170

هذه الروايات التي أوردها ابن عبد الحكم تنتهي كلها إلى ما تنتهي إليه رواية البلاذري من أن المسلمين هاجموا المدينة ففتحها الله عليهم، وأن ذلك كان يوم الجمعة لمستهل المحرم سنة عشرين من الهجرة، وأنت تراها جميعا خلوا من كل تفصيل، وغاية ما أورده البلاذري من هذا التفصيل أن عمرا وجد أهل الإسكندرية معدين لقتاله إلا القبط، فإنهم كانوا يحبون الموادعة فأرسل المقوقس يسأل عمرا الصلح والمهادنة إلى مدة، فأبى عمرو ذلك، فأمر المقوقس النساء أن يقمن على سور المدينة مقبلات بوجوههن إلى داخله، وأقام الرجال في السلاح مقبلين بوجوههم إلى المسلمين ليرهبهم بذلك؛ فأرسل إليه عمرو: «إننا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد لقينا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان.» فقال المقوقس لأصحابه: قد صدق هؤلاء القوم؛ أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان فأغلظوا له القول وأبو إلا المحاربة، فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وحصروهم ثلاثة أشهر، ثم إن عمرا فتحها بالسيف، وهذا تفصيل طريف قد يصور حيلة المقوقس أول ما حاصر عمرو الإسكندرية، وما دار بين الرجلين من سفارة إذ ذاك؛ لكنه لا يصور الموقعة الحاسمة التي انتهت بفتح الإسكندرية عنوة، ولا يصف قتال المسلمين حين اقتحموا ما يحيط بالمدينة من أسوار متينة، وحين اجتاحوا حصونها المنيعة ودخلوها ظافرين منتصرين.

وليس يسعنا إلا أن نبدي من الأسف على هذا الإغفال مثل ما أبدينا حين الكلام عن فتح كريون، فصيحات الأبطال الذين فتحوا الإسكندرية، والتحامهم بعدوهم وكيف قاومهم العدو، والأسباب التي أدت إلى ظفر الأولين وهزيمة الآخرين، وكيف استقبل شعب الإسكندرية الفاتحين، كلها أمور عظيمة الشأن، وشأنها لا يقف عندما تنطوي عليه من رائع القصص، بل تتعدى ذلك إلى أنها تجلو لنا الميول والاتجاهات الإنسانية التي كانت قائمة بنفوس الجماعات في ذلك العصر، وتهدينا إلى تبين العوامل التي كيفت ما حدث بعد ذلك من تطور في أحوال المنتصرين والمنهزمين على سواء، وترسم لنا جانبا من صورة الإنسانية لذلك العصر على نحو يكشف عن اتجاه الضمير الإنساني في عصر بعينه، ومعرفتنا هذا الاتجاه تمكننا من أن نضع رسما بيانيا، على تعبير المهندسين والطبيعيين، لسير الإنسانية في دأبها المتصل على العصور ابتغاء الكمال.

وليس يخفف من أسفنا ما أورد المؤرخون من مواقف فردية لبعض الأبطال؛ فهذه المواقف، إن صحت الرواية في أمرها لا تصور اتجاها عاما للتفكير الإنساني في العهد الذي وقعت فيه، وإن أمكن أن تصور ناحية من نواحي الخلق الفردي لأبطال ذلك العهد، ذكروا أن الروم بالإسكندرية قاتلوا المسلمين يوما من الأيام قتالا شديدا، فلما حمي الوطيس بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه وألقاه عن فرسه، وأهوى عليه لولا أن حمى مسلمة رجل من أصحابه، وكان مسلمة على شجاعته بدينا، فلما رأى عمرو بن العاص ما حدث غضب من مسلمة وقال: «ما بال الرجل الذي يشبه النساء يتعرض مداخل الرجال ويتشبه بهم!» وغضب مسلمة من قول عمرو؛ لكنه كظم غضبه وأسرها في نفسه، ثم إن القتال اشتد واقتحم المسلمون حصن الإسكندرية ودخله عمرو ومسلمة فيمن دخله، وكر عليهم الروم وأخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر لم يستطيعوا الخروج، فأغلق عليهم الروم باب الحصن وحبسوهم فيه، وكان عمرو ومسلمة بين هؤلاء الأربعة ؛ لكن الروم لم يعرفوهما، وتكلم رومي بالعربية فقال لعمرو وأصحابه: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم، فامتنعوا عليه، فقال لهم الرومي: إن في أيدي أصحابكم رجالا منا أسروهم، ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا ولا نقتلكم، فأبوا عليهم، فاستأنف الرومي قائلا: هل لكم إلى خطة نصف بيننا وبينكم: أن يبرز منكم رجل ومنا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم؟ فرضي المسلمون الأربعة بذلك، وبرز من الروم رجل وثق أصحابه بنجدته وشدته، وأراد عمرو أن يبرز بنفسه، فمنعه مسلمة حتى لا يتعرض للقتل فيكون قتله بلاء على أصحابه جميعا، واستأذنه في أن يبرز، قال عمرو: دونك، فربما فرجها الله بك، وبارز مسلمة الرومي فتجاولا ساعة ثم أعان الله مسلمة على الرومي فقتله، وفتح لهم الروم باب الحصن فخرجوا وقد استحيا عمرو مما كان قاله لمسلمة، فاستغفره منه فغفره له، فقال عمرو: «والله ما أفحشت إلا ثلاث مرار: مرتين في الجاهلية وهذه الثالثة، وما منهن إلا وقد ندمت، وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك! والله إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما بقيت!»

