185

Fayd Khatir

فيض الخاطر (الجزء الأول)

Genres

إن في ذمتنا للجيل القادم عهدا أن نسلم إليه تاريخه كاملا متصل الحلقات كما تسلمناه؛ فإذا نحن لم نفعل فقد أضعنا الأمانة وخنا العهد. وفينا بحمد الله رجال شهدوا الجيل الماضي، وكان لهم من المنزلة ما استطاعوا معها أن يخالطوا البيئات المختلفة، ويطلعوا على خفاياها ودخائلها، ولهم من الذكاء وحسن النظر وصدق الرواية وقوة الحافظة وبلاغة اللسان والقلم. ما يمكنهم من الأداء على أحسن وجه، أمثال الهلباوي ولطفي السيد وعبد الوهاب النجار، والسيد محمد البيلاوي؛ فهل يشاركوننا في الشعور بما لديهم من ثروة حافلة، ووفي الشعور بما عليهم من تبعة، فيقدمون للجيل الحاضر والقادم أثمن عمل تاريخي، كما فعل أحمد باشا شفيق؟ فإن لم يفعلوا فهل للشبان أن يدركوا قيمة ما عندهم فينشطوا للاتصال بهم، وتدوين ما يأخذون عنهم، قبل أن تضيع الثروة. وتفلت الفرصة؟ أطال الله في أعمارهم.

النقد الأدبي

أوازن بين النقد من نحو عشرين عاما والنقد الآن، فأجده ليس خاضعا لسنة النشوء والارتقاء، بل لسنة التدهور والانحطاط، حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.

فقد كان الكتاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده؛ فاللغوي ينقده نقدا لغويا، والمؤرخ ينقده نقدا تاريخيا، والأديب ينقده نقدا أدبيا؛ وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب، وتظهر في التأييد والتفنيد مقالات ضافية، وبحوث عميقة شائقة. ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي من نقده «لمجاني الأدب» و«أقرب الموارد» ونحوهما من الكتب، كما لست أنسى ما نقد به كتاب «التمدن الإسلامي» والأخذ والرد اللذين قاما حوله؛ وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة، فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها؛ ومن هذا وذاك يستفيد الأديب، ويرقى الأدب، وتتجلى حقائق كانت خافية، وتتهذب أذواق كانت نابية. وكان يؤلف الكتاب الديني مثل كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فتنشب معارك حامية، وينقسم المفكرون إلى معسكرين، وفي كل معركة شحذ للأذهان ودرس للمتعلمين، وتمحيص للحقائق. قد كان في نقدهم أحيانا هجر وقذع، وهجو وسباب؛ ولكن كان بجانب ذلك حقائق تذاع وبحوث تنشر؛ وكان كل من السباب والنقد العفيف علامة حياة أدبية، وثورة فكرية، وعقل باحث، وقلم نشيط.

تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه! لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان، في كل ناحية من نواحي الأدب، من قصص وقصائد وموضوعات اجتماعية، وكتب تاريخية؛ وكثر الكلام في الأدب، وخصصت أكثر الصحف صفحات للمقالات الأدبية ؛ وكان معقولا أن يساير النقد هذه الحركة فيرقى معها، ويتسع باتساعها، وتتعدد نواحيه بتعددها، ولكن كان من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة، وهي رقي الأدب وانحطاط النقد.

نعم، أعتقد أن الأدب العربي ارتقى عما كان عليه منذ عشرين سنة في جملته لا في كل ناحية من نواحيه، فقد يجوز أننا لم نجد من يخلف «شوقي» و«حافظ» في ناحيتهما الشعرية؛ ولكن الأدب - بمعناه العام - أصبح خيرا مما كان، فغزرت معانيه بعد أن كان لفظيا، وعمق بعد أن كان سطحيا، وجادت القصة فيه نوعا ما، واتسع أفقه وموضوعاته قدرا ما، وتأثر الأدب الغربي وقلده في مناحي رقيه. أما النقد فانكمش وانكمش حتى ضمر وذبل وأشفى على الهلاك.

وحسبك دليلا أن ترى أشهر الكتاب في العالم العربي يخرجون الكتاب تلو الكتاب فلا تكاد تجد ناقدا يعتد به، وتقرأ ما يكتب عن ذلك في أشهر الصحف والمجلات فلا تجد إلا سرابا، وأكثرهم يكتفي باسم الكتاب وعرض موضوعه والاستعانة على ذلك بفهرسه ومقدمته ثم صيغة محفوظة متداولة من المدح والتقريظ؛ فإن كان نقد فمظهر لا مخبر، هو نتاج فقر عقلي وخمود ذهني، ثم ينتهي الأمر ويغلق الباب، فلا معارك ولا مساجلات، ولا بحوث حول الكتاب، ولا أخذ ولا رد، ولا مظهر من مظاهر الحياة الأدبية. لا يشعر الناقد أن عليه واجبا يؤديه للقراء، وأن منصبه يتطلب منه قراءة عميقة وآراء صريحة، وتقديرا دقيقا، وأن ذمته لا تبرأ إلا ببحث شامل وافي ثم إبداء لرأيه في غير تحيز ولا مواربة، ولكن كل ما يشعر به أن المؤلف أهدى إليه الكتاب؛ فهو يلقى عن عاتقه العبء بكتابة كلمة خاملة، ووصف فاتر، ونقد سطحي.

ليس النقد مجرد استحسان الناقد أو استهجانه. فكل ما كان مبنيا على ذوق الناقد وحده، ومجرد ادعائه أن هذا بليغ وهذا غير بليغ، وهذا راق وهذا غير راق؛ لأنه يتذوقه أو لا يتذوقه، واكتفاؤه أحيانا بأن يصوغ عبارته في الاستحسان أو الاستهجان في قالب جميل، كل ذلك ليس من النقد في شيء. إنما النقد ما علل وبينت فيه أسباب الحسن والقبح ، وأسس على قضايا ثابتة. فبهذا يستفيد المنقود، ويرقى الأدب، ويسمو الذوق؛ وبهذا وحده لا يكون النقد فتاتا لموائد الأدب، ولا متطفلا على نتاجه، إنما يكون هاديا للأديب، ومرشدا للجمهور، وموجها للأدب نحو الكمال.

ولكن ما علة هذه الظاهرة في الأدب العربي، وليس من الطبيعي في الأمم أن الأدب إذا رقى ضعف النقد؟ فإننا نرى الظاهرة في الأدب الغربي أن يرقى الأدب فيرقى النقد، ويؤثر كلاهما في الآخر تأثيرا محمودا - فيجب أن تكون علة ضعف الأدب العربي علة محلية لا علة طبيعية.

يظهر لي أن هذا الضعف في النقد يرجع إلى أسباب عدة:

Unknown page