوي ولم توجد الشيعة المميزة إلا بعد أن تم اجتماع الأمر لمعاوية وبايعه الحسن بن علي كما سترى.
الفصل الثاني والأربعون
وكان الحسن رجل صدق قد كره الفرقة وآثر اجتماع الكلمة وخاض غمرات الفتنة، على كره منه في أكبر الظن، قاوم الفتنة ما وسعته مقاومتها أيام عثمان فلم يخض فيما خاض الناس فيه من حديثها، ولم يشارك في المعارضة حين عظم الشر، وكان من الذين أسرعوا إلى دار عثمان فقاموا دون الخليفة يريدون حمايته، ولكن الخليفة قتل على رغم ذلك؛ لأن خصمه تسوروا عليه الدار، ولم يكن الحسن يرى أن يشترك أبوه في شيء من أمر الفتنة من قرب أو من بعد، وإنما أشار عليه أن يعتزل الناس وأن يترك المدينة فيقيم في ماله بينبع، فلم يسمع علي له، وإنما رأى أن مكانه في المدينة حيث يستطيع أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر أو يصلح بين الناس.
فلما قتل عثمان لم ير الحسن لأبيه أن يقيم في المدينة ولا أن يتعرض للبيعة ولا أن يقبلها وإن عرضت عليه، ولو استطاع الحسن لاعتزل الفتنة اعتزالا كما فعلت تلك المعتزلة من أصحاب النبي، ولكن عرف لأبيه حقه عليه، فأقام معه وشهد مشاهده كلها، على غير حب لذلك أو رغبة منه فيه.
ثم لم يكن الحسن يرى لأبيه أن يترك مهاجره في المدينة، وأن يرحل إلى العراق للقاء طلحة والزبير وعائشة، وإنما كان يؤثر له أن يبقى في مهاجره مجاورا للنبي، ويكره له أن يذهب إلى دار غربة ويتعرض للموت بمضيعة، وكان أبوه يعصيه في كل ما كان يشير عليه من ذلك، حتى بكى الحسن ذات يوم حين رأى ركاب أبيه تؤم العراق، فقال له أبوه: إنك لتحن حنين الجارية.
ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان، فكان عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إلا أنه لم يسل سيفا للثأر بعثمان؛ لأنه لم ير ذلك حقا له، وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب.
فقد روى الرواة أن عليا مر بابنه الحسن وهو يتوضأ، فقال له: أسبغ الوضوء. فأجابه الحسن بهذه الكلمة المرة: «لقد قتلتم بالأمس رجلا كان يسبغ الوضوء.» فلم يزد علي على أن قال: لقد أطال الله حزنك على عثمان.
وقد شهد الحسن مع أبيه مشاهده في البصرة وصفين والنهروان، وأكاد أعتقد مع ذلك أنه وأخاه الحسين قد شهدا هذه الحروب دون أن يشاركا فيها، بل نحن نعلم أن أباهما كان يضن بهما على الخطر مخافة أن يصيبهما شر فتنقطع ذرية النبي
صلى الله عليه وسلم ، كان يقيهما بنفسه وبأخيهما محمد ابن الحنفية، وكان يشتد على محمد هذا ويعنف به إن رأى منه في الحرب أناة أو تقصيرا حتى كلمه في ذلك بعض أصحابه.
فقد كان علي إذن أشد الناس إيثارا للحسن والحسين لمكانهما من النبي، وكان أصحابه يصنعون صنيعه في ذلك فيؤثرونهما بالخير والبر.
ويروى أن رجلا أهدى إلى الحسن والحسين وترك محمدا فلم يهد إليه شيئا، فلما رأى علي ذلك من الرجل وضع يده على كتف محمد، وتمثل:
وما شر الثلاثة أم عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا
فذهب الرجل فأهدى إلى محمد كما أهدى إلى أخويه.
كان الحسن إذن كارها للفتنة منذ ثارت، وقد روى الثقات من أصحاب الحديث أن النبي أخذ الحسن وهو صبي فأجلسه إلى جانبه على المنبر، وجعل ينظر إليه مرة، وينظر إلى الناس مرة أخرى، يفعل ذلك مرارا، ثم قال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين كبيرتين من المسلمين.» فإذا صح هذا الحديث - وأكبر الظن أنه صحيح - فقد وقع هذا الحديث من نفس الصبي موقعا أي موقع، وكأنه ذكره حين ثارت الفتنة، وكأنه حاول بمشورته على أبيه في مواطنه تلك التي ذكرتها آنفا أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين فيحقق نبوة جده
صلى الله عليه وسلم .
وكأن بكاءه حين بكى لم يكن رفقا بأبيه وإشفاقا عليه فحسب، وإنما كان إلى ذلك حزنا لأنه لم يحقق ما توسم به جده فيه.
والمسلمون يختلفون كما حدثتك من قبل، فأما المؤرخون والمحدثون من أهل السنة فينبئوننا بأن عليا أبى أن يستخلف حين طلب إليه ذلك بعد أن أصيب.
يقول قوم: إن الناس طلبوا إليه أن يستخلف الحسن، فقال: لا آمركم ولا أنهاكم. ويقول قوم آخرون: إن الناس طلبوا إليه أن يستخلف، فأبى وقال: أترككم كما ترككم رسول الله.
وأما الشيعة فيزعمون أن عليا استخلف الحسن نصا، ومهما يكن من شيء فلم يعرض الحسن نفسه على الناس، ولم يتعرض لبيعتهم، وإنما دعا إلى هذه البيعة قيس بن سعد بن عبادة، فبكى الناس واستجابوا وأخرج الحسن فأجلس للبيعة، وطفق - كما يقول الزهري - يشترط على الناس أن يسمعوا ويطيعوا، ويحاربوا من حارب ويسالموا من سالم، فلما سمع الناس منه تكراره لأمر السلم ارتابوا وظنوا أنه يريد الصلح، وقال بعضهم لبعض: ليس هذا لكم بصاحب وإنما هو صاحب صلح.
وقد مكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من شهرين لا يذكر الحرب ولا يظهر استعدادا لها، حتى ألح عليه قيس بن سعد وعبيد الله بن عباس، وكتب إليه عبد الله بن عباس من مكة يحرضه على الحرب، ويلح عليه في أن ينهض فيما كان ينهض فيه أبوه، فنهض للحرب وقدم بين يديه اثني عشر ألفا من الجند، جعل عليهم قيس بن سعد، وجعل معه عبيد الله بن عباس. وقوم يقولون إنه جعل على هذا الجند ابن عمه، وأمره أن يستشير قيس بن سعد وسعيد بن قيس الهمداني ولا يخالف عن رأيهما.
فمضى الجند وخرج الحسن في إثرهم في عدد ضخم من أهل العراق، وكأنه خرج يظهر لهم الحرب ويدبر أمر الصلح فيما بينه وبين خاصته، حتى إذا بلغ المدائن تسامع الجيش ببعض ذلك؛ فاضطرب الناس وماج بعضهم في بعض، واقتحموا على الحسن فسطاطه وعنفوا به عنفا شديدا حتى انتهبوا متاعه، فخرج الحسن يريد المدائن، وطعنه رجل فلم يصب منه مقتلا، يقول بعض المؤرخين: إن هذا الرجل كان من أصحابه. ويقول بعضهم الآخر: إنه كان من الخوارج، وأنه قال للحسن وهو يهم به: أشركت كما أشرك أبوك!
وقد أقام الحسن في المدائن حتى برئ من جرحه، وتعجل السلم في أثناء ذلك، ثم رجع إلى الكوفة فاستقبل فيها سفراء معاوية الذين أعطوه كل ما أراد، أعطوه الأمان له ولأصحابه كافة، وأعطوه خمسة ملايين من الدراهم كانت في بيت المال بالكوفة، وأعطوه خراج كورتين من كور البصرة ما عاش.
وبينما كان الحسن يفاوض في الصلح كان عبيد الله بن عباس يتعجل السلم لنفسه ويترك جيشه إلى معاوية دون أن يستخلف عليه أحدا، رشاه معاوية بالمال، فلم يستطع أن يعصي المال، وكذلك انحرف عبد الله بن عباس عن علي، وانحرف عبيد الله بن عباس عن الحسن، كلاهما ينحرف عن صاحبه في أشد الأوقات حرجا وأعسرها عسرا.
ونهض قيس بن سعد بأمر هذا الجند، حتى جاءه أمر الحسن بالدخول في طاعة معاوية، فأظهر الناس على ذلك وخيرهم بين أن يدخلوا فيما دخل فيه إمامهم أو يقاتلوا عدوهم على الحق بغير إمام، فاختاروا العافية، ووضعت الحرب أوزارها، وفتحت الطريق لمعاوية إلى الكوفة، فدخلها موفورا، وبايع له الناس ولم يبايع قيس بن سعد إلا بعد خطوب.
الفصل الثالث والأربعون
ولا بد من وقفة قصيرة عند حديث الصلح وما جرى بين الحسن ومعاوية من المفاوضة فيه، فقد يظهرنا التأمل في هذا كله على اتجاه نفوس الناس وقلوبهم في ذلك الوقت إلى الدنيا أكثر من اتجاهها إلى الدين، وقد يظهرنا ذلك أيضا على أن الحسن وأباه وهذه القلة القليلة من أشباههما إنما كانوا يعيشون غرباء في هذه البيئة الجديدة القديمة، أو في هذا الخلف الذي خلف من المسلمين، جماعة من هذه القلة كرهوا الفتنة واستيأسوا من بيئتهم ففروا بدينهم إلى العزلة وآثروا الله على الناس، وآخرون رأوا أن الدين لم يوح به إلى النبي ليؤثر به نفسه ويفر به من البيئة التي ملأها الفساد، وإنما أوحى به ليصلح من أمر الناس ما فسد، ويقوم من حياتهم ما اعوج، ويحملهم على الجادة، ويهديهم الصراط المستقيم، وقد نهض النبي بأمر ربه، لم يفر بدينه إلى غار حراء، ولم يعتزل به أهل مكة، وإنما واجه قومه بما كرهوا، عنف بهم وعنفوا به، وألح في دعائهم إلى الخير وألحوا في المكر به والكيد له والتأليب عليه، حتى أخرجوه من وطنه، فلم يثبط ذلك من همه، ولم يفل من حده، ولم يكن يحفل في سبيل الدين بأن يضع خصمه الشمس في يمينه والقمر في يساره إن استطاعوا، وكانت له العاقبة، فحمل الناس على الخير وهداهم إلى الدين، لم يشفق من تبعة، ولم يخف مكروها.
وقد رأى علي وأمثاله القليلون أن النبي قد سن لهم سنة في إنفاذ أمر الله وحمل الناس على الحق، فمضوا على سنة النبي وصاحبيه من بعده، واحتملوا في ذلك ما احتملوا من البلاء والعناء والقتل في ميادين الحرب، أو القتل غيلة أثناء الخروج إلى الصلاة.
ولم يكن بد من أن تصير أمور الناس إلى ما صارت إليه، فقد لقي العرب غيرهم من الأمم، ورثوا ملكهم وعرفوا حضارتهم وبلوا ما في حياتهم من خير وشر، ومن حلو ومر، وكان من الطبيعي أن تنتهي الأمور إلى إحدى اثنتين: فإما أن يقهر الغالبون فيعربوا هذه الأمم المغلوبة، وإما أن يقهر المغلوبون فيفتنوا هذه الأمة الغالبة، وقد فتنت الأمة الغالبة عن كثير من أمرها، فأعرضت عن خلافتها وعن سنتها الرشيدة، ودفعت إلى الملك، تقلد فيه قيصر وكسرى أكثر مما تقلد النبي والشيخين.
ويكفي أن تلاحظ ما قدمته آنفا من أن أشراف أهل العراق كانوا يتصلون بمعاوية في أيام علي، يتلقون ماله ويمهدون له أمره، وأن تلاحظ بعد ذلك أن الحسن لم يكد يفرغ من البيعة حتى فرغ جماعة من الأشراف الذين بايعوه إلى معاوية، منهم من سار إليه فبايعه وأقام معه حتى عادوا في صحبته إلى العراق، ومنهم من أرسلوا إليه الكتب ينبئونه بضعف الحسن وانتثار أمره واختلاف الناس عليه، ويتعجلون قدومه إلى العراق، حتى لم يتحرج معاوية من أن يتأذن في أصحابه من أهل الشام: أن كتب أهل العراق قد تواترت إليه يدعونه فيها إلى أن يسير إليهم، وأن أشراف أهل العراق قد جعلوا يقبلون عليه ليبايعوه.
وقد غير معاوية سياسته فجأة تغييرا تاما، فأعرض عن العنف ومال إلى الرفق وأمعن فيه، وكأنه كان يعرف عثمانية الحسن وبغضه للفتنة وتحرجه من سفك الدماء، كما كان يعرف كغيره من عامة الناس مكان الحسن من النبي ونزوع نفسه إلى الخير وعزوفها عن الشر.
فلم يكد الحسن يكتب إليه مع جندب بن عبد الله الأزدي ينبئه بأن الناس قد بايعوه ويدعوه إلى الطاعة، حتى رد عليه معاوية ردا رقيقا ليس فيه شيء مما كان في كتبه إلى علي من الشدة والغلظة والتأنيب والامتناع، وإنما كتب إليه ينبئه أنه لو كان يعلم أنه أقوم بالأمر وأضبط للناس وأكيد للعدو وأحوط على المسلمين وأعلم بالسياسة وأقوى على جمع المال منه لأجابه إلى ما سأل؛ لأنه يراه لكل خير أهلا، ويقول له إن أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يريد أن أبا بكر وأصحاب النبي معه عرفوا لأهل البيت مكانتهم من النبي واستحقاقهم لكل كرامة، ولكنهم مع ذلك صرفوا الخلافة عنهم إلى من هو أقدر على النهوض بأمرها من المسلمين.
وقد عاد الأمر إلى مثل ما كان عليه بعد وفاة النبي، لم تتغير مكانة أهل البيت ولم يتغير استحقاقهم لكل كرامة، ولكن غيرهم - وهو معاوية - أقدر منهم على النهوض بأمر الخلافة وأعباء السلطان.
ثم وعده أن يسوغه ما في بيت مال العراق، وأن يجعل له خراج ما يختار من الكور، يستعين به على مئونته ونفقاته ما عاش.
وقد عاد جندب بكتاب معاوية إلى الحسن، وأنبأه باجتماع أهل الشام وكثرتهم وتأهبهم للمسير إليه، وأشار عليه أن يغزوهم قبل أن يغزوه، ولكن الحسن ظل ساكنا لا ينشط للحرب حتى علم أن معاوية قد سار إليه، وكاد أن يبلغ حدود العراق، هنالك نهض للقائه وجرى له ما علمت من الأحداث.
ولم يكن قعود الحسن عن الحرب جبنا أو فرقا، وإنما كان كراهية لسفك الدماء من جهة، وشكا في أصحابه من جهة أخرى، وقد تبين له بعد مسيره وما كان من أمره مع الناس حين بلغ المدائن أنه لم يكن مخطئا، ولا سيما بعد أن عرف وفود الأشراف من أهل العراق على معاوية، وأن الذين لم يفدوا عليه قد كتبوا إليه، فكان يقول لأهل العراق: أنتم أكرهتم أبي على الحرب وأكرهتموه على التحكيم، ثم اختلفتم عليه وخذلتموه، وهؤلاء وجوهكم وأشرافكم يفدون على معاوية أو يكتبون إليه مبايعين، فلا تغروني عن ديني.
ثم تعجل الصلح، فأرسل إليه معاوية عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة، وعبد الرحمن بن سمرة فعرضا عليه الصلح وألحا عليه فيه، ورغباه بما رغباه به مما علمت، فقبل مبدأ الصلح وأرسل سفيرين إلى معاوية، هما عمرو بن سلمة الهمداني ومحمد بن الأشعث الكندي، ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده، فأعطاهما معاوية هذا الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على أن لك الأمر من بعدي، ولك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد، لا أبغيك غائلة ولا مكروها، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال، وعلى أن لك خراج يسا ودارابجرد تبعث إليهما عمالك وتصنع بهما ما بدا لك، شهد عبد الله بن عامر وعمرو بن سلمة الكندي وعبد الرحمن بن سمرة ومحمد بن الأشعث الكندي وكتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين.»
ونلاحظ أن معاوية لم يبدأ هذا الكتاب كما كان يبدأ كتبه إلى علي: «من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب» وإنما قدم الحسن فكتب: «إلى الحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان» يظهر بذلك تكريم الحسن وأنه يسير معه سيرة غير سيرته مع أبيه.
وقد عرض معاوية على الحسن ثلاثة أشياء: أن يجعله ولي عهده، وأن يجعل له مرتبا سنويا من بيت المال ألف ألف درهم، وأن يترك له كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ويصنع بهما ما يشاء.
ثم أعطى على نفسه العهد المشدد المؤكد أن يؤمن الحسن من كل غائلة، ولم يكتف الحسن بهذه الشروط؛ لأن فيها شيئا لا يملكه معاوية في رأيه، وهو ولاية العهد، ولأن ما عدا هذا من الشروط المالية نوع من الإغراء وليس بذي خطر عند الحسن، فبيت مال العراق في يده، وكور فارس كلها في يده أيضا، وقد أهمل معاوية في كتابه شيئا هو أخطر من كل ما ذكر، وهو تأمين أصحاب الحسن الذين حاربوا مع علي وهموا بالحرب مع الحسن نفسه؛ ولذلك احتفظ الحسن بكتاب معاوية عنده وأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب من جهة، وبينه وبين معاوية قرابة قريبة من جهة أخرى، وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمه أخت معاوية، فقال له: ائت خالك، وقل له: إن أمنت الناس بايعتك.
وكأن الحسن أراد أن يصطنع شيئا من اللباقة، فاحتفظ بشروط معاوية وطلب إلى معاوية مزيدا هو تأمين الناس، ولكن معاوية كان أدهى من ذلك وأبرع كيدا، فقد أعطى ابن أخته طومارا ختم في أسفله، وقال له: اكتب ما شئت.
فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق إلى الحسن، فكتب فيه الحسن: «هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين، وعلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وأن يكون الأمر شورى، والناس آمنون حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وعلى ألا يبغي الحسن بن علي غائلة سرا ولا علانية ولا يخيف أحدا من أصحابه، شهد عبد الله بن الحارث وعمرو بن سلمة.» ثم رد عبد الله بن الحارث إلى معاوية بكتابه هذا ليشهد عليه من شاء من أصحابه ففعل، وتم الصلح، ولكنه لم يتم دون أن يترك بين الرجلين شيئا من اختلاف الرأي وسوء التفاهم، كما يقال في هذه الأيام.
أكان الكتاب الأول الذي أرسله معاوية إلى الحسن قائما يكفل للحسن ما أعطاه معاوية من الشروط ما عدا ولاية العهد التي لم يرضها الحسن، أم سقط بهذا الكتاب الذي كتبه الحسن وأمضاه معاوية؟
أما الحسن فقد رأى أن كتاب معاوية الأول ظل قائما، وأن معاوية قد التزم فيه ما وعد به من مرتب في كل عام، ومن خراج هاتين الكورتين للحسن ما عاش، وأما معاوية فقد رأى أن الكتاب الثاني قد ألغى الكتاب الأول إلغاء فليس للحسن عنده إلا ما طلب من أن يكون الأمر شورى بعد موت معاوية، ومن تأمين الناس على أنفسهم وعلى أموالهم وذراريهم، ومن ألا يبغي الحسن غائلة سرا أو جهرا، ومن أن يعمل في أمر المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
ومن أجل اختلاف الرأي هذا طلب الحسن إلى معاوية - بعد أن استقام له الأمر - أن يفي له بشروطه المالية ، فأبى عليه معاوية وقال له: ليس لك عندي إلا ما شرطت لنفسك. وكأن الحسن أراد تحكيما، وكأنه أراد أن يحكم سعد بن أبي وقاص، فلم يقبل معاوية تحكيما ولكنه على ذلك أرضى الحسن بما أعطاه وما فرض له من المال.
وتكثر المؤرخون والرواة بعد ذلك، فزعم قوم أن معاوية وفى بالشروط للحسن ثم أغرى أهل البصرة سرا، فطردوا عمال الحسن من الكورتين، وأبوا أن يدفعوا إليه شيئا من خراجهما، وقالوا: هذا فيئنا وليس لأحد غيرنا فيه حق.
والأمر كما رأيت أيسر من ذلك، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن معاوية قد بر الحسن وأرضاه بالمال، فلم يجد في حياته عسرا ولا ضيقا، وإنما عاش في المدينة عيشة الغني السخي الذي ينفق عن سعة ولا يحسب للمال حسابا.
