الفصل العشرون
العلم والأدب
ليس شك في أن عصرنا الحاضر هو عصر العلوم، وأن العصور القديمة هي عصور الآداب، وليس ذلك إلا اطرادا مع رقي الذهن البشري؛ لأن العقل العلمي أرقى من العقل الأدبي.
وذلك لأن عقل الآداب هو عقل الخواطر السائبة الطارئة وإن كان قد صبغ في عصرنا بقليل من الصبغة العلمية، بينما نجد أن العقل العلمي يتقيد ولا ينساب، ويجيل الفكرة عن عمد لا تطرأ عليه الخواطر الهاملة.
ولكن هناك سببا آخر - غير الرقي الذهني - لاتسام العصور الحديثة بسمة العلوم، وهذا السبب ينحصر في أن الأمم القديمة كانت أرستقراطية ينتظم فيها نظام الأرقاء والموالي يسودهم ويستغلهم الأسياد والأشراف، بينما زماننا الحاضر زمن عصامي خلو من الرق والولاية، فكان العبيد والموالي يقومون بالأعمال اليدوية، بالزراعة والصناعة، بل حتى بالتجارة، لمصالح أسيادهم، وكانت هذه الصناعات كلها محتقرة لأنها قد اختص بها العبيد دون الأسياد، والعلوم إنما تنمو وتزكو بين الصناعة، ولكن لما كانت العقول المسلطة عليها قديما هي عقول العبيد فقط، ولما كان هؤلاء العبيد خلوا من التربية والمال فإنهم لذلك لم يخترعوا ولم يكتشفوا ولم ترتق بهم الصناعة أو العلم، وكذلك رأى الأسياد والأشراف أنه لا يليق بهم أن يتلبسوا بالصناعة إذ قد اختص بها عبيدهم ومواليهم، ومن هنا نفهم نهي الغزالي للناس عن أن يكونوا حلاقين أو دباغين.
فالعصور القديمة كانت عصور الآداب؛ لأن الخاصة المتعلمة كانت تأنف من ملابسة العبيد في صناعاتهم وتقتصر على درس الآداب، ولكن لما قاطعت الخاصة الصناعات قاطعت العلم أيضا، إذ إن ميدانه هو ميدان الصناعة؛ لأن رقي العلوم لا يمكن أن يكون شيئا آخر سوى رقي الصناعة. إلا إذا استثنينا الفلك.
وقد سارت نهضة العلوم الحديثة سيرا مرافقا لإلغاء الرق وتحرير الصناعة بل تطهيرها مما علق بها من عار الرق السابق، وشرع «بيكون» عندئذ يناشد الكتاب والمؤلفين أن يدرسوا «الأشياء العادية» ويتركوا المسائل الضخمة من البحث في ماهية الخالق وما وراء الكون ونحو ذلك، وهذه الأشياء التي درسها بيكون هي أساس الرقي الصناعي أي الرقي العلمي الحاضر.
والعبرة لنا مما قدمناه شيئان: (1)
أن نهضتنا في مصر أدبية وليست علمية، وهي تخالف في ذلك أوروبا. (2)
أن علة ذلك أن الفلاح والعامل عندنا محتقران.
Unknown page