فقال حماد: «وهل صحت نبوة بحيرا.»
قال: «نعم لأن ذلك الغلام القريشي أصبح نبيا كبيرا تسمى ديانته الإسلام وقد انتشرت سطوته في كل جزيرة العرب ويسمى أتباعه المسلمين ويحدثنا التجار القادمون من الحجاز عن أعماله وحروبه وانتصاره ما يفوق طور التصديق فسكان جزيرة العرب بعد أن كانوا قبائل متشتتة يغزو بعضها بعضا اتحدت كلها قلبا وقالبا تحت لوائه ولا يبعد أن يحمل بهم على الشام والعراق.»
فقال حماد: «وأظنني سمعت شيئا عن هذا النبي يوم كنت في العراق فما رأيك إذا حمل على الشام والعراق.»
فبهت الشيخ وفكر برهة ثم أغرورقت عيناه بالدموع وقال: «آه يا ولدي لا أظنه إلا يستولي عليهما جميعا لما نعلمه من اختلال الأحوال، فإن قيصر الروم لم يكد يتم حروبه مع الفرس وهذه قلاعنا وحصوننا لا تزال متهدمة وحكامنا في شاغل عن ترميمها بالانقسامات الدينية التي هي أصل هذا الشقاء ألا ترى بطاركتنا في جدال دائم على أمور ما أنزل الله بها من سلطان فبطريرك الإسكندرية يقاوم بطريرك القسطنطينية ويخالفهما بطريرك انطاكية. وقد كانت ديانتنا واحدة لأن السيد المسيح واحد علم تعليما واحدا فأبت مطامع بني الإنسان إلا الانقسام فتعددت الفرق المسيحية وأشهرها ثلاث الآن وهي: (1) الملكية القائلون بقول مركيانوس الملك على عهد الشقاق الواقع بين نسطوريوس وكرللس وهم الروم (2) اليعقوبية القائلون بمقالة كيرللس الإسكندراني ويعقوب البردعانى وساورس صاحب كرسي انطاكية (3) النسطورية القائلون بقول نسطوريوس وترى الشعوب منقسمة أيضا مثل هذا الانقسام حتى تمكن العداء بينها حمانا الله من عواقب الغرور.»
وما أتم الراهب الشيخ كلامه حتى أنهكه التعب لما أثر فيه من حال الروم وما خافه عليهم من سطوة العرب فتململ وتنفس الصعداء وتزحزح من مكانه كأنه يطلب الاتكاء فنهض حماد وقد علم أمورا لم يكن عالما بها قبلا ومال ميلا كثيرا إلى معرفة التفصيل ولكنه خاف التثقيل على الشيخ بعد ما آنس من تعبه وملله وشغل عن ذلك باستبطاء هند عن المجيء فودع الراهب وقبل يده وطلب رضاه وخرج فإذا بالشمس قد مالت عن خط الهاجرة فجلس على حجر منحوت قائم تحت شجرة كبيرة لعب النسيم في أوراقها وتطايرت الطيور بين أغصانها فألقى ظهره على جزعها وأخذ يفكر بما سمعه من ذلك الراهب فغلب عليه الملل وهو لم ينم بالأمس إلا قليلا فغمضت عيناه لحظة رأى فيها حلما من قبيل ما سمعه من الراهب فخيل له أنه سار إلى المدينة بالحجاز وشاهد المسلمين عاكفين على صلواتهم وإن نبيهم قال له: «أنت لست حمادا وستلاقى عذابا ولكنك تجد بعد العسر يسرا.»
ثم أفاق من صوت صهيل الخيل فإلتفت فإذا بفارسين بلباس أميرات البلقاء وراءهما خادمان وقد وقف الفارسان تحت شجرة بالقرب منه فنهض للحال فرآهما تتلثمان ولكنه عرف من الفرسين أنهما هند وإحدى خادماتها فتشاغل ببعض الشؤون لئلا ينتبه أحد لحاله ولبث ينتظر إشارتها وقلبه يخفق فمشت نحو الصومعة وهو واقف لا يبدى حراكا حتى صعدت إليها ودخلت الباب فانتظر هنيهة فلم تعد فمشى نحو الصومعة يتردد بين الصعود والبقاء فإذا بإحدى الملثمتين قد عادت نحوه فعرف من مشيتها أنها ليست هندا فلما دنت منه قالت له: «أتعرف تاجرا يبيع الحلي كان واقفا هنا.» فأدرك أن هندا تسأل عنه باسم أحد باعة الحلي لتخفي أمره عن الخادمة فأجاب على الفور: «أنا هو ذلك التاجر فما غرضك.»
فقالت: «إن سيدتي تفتش عنك.»
قال: «وهل تريد ابتياع شيء الآن.»
قالت: «نعم فأين بضاعتك.»
قال: «هي في مخزني على مقربة من هذا المكان ولكن الحلي التي أبيعها غالية الثمن لا يستطيع اقتناءها إلا الأغنياء فإذ كانت سيدتك من أهل اليسار أتيتها بما تريد.»
Unknown page