ومهما يكن من شيء، فقد سار معاوية إلى الكوفة مطمئنا راضي البال، ينشر من حوله الرضى والطمأنينة، واستقبله الحسن فبايعه وبايعه الناس، وكأن معاوية أراد أن يعلن الحسن رضاه عن هذا الصلح واطمئنانه إلى النظام الجديد.
وهذا طبيعي لا يحتاج فهمه وقبوله إلى تكلف من تكلف من الرواة والمؤرخين، الذين زعموا أن عمرو بن العاص هو الذي أغرى معاوية بدعوة الحسن إلى أن يتكلم؛ ليظهر للناس عجزه وضعفه أو ليسوءه أمام أنصاره وشيعته، فالحسن لم يختلس الصلح اختلاسا، ولم يستخف به من الناس، والحسن قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه وبعد وفاته، فلم يعرف منه عيا أو حصرا وهو بعد ذلك أو قبل ذلك من أهل بيت لم يعرفوا قط بعي أو حصر، وإنما كانوا معدن الفصاحة واللسن وفصل الخطاب، وقد خطب الحسن فقال خير ما كان يمكن أن يقال وأصدق ما كان يمكن أن يقال أيضا، قال: «أيها الناس، إن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، إن هذا الأمر الذي سلمته لمعاوية إما أن يكون حق رجل كان أحق به مني فأخذ حقه، وإما أن يكون حقي فتركته لصلاح أمة محمد وحقن دمائها، فالحمد لله الذي أكرم بنا أولكم وحقن دماء آخركم.»
والرواة يزعمون أن هذا الكلام قد أغضب معاوية، وأنه لام عمرو بن العاص لأنه هو الذي ألح في أن يتكلم الحسن، ثم هم بعد ذلك يزيدون في كلام الحسن ما عسى أن يكون منه وما عسى ألا يكون.
ومهما يكن من ذلك فقد سخط على الحسن جماعة من أصحابه الذين أخلصوا له ولأبيه، وأخلصوا في بغض معاوية وأهل الشام، ورأوا في هذا الصلح نوعا من التسليم لم يكن يلائم ما بذلوا أيام علي من جهد، ولم يكن يلائم كذلك ما كان في أيديهم من قوة، فمنهم من كان يقول للحسن: يا مذل المؤمنين! ومنهم من كان يقول له: يا مذل العرب! ومنهم من كان يقول له: يا مسود وجوه العرب.
ولكن الحسن لم يحفل بشيء من ذلك، وإنما رضي عن خطته كل الرضى، رأى فيها حقنا للدماء ووضعا لأوزار الحرب وجمعا لكلمة الأمة، وتمكينا للمسلمين من أن يستقبلوا أمورهم مؤتلفين لا مختلفين ومتفقين لا مفترقين، ومن أن يفرغ أهل الثغور لثغورهم يردون عنها طمع العدو فيها وفيما وراءها، ومن أن يفرغ الجند للفتح يستأنفونه من حيث وقفته الفتنة.
ويقول الرواة: إن الحسين بن علي رحمه الله لم يكن يرى رأي أخيه ولا يقر ميله إلى السلم، وإنه ألح على أخيه في أن يستمسك ويمضي في الحرب، ولكن أخاه امتنع عليه وأنذره بوضعه في الحديد إن لم يطعه.
وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فقد كان علي نفسه يتنبأ ببعض ذلك، يتحدث بأن الحسن سيخرج من هذا الأمر، وبأن الحسين هو أشبه الناس به، وربما قسا على الحسن شيئا، فقال: إن الحسن فتى من الفتيان صاحب جفان وخوان.
وقد فرغ الحسن من هذا الأمر كله وارتحل بأهل بيته إلى المدينة، وترك معاوية في الكوفة يدبر أمر دولته الجديدة كما يشاء، ولكن الحسن لم يكد يبعد عن الكوفة حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يرده إلى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج خرجت عليه، فأبى الحسن أن يعود، وقال: لقد صالحته وما أريد إلا حقن الدماء واجتناب الحرب، وانتهى الحسن إلى المدينة فلقي من أهلها إثر وصوله إليها من لامه في الصلح كما لامه فيه أهل الكوفة، فكان يقول للائميه: كرهت أن ألقى الله عز وجل فإذا سبعون ألفا أو أكثر تشخب أوداجهم دما، يقول كل منهم: يا ربي، فيم قتلت؟!
الفصل الرابع والأربعون
ولم يكد الحسن يترك الكوفة في طريقه إلى المدينة حتى أظهر معاوية لأهل العراق شدة بعد لين وعنفا بعد رفق، فأعلن إليهم أول الأمر ألا بيعة لهم عنده حتى يكفوه بوائقهم، ويردوا عنه خوارجهم هؤلاء الذين خرجوا عليه، فمضى أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم كما كانوا يقاتلونهم أيام علي، واستبان لهم أن أمرهم لم يتغير وأنهم كانوا يقاتلون أبناءهم وإخوانهم وأولي مودتهم ليطيعوا عليا، ثم هم الآن يقاتلونهم ليطيعوا معاوية.
ثم أعرب لهم معاوية بعد ذلك عن خطته التي رسمها وسياسته التي سيتوخاها فيهم، فأنبأهم بأنه نظر فرأى أمور الناس لا تصلح إلا بخصال: أولها أن يأتي المسلمون عدوهم في بلادهم قبل أن يأتيهم هؤلاء العدو في بلاد الإسلام، ولهم على ذلك أن يأخذوا أعطياتهم في إبانها، والخصلة الثانية أن بعوثهم إلى الثغور القريبة عليها أن تقيم في ثغورها ستة أشهر، فإذا بعدت الثغور فعلى البعوث أن تقيم فيها سنة، والخصلة الثالثة أن تصلح البلاد وترعى مرافقها حتى لا يصيبها الجهد، ثم أعلن إليهم أنه كان قد حرص على أن يخرج الناس من الفتنة، ويضع عنهم أوزار الحرب، ويكف بأس بعضهم عن بعض، ويجمع كلمتهم، وفي سبيل ذلك اشترط شروطا ووعد عدات ومنى أماني، وإنه الآن يضع هذا كله تحت قدمه.
ثم أعلن إليهم آخر الأمر أن ذمته بريئة ممن لم يقبل فيعطي البيعة، وأجلهم ثلاثا فأقبل الناس من كل أوب يبايعون، وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أن معاوية صانع أهل العراق ورفق بهم، حتى يتم له الصلح ويستقيم له الأمر ويخرج الحسن من العراق، فلما تم له ما أراد اصطنع الحزم وساس أهل العراق سياسة لم يكونوا يعرفونها من قبل.
فأخرجهم من الدعة التي ألفوها، وعلمهم أن طاعة الأمراء فرض لا ينبغي التردد فيه أو الالتواء به، وأن من لم يعط الطاعة فلا أمان له، وقد برئت منه ذمة السلطان، هنالك عرف أهل العراق أن حياتهم قد تغيرت، وأنهم سيستقبلون من أمرهم أشد وأقسى مما كانوا يظنون.
وقد ولى معاوية المغيرة بن شعبة أمر الكوفة، وولى عبد الله بن عامر أمر البصرة، فعاد إليها بعد أن كان قد فارقها بقتل عثمان، وعاد معاوية إلى الشام يدبر أمر دولته من دمشق.
وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام علي فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم، ويندمون كذلك على ما كان من الصلح بينهم وبين أهل الشام، وجعلوا كلما لقي بعضهم بعضا تلاوموا فيما كان، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون، ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسن والقول له والاستماع منه.
وقد أقبل عليه ذات يوم وفد من أشراف أهل الكوفة، فقال له متكلمهم سليمان بن صرد الخزاعي: «ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد ولا حظا من العطية، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتابا بأن الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنه أعطاك شيئا بينك وبينه، ثم لم يلف به، ثم لم يلبث أن قال على رءوس الناس: إني كنت شرطت شروطا ووعدت عدات إرادة لإطفاء نار الحرب ومداراة لقطع هذه الفتنة، فأما إذ جمع الله لنا الكلمة والألفة وأمننا من الفرقة فإن ذلك تحت قدمي، فوالله ما اغترني بذلك إلا ما كان بينك وبينه، وقد نقض، فإذا شئت فأعد الحرب جذعة وائذن لي في تقدمك إلى الكوفة فأخرج عنها عامله وأظهر خلعه، وتنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.»
وقال الآخرون مثل ما قال سليمان بن صرد، فهم إذن إنما جاءوا المدينة ولقوا الحسن ليعاتبوه أولا لأنه جنح إلى السلم على رغم ما كان عنده من قوة وعدد، وليعاتبوه ثانيا، لأنه حين أمضى الصلح لم يشهد عليه وجوه الناس من أهل المشرق والمغرب، ولم يشترط لنفسه ولاية العهد، ثم لينبئوه ثالثا بأن معاوية قد نقض الصلح وأعلن نقضه على رءوس الأشهاد، ثم ليطلبوا إليه بعد ذلك أن يعيد الحرب جذعة وأن يأذن لهم في أن يسبقوا إلى الكوفة فيعلنوا فيها خلع معاوية ويخرجوا منها عامله، وحينئذ ينبذ الحسن إلى معاوية على سواء؛ إن الله لا يحب الخائنين.
وقد قبل الحسن منهم شيئا ورفض شيئا، وكان فيما قبل منهم أبى عليهم ناصحا لهم رفيقا بهم مؤثرا السلم وحقن الدماء، ولكنه على ذلك لم يوئسهم وإنما أبقى لهم شيئا من أمل، فقال لهم فيما روى البلاذري: «أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أعمل وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت فيما فعلت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر والزموا بيوتكم وأمسكوا، وكفوا أيديكم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.»
فقد أعطاهم الحسن - كما ترى - الرضى حين أعلن إليهم أنهم شيعة أهل البيت وذوو مودتهم، وإذن فمن الحق أن يسمعوا له ويأتمروا بأمره ويكونوا عند ما يريد منهم، ثم بين لهم أنه لم يصالح معاوية عن ضعف ولا عن عجز، وإنما أراد حقن الدماء، ولو قد أراد الحرب لما كان معاوية أشد منه قوة ولا أعسر مراسا، ثم طلب إليهم أن يرضوا بقضاء الله ويطيعوا السلطان ويكفوا أيديهم عنه، وأنبأهم بأنهم لن يفعلوا ذلك آخر الدهر، ولن يستسلموا لعدوهم في غير مقاومة، وإنما هو انتظار إلى حين، هو انتظار إلى أن يستريح الأبرار من أهل الحق أو يريح الله من الفجار من أهل الباطل.
فهو إذن يهيئهم للحرب حين يأتي إبانها ويحين حينها، ويأمرهم بالسلم المؤقت حتى يستريحوا ويحسنوا الاستعداد، ومن يدري؟! لعل معاوية أن يريح الله منه، فتستقبل الأمة أمرها على ما يحب لها صالحو المؤمنين.
وأعتقد أنا أن اليوم الذي لقي الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفة، فسمع منهم ما سمع وقال لهم ما قال ورسم لهم خطتهم، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسي المنظم لشيعة علي وبنيه، نظم الحزب في المدينة في ذلك المجلس، وأصبح الحسن له رئيسا، وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة، ويهيئونهم لهذا السلم الموقوت ولحرب يمكن أن تثار حين يأتي الأمر بإثارتها من الإمام المقيم في يثرب.
وكان برنامج الحزب في أول إنشائه كما ترى واضحا يسيرا لا عسر فيه ولا تعقيد، طاعة الإمام من بني علي والانتظار في سلم ودعة حتى يؤمروا بالحرب فيثيروها.
ومضى أمر الحزب على ذلك، فجعل الشيعة يلقى بعضهم بعضا يتذاكرون أمورهم، ويسجلون على معاوية وولاته ما يتجاوزون به حدود الحق والعدل، وينتظرون أن يأمرهم الإمام بالخروج.
الفصل الخامس والأربعون
ولكن الإمام لم يأمرهم بالخروج، ولعله كان يأمرهم بالعافية ويتقدم إليهم بين حين وحين إذا لقيهم أثناء وفودهم على موسمهم، بأن يؤثروا البقيا ويصطنعوا الرفق، ولا يعرضوا أنفسهم لبطش السلطان.
ولم تكن شيعة أهل البيت مقصورة على الكوفة ولكنها كانت منتشرة في آفاق البلاد، تقل في بعضها وتكثر في بعضها الآخر، وكانت أمزجتها تختلف في المعارضة باختلاف كثرتها وقلتها، وباختلاف سياسة الولاة لها، فكانت تتفق قبل كل شيء على أن ولاية معاوية شر ليس من احتماله بد، حتى تتهيأ الفرصة للتخلص منه، إما باستراحة الأبرار وحسن استعدادهم للخروج وقدرتهم عليه، وإما بموت الفجار وعودة الأمر شورى بين المسلمين، وكانت الشيعة تنشط أشد النشاط في نشر الدعوة للإمام من أهل البيت بحيث يئول الأمر إليه، حين يستشار المسلمون في أمر خلافتهم، فكانوا يدعون إلى إمامهم في السلم، يلينون في هذه الدعوة ويشتدون حسبما يكون لهم من الأمزجة وما يتاح لهم من الفرص والظروف، وكان الحسن نفسه وفيا لمعاوية ببيعته، حفيظا له على عهده، مستعينا به إن احتاج إلى المعونة مهما يكن نوعها، ولكنه على ذلك كان معارضا ولم يكن يستخفي بمعارضته، وإنما كان يظهر منها ما يشاء في المدينة حيث كان يقيم، وفي مكة حين كان يلم بها أثناء الموسم، وكانت الفرص تواتيه أحسن المواتاة وأيسرها، فهو كان عذب الروح حلو الحديث كريم المعاشرة حسن الألفة محببا إلى الناس، يحبه أترابه من شباب قريش والأنصار لهذه الخصال، ويحبه الشيوخ من أصحاب النبي لهذه الخصال ولمكانه من النبي، ويحبه عامة الناس لكل هذا ولسخائه وجوده وإعطائه المال حين يسأل وحين لا يسأل، وكان يصبح فيصلي الصبح ويجلس في مكانه، حتى إذا ارتفعت الشمس طاف بأمهات المؤمنين زائرا لهن متحدثا إليهن، يبرهن ويبررنه، ويهدي إليهن ويهدين إليه، ثم يفرغ لبعض شأنه، فإذا صليت الظهر جلس للناس في المسجد فأطال الجلوس يسمع منهم ويقول لهم، يعلم من احتاج منهم إلى العلم، ويؤدب من احتاج منهم إلى الأدب، ويسمع من شيوخ الصحابة من يفيده علما وأدبا، وكان في أثناء هذا كله إذا ذكر السلطان أو ذكر السلطان عنده يعرف الخير وينكر الشر في أرق لفظ وأعذبه، ولكنه كان يشتد حتى يبلغ القسوة إن ذكر أبوه بغير ما يحب، أو لقي من بغى أباه الغوائل أو سعى إليه بمكروه، وكان بعد هذا كله يحسن كما أحسن الله إليه، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، فكان - فيما اتفق المؤرخون والرواة عليه - مزواجا مطلاقا حتى أنكر أبوه عليه ذلك، ونهى الناس عن تزويجه، فلم ينتهوا وكابروا أباه في ذلك مداعبين له، كانوا يرون في الإصهار إلى سبط النبي وابن أمير المؤمنين شرفا أي شرف.
وكان معاوية رفيقا بالحسن أعظم الرفق، واصلا له أحسن الصلة، ولكن معارضة الحسن كانت تبلغه، فيعاتبه فيها لينا حينا وشديدا حينا، ولكن مكان الحسن من معاوية لم يكن محببا إليه ، فقد كان معاوية رجلا بعيد النظر، لم يكد يطمئن إلى الخلافة ويرى أنها قد اطمأنت إليه، حتى فكر في أن يجعلها تراثا بعده لآل أبي سفيان، وكان يفكر في ابنه يزيد دائما، فيرى أن الحسن هو الحائل بينه وبين ما يريد من ذلك، فهو قد تعجل الصلح مع الحسن فعرض عليه ولاية الأمر من بعده.
ومن الحق أن الحسن لم يقبل منه ذلك، وإنما اشترط عليه أن تكون الخلافة بعده شورى بين المسلمين، يختارون لها من أحبوا، وكان الحسن في أكبر الظن يرى أن المسلمين لن يعدلوا به بعد وفاة معاوية أحدا، وكانت الشيعة تؤمن بذلك أشد الإيمان، وتدعو له فتلح في الدعاء.
وهنا يختلف المؤرخون والرواة، فقد توفي الحسن رحمه الله سنة خمسين للهجرة.
فأما الشيعة فيرون أن معاوية قد دس إليه من سمه ليخلو له ولابنه وجه الخلافة، وأما مؤرخو الجماعة من أهل السنة فيروون ذلك ويكثرون من روايته، ولكنهم لا يقطعون به، ومن المحدثين من يرويه ولكنه يراه بعيدا، لا لشيء إلا لأن معاوية قد صحب النبي فلا يليق به أن يأتي مثل هذا الأمر البغيض.
ومؤرخو أهل السنة مع ذلك يتحدثون بأن الحسن نفسه قال لبعض عائديه في مرضه الأخير: «لقد سقيت السم مرات، ولكني لم أسق قط سما أشد علي من هذا الذي سقيته هذه المرة، ولقد لفظت آنفا قطعة من كبدي.»
ويتحدثون كذلك بأن أخاه الحسين رحمه الله سأله عمن سقاه السم، فأبى أن ينبئه به مخافة أن يقتص منه بغير حجة قاطعة عليه، يئس الحسن من الحياة وكره أن يلقى الله وقد اقتص له بالشبهة، فآثر أن يكل هذا القصاص إلى الله عز وجل.
وبعض المؤرخين يزعم أن جعدة بنت الأشعث بن قيس زوج الحسن هي التي اختارها معاوية لتدس السم للحسن في بعض شرابه أو طعامه، ورشاها في ذلك بمائة ألف دينار، ومنهم من يزعم أنه وعدها بأن يتخذها لنفسه زوجا، فلما مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وكره أن يتزوجها، مخافة أن تفعل به ما فعلت بالحسن، والتكلف في هذه الرواية ظاهر، ذهب بها أصحابه إلى ما عرف من كيد الأشعث بن قيس لعلي فأرادوا أن تكون ابنته هي التي كادت للحسن حتى أوردته الموت.
وبعض المؤرخين يرون أن معاوية لم يبعد في الاختيار بين زوجات الحسن، وإنما اختار لسمه قرشية هي هند بنت سهيل بن عمرو، ذلك الذي سفر عن قريش إلى النبي في صلح الحديبية.
ولست أقطع بأن معاوية قد دس إلى الحسن من سمه، ولكني لا أقطع كذلك بأنه لم يفعل، فقد عرف الموت بالسم في أيام معاوية على نحو غريب مريب، مات الأشتر - فيما يقول المؤرخون - مسموما في طريقه إلى ولاية مصر، فخلصت مصر لمعاوية، وقال معاوية وعمرو: «إن لله لجندا من عسل.» ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مسموما بحمص في خبر طويل، ومات الحسن بين هذين الرجلين مسموما كذلك في أكبر الظن، وخلصت الخلافة لمعاوية وابنه يزيد.
وما ينبغي أن يذكر أمر الحسين بن علي، فإن الحسين لم يكن قد نصب نفسه للبيعة ولم يكن إماما للمسلمين، ولم يكن معاوية قد صالحه ولا وعده ولا شرط له، ومع ذلك فقد هم معاوية أن ينحي الحسين عن مكانه شيئا لتخلص له الطريق من ابني فاطمة وسبطي النبي، فقال ذات يوم لعبد الله بن عباس ممازحا وهو يريد الجد: «أنت سيد قومك بعد الحسن.» ولكن عبد الله بن عباس لم ينخدع له وإنما أجابه في صرامة: «أما وأبو عبد الله حي فلا.»
ومع ذلك فلم يتردد معاوية - كما سترى - في أن يبايع بولاية العهد لابنه يزيد، وأكره الحسين كما أكره غيره من شباب المهاجرين على أن يسكتوا عن هذه البيعة، التي كانوا ينكرونها في أنفسهم أشد الإنكار.
ومهما يكن من شيء فقد صارت رياسة الشيعة إلى أبي عبد الله الحسين بن علي - رحمه الله - بعد وفاة أخيه.
الفصل السادس والأربعون
وكان الاختلاف بين هذين الأخوين في الطبع والمزاج والسيرة شديدا، كان الحسن كما رأيت صاحب أناة ورفق، كرها إليه الحرب وسفك الدماء وحملاه على أن يؤثر السلم ويترك خلافة تكلفه مثل ما كلفت أباه من أهوال الحرب.
وكان الحسين كأبيه صارما في الحق لا يحب الرفق ولا الهوادة ولا التسامح فيما لا ينبغي التسامح فيه، كره صلح أخيه وهم أن يعارض؛ فأنذره أخوه بأن يشده في الحديد حتى يتم الصلح.
