هذا التطور الذي أدى بعمر ليأمر من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا أن يخرج من المسجد إلى البطيحاء يتفق مع روح الإسلام ونص الكتاب وتعاليم الرسول، فإن يكن قد حدث في عهد الرسول تجاوز بإنشاد الشعر، فلم يكن ذلك للإباحة وإطلاقها، وإنما كان استثناء في أحوال بذاتها، فكعب إنما أنشد «بانت سعاد» يوم جاء مستجيرا بالنبي يعلن إليه إسلامه، وهجاء حسان الكفار بقصائده نوع من الجهاد في سبيل الله جائز في المساجد، والمسلمون في عهد النبي كانوا يتحدثون في غزواتهم وفي شئون خصومهم حين وجودهم بالمسجد فلا يعترض عليهم أحد؛ لأنهم يتحدثون في شئونهم العامة، فلما كثر عددهم تجاوزوا الشئون العامة، وأراد بعضهم أن يتخذ المسجد مجلسا لأحاديثهم الخاصة في تجارتهم وشئون دنياهم، وخشية عمر أن يغلب الحديث في هذه الشئون الخاصة هي السبب في أنه أمر من شاء أن يلغط أو يتحدث في شئونه الخاصة بالخروج إلى البطيحاء.
ولما آلت الخلافة إلى عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين من الهجرة كلمه الناس أن يزيد في مسجدهم وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، فشاوروا أهل الرأي من الصحابة في ذلك، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، ولم يكن إحساس الناس بضرورة الزيادة في المسجد عجيبا بعد أن امتد الفتح الإسلامي وازداد سكان المدينة بامتداده زيادة عظيمة، وصعد عثمان المنبر يوما بعد أن صلى الظهر بالناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأزيد فيه، وأشهد لقد سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة.» وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه.»
وحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا إليه، فزاد عثمان بقدر زيادة عمر في الناحية الجنوبية من المسجد، وكذلك فعل في الناحية الغربية، أما في الناحية الشمالية فكانت زيادته دون زيادة عمر، وكانت تزيد على ما أحدثه في الناحيتين الجنوبية والغربية بما يعدل قرابة الضعف من كل من هاتين الزيادتين، لكنه أحدث من التطور في عمارته ما لم يحدثه عمر، فهو لم يجدده باللبن ولم يجعل عمده الخشب وسقفه الجريد أسوة برسول الله، بل بنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقورة أدخل فيها عمد الحديد وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، أما سقفه فقد جعله من الساج، وهذا تطور عظيم في العمارة العربية، إن لم يخرج بها عن فكرة المسجد على ما صوره رسول الله، فقد أحدث فيها فكرة المتانة والبقاء، وقد أنكر جماعة من المسلمين يومئذ على عثمان ما فعل من ذلك، وأرادوا أن يبنوا المسجد على نحو ما بناه رسول الله؛ فلم يحفل بقولهم.
ولم يزد عثمان في المسجد من ناحية الشرق؛ لأن بيوت النبي كانت ما تزال قائمة، وكان من أزواجه من لا يزلن يقمن بها، وكان أقرب هذه البيوت من المسجد بيت عائشة الذي دفن به رسول الله وخليفتاه أبو بكر وعمر؛ لذلك لم تكن الحجرة النبوية في المسجد، ولم يكن به موضع معين للروضة النبوية، بل كان كله مسجد الرسول تتساوى جوانبه جميعا في ثواب الصلاة فيه.
وبقي المسجد على ما بناه عثمان إلى سنة ثمان وثمانين من الهجرة لم يزد في نظامه وبناء عمر إلا المقصورة التي اتخذها عثمان ، والتي ما تزال تعرف بمحراب عثمان، وكانت صغيرة من لبن، وفيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام، وكذلك تعاقبت عهود علي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والمسجد على بناء عثمان لا يفكر أحد في الزيادة فيه ولا في تغيير عمارته، وكان مرجع ذلك إلى قيام الثورات عند مقتل عثمان، وإلى انتقاض أهل الحجاز على معاوية وخلفائه بالشام، واستمرار الحرب لذلك بين الأمويين والعلويين ومن شايعهم من الصحابة وأهل بيت النبي ومن انضم إلى ممثلهم عبد الله بن الزبير من المسلمين حين لحق بمكة وتحصن بها بعد مقتل الحسين بن علي بالعراق، فلما قتل ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وتم الأمر لبني أمية في عهد عبد الملك بن مروان انصرف تفكيرهم إلى تقوية الوحدة الإمبراطورية للدولة الإسلامية بعد أن كانوا منصرفين إلى نضال خصومهم، حتى لقد فكر عبد الملك زمنا في اتخاذ قبة الصخرة مثابة لحج المسلمين من أهل مصر والشام والعراق إذا بقي الأمر لابن الزبير بمكة، ومنذ انصرفوا إلى تقوية الإمبراطورية الإسلامية امتد الفتح حتى بلغ الأندلس في عهد الوليد بن عبد الملك.
لم يقض انتصار بني أمية الحاسم على اعتقاد العلويين أنهم - وهم أهل بيت النبي - أصحاب الحق في الخلافة، ومتى قضى ظفر ملك بخصومه على إيمان المغلوبين بحقهم؟! ومتى قضى ظفر نظام بنظام على رجاء المغلوبين في أن يكون الظفر لهم من بعد؟! إن انتصار الجمهورية في فرنسا لم يقض إلى اليوم على أنصار الملوكية فيها، ولم ينزع الرجاء من نفوسهم أن ينتصر اعتقادهم بحقهم على باطل غيرهم، والظافرون يعرفون هذا ويجعلون عيونهم لذلك على خصومهم لكي لا تقوم لهم قائمة، فإذا أبطرهم الظفر وغفلوا، ثار هؤلاء الخصوم بهم وولوا الأمر مكانهم.
كان ذلك شأن بني أمية مع بني هاشم من العلويين والعباسيين، ظفروا بهم، فلم تنسهم نشوة الظفر أنهم خصومهم وأنهم يتربصون بهم الدوائر، كان أبناء فاطمة ابنة رسول الله وحفدتها يقيمون في بيت جدتهم إلى جوار المسجد النبوي، وذلك بعد مقتل الحسين، وبعد أن استقر الأمر لبني أمية، وكان الوليد بن عبد الملك قد استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة، وقدم الوليد حاجا بعد ولايته أمر المؤمنين، فزار المدينة، وفيما هو يخطب الناس يوما على قبر رسول الله حانت منه التفاتة إلى ناحية بيت فاطمة، فإذا بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في يده مرآة ينظر فيها، فلما نزل الوليد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز وقص عليه الأمر وقال: «لا أرى هذا قد بقي بعد، اشتر هذه المواضع وأدخل بيت النبي في المسجد واسدده.» روي أن حسن بن حسن وفاطمة بنت الحسين وولدهما أبوا أن يخرجوا من البيت حين علموا بأمر الوليد، فأرسل إليهم إن لم تخرجوا منه هدمته عليكم، فلما أصروا على إبائهم أمر بهدمه عليهم وفيه حسن وفاطمة وولدهما، ونزع العمال البيت وهم فيه وهددوهم قائلين: «إن لم تخرجوا قوضناه عليكم.» فخرجوا، ونفذ عمر بن عبد العزيز أمر الوليد بضم بيوت النبي إلى المسجد.
وفي رواية أن الوليد كان يبعث كل عام رجلا إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس وما يحدث بها، فقال له الرجل يوما: «لقد رأيت أمرا لا والله ما لك معه سلطان ولا رأيت مثله قط.» قال الوليد: ما هو؟ قال: «كنت في مسجد النبي
Unknown page