Fawda Muqaddima Qasira
نظرية الفوضى: مقدمة قصيرة جدا
Genres
نرغب في تحديد طريقة لاحتواء الفوضى؛ إذ ليس أمرا غريبا أنه من الصعب توقع الأشياء التي تنفصل متباعدة نحو اللانهائية، لكننا لا نريد أن نفرض شرطا صارما من قبيل اشتراط ألا يتجاوز توقع ما قيمة محددة، مهما كان حجم القيمة. كحل وسط، نشترط أن يعود النظام مرة أخرى للاقتراب من حالته الراهنة في وقت ما في المستقبل، وأن يتكرر هذا مرة بعد أخرى. يمكن أن تستغرق عودة النظام وقتا كيفما يشاء، ويمكننا تحديد معنى العودة باعتبارها تمثل العودة إلى الحالة الراهنة على نحو أقرب مما شهدناه يعود من قبل، وإذا حدث ذلك، فسيعد المسار «متكررا». وهنا يقدم الطوفي مرة أخرى مثالا مشابها؛ فإذا كانت الحركة فوضوية وانتظرنا ما يكفي من الوقت، فستعود حبتا السكر مجددا قريبتين إحداهما من الأخرى، وستمر كل منهما بالقرب من الموضع الذي كانت فيه عند بداية التجربة، وذلك بافتراض عدم إغلاق الماكينة أثناء ذلك.
الفصل الثالث
الفوضى في السياق: الحتمية والعشوائية والتشويش
تشبه كل النظم الخطية بعضها بعضا، أما كل نظام لا خطي يكون لا خطيا بطريقته الخاصة.
على غرار رواية تولستوي «أنا كارنينا»
النظم الديناميكية
تعد الفوضى إحدى سمات النظم الديناميكية، ولا يزيد أي نظام ديناميكي عن كونه مصدرا من مصادر الملاحظات المتغيرة؛ كما هو الأمر في حديقة فيبوناتشي الخيالية التي تحتوي على أرانب، ودرجة حرارة الأرض وفق قياس مقياس الحرارة في مطار هيثرو في لندن، والاقتصاد الذي يجري رصده من خلال سعر أسهم شركة آي بي إم، وبرنامج الحاسوب الذي يحاكي مدار القمر ويقوم بطباعة بيانات تاريخ ومكان كل كسوف شمسي مستقبلي.
ثمة أنواع ثلاثة مختلفة على الأقل من النظم الديناميكية. يوجد أسهل تعريف للفوضى في إطار «النظم الديناميكية الرياضية»، وتتألف هذه النظم من قاعدة؛ ألا وهي أنك تدخل رقما ما فيخرج لك رقم جديد، وهذا الأخير يعاد إدخاله مرة أخرى للحصول على رقم جديد آخر، وهو ما يجري إدخاله مجددا، وهكذا دواليك. تسمى هذه العملية «التكرار». يعتبر عدد الأرانب في حديقة فيبوناتشي الخيالية شهريا مثالا نموذجيا على سلسلة زمنية من هذا النوع من النظم. ويوجد نوع ثان من النظم الديناميكية في العالم التجريبي لعالم الفيزياء، أو عالم الأحياء، أو متداول الأسهم بالبورصة. هنا تتألف سلسلة ملاحظاتنا من قياسات ضوضائية للواقع، وهي قياسات مختلفة جوهريا عن الأرقام الخالية من التشويش في خريطة الأرانب؛ ففي هذه «النظم الديناميكية الفيزيائية» - ومنها على سبيل المثال مناخ الأرض وأعداد فئران الحقول في الدول الاسكندنافية - تمثل الأرقام الحالة، بينما في خريطة الأرانب كانت الأرقام «هي» الحالة. ولتفادي الحيرة التي لا ضرورة لها، يكون من المفيد هنا الإشارة إلى النوع الثالث من النظم الديناميكية، والتي تظهر عندما يجري حاسوب رقمي العمليات الحسابية التي يحددها النظام الديناميكي الرياضي، وهو ما سنطلق عليه «المحاكاة الحاسوبية»، وتعتبر برامج الحاسوب التي يصدر عنها توقعات الطقس في التليفزيون مثالا شائعا لها. ومن المهم تذكر أن هذه «أنواع» مختلفة من النظم، وأن كلا منها نوع قائم بذاته. إذ تختلف أفضل معادلاتنا لتوقع حالة الطقس عن أفضل نماذجنا الحاسوبية التي تعتمد على تلك المعادلات، كما يختلف هذان النظامان كلاهما عن الشيء الحقيقي، ألا وهو طقس الأرض نفسه. يثير الحيرة أن الأرقام الصادرة عن كل نوع من أنواع النظم الثلاثة يطلق عليها سلسلة زمنية، ويجب ألا ننسى أبدا الفارق بين أي سلسلة زمنية يمثلها كل نوع من هذه الأنواع: عدد الأرانب المتخيلة، ودرجة الحرارة الحقيقية في المطار (إذا كان ثمة شيء مثل ذلك يوجد بالفعل)، وقياس يمثل تلك الحرارة، ومحاكاة حاسوبية لدرجة الحرارة تلك.
تعتمد مدى أهمية هذه الفروق على ما نهدف إلى تحقيقه؛ فمثل لاعبي لعبة الورق في لوحة لاتور، لكل من العلماء، وعلماء الرياضيات، والإحصائيين، والفلاسفة مهارات وأهداف مختلفة؛ فربما يهدف الفيزيائي إلى توصيف الملاحظات من خلال نموذج رياضي، وربما يختبر النموذج من خلال استخدامه في توقع ملاحظات مستقبلية؛ فالفيزيائي لدينا مستعد للتضحية بالسلاسة الرياضية في سبيل الصلة الفيزيائية. يحب علماء الرياضيات أن يثبتوا أشياء تنطبق على نطاق واسع من النظم، لكنهم يبالغون في تقدير قيمة البرهان، حتى إنهم عادة لا يأبهون بضرورة تضييقهم لذلك النطاق للحصول على البرهان. يجب أن يكون المرء حذرا دوما متى سمع أي عالم رياضي يقول «تقريبا كل». يجب أن يحرص الفيزيائي لدينا على ألا ينسى ذلك، وألا يخلط بين الفائدة الرياضية والصلة الفيزيائية. يجب ألا تتسم البداهات الفيزيائية بالتحيز عبر خواص نظم «مفهومة جيدا»، مصممة فقط لسلاستها الرياضية.
الإحصائي لدينا مهتم بوصف إحصائيات شائقة مستقاة من السلسلة الزمنية للملاحظات الحقيقية، وبدراسة خواص النظم الديناميكية التي تولد سلاسل زمنية تبدو مثل الملاحظات، مع حرصه دائما على وضع أقل قدر ممكن من الفرضيات. أخيرا، يبحث الفيلسوف لدينا في العلاقات القائمة بين النظام الفيزيائي الذي نزعم صدور الملاحظات عنه، والملاحظات نفسها، والنماذج الرياضية أو الأساليب الإحصائية التي ابتكرناها لتحليلها؛ فعلى سبيل المثال، يهتم الفيلسوف بما يمكن أن نعرفه عن العلاقة بين درجة الحرارة التي نقيسها ودرجة الحرارة الحقيقية (إذا كان ثمة شيء مثل ذلك)، ويهتم بما إذا كانت حدود معرفتنا ليست سوى صعوبات عملية قد نتمكن من تخطيها، أو أنها حدود لا نستطيع تجاوزها.
Unknown page