وكان الحسين يعيب الصلح لأنه إنكار لسيرة أبيه، ثم لم يكن الحسين مزواجا مطلاقا، ولم يكن ميسرا على نفسه في أمر الدنيا، ولا متبسطا في الحديث، ولا متحببا إلى الناس، وإنما كان صارما على نفسه صارما على غيره، يتجرع مرارة الصبر على ما لا يحب، رأى الوفاء لأخيه حقا عليه فوفى له وأطاعه كما أطاع أباه من قبله، وما أشك في أنه أثناء هذه السنين التي قضاها في المدينة بعد صلح أخيه، كان يتحرق تشوقا إلى الفرصة التي تتيح له استئناف الجهاد من حيث تركه أبوه، وقد أتيحت له هذه الفرصة شيئا ما حين صارت إليه رياسة الشيعة، وأقول: شيئا ما؛ لأن الفرصة لم تتح له كاملة، فقد أصبح سيد قومه ورئيس حزبه، ولكنه بايع معاوية وما كان له أن ينقض بيعته أو ينحرف عما أعطى على نفسه من العهد والميثاق.
وكان الحسين صاحب فطنة، حسن النظر في الأمور، رأى الدولة منقادة لمعاوية قد ضبطت له أمصارها، وعرف هو كيف يسوس الناس بالحلم والرفق والسخاء، وكيف يولي في الأمصار من يسوسون أهلها بالقسوة الصارمة والخوف المخيف، فلم يحاول الخروج حين أتيحت له الفرصة بما كان من نقض معاوية لما بايع الناس عليه، من الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله.
وقد نقض معاوية هذه البيعة ما في ذلك شك، ونقضها مرتين: إحداهما حين قتل من قتل من أهل الكوفة كما سترى، والثانية حين بايع بولاية العهد لابنه يزيد، وجعل الخلافة وراثة ينقلها لابنه كما ينقل إليه ماله، مع أن أمر الخلافة ليس ملكا خاصا للخليفة، وإنما هو ملك عام لجماعة المسلمين.
وكان إسراف معاوية في أموال المسلمين وتوليته الجبابرة على الأمصار، وإسراف أولئك الجبابرة في أموال الناس ودمائهم، كل ذلك كان نقضا منه للبيعة التي أعطاها للناس، تبرئ ذمة الحسين لو أراد الخروج.
وقد همت عائشة نفسها أن تخرج بعد قتل من قتل معاوية من أهل الكوفة، ولكنها أشفقت أن تثير فتنة عقيما كالتي أثارتها حين خرجت مع صاحبيها مطالبة بدم عثمان، فكفت نفسها عن الخروج.
وقد رأى الحسين أن الأمر لا يستقيم له إن هم بالثورة فصبر نفسه على ما تكره، ولكنه غير سياسة أخيه التي ساس بها الحزب، فأطلق لسانه في معاوية وولاته حتى أنذره معاوية، ثم أغرى حزبه بالاشتداد في الحق والإنكار على الأمراء ففعلوا، وكانت الكوفة خاصة مركز المعارضة العنيفة لمعاوية وعامله زياد.
ونلاحظ أن آثار هاتين السياستين ظاهرة أشد الظهور، فلم يؤذ الشيعة في أنفسهم ولا في أموالهم ما عاش الحسن، كانوا يعارضون في لين وينكرون في رفق، وكان معاوية وولاته يسمعون منهم ويكفون عنهم، وربما استصلحوهم بالقول والعمل، فلما صار أمر الشيعة إلى الحسين عنفت المعارضة وكادت تصبح ثورة في الكوفة، فلقيها معاوية وولاته بالشدة بل بالإسراف في الشدة، حتى تجاوزوا في قمعها كل حد معقول.
وكانت سياسة الحسين مقوية للشيعة ومضعفة لها في وقت واحد، كانت مضعفة لها لأنها جرت على كثير من أنصار أهل البيت محنا قاسية، وكانت مقوية لها لأنها جعلت الشيعة مضطهدين أشد اضطهاد وأقساه.
وليس شيء من سياسة الناس يروج للآراء ويغري الناس باتباعها كالاضطهاد الذي يعطف القلوب على الذين تلم بهم المحن، وتصب عليهم الكوارث، وتبسط عليهم يد السلطان، والذي يصرف القلوب عن هذا السلطان الذي يدفع إلى الظلم ويمعن فيه، ويرهق الناس من أمرهم عسرا.
ولذلك عظم أمر الشيعة في الأعوام العشرة الأخيرة من حكم معاوية، وانتشرت دعوتهم أي انتشار في شرق الدولة الإسلامية وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني أمية وحب أهل البيت لأنفسهم دينا.
الفصل السابع والأربعون
ولم يكن لين الحسن وشدة الحسين هما وحدهما مصدر ما أصاب الشيعة في العراق من يسر وعسر، وإنما أعان ولاة معاوية في العراق على الأمرين جميعا، فأما البصرة فكانت عثمانية، وقد رأيت من أمرها ما رأيت، وعرفت أنها لم تستقم لعلي إلا كارهة، وأما الكوفة فكانت موطن الشيعة ومستقر دعوتهم.
وقد ولي أمر هذين المصرين - بعد أن استقام الأمر لمعاوية - رجلان لم يحبا العنف ولم يذهبا إليه، ولي البصرة عبد الله بن عامر فاستأنف فيها سيرته أيام كان عاملا لعثمان، نظر إلى نفسه ولم ينظر إلى الناس، فجمع من المال ما استطاع أن يجمع، وأرسل للناس أعنتهم يخبون في الشر ويوضعون، وكانت الفتن قد غيرت من أخلاقهم، وطرأ عليها كثير من الأغراب، وكثر فيها الموالي، ونشأ فيها جيل جديد مختلط، ففشا فيهم الفسق، وفسد أمر السلطان، وسقطت هيبة الوالي في نفوسهم؛ لأنه كان مشغولا عنهم بنفسه، ولأنه كان - فيما زعم - يتألف الناس ويكره أن يقطع يد سارق، ثم يرى أخاه أو أباه بعد ذلك، وأقام على هذه السياسة حتى عصي السلطان جهرة، وفزع أهل المصر إلى معاوية فعزله عنهم، في قصة طويلة.
وولى على البصرة عاملا آخر لم يقم فيها إلا شهرا ثم عزله، وولى زيادا كما سترى، فحارب الشر بالشر، وأزال نكرا ليضع مكانه نكرا آخر.
وكان عامل معاوية على الكوفة رجلا آخر داهية من دواهي العرب هو المغيرة بن شعبة، وأمر المغيرة بن شعبة غريب كله، اختلط فيه الخير بالشر حتى أصبح مشكلة من المشكلات، غدر في شبابه بجماعة من أهل الطائف، قتلهم جميعا بعد أن سقاهم حتى ذهبت الخمر بعقولهم وناموا لا يعقلون، فوثب عليهم فقتلهم، وكانوا اثني عشر أو ثلاثة عشر رجلا، ولم يستطع أن يعود إلى وطنه في الطائف، فاستاق مالا كثيرا كان هؤلاء الناس قد قدموا به من مصر، فمضى به حتى أتى المدينة فأسلم وعرض ما ساق من المال على النبي فأبى أن يقبله؛ لأنه نتيجة الغدر وليس في الغدر خير، وسأله المغيرة عن مصيره، وقد أسلم بعد أن فعل فعلته تلك، فقال له النبي: «إن الإسلام يجب ما قبله.» وقد نصح للنبي بعد ذلك وتعرض لأخطار كثيرة في حرب الردة وفي فتح الشام، حتى فقد إحدى عينيه في وقعة اليرموك، ثم شارك في فتح فارس فأبلى أحسن البلاء، وقد أمره عمر على البصرة، وكأن إسلامه لم يكن عميق الأثر في نفسه، فقد شهد عليه نفر بالزنى عند عمر، وأوشك عمر أن يقيم عليه الحد، لولا أن لجلج أحد الشهود وهو زياد، فأقيم حد القذف على الشهود الآخرين وعزل المغيرة عن البصرة، ولكن عمر ولاه الكوفة بعد ذلك، أقام عاملا عليها حتى قتل عمر، واستبقاه عثمان على عمله وقتا قصيرا ثم عزله، وقد اعتزل الفتنة، أو قل: اعتزل أول الفتنة، فلم يشارك في الثورة بعثمان ولم يبايع عليا ولم يشهد الجمل ولا صفين، ولكنه شهد اجتماع الحكمين، وعسى أن يكون قد لعب في هذا الاجتماع بعض اللعب، فلما تفرق الحكمان استبان له أن الدنيا قد أدبرت عن علي، فأظهر الاعتزال فيما كان يرى من سيرته، ولكنه مال إلى معاوية ميلا واضحا، فلما قتل علي كان من أسرع الناس إلى معاوية، وأقبل معه من الشام حتى دخل الكوفة، فشهد فيها صلح الحسن وبيعة الناس لمعاوية، واختطف ولاية الكوفة اختطافا، فيما يقول المؤرخون، فقد روي أن معاوية هم أن يولي على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، أو يولي على الكوفة عمرا ويجعل ابنه على مصر، فقال له المغيرة بن شعبة: وتقيم أنت بين فكي الأسد، هذا في العراق وهذا في مصر؟! فعدل معاوية عن رأيه وجعل المغيرة واليا على الكوفة.
وزعم الرواة أن عمرا عرف كيد المغيرة فجزاه بمثله، قال لمعاوية: تجعل المغيرة على الخراج؟! هلا وليت رجلا آخر عليه يكون أقدر على جمع الخراج وضبطه؟! وعرض له بأن في المغيرة ضعفا للمال، فاكتفى معاوية بتولية المغيرة على الحرب والصلاة وجعل الخراج على غيره، ولقي عمرو المغيرة، فقال له: هذه بتلك.
وكانت سياسة المغيرة للكوفة كسياسة عبد الله بن عامر للبصرة، نظر فيها المغيرة إلى نفسه أكثر مما نظر إلى غيره، فرفق بالناس وأسمح لهم، وترك لمعارضي بني أمية من أنصار علي ومن الخوارج قدرا حسنا من الحرية.
وكان معاوية قد تقدم إليه في أن يتعقب أنصار علي ويشدد عليهم، فكان يلائم بين ما أراد معاوية وبين ما كان هو يحب من العافية، وأمره وأمر عبد الله بن عامر أيسر مما ظن المؤرخون، كلاهما ولي الأمصار للخلفاء السابقين، فتعود في سياسة الناس سيرة من الرفق والدعة والأناة، لم يكن من اليسير عليه أن يخالف عنها.
ومعاوية بعد ذلك رجل من أصحاب النبي، فكان من الطبيعي أن تكون سياسته وسياسة ولاته على الأمصار للناس في حياتهم اليومية شبيهة إلى حد بعيد بسياسة الخلفاء والولاة من قبلهم، وقد كانت كذلك في مصر أيام عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وكانت كذلك في مصري العراق، إلا أن الناس أحدثوا أحداثا لم تكن، كما قال زياد، فأحدث معاوية وولاته لهذه الأشياء سياسة تلائمها، ولم تتغير سيرة المغيرة في الخوارج من أهل الكوفة، وإنما سار فيهم سيرة علي، تركهم أحرارا يلقى بعضهم بعضا ويجتمعون ويتذاكرون أمرهم، وأبى أن يعرض لهم إلا أن يحدثوا شرا، أو يبادوه بعداوة.
وكان المغيرة أشد احتياطا من علي، فكان له من يعلمه علم الخوارج، وكان يحاول أن يمنع خروجهم قبل وقوعه، وربما دفعه ذلك إلى أخذهم أثناء اجتماعاتهم وإلقائهم في السجن، فإذا خرجت منهم خارجة ونصبت له الحرب، أو أفسدت في الأرض، أرسل إليها من أهل الكوفة من يقاتلها حتى يكفيه شرها.
وكانت سيرته في الشيعة أيسر من ذلك وأسمح، لم يعرض لهم بمكروه وربما بادوه بالكلام القاسي الغليظ فنصح لهم ورفق بهم، وحبب إليهم العافية، وخوفهم بطش السلطان، ثم لم يؤذهم بعد ذلك في أنفسهم ولم يرزأهم من أموالهم شيئا.
وقد انتفع الشيعة بهذه السياسة الرفيقة فنظموا أمورهم، وعارضوا سياسة الأمويين معارضة حرة، كان معاوية يكرهها ولكنه لم يكن يجد على أصحابها سبيلا، وقد أقام المغيرة واليا على الكوفة لمعاوية عشر سنين، لم ينكر الشيعة فيها منه شيئا ذا خطر إلا أن يكون عيبه لعلي، وقد كان مضطرا إلى ذلك بحكم السياسة الجديدة، وكانت الشيعة تلقى ذلك منه بالإغضاء مرة وبالنكر مرة أخرى.
وقد حرص المغيرة أشد الحرص على أن يرضي معاوية عن نفسه ليستديم ولايته على الكوفة، توسط بين معاوية وزياد حتى ضمن الأمان من معاوية لزياد، وضمن الطاعة من زياد لمعاوية، وعسى أن يكون له أثر فيما كان من استلحاق زياد، فأدى بذلك حق زياد، وعرف له ما قدم إليه من جميل حين لجلج في الشهادة بين يدي عمر فأعفاه من الحد، ثم هو بعد ذلك قد أرضى معاوية حين أراحه من كيد زياد له ومكره به، وحين حول زيادا من العدو الكائد الماكر إلى الولي الناصح الأمين، وألقى المغيرة في نفس معاوية فكرة ولاية العهد، ولعل معاوية لم ينتظر بهذه الفكرة مشورة المغيرة، ولكن المغيرة جرأه على التفكير فيها والجهر بها، وضمن له أهل الكوفة، وألقى هذه الفكرة نفسها في قلب يزيد، ففتح له أبوابا من الطمع لعلها لم تكن تخطر له على بال.
وكذلك عاش المغيرة هذه الأعوام العشرة مستريحا مريحا، أرضى السلطان وأرضى الرعية وأرضى نفسه، وإن لم يكن إرضاء نفسه يسيرا، فقد كان صاحب لذة ومسرفا على نفسه وعلى الناس، كثير الزواج كثير الطلاق، لم يكن يتزوج واحدة واحدة ويطلق حين يجتمع له أربع زوجات وحين يريد أن يستزيد، وإنما كان كثيرا ما يطلق أربعا ويتزوج أربعا، حتى أسرف المؤرخون عليه بعد ذلك، فزعم المكثرون أنه تزوج ألف امرأة في حياته الطويلة، وزعم المقللون أنه تزوج مائة أو تسعا وتسعين، وتوسط المعتدلون فزعموا أنه تزوج ثلاثمائة، وليس من شك في أنه كان يؤدي إلى هؤلاء الزوجات مهورا، وليس من شك كذلك في أنه كان يرضي كثيرا منهن عن الطلاق السريع، وما أحسب أن ثروته الخاصة كانت تقوم له بهذا السرف الكثير.
فحياة المغيرة كما ترى كانت خليطا من العمل الصالح والعمل السيئ، وأمره وأمرها بعد ذلك إلى الله، ولكن المهم هو أن سياسته حين ولي الكوفة لمعاوية قد يسرت للشيعة أمرها تيسيرا حتى كان أهل الكوفة يذكرونه بالخير كلما بلوا بعده قسوة الأمراء.
الفصل الثامن والأربعون
ولكن الأمور تتغير في البصرة حين يليها زياد سنة خمس وأربعين، ثم تتغير في الكوفة حين يضاف أمرها إلى زياد بعد موت المغيرة سنة خمسين، ولم تكن حياة زياد أقل غرابة من حياة المغيرة، كما لم يكن زياد نفسه أقل ذكاء ودهاء، ولا أدنى مكرا وكيدا من المغيرة، بل المحقق أنه قد تفوق على المغيرة في هذا كله.
وكان زياد ذا شخصيتين مزدوجتين، عاش بأولاهما أيام الخلفاء الراشدين، وعاش بالثانية بعد أن صالح معاوية، وكانت الشخصيتان متناقضتين إلى أقصى حدود التناقض وأبعد غاياته، كان راشدا حين عمل للخلفاء الراشدين، وكان طاغية جبارا حين عمل لمعاوية، وكان يرى نفسه في الحالين ناصحا للمسلمين، وكان يظن أثناء طغيانه أنه أحيا سياسة عمر، ولكن سياسة عمر أصلحت الناس، وسياسة زياد أيام معاوية ملأت حياة الناس وقلوبهم شرا ونكرا وفسادا.
وكان زياد أيام الخلفاء الراشدين رجلا من موالي ثقيف ولدته أمة للحارث بن كلدة، هي سمية، ولعلها كانت فارسية أو هندية، فأما أبوه فقد كان عبدا روميا لصفية بنت عبيد، زوج الحارث بن كلدة أيضا، وكان اسمه العربي «عبيد»، فقد كان زياد إذن مولى لآل الحارث بن كلدة من ثقيف، وكان حدثا أيام النبي، فقد ولد - فيما يقال - عام الهجرة أو بعيد الهجرة بقليل، ومن الناس من يقول عام الفتح.
وقد سار إلى العراق فيمن سار إليه مع عتبة بن غزوان، وكان عتبة قد تزوج بنت الحارث بن كلدة، وامرأته صفية، فأقام مع مواليه الذين شاركوا في الفتح، ومضى أمره كما استطاع أن يمضي، لا نعلم من أمر صباه وشبابه الأول شيئا، ولكنا نراه كاتبا لأبي موسى الأشعري حين كان أميرا على البصرة، ونراه رسولا إلى عمر ببعض الحساب، ونقرأ أن عمر قد أعجب بذكائه وفصاحته وحفظه للعدد وتصرفه فيه، وقد أمره أن يعرض الحساب على الناس كما عرضه عليه، ففعل. وأعجب هؤلاء العرب من أصحاب النبي بهذا الفتى الفصيح الجريء الذي يلعب بالأرقام لعبا لا عهد لهم به، ولم يخف عمر هذا الإعجاب.
ويزعم بعض الرواة أن أبا سفيان همس في ذلك اليوم بأن زيادا ابنه، ولم يجهر بذلك مخافة عمر، وأكبر الظن أن هذا الخبر اخترع بأخرة.
والمؤرخون يحدثوننا بأن عمر أعطى زيادا ألف درهم، فلما عاد إليه من قابل سأله: ماذا صنعت بالألف؟ قال: اشتريت بها أبي عبيدا فأعتقته.
فقد عرف عمر إذن أن لزياد أبا هو عبيد، وكان عبيد هذا من الخمول بحيث لا يكاد الناس يعرفونه، فكانوا يضيفونه إلى أمه، فيقولون: زياد بن سمية، وربما لم يضيفوه إلى أمه ولا إلى أبيه فقالوا: زياد الأمير، وربما قال خصومه ومعارضوه من الشيعة والخوارج بعد عمله لمعاوية: زياد ابن أبيه.
وقد ظل زياد في البصرة يكتب لأمرائها أيام عمر وعثمان، فلما كان يوم الجمل وانتصر علي سأل عن زياد، فأنبئ بأنه مريض، فعاده، واستبان استعداده للنصح له، فهم علي أن يوليه البصرة، ولكن زيادا أشار عليه أن يجعل على هذا المصر رجلا من أهل بيته يهابه الناس ويطمئنون إليه، وذكر له ابن عباس، فولاه علي، وعمل زياد لعبد الله بن عباس كما عمل للولاة من قبله، فلما انصرف ابن عباس عن البصرة في قصته تلك التي ذكرناها آنفا، قام زياد مقامه وأحسن الحيلة والبلاء في الاحتفاظ بهذا المصر لعلي، على رغم ما كاد معاوية لانتزاعها منه.
ولما قتل علي واستبان أن الأمر صائر إلى معاوية تحول زياد إلى فارس، وكان قد استصلحها وأحبه أهلها، فاعتصم بقلعة هناك عرفت باسمه فيما بعد، وظل ينتظر حتى إذا استقام الأمر لمعاوية وبايعت له جماعة الناس، وكان زياد وحده متربصا في قلعته تلك يكره أن ينزل على حكم معاوية، أو أن يدخل فيما دخل فيه الناس، دون عهد من معاوية له بالأمان، وكان معاوية ضيقا بمكان زياد في قلعته تلك، كان يعلم مكره وكيده وبعد غوره في الدهاء وسعة حيلته، وكان يعلم أن عنده مالا كثيرا، وأن له أنصارا يتعصبون له من أهل فارس، وكان يكره أن ينتقض عليه وأن يبايع لرجل من أهل البيت، فيفسد عليه الجماعة ويخرجه من العافية إلى الحرب وسفك الدماء. وكانت لزياد يد عند المغيرة بن شعبة سبقت إليه أيام عمر، حين لجلج زياد في الشهادة فأعفاه من الحد، فتوسط المغيرة بين معاوية وبين زياد حتى أصلح بينهما، وأخذ لزياد ما أراد من الأمان، وقنع منه معاوية بمال قليل أداه إليه مما كان عنده من الخراج، وأذن له معاوية في أن ينزل من بلاد المسلمين حيث يشاء، فإن أحب العراق أقام فيها، وإن أحب الشام تحول إليها.