هذه الصورة أدنى إلى الأساطير، وهي مع ذلك تصف لنا جانبا من خلق مسلمة، وجانبا من خلق عمرو وكلا الجانبين مضيء يجمل التأسي به، لكنها لا تزيد على هذا الوصف، فلا تصور اتجاها عاما في حياة الجماعة كان له أثره في هذا اليوم الحاسم الذي قضى على وجود الروم في مصر، ومن عجب أن تبلغ الروايات التي انتهت إلينا من الإيجاز فلا تذكر أي أبواب المدينة دخل منه المسلمون، ولا كيف اقتحموه، ولا كيف دافع الروم عنه، مع أن هذا اليوم الحاسم قد كان لا ريب من أهول الأيام في حروب ذلك العهد؛ فكان أهول من أيام القادسية الثلاثة، ومن يوم المدائن ويوم نهاوند! وأعجب من ذلك أن يكتفي المؤرخون المسلمون من وصف هزيمة الروم بمثل هذا القول : «فلما هزم الله تبارك وتعالى الروم وفتح الإسكندرية هرب الروم في البر والبحر.»

مهما يكن من أمر هذا الإيجاز، فالمؤرخون المسلمون جميعا متفقون على أن الإسكندرية فتحت عنوة، وأن الروم هربوا لفتحها يلتمسون من سيوف الغزاة ملجأ حيثما وجدوه، ولكن بتلر يصور هذا الفتح صورة تختلف عن ذلك كل الاختلاف، صورة التسليم على صلح، لا صورة الإذعان عن هزيمة، فهو يذكر، كما قدمنا، أن عمرو بن العاص سار بنفسه على رأس الكتائب التي ذهبت من الإسكندرية تذيع الفزع في بلاد الدلتا، وأن المطاف انتهى به إلى بابليون حين فيض النيل وبينما هو في الحصن وافاه قيرس آتيا من الإسكندرية يحمل رسالة الإذعان والتسليم، ويقول للأمير العربي: «إن الله قد أعطاكم هذه الأرض، فلا تدخلوا بعد اليوم في حرب مع الروم.» ثم ينتهي بعد المفاوضة إلى عقد الصلح معه.

وعاد قيرس إلى الإسكندرية يحمل عهدا عقده مع القائد العربي وأهلها لا يعلمون ما صنع، ولم يجد مشقة في حمل أمراء الجند على إقرار هذا الصلح والنزول على أحكامه، وتسامع الناس همسا بما حدث، فثارت نفوسهم، ثم زادهم ثورة ما فجأهم من دخول فئة من العرب مدينتهم؛ يسيرون على خيلهم لا يلوون على شيء، ولا يعبثون بضجة الناس من حولهم، وبلغت منهم الثورة لصنيع قيرس أن أقبلوا إلى قصره، وأحاطوا به يريدون أن يقتلوه، ومع إحداق الخطر بحياته استطاع البطريق الشيخ ببلاغته وقوة حجته وهيبة شيخوخته، أن يسكن ثائرة الناس، وأن يقنعهم بصدق رأيه، وأن يحملهم على قبول ما صنع، بل لقد بلغ من تأثر الثائرين بأقواله أن جعلوا «يتلاومون على ما اقترفوا من الوثوب والحنق على ذلك الحبر الطاهر، في حين يسعى جهد طاقته ليحول بينهم وبين الهلاك على يد الغزاة، وأخذوا يجمعون قسط الجزية التي فرضت عليهم وزادوا عليها مقدارا كبيرا من الذهب، ووضع ذلك المال في سفينة خرجت من الباب الجنوبي الذي تدخل منه الترعة، وذهب قيرس بنفسه ليحمله إلى قائد المسلمين وبذلك تم فتح الإسكندرية.»

