قال عبد الله: «كلا يا مولاي أننا غير عالمين بشيء من ذلك».
قال الراهب: «أخبرني التاجر أن أولئك الحجازيين بعد أن فتحوا مكة عادوا إلى المدينة وأنفذوا جندا منهم إلى من بقي في جزيرة العرب لم يرضخ للإسلام فغزوا غزوات عدة فازوا بها كلها ومن أكبر قوادهم رجل منهم يقال له «خالد بن الوليد» أتى بالمعجزات في حروبه حتى سماه النبي «سيف الله» ومنهم علي بن أبي طالب ابن عم النبي وهو بطل مجرب. وكذلك رجل شيخ من كبار مشيريهم اسمه عبد الله ابن أبي قحافة لقبه بالصديق ويسمى أبا بكر وهو حمو النبي والد امرأته عائشة. ومنهم رجل آخر يندر مثاله في العالم بشدة البطش وصدق الغيرة على الحق اسمه عمر بن الخطاب وآخر اسمه عمرو بن العاص وغير هؤلاء جماعة كبيرة فتمكن بذلك من إذلال قبائل العرب حتى أنه لم يعد يحتاج في إذلالهم إلى إرسال الرجال بل كانوا يفدون عليه وفودا يلتمسون الدخول في دينه عن رضى وطيبة خاطر فرأى الوقت اللازم لفتح الشام قد آن فجند جيشا بقيادة رجل اسمه أسامة بن زيد وأمره أن يسير إلى فتح الشام وفيما هو في ذلك وافاه القدر فتوفي قبل مسير الجند ولكنه خلف أبطالا قاموا بنصرة دينه فتولى الخلافة بعده حموه أبو بكر المتقدم ذكره وهو شيخ جليل القدر وأخبرني التاجر أن المسلمين لما مات النبي اختلفوا في من يولونه الخلافة بعده لأنهم قسمان قسم يقال لهم الأنصار وقسم يقال لهم المهاجرون».
فقال حماد: «وما معنى هذه الأحزاب هل هي مذاهب دينيه كالتي عندنا».
قال: «لا يا ولدي إن المهاجرين هم الذين هاجرو مع النبي من مكة إلى المدينة يوم شدد أهله النكير عليه هناك فتبعه من قريش أكثرهم غيرة عليه فسموا المهاجرين وأما الأنصار فهم أهل المدينة الذين قاموا بنصرته لما جاءهم مهاجرا فحاربوا معه فسموا الأنصار. فكل من الأنصار والمهاجرين يظن نفسه أولى بالخلافة فاختلفوا في من يتولاها حتى كادت تقوم بينهم فتنة. ويظن صاحبنا التاجر المكي أن الفضل في فض هذا المشكل لأحد المهاجرين عمر بن الخطاب وقد ذكرته لكم الآن فهو الذي توسط في الأمر وبايع أبا بكر فبايعه الناس احتراما له أو خوفا منه فصارت الخلافة في المهاجرين وهم من قبيلة النبي (قريش) فخليفة المسلمين الآن أبو بكر الصديق هذا.
فلما توفي النبي تغيرت قلوب بعض أهل جزيرة العرب ممن اعتنقوا الإسلام في حياته فارتد كثيرون منهم إلى ما كانوا عليه من النصرانية أو اليهودية أو غيرهما فتهيب المسلمون لذلك فاجتمعوا وأوعزوا إلى أبي بكر أن يعدل عن إرسال الجند إلى الشام لاحتياجهم إليهم في اقماع المرتدين فأبى إلا إنفاذ ما أمر به النبي فأرسل أسامة وجنده إلى الشام ومما أحكاه لي التاجر المكي حكاية وقعت لأبي بكر هذا يستغربها كل من عاشر حكامنا من الروم أو الفرس».
فقال عبد الله: «وما هي؟» قال الراهب: «أخبرني التاجر أن أبا بكر رافق ذلك الجند في خروجهم من المدينة وكان أسامة راكبا وأبو بكر ماشيا فخجل أسامة من ذلك لأنه شاب وذاك شيخ فضلا عن كونه رئيسه فتقدم إليه أن يمشي هو ويركب أبو بكر فأبى إلا أن يشيعهم ماشيا ويدل ذلك على رغبة حكامهم في الخدمة لا الرئاسة وما أوصاهم به قبل عودته قوله: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تقعروا نخلا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا». هل سمعتم مثل ذلك من رؤسائنا لا أنكر عليكم أن النصرانية تأمرنا بمثل ذلك ولكن حكامنا نبذوا الدين نبذ النواة وسيعود ذلك عليهم وبالا». قال الراهب: «ذلك وقد أخذت الحدة منه مأخذا عظيما حتى ارتجف صوته وارتعشت لحيته ثم سكت».
وكان عبد الله وحماد وسلمان متطاولين بأعناقهم يسمعون حديث الراهب وقد زادهم تأثرا ما آنسوه من اهتمامه فقال عبد الله: «إن مثل هؤلاء لا بد من أن يغلبوا العالم ويفتحوا الأمصار فعساهم أن يبدأوا بالعراق وينقذونا من دولة الفرس الظالمة».
فقال الراهب وقد تنفس الصعداء: «انك تتمنى أمرا قد وقع فعلا فإن جيش أسامة هذا لم تطل غيبته لعلمه أن الخليفة أحوج إلى نصرته في قتال أهل الردة مما بفتح الشام فعاد بجنده وانضم إلى المسلمين في حروب أهل الردة. ومما زاد الأمر أشكالا أناس أدعوا النبوة منهم رجل اسمه أسود العنسي في اليمن فالتف حوله حزب كبير ورجل آخر اسمه طليحة الأسدي من بني أسد في نجد وآخر اسمه مسيلمة في اليمامة وآخر اسمه ذو التاج لقيط بن مالك وغيرهم من المتنبئين ودعاة الأحكام حتى لم تبق قبيلة من قبائل اليمن وحضرموت وعمان والبحرين واليمامة ومهرة إلا نبذت طاعة المسلمين وارتدوا عن الإسلام فخاف المسلمون الفشل ولكن أبا بكر تصرف بحكمة ودراية وساعده في ذلك قواده المحنكون وخصوصا خالد ابن الوليد فأنه عمل أعمالا غريبة وكذلك عمرو بن العاص وغيرهما فقضوا في سنة كاملة حتى دانت الكفاح قبائل العرب واجتمعت كلمتهم واستقام أمرهم».
فقال حماد: «يا حبذا لو يسير خالد الذي ذكرته إلى العراق».
فضحك الراهب ضحكة يتخللها عبوس وقال: «لقد أصبت يا ولدي فأنه عمل ما أردته فسار خالد هذا إلى العراق لفتح الحيرة وقتال الفرس».
Unknown page