ولأمر ما خطر لزياد أو لمعاوية أو للمغيرة أن يتصل نسب زياد ببني أمية وبأبي سفيان خاصة، كأن أبا سفيان قد عرف سمية في بعض زيارته للطائف.
ويقال إن زيادا احتال حتى دس إلى معاوية من زعم له أن أهل العراق ينسبون زيادا إلى أبي سفيان، فانتهز معاوية هذه الفرصة ودعا إليه زيادا، ثم جمع الناس، فشهد الشهود بأن أبا سفيان قد عرف سمية، واكتفى معاوية بذلك، فألحق زيادا بأبي سفيان وجعله أخاه.
وواضح جدا ما في هذا الاستلحاق من التكلف والاحتيال، وقد أنكره الصالحون من المسلمين، حين أعلنه معاوية، وحرص عليه زياد أشد الحرص، وغضب له موالي زياد من بني ثقيف.
ويحدثنا البلاذري بأن معاوية أرضى سعد بن عبيد أخا صفية عن هذا الاستلحاق بما أعطاه من المال، ولكن يونس بن سعد لم يرض وأراد أن يصل إلى معاوية ليحاجه في هذا الاستلحاق فلم يستطع الوصول إليه، فلما حضرت الصلاة من يوم الجمعة ذهب يونس إلى المسجد وقطع على معاوية خطبته قائلا له: «اتق الله يا معاوية، فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قضى بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنت قد جعلت للعاهر الولد وللفراش الحجر، وإن زيادا عبد عمتي وابن عبدها، فاردد إلينا ولاءنا.» فقال له معاوية: والله يا يونس لتكفن أو لأطيرن بك طيرة بطيئا وقوعها. قال يونس: أليس المرجع بعد بك وبي إلى الله عز وجل؟!
وقال الشاعر في ذلك:
وقائلة إما هلكت وقائل
قضى ما عليه يونس بن عبيد
قضى ما عليه ثم ودع ماجدا
وكل فتى سمح الخليقة مودي
وقال يزيد بن مفرغ يعيب معاوية بهذا الاستلحاق فيما زعم الرواة:
ألا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغلة عن الرجل اليمان
أتغضب أن يقال أبوك عف
وترضى أن يقال أبوك زاني؟!
وكان معاوية شديد الإيثار لزياد، لا يحتمل أن يقول فيه أحد ما يكره، حتى عرف ذات يوم أن عبد الله بن عامر عاب زيادا وقال فيما قال: لهممت أن أجمع خمسين رجلا من قريش يحلفون بالله ما عرف أبو سفيان سمية، فغضب معاوية لذلك أشد الغضب وقال لحاجبه: «إذا جاء عبد الله بن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب.» لم يكتف بأن يحجبه وإنما منعه من دخول القصر، وقد أنفذ الحاجب أمر معاوية، وضاق عبد الله بن عامر بهذه الجفوة، فشكا أمره إلى يزيد، وتوسط يزيد، فلم يرض معاوية عن عبد الله إلا بعد أن ذهب إلى زياد فاعتذر إليه وأرضاه، ومكان عبد الله بن عامر من عثمان ومن معاوية معروف.
ولم يكن زياد أقل حرصا على نسبه الجديد من معاوية، حتى روى المؤرخون أن رجلا أتى عبد الرحمن بن أبي بكر، وطلب منه أن يكتب في حاجة له إلى زياد، فكتب عبد الرحمن ولم ينسب زيادا إلى أبي سفيان، فأبى الرجل أن يذهب بالكتاب إلى زياد، وجاء عائشة أم المؤمنين فكتبت له: «من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان.» فلما رأى زياد هذا الكتاب قال للرجل: إذا كان الغد فاحضر، فلما حضر الرجل أمر زيادا بالكتاب فقرئ على الناس، وإنما أراد بذلك إلى أن يعلم أهل البصرة أن أم المؤمنين قد اعترفت بنسبه هذا الجديد.
وكان أبو بكرة صاحب رسول الله أخا زياد لأمه ولدته سمية للحارث بن كلدة، ولكن الحارث نفاه، فظل عبدا، فلما كانت غزوة الطائف نزل فيما نزل من العبيد إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه فيمن أعتق من هؤلاء العبيد وقال عنه: «إنه طليق الله وطليق رسوله.» فكان أبو بكرة يقول: إنه مولى رسول الله.
وقد وجد أبو بكرة على زياد حين لجلج في الشهادة بين يدي عمر، فصرف الحد عن المغيرة وعرض أبا بكرة لحد القذف، فلما عرف سعي زياد في الاستلحاق وتدبير معاوية له نهاه عن ذلك وحرج عليه فيه، فلم يسمع له زياد، فلما تم الاستلحاق حلف أبو بكرة لا يكلمه أبدا، ثم لم يكلمه حتى مات.
وكان أبو بكرة يحلف - فيما زعم الرواة - ما كانت سمية بغيا ولا عرفت أبا سفيان.
وبلغه - فيما يقول البلاذري - أن زيادا طمع بعد الاستلحاق في أن يحج، وكأنه أراد أن يكون أمير الحج، وقد استأذن معاوية في الحج فأذن له، فأقبل أبو بكرة حتى دخل على زياد وعنده بعض بنيه، فوجه الحديث إلى أحد بنيه وهو يسمع، فقال: إن أباك هذا أحمق، قد فجر في الإسلام ثلاث فجرات: أولاهن كتمان الشهادة على المغيرة، والله يعلم أنه قد رأى ما رأينا. والثانية في انتفائه من عبيد وادعائه إلى أبي سفيان، وأقسم إن أبا سفيان لم ير سمية قط. والثالثة أنه يريد الحج، وأم حبيبة زوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هناك، وإن أذنت له كما تأذن الأخت لأخيها فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإن هي حجبته فأعظم بها عليه حجة. فقال زياد: ما تدع النصح لأخيك على حال. وعدل عن الحج في هذا العام، واستعفى معاوية منه فأعفاه، وانتظر بالحج، فلم يأت الحجاز حتى ماتت أم حبيبة يرحمها الله.
الفصل التاسع والأربعون
وقد لقي معاوية وزياد في هذا الاستلحاق شططا، فأما معاوية فقد احتاج إلى أن يعنف بقومه من بني أمية خاصة ومن قريش عامة؛ ليدخل عليهم هذا النسب الجديد، وما أراهم احتملوا منهم ذلك إلا خوفا من بطشه أو رغبة في ماله، وكثير منهم أظهر القبول وأضمر الإنكار، وكثير منهم تحفظ فلم يستطع أن ينسب زيادا إلى أبي سفيان، فاكتفى بذكر اسمه أو نسبه إلى أمه سمية.
وأما زياد فقد لقي الشطط كل الشطط يوم أعلن هذا الاستلحاق بمشهد من الجماعة في دمشق، فقد أجلسه معاوية على المنبر إلى جانبه، ثم دعا من شهد على سمية بأنها عرفت أبا سفيان معرفة الإثم، وسمع في أمه ما لا يحب الرجل الكريم أن يسمع في أمه، وبلغ من ضيقه بذلك أن خرج عن طوره فقال لبعض الشهود: لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك. وقال لبعضهم الآخر: إنما دعيت شاهدا لا شاتما. وهو على ذلك قد رضي بهذا الاستلحاق كل الرضى، بل سعى فيه فأحسن السعي، وهو قد خطب في البصرة فحمد الله الذي رفع منه ما وضع الناس، كأنه رأى انتسابه إلى رجل من أشراف قريش أرفع وأعظم خطرا من انتسابه إلى عبد رومي، فكيف وهذا الرجل من أشراف قريش؟! هو أبو معاوية الذي صار إليه سلطان المسلمين.
وهذا أول تغير ظاهر في سيرة زياد، وأول جهر منه بما لم يألفه المسلمون أيام النبي والخلفاء، فقد قام الإسلام - كما عرفت - على التسوية بين السادة والعبيد ولم يفرق بين الناس إلا بالتقوى.
والغريب من أمر زياد أنه خطب الناس خطبته تلك البتراء، فقال فيها كما سترى: «وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا أوتى برجل دعا بها إلا قطعت لسانه.» وهو أول من دعا بدعوى الجاهلية، بل عسى أن يكون هو ومعاوية أول من انحرف عما شرع الإسلام وأمر به القرآن وأكدته السنة تأكيدا، وعاد إلى عرف جاهلي غيره الدين الجديد.
فقد ينبغي أن نقف وقفة تأمل واستقصاء عند هذا الاستلحاق الذي فرضه سلطان معاوية على المسلمين فرضا، وأول ما نلاحظ من ذلك أن في هذه السيرة التي رواها المؤرخون والمحدثون لزياد شيئا من النقص وكثيرا من الغموض، فقد ولد زياد عبدا للحارث بن كلدة، الذي كان يملك أمه سمية أو كان أبوه عبدا لصفية زوج الحارث كما رأيت، ونحن لا نرى زيادا في التاريخ الذي حفظ لنا إلا حرا، فمتى عتق؟ أو من أعتقه؟ وأين كان هذا العتق؟ وهو نفسه قد أنبأ عمر حين أعطاه ألفا ثم سأله عنها من قابل، بأنه اشترى بها عبيدا أباه فأعتقه، فلم يصر عبيد إذن إلى الحرية إلا بأخرة، فهل صار زياد إليها قبل أبيه؟ كل هذه أمور لم يقف عندها المؤرخون والمحدثون، وهي مع ذلك أيسر ما في سيرة زياد من الغموض.
والمشكلة العسيرة حقا في هذه السيرة هي مشكلة الاستلحاق، فقد نحب أن نعلم على أي أصل من أصول الدين أو الدنيا قام هذا الاستلحاق.
فأما الدين فنحن نعلم أن للتبني شروطا قررها الفقهاء، أولها أن يكون الذي يقع عليه التبني من السن بحيث يمكن أن يولد لمن وقع منه هذا التبني، أي أن يكون الفرق بينهما في السن ملائما لما يكون بين الآباء والأبناء من اختلاف الأسنان، وليس من شك في أن زيادا كان أصغر من أبي سفيان، وكان يمكن أن يكون له ابنا.
الشرط الثاني ألا يكون لمن يقع عليه التبني أب معروف، فليس ينبغي أن يدعى الرجل لغير أبيه، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «من ادعى لغير أبيه متعمدا حرمت عليه الجنة.» وقد كان لزياد أب معروف، هو عبيد الرومي ذاك، اعترف بذلك زياد نفسه حين خطب في مجلس الاستلحاق نفسه، فقال: أيها الناس، قد سمعتم قول أمير المؤمنين وقول الشهود، ولست أعلم حق ذلك من باطله، وهم أعلم بذلك مني، وقد كان عبيد أبا مبرورا وواليا مشكورا.
وقد رأيت من حديث أبي بكرة أخي زياد لأمه أن زيادا انتفى من عبيد حين انتسب إلى أبي سفيان، ورأيت كذلك في حديث أبي بكرة أنه أقسم ما عرف أبو سفيان سمية قط، فزياد إذن قد انتفى من أبيه المعروف حين ادعى لأبي سفيان، ومعاوية قد أراده على ذلك، وليس شيء من هذا لهما بحال من الأحوال.
وهناك شرط ثالث لصحة التبني، وهو أن يقبله من يقع عليه التبني، وقد سعى زياد في ذلك حتى أغرى معاوية به ورغبه فيه، ولكنه حين أريد على أن يعلن قبوله إلى الناس أعلنه على استحياء وتردد، كما رأيت في كلمته التي رويناها آنفا، والإقرار ببنوة زياد لأبي سفيان لم يصدر بعد بصفة قاطعة عن أبي سفيان نفسه، وإنما زعم الزاعمون أن أبا سفيان لمح به ولم يجرؤ على إعلانه مخافة عمر، ولكن أبا سفيان عاش صدرا من خلافة عثمان، يقول المقللون إنه ست سنين، ويقول المكثرون إنه عشر سنين، وكان عثمان ألين جانبا من عمر، وكان يظهر لبني أمية من لين الجانب أكثر مما يظهر لعامة قريش وعامة المسلمين، فلو قد كان أبو سفيان مؤمنا حقا بأن زيادا ابنه لأقر بذلك أيام عثمان إلا أن يكون قد عرف أن هذا الإقرار لا يباح له، وأن عثمان لا يمكن أن يجيزه لأن لزياد أبا معروفا هو عبيد، ذلك الرومي.
فقد انتظر معاوية باستلحاق زياد أن يموت أبوه، ثم يستلحقه إثر موت أبيه حين كان قريب المكان من عثمان عظيم الشأن في نفسه، بل لم يستلحقه في أيام علي حين كان يعمل في البصرة لعبد الله بن عباس أو حين قام في البصرة مقام ابن عباس، بل لم يستلحقه أيام الحسن، ولم يستعن به على الصلح ولم يفكر في استلحاقه إلا بعد أن خلص له السلطان من جهة ببيعة الحسن، وحين امتنع عليه زياد في فارس من جهة أخرى.
وعسى أن يكون الاستلحاق شرطا من شروط الصلح بينه وبين زياد، فهو إقرار سياسي ليس المرجع فيه إلى الدين ولا إلى أصل من أصوله، وإنما المرجع فيه إلى الدنيا وتحقيق مصلحة سياسية، وهذه المصلحة السياسية واضحة كل الوضوح.
فقد كان زياد أعلم الناس بأهل العراق، وأقدر الناس على سياستهم وحملهم على الطاعة عن رضى أو عن كره، ولم يكن ذكاؤه ودهاؤه يخفيان على معاوية، بل لم يكونا يخفيان على أحد، فقد اصطنعه معاوية إذن ليكفيه شرق الدولة، وليستطيع هو أن يفرغ لغربها، ولم يكن بد لصحة هذا الإقرار من أن يقبله إخوة معاوية، وسائر من ورث أبا سفيان، وواضح أن هؤلاء لم يكونوا يستطيعون إلا أن يذعنوا طائعين أو كارهين.
وهذا الاستلحاق لمصلحة من مصالح الدنيا قد كان معروفا في الجاهلية، وقد حرمه القرآن بالآيتين الكريمتين من سورة الأحزاب:
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما .
وقد اتفق المسلمون على أن هاتين الآيتين قد ألغتا بنوة زيد بن حارثة من النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان قد تبناه قبل النبوة في قصته تلك المعروفة، لم يكن يرجو بهذا التبني مصلحة من مصالح الدنيا، وإنما تبناه حبا له وعطفا عليه وعملا بعرف كان مألوفا عند العرب، وألغت الآيتان كذلك بنوة سالم من أبي حذيفة، فعدل الناس عن زيد ابن محمد إلى زيد بن حارثة، ولم يعرفوا لسالم أبا، ولم يعرف سالم لنفسه أبا، فقال الناس: سالم مولى أبي حذيفة، وكان أبو بكرة يقول: «لا أعرف لنفسي أبا، فأنا أخوكم في الدين.» وكان ربما قال: «أنا مولى رسول الله.» أو «أنا مولى الله ورسوله.» لأن النبي أعتقه فيمن نزل إليه في غزوة الطائف من عبيد ثقيف.
وكان هذا النحو من الاستلحاق معروفا عند الرومان أيضا، وكان كثير من قياصرتهم يتبنون الرجال ويجعلون إليهم ولاية العهد من بعدهم، ومن يدري؟! لعل معاوية عرف ذلك فيما عرف من أمر الروم، فلم يستلحق زيادا بنفسه وإنما استلحقه بأبيه، وجعله من رهطه، واستعانه على سياسة العراق وما وراءه من الأقطار.
وما أريد أن أدخل فيما أكره الدخول فيه دائما من القول في رضى الله عن هذا الاستلحاق أو غضبه عليه، فأمر ذلك إلى الله وحده، وإنما أحب ألا أتجاوز السياسة والتاريخ، وقد ألف المسلمون منذ عهد النبي ألا يتبنى رجل من كان له أب معروف، أمر بذلك القرآن، وحرج النبي في ذلك على المسلمين أشد التحريج، كما رأيت في حديث عبد الله بن عمر وأبي بكرة: «من ادعي لغير أبيه متعمدا حرمت عليه الجنة.»
ويزيد أمر هذا الاستلحاق تعقيدا أن معاوية لم يرد إلى الاستلحاق الغامض العام، وإنما أراد أن يضع النقط فوق الحروف، كما يقول الناس في هذه الأيام، وأن يثبت أن زيادا هو ابن أبي سفيان لصلبه، فأشهد الشهود على أبيه بأنه عرف سمية في موطن من مواطن الإثم، وزاد بعض الشهود، فقال: إنه راود سمية عن أن تلم بأبي سفيان، فقالت له: إذا جاء عبيد الرومي من غنمه ووضع رأسه فنام أتيته، فورط معاوية نفسه وورط زيادا معه في نكر عظيم، وجرأ يونس بن عبيد على أن يقول له: قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقد جعلت الولد للعاهر وللفراش الحجر.
فقد خالف معاوية إذن مخالفة ظاهرة عما ألف المسلمون من حكم دينهم، وشاركه زياد في هذه المخالفة، وكان قد بايع المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة رسوله، فهو بهذا الاستلحاق عمل بغير ما أمر الله ورسوله، فلا غرابة في أن يرى جماعة من صالحي المسلمين أن بيعته قد أصبحت لا تلزمهم، وأن يخضعوا له كارهين لا طائعين، وساخطين لا راضين، وأن يتربصوا الدوائر وينتهزوا الفرص ليخرجوا حين يتاح لهم الخروج.
الفصل الخمسون
ولم يكد زياد يلي البصرة حتى سار في الناس سيرة تناقض كل المناقضة سيرته فيهم حين كان عاملا لعلي، وحتى اعتمد في سياسته لهم على الإرهاب أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر.
وليس من شك عندي في أن مرجع ذلك ليس إلى حاجته وحاجة معاوية إلى ضبط العراق وحمل أهله على الطاعة فحسب، ولكن إلى عقدة نفسية أدركته وأفسدت عليه أمره بعد الاستلحاق، فهو كان يعرف رأي المسلمين في نسبه هذا الجديد، وكان يعرف إنكارهم له واستهزاءهم به، وكان يعلم أن العرب لا تسخر من شيء كما تسخر ممن يدعى لغير أبيه، وقد حمله ذلك على أن يسوس الناس بالخوف والذعر، ويحول بينهم وبين أن يجمجموا بما في نفوسهم من نسبه واستلحاقه وسيرته وسيرة معاوية في أمور المسلمين، فوفق إلى ذلك أشنع التوفيق وأشده نكرا، خاض إليه دماء الناس، وأهدر في سبيله حقوقهم وكرامتهم، وأحدث فيهم من ألوان الحكم ما لم يعهدوه من قبل، وزعم - كما سترى في خطبته - أن الناس أحدثوا أشياء لم تكن، وأنه أحدث لكل ذنب عقوبة، ومعنى ذلك أن ما بين الله ورسوله للمسلمين من الحدود، وما ساس به الخلفاء الراشدون أمور الناس، لم يكن في رأي زياد كافيا لحمل أهل البصرة وأهل الكوفة على الجادة، والرجوع بهم إلى الصراط المستقيم.
وقد رأينا بعض هذه الأشياء التي أحدثها الناس بعد أن لم تكن، والتي استحدث لها زياد عقوبات غير مألوفة، فهو رأى الناس يحرقون الدور على من فيها، فقال: من حرق قوما حرقناه. وعسى أن يكون زياد قد شارك في إحداث هذا التحريق في البصرة، حتى رضي عن تحريق جارية بن قدامة للدار التي أوى إليها ابن الحضرمي وأصحابه، على من فيها، ورأى الناس يغرق بعضهم بعضا، فقال: من غرق قوما غرقناه. ورأى الناس ينقبون البيوت، فقال: من نقب على قوم نقبنا عن قلبه. ورأى الناس ينبشون القبور، فقال: من نبش قبرا دفناه حيا فيه. وقد كان في ضبط الأمر بما وضع الله ورسوله للناس من حدود، وفي التشدد في هذا الضبط ما يغنيه عن الشناعات، ولكنه شرع ألوانا من الحكم العرفي لم يقرها الإسلام ولم يألفها المسلمون، ثم أسرف على نفسه وعلى الناس، فعاقب بالموت على دلج الليل، ولم يقبل لأحد عذرا حتى إذا استبان صدقه.