3

هذه رواية بتلر ، وهي تختلف عن تصوير المؤرخين المسلمين لفتح الإسكندرية أشد الاختلاف، وقد أورد بتلر في روايته هذه طائفة من نصوص المعاهدة التي أشار إلى أن المقوقس عقدها مع عمرو بن العاص خاصة بالإسكندرية، ولو أن هذه الرواية بقيت قائمة، لكانت جديرة أن تبعث إلى نفس القارئ شيئا من الاضطراب إذ يوازن بينها وبين رواية المؤرخين المسلمين، فقد أبدى هذا المؤرخ العالم من النزاهة ومن الحرص على الدقة العلمية في بحوثه ما يدعو لاحترام رأيه في الوقائع التي حققها، وإن اختلف الإنسان معه في استنباطاته وفي آرائه وفي طريقة توجيهها، لكن هذه النزاهة نفسها هي التي اقتضت هذا العالم الدقيق أن يعدل عن رأيه حين ثبت له عدم صحته، وأن يسلم بأن عمرا والمقوقس لم يعقدا غير معاهدة واحدة هي التي وضعت شروطها حين حصار حصن بابليون، ثم رفضها هرقل ونفى قيرس من أجلها، بهذا أصبحنا قادرين على أن نطمئن كل الاطمئنان إلى رواية المؤرخين المسلمين على إيجازها، وأن نسلم بأن الإسكندرية فتحت عنوة، وأن ما ربما حدث بعد هذا الفتح بين المقوقس والقائد العربي لم يتجاوز تنظيم الوسيلة لجلاء جند الروم عن العاصمة المصرية وعن بلاد مصر كلها.

4

دخل المسلمون الإسكندرية عنوة فاقتحموا أسوارها وفتحوا بابها، ففر الروم منهم إلى البر والبحر، وأذعن لهم سكان العاصمة وأسلموهم مقاليدها، فأخذ هؤلاء البدو من أهل شبه الجزيرة يجوسون خلال مدينة الإسكندر، فلا يكادون يخطون فيها خطوة بعد خطوة حتى يبلغ منهم البهر حد الذهول، لقد تولتهم الدهشة، أول مقدمهم، لحصارها، حين رأوا ضواحيها وأسوارها، وحين تبدت لهم أعاليها من وراء الأسوار محدثة عما فيها من بدائع الفن والعمارة وزخرفها، بل لقد كانت الأسوار وحدها عجبا بمتانتها وبراعة صناعتها وما ينهض فيها من بروج وحصون، أما الآن وقد تخطوا الأسوار إلى داخل المدينة فليس ما يرونه عجبا وكفى، بل هو بارع باهر يسحر اللب ويلعب بالفؤاد، فهذان الطريقان العظيمان، اللذان يشقان المدينة من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب فريدان لا نظير لهما في كل ما رأوا بالشام أو بالعراق، تكتنفهما على طولهما عمد من مرمر ناصع يأخذ لألاؤه النظر، ويتقاطعان في ميدان فسيح غرست فيه الحدائق الغناء فجعلته روضة من رياض الجنة، وقامت من حوله القصور المنيفة تحيط بها جنات من أعناب وزهر وفاكهة وكل زرع نضير، ويبلغ أحد الطريقين البحر فينكشف المرفأ للنظر، وتتجلى من حوله عجائب يحار المرء عند أيها يقف، فإذا وقف عند أحدها سحر به فلم تطاوعه نفسه إلى مجاوزته، فهذه قصور البطالسة يحدث ما بقي من جمالها وإبداعها عن عظمة في العلم والفن لا تدانيها عظمة، وهذه المقبرة الكبرى التي كانت بها جثة الإسكندر وعليها غشاء من ذهب، وهذا المتحف تتصل به مكتباته العجيبة التي كانت مقر العلوم في العالم أجمع، وهذا إيوان عظيم تحيط به أربعة صفوف من العمد، يسميه أهل المدينة «التترابيلوس» ويذكرون أن الإسكندر الأكبر دفن به النبي أرميا، وهم لذلك يحترمونه ويجلونه، وإلى جانب ذلك المشهد تقوم الكنيسة الكبرى، كنيسة القديس مرقس، البديعة البناء، وعلى مقربة منها تقوم طائفة من الكنائس تعنو لعظمتها، وهي مع ذلك بدائع في الفن تشهد بما جبل عليه أهل مصر من حب الإنفاق في بناء المعابد زلفى إلى الآلهة التي يعبدونها.

Unknown page