واقرأ إن شئت خطبته تلك، فسترى أنها أول خطبة جهر فيها أمير من العقوبات بما لم يعرفه الإسلام من قبل، وبما لم يعرفه أمير من أمراء معاوية في عصره، ولم يصدق الناس نذير زياد حين سمعوا؛ لأنهم أعظموا ذلك، وقدروا أنه لا يريد إلا الإرهاب، مع أنه قال لهم في خطبته تلك: «إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فاغتمزوها في، واعلموا أن عندي أمثالها.» ولكن الناس رأوا أنه يصدق قوله بفعله، فيقتل المدلج وإن كان له عذر صادق مقبول، ويأخذ الجار بالجار والولي بالمولى والبريء بالمسيء، ويسرف في قتل الناس حتى يقول بعضهم لبعض: انج سعد فقد هلك سعيد.
ومات المغيرة بن شعبة سنة خمسين، فعمل زياد حتى ولي الكوفة مكان المغيرة، وسار في أهل الكوفة سيرته في البصرة، فملأ قلوبهم رعبا ورهبا، وأغرب من هذا كله أنه ظن أنه يسوس الناس سياسة عمر، لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، مع أن أهل العراق لم يروا منه بعد انتسابه في بني أمية لينا أو شدة، وإنما عرفوا منه عنفا لا حد له، وإسرافا في الدماء والحقوق لا صلة بينه وبين الإسلام.
ولم يحتمل زياد تبعة أعماله وحدها، وإنما سن لغيره من أمراء بني أمية في العراق، وللحجاج منهم خاصة أشنع السنن وأشدها نكرا، واقرأ خطبته هذه التي أشرت إليها غير مرة، والتي رواها المؤرخون روايات مختلفة، واقتصر أكثرهم على أطراف منها، ورواها الجاحظ على نحو من الترتيب والتأليف لا يخلو من أثر الصنعة، ولكنه يصور أدق تصويره سيرة زياد، شأن الجاحظ في ذلك شأن غيره من رواة العراق في أكثر ما رووا من خطب هذا العصر الذي نحن بصدده، قال زياد: «أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول، أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا، وسدت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية؟! ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله وهذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل، ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة من دلج الليل وغارة النهار؟! قربتم القرابة وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر وتغضون على المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا، ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم ما ترون، من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب، حرام علي الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا، إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف، وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد. أو تستقيم لي قناتكم، إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، واعلموا أن عندي أمثالها، من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه، فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم، وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا آخذ أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه، وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوما غرقناه، ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني، ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا، ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره، فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا، واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل، ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه، ولا مجمرا لكم بعثا. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم، ولا تدركوا له حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم، أسأل الله أن يعين كلا على كل، وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على إذلاله، وايم الله، إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.»
فهذه الخطبة الرائعة، مهما يكن فيها من أثر الصنعة وتأليف المتأخرين، تصور شيئين متناقضين أشد التناقض: أحدهما هذا الجمال الفني الذي يأتي من رصانة اللفظ وقربه وإصابته لما أراد زياد من المعاني، وإثارته لما أراد أن يثير من عواطف الفزع والطمع والخوف والأمل، والثاني هذه السياسة المنكرة التي أعلن أنه سيسوس بها الناس، والتي لا يعرفها الإسلام ولا يرضاها، ولم يعرفها المسلمون ولم يألفوها، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن صاحبها طاغية يريد أن يحكم الناس بالبغي، الذي يملأ القلوب رعبا ورهبا، ويغتصب منها الطاعة والخضوع للسلطان اغتصابا.
فالإسلام لا ينقب عن قلب السارق، وإن نقب عن أهل البيوت، والإسلام لا يدفن الناس في القبور أحياء وإن نبشوا عن الموتى في قبورهم، والإسلام لا يقيم الحدود بالشبهة وإنما يدرؤها، ولا يقتل الناس على الريبة، ولا يبيح للسلطان أن يعاقبهم بما كسبت قلوبهم وما دبرت نفوسهم وما أدارت رءوسهم، وإنما يبيح له أن يعاقبهم بما كسبت أيديهم، ويترك حساب الضمائر لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والإسلام لا يبيح لوال ولا لخليفة أن يقول إنه يسوس الناس بسلطان الله الذي أعطاهم، وفيء الله الذي خولهم، وإنما يفرض عليه أن يقول إنه يسوس الناس بسلطان الله الذي رفعه الشعب إليه ومنحه له عن رضى منه، لا عن عنف ولا عن استكراه، يفرض عليه كذلك أن يقول: إن الفيء ملك للشعب يأتمن عليه خلفاءه وولاتهم ليضعوه مواضعه، وينفقوه بحقه فيما يجب أن ينفق من الوجوه.
والإسلام لا يبيح لوال ولا لخليفة أن يقسم على أن له في المسلمين صرعى؛ لأنه لا يعلم من ذلك شيئا حتى يقترف الناس من الجرائم والآثام ما يوجب عليه أن يصرعهم بما كسبوا.
وقد وقعت هذه الخطبة من نفوس الذين سمعوها مواقع مختلفة، تصور ما صارت إليه حالهم، فأما عبد الله بن الأهتم، فقال لزياد: «أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب.» أتراه فتن بجمال الخطبة وروعتها، فلم يلتفت إلى ما أفرغ فيها من المعاني وما ابتكرت للناس من سياسة لا عهد لهم بها؟! أم تراه أراد إلى أن يتملق السلطان ويرضى منه بما أحب وما كره؟ أم تراه أراد إلى الأمرين جميعا؟ وقد رد عليه زياد ردا لاذعا، فقال: كذبت، ذاك نبي الله داود.
وأما الأحنف بن قيس فقد صور حيدة المحايدين الذين لا يريدون أن يبادوا السلطان بما يكره، ولا أن يردوا عليه مقالته، ولا أن ينزلوا عن مروءتهم في غير طائل، فقال لزياد: «إنما الثناء بعد البلاء، والحمد بعد العطاء، وإنا لن نثني حتى نبتلي.» كلمة مسالم يريد العافية، فقال له زياد: صدقت.
وأما أبو بلال مرداس بن أدية، فقال له كلام المحتفظ بدينه الحريص عليه المستعد للجهاد في سبيله، الذي لا يكره أن يموت دونه، والذي مات دونه بالفعل بعد ذلك، وقد كان زعيما من زعماء الخوارج في البصرة: «أنبأنا الله بغير ما قلت، قال الله:
وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر» فقال له زياد: «إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا.»
ولم يبلغ زياد فيه وفي أصحابه ما أراد، ولم يبلغ في غيره وغير أصحابه من شيعة علي وصالحي المسلمين ما أراد أيضا، ولكنه على ذلك خاض إليهم الباطل خوضا، وخاض إليهم مع الباطل دماء غزارا.
الفصل الحادي والخمسون
ولست في حاجة إلى أن أطيل فيما سفك زياد من دماء الناس في البصرة، وما سفك نائبه سمرة بن جندب حين كان زياد يصير إلى الكوفة، حين أصبح لها أميرا، فأخبار هذا شائعة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ، والإطالة بذكرها مملة لا تغني عن أحد شيئا، ولكني أقف عند محنة بعينها امتحن بها زياد الإسلام والمسلمين، وشاركه معاوية في هذا الامتحان، فتركت في نفوس المعاصرين لهما أقبح الأثر وأشنعه، وكانت صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام، وهي محنة حجر بن عدي وأصحابه من أهل الكوفة.
وقصة هذه المحنة مفصلة في كتب المحدثين والمؤرخين، ما نشر منها وما لم ينشر، وإنما أوجزها أشد الإيجاز وأعظمه؛ لأن مغزاها أعظم خطرا من تفصيلها، فما أكثر الذين قتلوا في الفتنة الكبرى، منذ ثار الناس بعثمان إلى أن استقام الأمر لمعاوية! وما أكثر الذين قتلوا بعد أن ولي معاوية في أعقاب هذه الفتنة، وفيما ثار بين المسلمين من فتن، وما ألم بهم من خطوب! ولكن محنة حجر تصور المذهب الجديد في الحكم بعد أن استحالت الخلافة إلى ملك، وتغيرت سياسة الملوك والأمراء الذين يعملون لهم في الأقاليم، وأصبح تثبيت الملك ودعم السلطان والاحتياط للنظام آثر في نفوس الملوك والأمراء من النصح للدين والبقاء على المسلمين.
وقد رأينا الخلفاء الراشدين يدرءون الحدود بالشبهات، ويحرجون على عمالهم في أن يؤذوا الناس في أبشارهم وأموالهم، فكيف بنفوسهم ودمائهم؟! وقد رأينا عمر رحمه الله يشجع زيادا نفسه على أن يلجلج في الشهادة، حين قذف بعض الناس عنده المغيرة بن شعبة، مخافة أن يفضح رجل صحب النبي
صلى الله عليه وسلم ، ورأينا عثمان يتكلف ما تكلف من العذر ليعفو عن عبيد الله بن عمر، فيما كان من قتل الهرمزان، ويغضب في ذلك من أغضب من عامة المسلمين ومن خيار الصحابة أنفسهم.
فأما الآن في أيام معاوية وزياد فالناس يؤخذون بالشبهة، ويقتلون بالظنة، والنظام آثر عند الولاة والملوك من النفوس المؤمنة التي أمر الله ألا تزهق إلا بحقها.
وقد كان حجر بن عدي الكندي رجلا من شيعة علي المخلصين له الحب، شهد معه الجمل وصفين والنهروان، وكره صلح الحسن، ولام الحسن في هذا الصلح، ولكنه بايع معاوية كما بايعه غيره من الناس، ووفى ببيعته دون أن يضطره ذلك إلى أن يرفض عليا أو يبرأ من حبه، بل دون أن يضطره ذلك إلى أن يرفض عليا أو يبرأ من حبه، بل دون أن يضطره ذلك إلى أن يؤمن لمعاوية وعماله بكل ما كانوا يفعلون، وكان حجر رجلا من صالحي المسلمين، وفد على النبي
صلى الله عليه وسلم
مع أخيه هانئ بن عدي فيمن وفد عليه من قومهما، ثم شارك في حرب الشام وأحسن فيها البلاء، وكأنه كان في مقدمة الجيش الذي دخل مرج عذراء قريبا من دمشق، ثم تحول إلى العراق فشارك في غزو بلاد الفرس وأبلى أحسن البلاء في نهاوند، ورابط في الكوفة مع المرابطين بعد الفتح، وكان رجلا حرا صادق الدين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرضى عن السلطان إن أحسن، ويسخط عليه إن أساء، وكان بعد صلح الحسن معارضا لسلطان معاوية وعامله المغيرة بن شعبة، ولكنه لم يخلع يدا من طاعة، وإنما كان - كما كانت عامة أهل الكوفة - يذعن للسلطان وينتظر كما قال الحسن: أن يستريح بر أو يموت فاجر. وكان ينكر أشد الإنكار سنة بني أمية في شتم علي وأصحابه على المنبر، ولم يكن يخفي إنكاره، وإنما كان يبادي به المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة يعفو عنه وينصح له ويحذره بطش السلطان .
وكأن موت الحسن ومصير الأمر إلى الحسين قد رفع أهل الكوفة إلى أن يشتدوا في معارضتهم أكثر مما كانوا يفعلون من قبل، وكان حجر رأس المعارضين، وقد خطب المغيرة ذات يوم وأخذ في شتم علي وأصحابه كما تعود أن يفعل، فوثب حجر فأغلظ له في القول وطالبه بأن يؤدي إلى الناس ما أخر من عطائهم، فهذا أنفع لهم وأجدى عليهم من شتم الأخيار والصالحين، ووثب قوم من أصحاب حجر فصاحوا بمثل صياحه وقالوا بمثل مقالته، حتى اضطر المغيرة أن يقطع حديثه وينزل عن المنبر ويدخل داره، وقد لامه في هذا اللين قوم من أصحابه، فزعم المغيرة أنه قتل حجرا بحلمه عنه؛ لأنه سيطمع في الأمير الذي سيخلفه، فيقتله هذا الأمير لأول وهلة، وكره المغيرة أن يقتل خيار أهل المصر ليسعد معاوية في الدنيا ويشقى هو في الآخرة.
وأقبل زياد واليا على الكوفة، وكان لحجر صديقا، فقربه ونصح له بإيثار العافية وحذره من الفتنة وخوفه من بأسه إن جعل على نفسه سبيلا، ولكن الأمر لم يلبث أن فسد بين حجر وزياد، وظهر هذا الفساد حين قتل عربي مسلم رجلا من أهل الذمة، فكره زياد أن يقيد من العربي المسلم لذمي، وقضى بالدية، وأبى أهل الذمي قبول الدية وقالوا: كنا نخبر أن الإسلام يسوي بين الناس ولا يفضل عربيا على غير عربي، وغضب حجر لقضاء زياد وأبى أن يسكت على إمضائه، وقام الناس معه في ذلك حتى أشفق زياد من الفتنة إن أمضى قضاءه، فأمر بالقصاص على كره منه، وكتب في حجر وأصحابه إلى معاوية يشكو صنيعهم، فكتب إليه معاوية أن ينتظر به وبأصحابه أول حجة تقوم عليه.
ويحدث المؤرخون أن حجرا وأصحابه انتهزوا عودة زياد إلى البصرة، فجعلوا يشغبون على نائبه إذا شتم عليا وأولياءه في خطبته، وجعلوا ينكرون عليه كثيرا من أعماله ويشددون في النكير، حتى أحس النائب عمرو بن حريث شيئا من الحرج، وكتب إلى زياد يتعجل عودته إلى الكوفة ويذكر له صنيع المعارضين؛ فلما قرأ زياد كتابه قال : ويل أمك يا حجر، وقع العشاء بك على سرحان.
ثم أقبل مسرعا إلى الكوفة فأنذر وحذر، ولم يعجل بالتعرض لحجر وأصحابه، حتى إذا خطب ذات يوم فأطال الخطبة أظهرت الشيعة مللا، وصاح حجر: الصلاة. فمضى زياد في خطبته، فصاح حجر مرة أخرى: الصلاة. وصاح معه أصحابه، وهم زياد أن يمضي في خطبته، ولكن حجرا وقف وهو يصيح: الصلاة. ووقف معه أصحابه يصيحون كما كان يصيح، فقطع زياد خطبته ونزل، فصلى وتفرق الناس.
وأرسل زياد إلى جماعة من وجوه الكوفة فأمرهم أن يأتوا حجرا، وأن يكفوا عنه من يطيف به من عشائرهم، وأن يردوه عن هذه الطريق التي أخذ في سلوكها، ولكن هؤلاء الوجوه من أهل الكوفة لم يبلغوا من حجر شيئا، فعادوا إلى زياد فأنبئوه من أمر حجر بأشياء وكتموه أشياء أخرى - فيما يقول المؤرخون - وطلبوا إليه أن يستأني بحجر، فلم يسمع منهم، وإنما أرسل من يدعو له حجرا، فامتنع عليه.
فأمر الشرطة أن يأتوه به، فكان بين الشرط وأصحاب حجر تناوش، واستخفى حجر فلم يقدر عليه زياد، حتى أخذ محمد بن قيس بن الأشعث زعيم كندة، وأمر بسجنه، وتوعده بالقتل والمثلة إن لم يأته بحجر، فجاءه بعد أن أخذ منه أمان حجر على نفسه حتى يرسله إلى معاوية فيرى فيه رأيه، فأعطى زياد هذا الأمان.
وأقبل حجر، فأمر زياد بإلقائه في السجن، وجد في طلب من قدر عليه من أصحابه، حتى جعل في السجن مع حجر ثلاثة عشر رجلا بعد خطوب ومحن.
ثم طلب إلى أهل الكوفة أن يشهدوا عليهم، فشهد قوم بأنهم تولوا عليا وعابوا عثمان ونالوا من معاوية، فلم يرض زياد هذه الشهادة، وقال: إنها غير قاطعة، فكتب له أبو بردة بن أبي موسى الأشعري شهادة بأن حجرا وأصحابه قد خلعوا الطاعة، وفارقوا الجماعة، وبرئوا من خلافة معاوية، وهموا بإعادة الحرب جذعة فكفر كفرة صلعاء.
هنالك رضي زياد وطلب إلى الناس أن يمضوا هذه الشهادة، فأمضاها خلق كثير، حتى بلغ الشهود سبعين رجلا - فيما قال المؤرخون - وكان منهم جماعة من أبناء المهاجرين، بينهم ثلاثة من بني طلحة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص والمنذر بن الزبير، ولم يتحرج من أن يكتب أسماء نفر لم يشهدوا ولم يحضروا هذه الشهادة، فمن هؤلاء من برأ نفسه أمام الناس، ومنهم من كتب إلى معاوية يبرئ نفسه من هذه الشهادة، وهو شريح القاضي الذين شهد أن حجرا رجل صالح من المسلمين، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم ويحج ويعتمر، وأن دمه حرام، فلما قرأ معاوية كتاب شريح لم يزد على أن قال: أما هذا فأخرج نفسه من الشهادة.
وقد حمل حجر وأصحابه إلى معاوية، فأمر ألا يدخلوا دمشق وأن يحبسوا بمرج عذراء، ويقول المؤرخون: إن حجرا لما عرف أنه بهذه القرية قال: والله إني لأول مسلم نبحته كلابها وأول مسلم كبر بواديها.
وقد قرأ معاوية كتاب زياد وشهادة الشهود، وأمر فقرئ هذا كله على الناس، ثم استشار في أمرهم من حضره من أشراف قريش ووجوه أهل الشام، فمنهم من أشار عليه بحبسهم، ومنهم من أشار عليه بتفريقهم في قرى الشام، وأقام معاوية وقتا لا يقطع في أمرهم برأي، فكتب إلى زياد بتوقفه في أمرهم، وكتب إليه زياد يعجب من تردده ويقول له: إن كانت لك حاجة بالعراق فلا تردهم إلي.
هنالك استبان الرأي لمعاوية، فأرسل إلى هؤلاء الرهط من يعرض عليهم البراءة من علي ولعنه وتولي عثمان، فمن فعل منهم ذلك أمن، ومن أبى منهم ذلك قتل.
وقام جماعة من أشراف أهل الشام فشفعوا عند معاوية في بعض هؤلاء الرهط، وقبل معاوية شفاعتهم، حتى لم يبق منهم إلا ثمانية، عرضت عليهم البراءة من علي فأبوا، فأخذ في قتلهم في قصة طويلة، ورأى اثنان السيوف المشهورة والقبور المحفورة والأكفان المنشورة، كما قال حجر قبيل موته، فطلبا أن يحملا إلى معاوية وأظهرا أنهما يريان رأيه في علي وعثمان، فأجيبا إلى طلبهما، وقتل الآخرون وهم ستة، وكانوا أول من قتل صبرا من المسلمين.
وحمل الرجلان إلى معاوية، فأما أحدهما فأظهر البراءة من علي بلسانه، وشفع فيه شافع من أهل الشام، فحبسه معاوية شهرا ثم ألزمه الإقامة حيث أراد من الشام، وحرم عليه أرض العراق، فأقام في الموصل حتى مات.
وأما الآخر فأبى أن يبرأ من علي وأسمع معاوية في نفسه وفي عثمان ما يكره، فرده معاوية إلى زياد وأمره أن يقتله شر قتلة، فأمر به زياد فدفن حيا.
وكذلك انتهت هذه المأساة المنكرة التي استباح فيها أمير من أمراء المسلمين أن يعاقب الناس على معارضة لا إثم فيها، وأن يكره وجوه الناس وأشرافهم على أن يشهدوا عليهم زورا وبهتانا، وأن يكتب شهادة القاضي على غير علم منه ولا رضى، حتى قال حجر حين قدم لتضرب عنقه: الله بيننا وبين أمتنا، شهد علينا أهل العراق وقتلنا أهل الشام.
استباح أمير من أمراء المسلمين لنفسه هذا الإثم، واستحل هذا البدع، واستباح إمام من أئمة المسلمين لنفسه أن يقضي بالموت على نفر من الذين عصم الله دماءهم، دون أن يراهم أو يسمع لهم أو يأذن لهم في الدفاع عن أنفسهم، وما أكثر ما أرسلوا إليه أنهم على بيعتهم لا يقيلونها ولا يستقيلونها!
وقد ذعر المسلمون في أقطار الأرض لهذا الحدث، وآية ذلك أن عائشة علمت بتسيير هؤلاء الرهط من الكوفة، فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية يراجعه في أمرهم، فوصل عبد الرحمن إلى الشام فوجد القوم قد قتلوا، فقال لمعاوية: كيف ذهب عنك حلم أبي سفيان؟ فأجابه معاوية: حين غاب عني أمثالك من حلماء قومي، وقد حملني زياد فاحتملت.
وآية ذلك أيضا أن الخبر بقتل هؤلاء النفر قد انتهى إلى المدينة، وسمعه عبد الله بن عمر فأطلق حبوته، وتولى والناس يسمعون نحيبه، وأن معاوية بن خديج انتهى إليه الخبر في إفريقية فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة: ألا ترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبت ملكها، وأنهم يثبون على بني عمنا فيقتلونهم؟!
وكان للخبر صدى مثل هذا الصدى في خراسان عند عاملها الربيع بن زياد، وقالت عائشة: إنها همت أن تثور لتغير ما كان من أمر حجر، ولكنها خافت أن تتجدد وقعة الجمل، وأن يغلب السفهاء ويصير الأمر إلى غير ما أرادت من الإصلاح.
وقال الكوفيون في ذلك شعرا كثيرا نجده في كتب السير والتاريخ.
وأغرب من هذا كله أن قتل حجر وأصحابه كان صدمة لمعاوية نفسه، تردد في قتلهم أول الأمر، ثم لما أمضى فيهم حكمه ظن أنه قد أبلى فأحسن البلاء، ولكن الأيام لم تكد تتقدم حتى عاوده الندم وأصابه قلق ممض.
ويقول البلاذري: إن معاوية كتب إلى زياد: «إنه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر، فابعث إلي رجلا من أهل المصر له فضل ودين وعلم.» فأشخص إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأوصاه ألا يقبح له رأيه في أمر حجر، وتوعده بالقتل إن فعل، قال ابن أبي ليلى: فلما دخلت عليه رحب بي وقال: اخلع ثياب سفرك والبس ثياب حضرك. ففعلت، وأتيته فقال: أما والله لوددت أني لم أكن قتلت حجرا، وودت أني كنت حبسته وأصحابه وفرقتهم في كور الشام فكفتنيهم الطواعين، أو مننت بهم على عشائرهم، فقلت: وددت والله أنك فعلت واحدة من هذه الخلال، فوصلني، فرجعت وما شيء أبغض إلي من لقاء زياد، وأجمعت على الاستخفاء، فلما قدمت الكوفة صليت في بعض المساجد، فلما انفتل الإمام إذا رجل يذكر موت زياد، فما سررت بشيء سروري بموته.
بل زعم الرواة أن قتل حجر كان له صدى حتى في أعماق دار معاوية، فقد يحدثنا البلاذري: أن معاوية صلى يوما فأطال الصلاة وامرأته تنظر إليه، فلما فرغ من صلاته قالت له امرأته: ما أحسن صلاتك يا أمير المؤمنين لولا أنك قتلت حجرا وأصحابه!
فقد كان قتل حجر إذن حدثا من الأحداث الكبار، لم يشك أحد من الأخيار الذين عاصروا معاوية في أنه كان صدعا في الإسلام، بل لم يشك معاوية نفسك في أنه كان كذلك، فهو لم ينسه قط منذ كان إلى أن انقضت أيامه، ثم هو لم يذكره قط كما ذكره في مرضه الذي مات فيه، فقد كان يقول أثناء مرضه - فيما زعم الرواة والمؤرخون: ويلي منك يا حجر! وكان يقول كذلك: إن لي مع ابن عدي ليوما طويلا.
الفصل الثاني والخمسون
وأمر آخر استحدثه معاوية في الإسلام فغير به السنة الموروثة تغييرا خطيرا، وهو استخلاف ابنه يزيد بعده على سلطان المسلمين، ولم يكره المسلمون شيئا في الصدر الأول من أيامهم كما كرهوا وراثة الخلافة، فقد عهد أبو بكر إلى عمر ولم يخطر له أن يعهد إلى أحد من بنيه، وزجر عمر من طلب إليه أن يعهد لعبد الله ابنه، ولم يخطر لعثمان أن يعهد إلى أحد، ولا ينبغي أن يقال أعجل عثمان عن ذلك، فقد لبث في الخلافة اثني عشر عاما، وأبى علي أن يستخلف وقال لأصحابه حين سألوه ذلك: أترككم كما ترككم رسول الله. وسأله الناس: أيبايعون الحسن ابنه؟ فقال: لا آمركم ولا أنهاكم.
وكان المسلمون يذكرون الكسروية والقيصرية، يريدون بذلك حكم القياصرة والأكاسرة، ولم تكن وراثة الملك إلا لونا من الحكم الأعجمي.
ولو وقف أمر معاوية عند هذا الحد لكان من الممكن أن يقال: اجتهد للناس فأخطأ أو أصاب. ولكنه قاتل عليا على دم عثمان من جهة، وعلى أن يرد الخلافة شورى بين المسلمين من جهة أخرى، فلما استقام له السلطان نسي ما قاتل عليه، أو أعرض عما قاتل عليه، ولما أراد مصالحة الحسن عرض عليه أن يجعل له ولاية الأمر من بعده، فأبى الحسن ذلك واشترط فيما اشترط أن يعود الأمر بعد معاوية شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا، فقبل معاوية ذلك فيما قبل من الشروط.
فهو إذن كان يرى الشورى في أمر الخلافة قبل أن يستقيم له أمر الناس، وقبل أصل الشورى أثناء الصلح حين هم أمر الناس أن يستقيم له، ثم نسي هذا كله بأخرة، ويقال إن المغيرة بن شعبة هو الذي ألقى في قلبه هذا الخاطر، فمال إليه وشاور فيه زيادا، فأشار عليه بالأناة وبأن يصلح من سيرة يزيد.
وكان يزيد فتى من فتيان قريش صاحب لهو وعبث، محبا للصيد مسرفا على نفسه في لذاته، مستهترا لا يتحفظ، وكان ربما أضاع الصلاة، فأخذه أبوه بالحزم، وأغزاه الروم وأمره على الحج، يمهد بهذا كله لتوليته العهد، فلما رأى من سيرة يزيد ما أرضاه حزم أمره وأعلن تولية يزيد عهده، وكتب في ذلك إلى الآفاق، فأجابه الناس إلى ما أراد، وهل كانوا يستطيعون إلا أن يجيبوه إلى ما أراد؟! ثم استوفد الوفود من الأقاليم، فوفدت عليه وأعلنت البيعة ليزيد، وامتنع أربعة نفر من قريش، هم: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر. فذهب معاوية إلى الحجاز معتمرا ولقي هؤلاء النفر، فلم يبلغ منهم شيئا بالوعد ولا بالوعيد، صارحه بعضهم والتوى عليه بعضهم الآخر، فحذرهم عواقب الخلاف عن أمره إن أظهروه.
وزعم بعض المؤرخين أنه أقام على رءوسهم شرطا حين خطب الناس، وتقدم إلى هؤلاء الشرط في أن يضربوا عنق أيهم كذبه فيما يقول، ثم خطب الناس فذكر بيعة يزيد بولاية العهد، وأن الناس أجمعوا على قبول ما اختار لهم، وأن هؤلاء النفر من أعلام قريش وسادتها قد دخلوا فيما دخل الناس فيه، فبايع الناس وانصرف هؤلاء النفر يحلفون لمن لامهم ما بايعوا ولا قبلوا.
وسواء أصحت هذه الرواية أم لم تصح، فالشيء المحقق هو أن معاوية قد استكره هؤلاء النفر على الصمت بعد أن لم يستطع أن يستكرههم على البيعة، وهو بعد ذلك لم يؤامر الأمة فيمن اختار لخلافتها على أي نحو من المؤامرة، وإنما شاور قوما من خاصته والطامعين فيه، فكلهم أغراه بذلك وحببه إليه، ولم يستطع أحد من خاصة الناس ولا من عامتهم أن ينكر على معاوية مما أراد شيئا.
وكذلك استقر في الإسلام لأول مرة هذا الملك الذي يقوم على البأس والبطش والخوف، والذي يرثه الأبناء عن الآباء، وأصبحت الأمة كأنها ملك لصاحب السلطان ينقله إلى من أحب من أبنائه، كما ينقل إليه ما يملك من سائل المال وجامده، وقد تم ذلك سنة ست وخمسين للهجرة، أي قبل أن ينتصف القرن على وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
ورحم الله الحسن البصري فقد كان يقول فيما روى الطبري: «أربع خصال كن في معاوية، لو لم يكن فيه منهن إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة؛ واستخلافه ابنه بعده سكيرا خميرا يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا، وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجرا، ويل له من حجر وأصحاب حجر! ويل له من حجر وأصحاب حجر!»
وما أريد أن أشارك الحسن فأقول: إن هذه الخصال كلها أو بعضها قد أوبقته، فأمر ذلك إلى الله وحده والله عز وجل يقول:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وليس يعنيني الآن ما كان من أمر يزيد، فلست أورخ ليزيد ولا أبحث عن استئهاله للخلافة، وإنما الذي يعنيني هو أن معاوية قد استحدث في المسلمين بدعة جديدة طالما أنكروها من قبل، وهي توريث الملك، وكانت عاقبة هذه البدعة وبالا على المسلمين أي وبال، فما أكثر ما استحل الملوك من المحارم! وما أكثر ما سفكوا من الدماء، وأهدروا من الحقوق، وضحوا بمصالح الأمة في سبيل ولاية العهد! وما أكثر ما كاد بعض الأمراء من أبناء الملوك لبعض في سبيل هذا التراث الذي لم يبحه لهم كتاب ولا سنة، ولا عرف مألوف من صالحي المسلمين!
وإنما القول في معاوية وملكه قول رجل من خيار الصحابة اعتزل الفتنة، ولم يشارك فيها من قريب أو بعيد، وهو سعد بن أبي وقاص رحمه الله، فقد تحدث البلاذري عن رواته أنه دخل على معاوية فقال: «السلام عليك أيها الملك. فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق رحمك الله لو قلت: يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتقولها جذلان ضاحكا؟! والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به.»
الفصل الثالث والخمسون
ولم يكن نشاط الخوارج أيام معاوية أقل ولا أخف من نشاطهم أيام علي، وإنما مضوا على سنتهم تلك فلم يريحوا ولم يستريحوا، وكان الخوارج أيام علي يخرجون من الكوفة، فإذا تهيئوا للحرب لحق بهم إخوانهم من أهل البصرة، فأما أيام معاوية فقد نصب خوارج الكوفة لأمراء الكوفة، ونصب خوارج البصرة لأمراء البصرة، وكان أمر الخوارج في الصدر الأول من ملك معاوية متصلا، ولكنه كان يسيرا كما كان في أيام علي، سار فيهم المغيرة وعبد الله بن عامر سيرة علي، فكانا لا يهيجانهم إن سكنوا، ولا يعرضان لهم بمكروه حتى يظهروا خلع الطاعة وينشروا الفساد في الأمر، فلما صار الأمر إلى زياد في العراق اشتد في أمر الخوارج فلم ينتظر بهم أن يخرجوا، وإنما احتاط لخروجهم قبل أن يكون، فجعل يستقصي أمورهم ويتتبع أفرادهم حيث يكونون، ويأخذ من قدر عليه منهم بالشبهة ويقتلهم بالظنة.
وعرف الخوارج ذلك من أمره، فاحتالوا في التخلص منه والاستخفاء من شرطه وعيونه، كما احتال هو في الظفر بهم والوصول إليهم، وكان بطشه بهم شديدا وكيده لهم عظيما، وقد أخاف زياد الناس جميعا، فاستتروا منه أشد الاستتار، ومكروا به أعظم المكر.
وكثر القعود بين الخوارج في أيامه، وظهر الخلاف بينهم أيضا، وانتشر مذهبهم أشد انتشار في طبقات من الناس لم يكن يبلغها من قبل، وتشجع النساء فملن إلى هذا المذهب وشاركن فيه، وخرج بعضهن فيمن خرج من أهل الكوفة، وتعرض بعضهن للقتل والمثلة في البصرة.
وكانت عاقبة الخوارج معروفة، لا تكاد تخرج منهم خارجة في أحد المصرين حتى يرسل إليها الأمير جندا أكثر منها عددا وأشد منها بأسا، فيكون بين هذا الجيش وهذه الخارجة شيء من قتال، ثم يعود الجيش إلى المصر وقد قتل الخارجة كلها أو أكثرها.
فكان خروج الخوارج تضحية بالنفس، يقدمون عليها وهم عالمون بها، مطمئنون إليها راغبون فيها، قد باعوا نفوسهم من الله واشتروا بها الجنة، فكان حزبهم حزب التضحية التي لا تنقضي، وكانوا يرون قتلاهم شهداء، وكان خصومهم من الشيعة وأهل الجماعة يرونهم مارقين من الدين، كما قال فيهم ذلك علي مستندا إلى الحديث المعروف، ولكن الأمراء الظالمين من ولاة معاوية جعلوا بعض هؤلاء الخوارج شهداء، لا بالقياس إلى الخوارج وحدهم، ولكن بالقياس إلى كثير غيرهم من الناس، حين أخذوهم بالشبهة وقتلوهم بالظنة، وحين سلكوا في قتالهم سياسة الغدر التي نهى عنها الإسلام أشد النهي، كالذي كان من أمر أبي بلال مرداس بن أدية الذي وقع قتله وقتل أصحابه موقع المحنة القاسية، لا من الخوارج وحدهم بل من خلق غيرهم كثير، حتى لقد يحدثنا المبرد بأن الفرق تنافست في أبي بلال هذا، عدته المعتزلة من أوائلهم، وزعمت الشيعة أنه كان منهم، وما أشك في أن الأخيار والصالحين من معاصريه رأوه رجلا من أكرم المسلمين وأتقاهم.
وكان أبو بلال صاحب زهد في الدنيا وتنزه عنها، مؤثرا للخير ناصحا للمسلمين، برا بمن عرف ومن لم يعرف من الناس، وكان كثير العبادة قليل الخوض فيما يخوض الناس فيه عادة، شهد صفين مع علي، وأنكر الحكومة وخرج مع أصحاب النهروان، ثم اعتزل الشر وأقام في مصره بالبصرة خارجي الهوى، مشيرا على الخوارج ناقدا لبعض أعمالهم، منكرا لنشر الفساد في الأرض، زاريا على اعتراض الناس وقتلهم بغير ذنب، حتى إذا ولي زياد البصرة وخطب خطبته تلك البتراء، كان الرجل الوحيد الذي أنكر عليه قوله: «لآخذن البريء بالمسيء والصحيح بالسقيم.» وذكره قول الله عز وجل:
وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
ولكنه على ذلك أقام في مصره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويشيع الدعوة إلى الخير من حوله، وهلك زياد وولي البصرة ابنه عبيد الله بن زياد، فأسرف في تتبع الخوارج حتى أخافهم، يرصد لهم المراصد، ويلقيهم في السجن، ويمثل بمن قدر عليه منهم.
وكان أبو بلال محببا إلى الناس بصلاحه وتقاه وحسن سيرته، وقد سجن مرة فيمن سجن من الخوارج، فأحبه سجانه لما رأى من عبادته وحسن تلاوته للقرآن، فكان إذا جن الليل أطلقه وربما أطلقه النهار أيضا، فكان يلم بأهله ويعود إلى سجنه، وقد بلغه ذات يوم وهو مطلق أن عبيد الله بن زياد أزمع قتل الخوارج المسجونين، فلما أقبل الليل تنكر حتى عاد إلى سجنه، وآثر القتل على أن يخون السجان في نفسه ويعرضه لغضب السلطان.
وأخرجهم ابن زياد فقتل منهم فريقا وأطلق فريقا بشفاعة من شفع فيهم من الناس، وكان أبو بلال ممن نجا فاستأنف سيرته، ولكن غيظه من ظلم السلطان كان قد بلغ أقصاه، حتى إذا رأى ابن زياد قد أخذ امرأة خارجية فقطع يديها ورجليها وعرضها في السوق، لم يطق صبرا على مجاورة الظالمين، فخرج في عدد قليل من أصحابه لا يتجاوزون الثلاثين، ورسم لنفسه ولأصحابه برنامجا واضح الحدود، وهو أن يخرجوا منكرين للظلم داعين إلى العدل والإصلاح، لا يستعرضون الناس ولا يستبيحون أموالهم ولا يفسدون في الأرض ولا يبدءون أحدا بقتال، وإنما يدافعون عن أنفسهم إذا قوتلوا، ولحق بهم عشرة من أصحابهم فصاروا أربعين، ومضوا في طريقهم فلقيتهم أموال قد جاءت إلى ابن زياد من خراسان، فأخذ بلال من هذه الأموال نصيبه ونصيب أصحابه، كما كان يقسم عليهم في البصرة لو أقاموا، وأمن الرسل على أنفسهم وعلى ما يحملون، وخلى بينهم وبين الطريق إلى البصرة.
وعرف ابن زياد خروجهم فأرسل في إثرهم أسلم بن زرعة في ألفين من الجند فأتبعوهم حتى لقوهم بآسك، فدعوهم إلى العودة والبقاء على الطاعة، فأبوا أن يعودوا إلى طاعة فاسق ظالم يأخذ بالشبهة ويقتل بالظنة ويشق على الناس في أموالهم وحرماتهم، ثم أمسكوا عن جند ابن زياد لم يبادوهم بشر حتى بدءوهم بالقتال، هنالك شد أبو بلال وأصحابه على هؤلاء الجند شدة الشراة المستبسلين فهزموهم، ورجع أسلم بن زرعة في أصحابه إلى البصرة مستخزين، فلام ابن زياد أسلم في ذلك أشد اللوم، وعيره الناس بهذه الهزيمة، حتى تصايح به الصبيان في الطرقات يخوفونه أبا بلال، وقال قائل الخوارج في ذلك:
أألفا مؤمن فيما زعمتم
ويقتلكم بآسك أربعونا؟!
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد علمتم
على الفئة الكثيرة ينصرونا
يشير إلى قول الله عز وجل:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله .
وأرسل ابن زياد إلى أبي بلال وأصحابه عباد بن أخضر في أربعة آلاف، فلقوهم في بعض طريقهم وطلبوا إليهم العودة والبقاء على الطاعة، فردوا عليهم مثل ردهم على أسلم بن زرعة، وأنشب عباد معهم القتال، فقاتلوهم قتالا عسيرا طويلا حتى رأى أبو بلال أن صلاة العصر قد كادت تفوت القوم، فطلب إليهم الموادعة حتى يصلي الفريقان، وأعطاه عباد ما طلب، وأقبل الفريقان على صلاتهما. ولكن عبادا عجل صلاته وصلاة أصحابه أو قطعها، وشد على الخوارج فألفاهم في صلاتهم بين قائم وراكع وساجد، فقتلهم جميعا لم ينحرف لقتاله أحد منهم إيثارا للصلاة على القتال، ووقع هذا الغدر من هذه الفئة الضخمة على هذا العدد اليسير وقتلهم وهم يصلون في قلوب الناس أسوأ موقع، فأما الخوارج فهاجوا وجدوا له في الثأر لإخوانهم، وأما عامة الناس فكرهوا ثم صبروا على ما يكرهون.
أكان المسلمون راضين عن سياسة معاوية أم كانوا عليها ساخطين؟
ما ينبغي أن نلقي هذا السؤال ونحن ننتظر الجواب عليه من المتأخرين من أهل الفرق، فهؤلاء يتأثرون بمذاهبهم أكثر مما يتأثرون بحقائق التاريخ، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الذين عاصروا معاوية من المسلمين في شرق الدولة وغربها، لو ردت إليهم أمورهم وطلب إليهم أن يختاروا لأنفسهم إماما، وأن يختاروه أحرارا غير مستكرهين ولا مبتغين شيئا إلا صلاح دينهم ودنياهم، لما اختاروا معاوية بحال من الأحوال؛ لأنهم بلوا سياسته وخبروا عماله ورأوا أن أمورهم تصير إلى شر عظيم، إذا قاسوها إلى ما كانت عليه في تاريخهم القريب، فهم يحكمون بالخوف لا بالرضى، ويساسون بالرغب والرهب، لا بما ينبغي أن يساس به المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله، وأموالهم العامة ليست إليهم، وإنما هي إلى ملكهم وولاتهم يتصرفون فيها على ما يشتهون، لا على ما يقتضيه الحق والعدل والمعروف.
فالصلات الضخمة تعطى لكثير من الناس تشجيعا لبعضهم على المضي في الطاعة والإذعان، وإغراء لبعضهم الآخر بالسكوت عن الجهر بالحق والقيام دونه، أشراف الحجاز غارقون في الثراء من هذه الصلات، التي تشترى بها طاعة ضعفائهم ويشترى بها سكوت أقويائهم، وأهل الشام غارقون في الثراء موسع عليهم في السلطان لأنهم جند الملك وحماة دولته، وأهل العراق مضطهدون لأنهم بين شيعة لعلي وبين خارج على الجماعة، وبين قوم آخرين يصنع بهم ما يصنع بأهل الشام والحجاز وأهل الأقطار الأخرى مستغلون مستذلون، تجبى منهم الأموال لتحمل إلى الشام فتنفق فيما يحب الملك أن ينفقها فيه.
ودماؤهم ليست حراما على الملك ولا على عماله، وإنما يستحل منها الملك والعمال ما حرم الله، لا إقامة لحدود الدين، ولكن تثبيتا لسلطان الملك.
وما أشك في أن معاوية كان داهية من دهاة العرب وعبقريا في السياسة، ولكن المسلمين الذين عاصروه قد عرفوا قبله أئمة جمعوا إلى العبقرية في السياسة والدهاء في قهر العدو والكيد له عدلا بين الناس ونصحا لهم وصيانة لأموالهم وعصمة لدمائهم، لم يخالفوا عن الدين ولم ينحرفوا عنه قيد شعرة.
وما أشك كذلك في أن الظروف التي أحاطت بمعاوية قد أعانته أو اضطرته إلى سياسته تلك، ولكني كما قلت غير مرة: لا أحاول الحكم لمعاوية أو الحكم عليه، وإنما أحاول أن أتعرف حقائق الحياة في أيامه، ومن هذه الحقائق حقيقة لا ينبغي أن نهملها أو نشك فيها، هي أن المسلمين بعد الفتح، وبعد أن قوي اتصالهم بالأمم المغلوبة وخالطوهم في دقائق حياتهم، كانوا بين اثنتين: إما أن يغيروا طبائع هذه الأمم كلها ويفرضوا عليها طبائعهم، وليس إلى هذا سبيل، فأمور الناس لا تجري على هذا النحو، وهي لم تجر عليه في وقت من الأوقات، وإما أن يغير المغلوبون طبيعة الغالبين ويفرضوا عليهم طبائعهم الأعجمية المتحضرة، وهو شيء كذلك لا سبيل إليه، لم نره كان في وقت من الأوقات.
فلم يبق إلا شيء ثالث هو المنزلة المتوسطة بين هاتين المنزلتين، هو أن يعطي المسلمون المغلوبين شيئا من طبائعهم، ويعطي المغلوبون المنتصرين شيئا من طبائعهم أيضا، وتنشأ من ذلك طبيعة قوام بين الطبيعتين، ليست بالإسلامية الخالصة، أو قل: ليست بالإسلامية العربية الخالصة، ولا بالرومية أو الفارسية الخالصة، ولكنها شيء بين ذلك.
ولم تكن الفتنة الكبرى، التي عرضنا لها في هذا الجزء وفي الجزء الذي سبقه من هذا الكتاب، إلا صراعا بين هذه الطبيعة الإسلامية العربية، وطبائع الأمم المغلوبة التي ظهر عليها المسلمون.
كان الإسلام يريد أن يحمل الناس على طريق من العدل والقسط والحرية، لا يشقى فيها أحد لفقر أو ضعف أو خمول، ولا يسعد فيها أحد لقوة أو ثراء أو نباهة شأن، وإنما يعيش الناس فيها كراما قد وفرت عليهم حقوقهم بالمعروف، ليس فيها تفوق أو امتياز إلا بالدين والتقوى وحسن البلاء.
وكان الإسلام يريد أن يكون الخلفاء والولاة أمناء للناس على حقوقهم وأموالهم ومرافقهم، يدبرونها على ملأ منهم وعن مشاورة ومؤامرة، ويمضونها في غير تجبر ولا تكبر ولا أثرة ولا استعلاء، ويديرونها كذلك لا على أنهم سادة يمتازون من الناس بأي لون من ألوان الامتياز، بل على أنهم قادة يثق الناس بهم ويطمئنون إليهم ويرونهم كفاة للقيام على أمورهم، فيعهدون إليهم بهذه الأمور عن رضى واختيار، لا عن قهر أو استكراه، ثم يراجعهم في هذه الأمور من شاء منهم أن يراجعهم فيها، فإن استبان لهم أنهم أخطئوا كان الحق عليهم أن يعودوا إلى الصواب، وإن استبان لهم أنهم انحرفوا كان من الحق أن يستقيموا على الطريقة، وعلى هذا النحو الذي كان الإسلام يريده من أنحاء الحكم ومن أنحاء الصلة بين الحاكمين والمحكومين. مضى النبي
صلى الله عليه وسلم
حتى إذا اختاره الله لجواره مضى خلفاؤه على سنته لم ينحرفوا عنها إلا قليلا من أمر عثمان رحمه الله؛ حين غلبه بنو أمية على رأيه، وما أكثر ما راجعه الناس في ذلك! فصار إلى ما أحبوا وأعطى النصفة من نفسه ومن عماله غير مرة، وأعلن التوبة أو استغفر بمشهد من المسلمين، وعلى منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
فقد كان عثمان يريد الحق فيقدر عليه أحيانا ويعجز عنه بعض عماله وخاصته أحيانا أخرى، وكان المحقق أن عثمان لم يتعمد تجبرا ولا تكبرا ولا استعلاء ولا استئثارا، وأقصى ما يمكن أن يقال فيه إنه أخطأ أحيانا غير عامد إلى الخطأ، وعلى رغم هذا كله ثارت به طائفة من المسلمين وطلبت إليه أن يخلع نفسه، بعد أن ظهر أنه لا يحسن مقاومة الطغاة من خاصته وعماله، فلما أبى أن يخلع نفسه قتلوه.
وسار علي سيرة الشيخين، وعسى أن يكون قد تحرج في بعض أمره أكثر مما كان الخلفاء الذين سبقوه يتحرجون، فتشدده في أن يقسم في الناس كل ما ورد عليه من المال، وأن يرى الناس بيت مالهم بين حين وحين خاليا من البيضاء والصفراء، قد كنس ورش، وقام أمينهم فيه فصلى ركعتين، وعلم الناس أن أمينهم لم يحتجز من دونهم شيئا ولم يستأثر عليهم بشيء، وكان لعلي مال قبل أن يلي الخلافة يغل عليه دخلا حسنا، فخرج منه وجعله صدقة وفارق الدنيا ولم يترك فيها إلا مئات من دراهم، اقتصدها من عطائه ليشتري بها خادما، كما قال الحسن حين خطب الناس بعد موت أبيه، ولسنا نعلم أن أحدا من الخلفاء الأربعة قتل مسلما بالشبهة أو عاقبه على الظنة، وإنما نعلم أنهم كانوا يقتصون من عمالهم، وأن عثمان أقام الحد على الوليد بن عقبة، عامله على الكوفة، حين شهد الشهود عليه أنه شرب الخمر، وأن عمر أقام الحد على أحد بنيه حين شهد عليه بشرب الخمر أيضا، وأنه هم برجم المغيرة بن شعبة لولا أن لجلج زياد في الشهادة بين يديه، فدرأ الحد بالشبهة.
كل هذا وأكثر من هذا كان يصنعه الخلفاء السابقون، فأين نحن من هذا كله أو بعضه؟! وقد زعم الرواة أن معاوية سأل ابنه يزيد ذات يوم عن السياسة التي يريد أن يختطها لنفسه، فزعم له أنه يريد أن يحاول سياسة عمر، فضحك معاوية وقال: هيهات! لقد حاولت سيرة عثمان فلم أستطعها، فكيف بسيرة عمر؟!
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أحدا من الخلفاء السابقين لم يأخذ السلطان بالسيف، ولم يقتل حجرا ولا أشباه حجر، ولم يورث الخلافة أحد بنيه، ولم يستلحق زيادا أو أشباه زياد، ولم يقل ما قال معاوية ذات يوم بمحضر صعصعة بن صوحان: «الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي وما تركته للناس فبالفضل مني.» إلا ما كان من عثمان حين زعم على المنبر أنه سيأخذ من بيت المال حتى يرضى وإن رغمت أنوف، فقال له عمار بن ياسر: أشهد أن أنفي أول راغم. وقال له علي: إذن تمنع من ذلك. وقد رد صعصعة بن صوحان على معاوية بما يشبه كلام علي، فقال: ما أنت وأقصى الأمة في ذلك إلا سواء، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لهممت. قال صعصعة: ما كل من هم فعل. قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟ قال صعصعة: الذي يحول بين المرء وقلبه. وخرج وهو ينشد قول الشاعر:
أريغوني إراغتكم فإني
وحذفة كالشجا تحت الوريد
على هذه السياسة سخطت الشيعة، وعارضت في كثير من الجلبة حتى قتل منها حجر وأصحابه، وعلى هذه السياسة سخط الخوارج، وعارضوا بسيوفهم وألسنتهم فقتلوا وقتلوا، وعلى هذه السياسة سخط الصالحون من أصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان، ولكنهم كانوا ينكرون في أنفسهم، وربما جمجموا ببعض النكير، وكان عامة المسلمين الذين يرون هؤلاء الصحابة والتابعين ويسمعون منهم ينكرون مثلهم ويجمجمون، ومن يدري لعل معاوية نفسه كان ينكر كثيرا من أمره، حين يثوب إليه فضل من حلمه وعقله، فيذكر سيرة رسول الله وخلفائه ويوازن بينها وبين سيرته.
ويحدثنا المؤرخون بأن معاوية لم يتلق الموت مطمئنا إليه حين ألم به، وإنما كان يتوجع ويظهر الجزع ويكثر من ذكر حجر، ومن ذكر إسرافه في أموال المسلمين، ومع ذلك فقد استقبل المسلمون بعد معاوية ملوكا ودوا حين بلوا سيرتهم لو أن معاوية عاش لهم إلى آخر الدهر، وكان ابنه يزيد أول هؤلاء الملوك.
الفصل الرابع والخمسون
فقد كان معاوية رجلا نشأ نشأة قرشية جاهلية، فيها كثير من الشظف الذي ليس منه بد لقوم يسكنون واديا غير ذي زرع، وإن غلت لهم التجارة ربحا كثيرا، ثم أسلم ورأى النبي
صلى الله عليه وسلم
وكتب له، وتأثر بصحبته وبصحبة من خالط من خيار المسلمين وأبرارهم، وعمل لعمر فتأدب بكثير من أدبه، وكان لهذا كله أثره في سيرته حين استقامت له الجماعة إلى حد ما، حتى أحصيت عليه أغلاطه ومخالفاته عن السنة الرشيدة التي ألفها المسلمون.
فأما ابنه يزيد فقد نشأ نشأة تغاير هذه النشأة أشد المغايرة، ولد في الشام في قصر إمارة كثر فيه الترف وكثر فيه الرقيق، وورث عن أمه شيئا من بداوة كلب وغلظتها، وعن أبيه شيئا من ذكاء قريش ودهائها وسعة حيلتها وحبها للمال والتسلط، وتهالكها على اللذة حين تتاح لها الوسائل إليها، فشب فتى من فتيان قريش لم يعرف خشونة ولا شظفا، ولم يتكلف لحياته اكتسابا، ولم يعرف في أثنائها شقاء ولا عناء، ولم يبذل جهدا إلا في سبيل ما يرضيه ويلهيه.
فكانت سيرته حين ولي أمر المسلمين مناقضة لسيرة أبيه أشد المناقضة، ثم مناقضة بعد ذلك لسنة النبي وخلفائه الراشدين أشد المناقضة أيضا.
كان قبل ولايته لعهد أبيه مسرفا على نفسه في طلب اللذة والعكوف عليها والاستهتار بها؛ حتى كثر حديث الناس فيه، وحتى أشار زياد عليه أن يتحفظ ويحتاط، وأشار على أبيه أن يأخذه بسيرة أرشد من سيرته ومذهب في الحياة يلائم ما كان يرشحه له من ولاية العهد والنهوض بعده بأمر هذه الدولة الضخمة، فأخذه أبوه بشيء من الحزم وأغزاه بلاد الروم، وتتبع سيرته على نحو ما، ولكنه لم يبلغ من تأديبه وتقويمه ما أحب، كان مشغولا عنه بسياسة الدولة، وكان الفتى مشغولا عن أبيه بسياسة شهواته الجامحة، وقد مات أبوه وهو عنه بعيد، حتى احتاج الضحاك بن قيس إلى أن يقوم مقامه، فيعلن موت معاوية إلى الناس ونهوض ابنه يزيد بالأمر من بعده.
ثم أقبل الفتى فتلقى دولة عريضة غنية معقدة السياسة، لم يبذل في تشييدها جهدا، ولم يحتمل في تأييدها مشقة ولا عناء، وقد أقبل على الملك دون أن ينصرف إليه عن لذاته أو يقلع عما كان عاكفا عليه من العبث واللهو والمجون، أقبل على الملك واثقا بأن الدنيا قد أذعنت له، وبأن أموره ستجري على طريق سواء، ولم ينس إلا شيئا واحدا، وهو الجهد العنيف الذي بذله أبوه لتستقيم له هذه الدنيا وليمهد ملكها لابنه.
ولم يكن يزيد يحتمل أن يلتوي عليه أحد بطاعة، وإنما كان يرى أن طاعته حق على الناس جميعا، فمن التوى بها عليه فليس له عنده إلا السيف.
وقد عرفت أمر أولئك النفر الذين أكرههم معاوية إكراها على أن يسكتوا عن بيعته بولاية العهد، حين لم يستطع أن يحملهم على قبولها، وقد كانوا أربعة، مات منهم واحد قبل معاوية، وهو عبد الرحمن بن أبي بكر، وبقي منهم ثلاثة في المدينة هم: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر.
فأما الحسين وابن الزبير فقد اعتلا بالبيعة ليزيد على الوليد بن عتبة حين طلبها إليهما، وجعلا يراوغانه ويستمهلانه حتى فرا منه بليل لاجئين إلى مكة، وأما عبد الله بن عمر فلم يكن يحب أن يفارق جماعة الناس، فبايع مع عامة أهل المدينة، وقد كانت بين يزيد وبين ابن الزبير خطوب طوال ثقال لا يعنينا من أمرها شيء في هذا الكتاب، وهي بعد لم تنقض بموت يزيد، بل لم تنقض حتى أرهقت جماعة المسلمين من أمرها عسرا.
وأما الحسين بن علي فقد أقام بمكة رافضا بيعة يزيد، وجعلت الرسل تتصل بينه وبين شيعة أهل البيت في الكوفة، وهم أكثر أهلها، وقد استجابت هذه الشيعة للحسين، ويقول المؤرخون إنها هي التي بدأت فدعته إلى أن يأتي الكوفة ليكون إمامهم فيما أزمعوا من خلع يزيد وإخراج عامله النعمان بن بشير، وقد كثرت هذه الكتب وكثر الذين أمضوها من أشراف الناس ورءوس القبائل وقراء المصر، حتى منحها الحسين كثيرا من عنايته، وأراد أن يستقصي أمر هؤلاء الناس، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليلقى أهلها ويعلم علمهم، فإن آنس منهم نية صادقة وعزيمة مصممة على الخروج ونصحا لآل علي أخذ منهم ... مستسرا بذلك، حتى إذا رأى أن قد بايعه منهم من يستطيع أن ينهض بهم إلى ما يريد من خلع يزيد كتب إليه بذلك ليرحل إلى الكوفة، فمضى الفتى متكرها ولقي في طريقه بعض الجهد، فكتب إلى الحسين يستعفيه، فأبى الحسين أن يعفيه، وسار الفتى حتى أتى الكوفة.
فاستخفى بأمره عند بعض أهلها وجعل يلقى وجوه الناس ورؤساءهم حتى إذا استوثق منهم جعل يأخذ البيعة عليهم للحسين، وعرف النعمان بن بشير بعض ذلك، فلم يحاول أن يصل إلى مسلم ولا أن يعنف بالناس، وإنما سار فيهم سيرة رجل من أصحاب النبي، سار سيرة علي في الخوارج، وسيرة المغيرة بن شعبة في الخوارج والشيعة جميعا، وجعل يرفق بهم وينصح لهم، ويحبب إليهم العافية ويدعوهم إلى الوفاء بما أعطوا على أنفسهم من البيعة ليزيد، ويأبى على خاصته الذين كانوا يأمرونه بالحزم، حتى كتب كاتبهم بالأمر كله إلى يزيد فلم يكد يزيد يعرف ذلك من أمرهم حتى استشار سرجون مولى أبيه، فأشار عليه بأن يضم الكوفة إلى ابن زياد عامله على البصرة، ويأمره بالشخوص إليها من فوره، ففعل، وأقبل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فدخلها، وقد اضطرب أمر المصر اضطرابا شديدا، حتى اضطر النعمان بن بشير إلى أن يلزم قصر الإمارة لا يكاد يخرج منه، فنهض ابن زياد بالأمر في حزم لا يعرف أناة ولا بقية ولا ترددا، وكان مسلم بن عقيل قد أخذ البيعة على أكثر من ثمانية عشر ألفا، وكتب بذلك إلى الحسين وألح عليه في القدوم إلى الكوفة.
ولم يكد ابن زياد يستقر في سلطانه الجديد حتى طلب مسلما سرا وعلانية، وجد في الطلب حتى عرف مكانه عند رجل من أشراف مذجح يقال له هانئ بن عروة، فلم يزل بهانئ حتى أحضره بين يديه، ثم لم يزل به حتى قرره بأن مسلما مختبئ في داره، ثم حبسه وهاج الناس لحبسه فلم يبلغوا بهياجهم شيئا.
وثار مسلم آخر الأمر ونادى بشعاره، فثارت معه ألوف من أهل الكوفة، فمضوا حتى بلغوا المسجد ولكنهم لم يثبتوا ، ولم يكد الليل يتقدم حتى كانوا قد تفرقوا عن الفتى وتركوه وحيدا يهيم في سكك المدينة يلتمس دارا ينفق فيها بقية الليل، وقد جيء به عبيد الله بن زياد آخر الأمر فقتله في أعلى القصر وألقى رأسه، ثم ألقى جسمه إلى الناس، وقتل هانئ بن عروة، وصلب القتيلين معا ليجعلهما نكالا.
الفصل الخامس والخمسون
وقد وصل كتاب مسلم إلى الحسين بمكة، فجعل يتأهب للمسير إلى الكوفة، وجعل الناس يلحون عليه في ألا يفعل، يخوفونه بأس يزيد وبطش ابن زياد وغدر أهل الكوفة، ونصح له ابن عباس في أن يمضي إلى اليمن فيقيم في شعب من شعابها بعيدا عن يد السلطان وقريبا من شيعته هناك، ونصح له عبد الله بن جعفر، ورفق به عامل يزيد على مكة سعيد بن العاصي، فأرسل في إثره من يلح عليه في الرجوع إلى مكة، ويؤمنه على نفسه وماله وأهل بيته ويرغبه في الصلات، ولكن الحسين مضى لوجهه ولم يمض وحده، وإنما احتمل معه أهل بيته، وفيهم النساء والصبيان، ولم يسمع لمشورة ابن عباس الذي أشار عليه إن لم يجد بدا من المسير أن يترك أهل بيته وادعين آمنين، وأن يدعوهم إليه إن استقامت له الأمور، ولكنه أبى، وما أراه أبى عنادا أو ركوبا لرأسه، وإنما كان يعلم أن يزيد سيأخذه بالبيعة أخذا عنيفا، فإن بايع غش نفسه وخان ضميره وخالف عن دينه؛ لأنه كان يرى بيعة يزيد إثما، وإن لم يبايع صنع به يزيد ما يشاء.
ولم يكن الحسين مخطئا فيما قدر، فهو قد عرف ما كان من غضب يزيد على ابن الزبير حين امتنع عن البيعة، وأقسم ألا يرضى حتى يحمل إليه ابن الزبير في جامعة يقاد إليه كما يقاد الأسير، ولم يخطئ الحسين حين أبى أن يترك أهل بيته بالحجاز، فلم يكن يأمن أن يأخذهم يزيد بمسيره هو إلى العراق منابذا للسلطان.
وقد مضى مع الحسين نفر من بني أبيه ومن بني أخيه الحسن، واثنان من بني عبد الله بن جعفر، ونفر من بني عمه عقيل، ورجال آخرون حرصوا على أن ينصروه، ولما رأت الأعراب قدومه إلى العراق منابذا ليزيد طمعوا في صحبته وانتظروا منها الخير، فتبعه منهم خلق كثير.
ودنا الحسين من العراق وقد أرصد ابن زياد له الأرصاد، وأمر رجلا من أشراف الكوفة، يقال له الحر بن يزيد، على ألف من الجند، وأمرهم أن يلقوا الحسين في مقدمه ذاك فيأخذوا عليه طريقه ويحولوا بينه وبين الذهاب في أي وجه من وجوه الأرض، ولا يفارقوه حتى يأتيهم أمره، ولما عرف الأعراب أنها الحرب تفرقوا عنه، فلم يبق معه منهم أحد.
ولقي الحسين الحر بن يزيد في أصحابه، فلما علم علمهم أراد أن يعظهم ويذكرهم، فسمعوا منه ورضوا قوله، ولكنهم لم يطيعوه وإنما أطاعوا أميرهم ابن زياد، ثم ندب ابن زياد لحرب الحسين رجلا من أقرب الناس إليه، هو عمر بن سعد بن أبي وقاص فاستعفاه عمر فلم يعفه، وأرسل معه جيشا من ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فمضى عمر حتى لقي الحسين فسأله: فيم قدم؟ قال الحسين: كتب إلي أهل المصر يستقدمونني ويبذلون لي نصرهم. وأظهر كتبهم لعمر، فعرضت هذه الكتب على بعض من أمضاها ممن حضر، فكلهم أنكرها، وكلهم جحدها مقسما أنه لا يعلم من أمرها شيئا.
وقد عرض الحسين على عمر أن يختار خصلة من ثلاث: فإما أن يخلوا بينه وبين طريقه إلى الحجاز ليعود إلى المكان الذي جاء منه، وإما أن يسيروه إلى يزيد بالشام؛ ليكون بينه وبين يزيد ما يكون، وإما أن يخلوا بينه وبين الطريق إلى ثغر من ثغور المسلمين، فيكون هناك كواحد من الجند الذين يرابطون بإزاء العدو، له مثل ما لهم من العطاء وعليه مثل ما عليهم من الجهاد. فأما عمر بن سعد فرضي، وقال: أؤامر ابن زياد؟
وكتب إلى ابن زياد بما عرض عليه الحسين، فأبى إلا أن ينزل الحسين على حكمه، وكتب بذلك إلى عمر، وأرسل الكتاب إليه مع شمر بن ذي الجوشن، وقال له: أقرئه الكتاب وانظر ما يصنع، فإن نهض لقتال الحسين فأقم معه رقيبا عليه حتى يفرغ من أمره، وإن أبى أو تثاقل فاضرب عنقه وكن أمير الجيش. ولم يكد عمر بن سعد يقرأ كتاب ابن زياد ويعلم ما أمر به حامل الكتاب حتى نهض لقتال الحسين، وطلب إليه أن ينزل على حكم ابن زياد، فأبى الحسين وقال: أما هذه فمن دونها الموت. ثم زحف عمر بجيشه على الحسين وأصحابه، وكانوا اثنين وسبعين رجلا، فقاتلوهم أكثر من نصف النهار، وأبلى الحسين وبنو أبيه وبنو عمومته ومن كان معه من أنصاره القليلين أعظم البلاء وأقساه، فلم يقتلوا حتى قتلوا أكثر منهم، ورأى الحسين المحنة كأشنع ما تكون المحن، رأى إخوته وأهل بيته يقتلون بين يديه وفيهم بنوه وبنو أخيه الحسن وبنو عمه، وكان هو آخر من قتل منهم بعد أن تجرع مرارة المحنة فلم يبق منها شيئا.
وكان نفر يسير من أصحاب عمر بن سعد قد ضاقوا برفض ابن زياد ما عرض عليه الحسين من الخصال، ففارقوا جيشهم وانضموا إلى الحسين، فقاتلوا معه حتى قتلوا بين يديه. ونظر المسلمون فإذا قوم منهم - على رأسهم رجل من قريش من أبناء المهاجرين، أبوه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة الذين شهد النبي لهم بالجنة، وقائد المسلمين في فتح بلاد الفرس، وأحد الذين اعتزلوا الفتنة فلم يشاركوا فيها من قريب ولا من بعيد - نظر المسلمون فإذا قوم منهم، عليهم هذا القرشي عمر بن سعد بن أبي وقاص، يقتلون أبناء فاطمة بنت رسول الله، ويقتلون أبناء علي، ويقتلون ابني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الطيار شهيد مؤتة ثم يحزون رءوسهم ثم يسلبونهم، ويسلبون الحسين حتى يتركوه متجردا بالعراء، ويصنعون بهم ما لا يصنع المسلمون بالمسلمين، ثم يسبون النساء كما يسبى الرقيق، وفيهم زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، ثم يأتون بهم ابن زياد فلا يكاد يرفق بهم إلا حياء واستخزاء حين قال له علي بن الحسين، وقد كان صبيا، وهم ابن زياد بقتله، فقال له: إن كانت بينك وبين هؤلاء النساء قرابة فأرسل معهن إلى الشام رجلا تقيا رفيقا. هنالك ذكر عبيد الله أن أباه يدعى لأبي سفيان، فاستحيا ولم يقتل الصبي، وإنما أرسله مع سائر أهل الحسين إلى يزيد، وقدم رءوس القتلى بين أيديهم وفيها رأس الحسين، وقد دخل به على يزيد فوضع أمامه، فجعل ينكت في ثغره بقضيب كان في يده وينشد:
يفلقن هاما من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وزعم الرواة أن أبا برزة صاحب النبي كان حاضرا هذا المجلس، فقال ليزيد: لا تفعل هذا فربما رأيت شفتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
على هذا الثغر مكان هذا القضيب. ثم قام فانصرف.
وأدخل السبي على يزيد فأغلظ لهم أول الأمر، ثم لم يلبث أن رفق بهم وبرهم وأدخلهم على أهله، ثم جهزهم بعد ذلك إلى المدينة وردهم إليها كراما.
والرواة يزعمون أن يزيد تبرأ من قتل الحسين على هذا النحو، وألقى عبء هذا الإثم على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، ولكنا لا نراه لام ابن زياد ولا عاقبه ولا عزله عن عمله كله أو بعضه، ومن قبله قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه ثم ألقى عبء قتلهم على زياد، وقال: حملني ابن سمية فاحتملت.
الفصل السادس والخمسون
وكذلك أصبح للشيعة ثأر عند الخوارج لأنهم قتلوا عليا غيلة، وللخوارج عند الشيعة ذحول لأن عليا قتل من قتل منهم في النهروان وفي غير النهروان من المواقع، وأصبح للشيعة ثأران عند بني أمية؛ لأن معاوية قتل حجرا وأصحابه، ولأن يزيد قتل الحسين وأهل بيته وجماعة من أصحابه.
وكان بنو أمية يزعمون أن لهم عند الشيعة ثأرا، أو قل: عند الشيعة والخوارج؛ لما كان من قتل عثمان بأيدي الثائرين، الذين وفى بعضهم لعلي وخرج بعضهم عليه، ثم لبني أمية ذحول أخرى عند عامة المسلمين، لقتل من قتل منهم يوم بدر، وقد ذكر يزيد فيما زعم بعض الرواة، هذه الذحول في هذا الموطن حين أنشد بعد وقعة الحرة:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
ومهما يكن من شيء فقد أصبح الخلاف بين هذه الجماعات لا يقوم على تباعد الرأي في الدين وحده، وإنما يقوم على الذحول والأوتار والدماء.
لكل جماعة من هذه الجماعات ثأر عند الجماعتين الأخريين، ومعنى هذا كله أن العصبية أصبحت أساسا من أسس الفتنة، التي دفعت المسلمين إلى كثير من الشر، والتي لم تنقض بقتل الحسين ولا بموت يزيد، وإنما اتصلت بعد ذلك دهرا طويلا وبقيت آثارها في حياة المسلمين إلى الآن.
والشيء الذي ليس فيه شك، هو أن أهل العراق لم يكونوا وحدهم هم الذين قربوا القرابة وباعدوا الدين، كما قال لهم زياد في خطبته البتراء، وإنما عمت المحنة بذلك أهل العراق وأهل الشام وأهل مصر وأهل الحجاز كما سترى.
وقد يقال إن الحسين قد ثار بيزيد ورفض بيعته، وثار إلى الكوفة يريد أن يخرج أهلها عن طاعته ويفرق جماعة الناس، ويرد الحرب بين المسلمين إلى ما كانت عليه أيام أبيه، فلم يكن يزيد وأميره في العراق بادئين في الشر مثيرين للفتنة، وإنما ذادا عن سلطانهما وحافظا على وحدة الأمة، وقد كان هذا يستقيم لو أن الحسين مضى إلى حربه مصمما عليها، لا يقبل فيها مفاوضة ولا يقبل عنها رجوعا، ولكن الحسين عرض خصاله الثلاث تلك التي عرضها، وكانت العافية في كل واحدة منهن، فلو قد خلى بينه وبين الرجوع إلى الحجاز لعاد إلى مكة لم يكن يحب أن تسفك فيها الدماء؛ لأنها بلد حرام، ولأنها لم تحل لرسول الله نفسه إلا ساعة من نهار، ولو قد خلى بينه وبين اللحاق بيزيد لكان من الممكن أن يبلغ يزيد منه الرضى على أي نحو من الأنحاء، أو أن يقيم عليه حجة ظاهرة لا تقبل مراء ولا جدالا، ولو قد خلى بينه وبين المسير إلى ثغر من ثغور المسلمين لكان رجلا من عامة الناس يجاهد العدو ويشارك في الفتح، لا يؤذي أحدا ولا يؤذيه أحد من المسلمين، ولكن أصحاب ابن زياد أبوا إلا أن يستذلوه ويستنزلوه على حكم رجل لم يكن الحسين يراه كفؤا ولا ندا، فلم يكن ما وقع من الشر إلا طغيانا وإسرافا في التجبر والبغي، وكأن ابن زياد ظن أنه سيجتث الفتنة من أصلها بقتل الحسين، فيوئس الشيعة من أمرها، ويضطرها إلى أن تنحرف عما كانت تعلل نفسها به من الآمال والمنى إلى الإذعان لما ليس بد من الإذعان له.
ولكنك سترى، في غير هذا الجزء من أجزاء هذا الكتاب، أن ابن زياد لم يزد الفتنة إلا استعارا، وأن الشر يدعو إلى الشر، والدماء تدعو إلى الدماء، وهذا الإسراف في القتل والتنكيل بالمقتولين وبمن تركوا من الأطفال والنساء، فقد سلب القتلى وفيهم ابن فاطمة حفدتها، وسلب أبناء علي وغيرهم من أصحاب الحسين، ونزع من النساء كل ما كان معهن من حلي وثياب ومتاع، واضطر يزيد بعد ذلك إلى أن يعوضهن ما أخذ منهن.
وكان علي رحمه الله يتقدم إلى أصحابه في حروبه ألا يتبعوا هاربا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يأخذوا من المنهزمين إلا ما أوجفوا به من خيل أو سلاح، وكان الأمر يجري على ذلك في صفين، فسيرة ابن زياد هذه التي سارها في الحسين وأصحابه كانت بدعا منكرا مما ألف المسلمون حتى في فتنهم الشنيعة، ثم هو لم يلق من يزيد في ذلك عقابا ولا لوما، وإنما لقي منه رضى وإيثارا.
وقد تمت بهذه الموقعة محنة لعلي في أبنائه لم يمتحن بمثلها مسلم قط قبل هذا اليوم، فقد قتل من بنيه: الحسين بن فاطمة، والعباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، ومحمد، وأبو بكر. فهؤلاء سبعة من أبنائه قتلوا معا في يوم واحد، وقتل علي بن الحسين الأكبر وأخوه عبد الله، وقتل عبد الله بن الحسن وأخواه أبو بكر والقاسم، وهؤلاء الخمسة من حفدة فاطمة، وقتل من بني عبد الله بن جعفر الطيار محمد وعون، وقتل نفر من بني عقيل بن أبي طالب في الموقعة، بعد أن قتل مسلم بن عقيل في الكوفة كما رأيت.
وقتل غير هؤلاء سائر من كان مع الحسين من الموالي والأنصار، فكانت محنة أي محنة للطالبيين عامة وأبناء فاطمة خاصة، ثم كانت محنة أي محنة للإسلام نفسه، خولف فيها عما هو معروف من الأمر بالرفق والنصح وحقن الدماء إلا بحقها وانتهك أحق الحرمات بالرعاية، وهي حرمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
التي كانت تفرض على المسلمين أن يتحرجوا أشد التحرج، ويتأثموا أعظم التأثم، قبل أن يمسوا أحدا من أهل بيته.
كل ذلك ولم يمض على وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلا خمسون عاما، فإذا أضفت إلى ذلك أن الناس تحدثوا فأكثروا الحديث، وألحوا فيه بأن الحسن قد مات مسموما لتخلص الطريق ليزيد إلى ولاية العهد، عرفت أن أمور المسلمين قد صارت أيام معاوية وابنه إلى شر ما كان يمكن أن تصير إليه.
الفصل السابع والخمسون
ولم يلبث هذا النكر أن أحدث آثاره الأولى، ولم تكن أقل منه نكرا، فقد انتهت محنة الحسين إلى الحجاز فكانت صدمة لأهله وللصالحين منهم خاصة، وجعل الناس يتحدثون بها، فيكثرون الحديث وجعلوا يعظمون أمرها، ما أكثر ما تحدثت قلوبهم إليهم! وما أكثر ما تحدث بعضهم إلى بعض حين كانوا يخلون، بأن سلطان يزيد قد أمعن في الخلاف عن أمر الله، فلم تصبح طاعته لازمة، بل أصبح الخروج عليه واجبا حين يمكن الخروج عليه!
وقد عظم في الحجاز أمر عبد الله بن الزبير، وكثر أصحابه وأشياعه، وجعل يزيد يجد في أن يفرغ منه كما فرغ من أمر الحسين، وانتهى الخبر إلى يزيد بأن أمر المدينة قد اضطرب، وبأن أهلها يظهرون النكير عليه ولا يستخفون به، فطلب إلى عامله أن يرسل إليه وفدا منهم ففعل، وأقبل الوفد فلقيه يزيد أحسن لقاء، ووصل أعضاءه فأعطى كل واحد منهم خمسين ألفا، وظن أنه قد أسى بإحدى يديه ما أفسد بالأخرى، ولكن الوفد يعودون إلى المدينة فيقولون لأهلها جهرة: جئناكم من عند فاسق؛ يشرب الخمر ويضيع الصلاة، ويتبع شهواته ويضرب بالطنابير، وتغني عنده القيان.
وتصل هذه الأحاديث إلى عبد الله بن الزبير بمكة فيلهج بيزيد أشد اللهج، ويضيف إليه من الشر والنكر والموبقات ما يشاء، ثم يثور أهل المدينة ويخرجون عامل يزيد، ويؤمرون عليهم رجلا منهم هو عبد الله بن حنظلة الغسيل ويحصرون بني أمية، ويضطر يزيد آخر الأمر إلى أن يرسل إليهم النعمان بن بشير الأنصاري ليستصلح قومه، فلا يبلغ النعمان منهم شيئا، فيرسل إليهم يزيد جيشا قوامه اثنا عشر ألفا من أهل الشام، ويؤمر على هذا الجيش مسلم بن عقبة المري، ويرسم له خطة أولها حق وآخرها باطل، وهي أن يأتي المدينة فيدعو أهلها إلى الطاعة ويعذر إليهم، وينتظر بهم ثلاثا، فإن أطاعوا فذاك، وإن أبوا قاتلهم.
وإلى هنا لا يتجاوز يزيد ما ينبغي له من الحق في رد الخارجين عليه إلى طاعته، ولكن يزيد لا يكتفي بهذا وإنما يمضي إلى الباطل من خطته، فيأمر مسلما إذا انتصر على خصمه من أهل المدينة أن يبيحها ثلاثا لأهل الشام، يصنعون بأهلها ما يشاءون وينهبون من أموالهم ومتاعهم ما يحبون، لا يحرج عليهم في شيء من ذلك ولا يحرم عليهم شيئا منه.
وقد جاء مسلم إلى المدينة فقاتل أهلها بعد أن أعذر إليهم، وقتل منهم في الموقعة خلق كثير، ثم أباح المدينة ثلاثا لجنده فقتلوا ونهبوا، واستباحوا من محارم الناس ما عصم الله، ثم أخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة، لا على كتاب الله وسنة رسوله كما تعود المسلمون أن يبايعوا، ولكن على أنهم خول ليزيد، فمن أبى منهم هذه البيعة المنكرة أمر به فضربت عنقه.
وكذلك عصي الله وخولف عن الدين جهرة في مدينة النبي، وظن يزيد وأعوانه أنهم قد انتقموا بذلك لعثمان، ثم تحول الجيش عن المدينة إلى مكة فحاصروا فيها ابن الزبير، ومات مسلم في الطريق، فقام بأمر الجيش بعده الحصين بن نمير السكوني، وقد شدد أهل الشام الحصار على مكة، ثم لم يقفوا عند ذلك وإنما رموها بالمجانيق، وحرقت الكعبة، واتصل الحصار حتى جاءهم موت يزيد فقفلوا راجعين إلى الشام دون أن يلقى ابن الزبير منهم كيدا.
وكان في حصار ابن الزبير بمكة والمضي في هذا الحصار حتى يستسلم ابن الزبير مقنع ليزيد وأصحابه، ولكن جيش يزيد أبى إلا أن ينتهك حرمة مكة كما انتهك حرمة المدينة، وأسخط يزيد على نفسه بذلك أهل الحجاز وعامة المسلمين، كما أسخطهم بقتل الحسين.
والغريب المنكر من هذا كله هو تجاوز الحد والغلو في الإثم، فقد كانت السياسة تقتضي أن يقاتل الخارجون على يزيد حتى يقتلوا أو يفيئوا إلى طاعته، فأما المثلة وانتهاك الحرمات ففظائع لا ينكرها الدين وحده، وإنما تنكرها السياسة أيضا، وتنكرها السنة العربية المعروفة، وهي بعد ذلك تحفظ الصدور وتملأ القلوب ضغينة وحقدا، وقد أحفظ يزيد أهل الجماعة أنفسهم بعد أن أحفظ قلوب غيرهم من الشيعة والخوارج.
ثم لم تكن عاقبة هذا كله على آل أبي سفيان إلا خروج الملك منهم وانتقاله إلى غيرهم، فقد مات يزيد ولما يملك إلا أربع سنين، قتلته لذته أشنع قتلة؛ فقد كان - فيما زعم الرواة - يسابق قردا فسقط عن فرسه سقطة كان فيها الموت.
الفصل الثامن والخمسون
وقد انتهت هذه الفتنة، التي شبت نارها في المدينة سنة خمس وثلاثين بقتل عثمان، إلى هذه المرحلة من مراحلها بعد أن اتصلت ثلاثين عاما أو نحو ذلك، وبعد أن أثارت من الخطوب الجسام ما رأيت، وبعد أن سفك فيها ما سفك من الدماء، وأزهق فيها ما أزهق من النفوس، وانتهك فيها ما انتهك من الحرمات، وقضي فيها على سنة الخلافة الراشدة، وفرق فيها المسلمون شيعا وأحزابا، وأسس فيها ملك عنيف لا يقوم على الدين وإنما يقوم على السياسة والمنفعة، وكان يظن حين استقام أمر هذا الملك لمؤسسه عشرين عاما، أنه سيمضي في طريقه وادعا مطمئنا مستقرا في بني أبي سفيان دهرا على أقل تقدير، ولكنه لم يستقر فيهم إلا ريثما تحول عنهم.
ثم لم يتحول عنهم في يسر ولين؛ لأن الفتنة لم تنقض بموت يزيد، وإنما قطعت مرحلة من مراحلها، ثم استأنفت عنفها وشدتها بعد موت يزيد، فعرضت المسلمين ودولتهم لخطوب ليست أقل جسامة ولا نكرا من الخطوب التي صورنا بعضها فيما قرأت من هذا الكتاب .
وقد أصبح للمسلمين مثل بعينه من هذه المثل العليا الكثيرة التي دعا إليها الإسلام، وجعلت الفتنة تدور حول هذا المثل الأعلى لتبلغه فلا تظفر بشيء مما تريد، وإنما تسفك الدماء وتزهق النفوس وتنتهك المحارم وتفسد على الناس أمور دينهم ودنياهم، وهذا المثل الأعلى هو العدل الذي يملأ الأرض وينشر فيها السلام والعافية، والذي تقطعت دونه أعناق المسلمين قرونا متصلة دون أن يبلغوا منه شيئا، حتى استيأس من قربه بعض الشيعة ولم يستيئسوا من وقوعه، فاعتقدوا أن إماما من أئمتهم سيأتي في يوم من الأيام فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.
ولله حكمة أجرى عليها أمور الناس، والله بالغ أمره، قد جعل لكل شيء قدرا، ونحن مصورون إن شاء الله فيما يلي من فصول هذا الكتاب بعض ما كان من خطوب هذه الفتنة، وعسى أن يكون هذا قريبا.
كوليه أزاركو أغسطس سنة 1952
القاهرة مايو سنة 1953
المراجع
يضاف إلى المراجع التي ذكرت في الجزء الأول من هذا الكتاب المراجع الآتية:
الفصول المهمة في معرفة الأئمة:
الشيخ نور الدين علي بن صمدين الصباغ.
فرق الشيعة:
أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي.
تاريخ الإسلام:
شمس الدين محمد بن عبد الله الذهبي.
مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين:
الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري.
أعيان الشيعة:
السيد محسن الأمير الحسيني العاملي.
الأخبار الطوال:
أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري.
تثبيت الإمامة:
الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل.
بحار الأنوار:
العلامة المجلى محمد بن باقر.
الإمام علي بن أبي طالب:
الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود.
ترجمة علي بن أبي طالب:
الأستاذ أحمد زكي صفوت.
السياسة عند العرب:
الأستاذ عمر أبو النصر.
عبقرية الإمام:
الأستاذ عباس محمود العقاد.
دعائم الإسلام:
أبو حنيفة النعمان بن محمد.
Unknown page