إن تمركز القوات أو انتشارها مسألة نسبية، وكذلك قوة تسلحها أو ضعف مقدرتها وهجومها المباغت أو غاراتها الاعتيادية، وسرعة أو بطء تحركها، وكثرة أو ندرة حشودها وحيويتها أو سقوط همتها، كلها أمور نسبية. ولذلك فمن الممكن تشتيت قوات العدو ذات التشكيل المتمركز، ويمكن كذلك كسر قوة العدو وتحويل عنصر قوته إلى أحد عوامل ضعفه، كما يمكن إجباره على العودة إلى الطرق البعيدة، بعد أن اجتاز أشد الطرق اختصارا [كذا]، وإذ تزداد تحركاته سرعة، فيمكن إجباره على إبطاء اندفاعه، وعندما تكثر حشوده فيمكن تقليص عددها، وإذا كانت قد تمتعت بنصيب وافر من الاستجمام والراحة، فسيسهل تكبيدها صنوف المشقة والعناء [فراغ].
الفصل الخامس عشر
الثوابت والمتغيرات1
إن القاعدة التي تحكم كل الموجودات [حرفيا: «كل الأشياء التي تحت السماء»]، هي إن بلوغ تمام الحد نذير بالانقلاب إلى الضد، ولا بد لمنتهى النماء أن يصير إلى حضيض الفناء، فتلك هي القاعدة المعهودة (اقرأ: الضرورية، الحتمية) في تطور الأشياء. فالتبادل حتم بين كل ازدهار وانهيار، والتبادل متبادل بين فصول أربعة، وكل ما يؤثر في غيره من الأشياء ينقلب إلى متأثر ومنفعل بالغير تماما كما هي الحال، فيما يتطرق إلى العناصر الخمسة من تأثير متبادل بين بعضها بعضا [حرفيا: كما هي الحال بين المعادن، والخشب، والماء، والنار، والتراب] لكل الأشياء موت وحياة. لكل الموجودات نصيب من العجز والاقتدار، وفي كل حال من الأحوال وجوه من النفع وجوانب من المضار.
كل ما هو مادي ملموس، فهو قابل للمعرفة، وكل ما يمكن معرفته فهو خاضع للتطويع ورهن لمشيئة الاستخدام والتطبيق، ولذلك يستطيع الحكماء الراسخون في الحكمة والفهم، التحكم في كل الأشياء وإخضاعها تبعا لما يتبدى من خصائصها، وللعلماء في ذلك طرائق لا تنفد ووسائل إخضاع لا حدود لها.
والحرب تطبيق لكيفية الاستفادة من التأثير المتبادل في طبائع الأشياء. وكل مادي ملموس يقبل الإخضاع والتطويع، غير أن مدار الأمر كله على تدبر وسيلة الإخضاع؛ إذ ليس بالضرورة أن تكون الطريقة المستخدمة في تطويع الأشياء معلومة بادئ ذي بدء. كل الأشياء تتبادل التأثير في بعضها بعضا، وكلها يلحق به التغيير الذي هو طبع أزلي كطبيعة الأرض والسماء. وإذا أردنا أن نحصي الأمثلة والنماذج على ما يلحق الأشياء من تغيير جراء الاحتكاك والصراع بين بعضها بعضا، فلن تكفينا في ذلك كل الرقاع، وستنفد السجلات قبل تمام التدوين [حرفيا: لن تكفي لتدوين تلك الأمثلة كل أعواد البامبو النابتة في حدائق دولتي: تشو، ويوي (دولتان قديمتان في زمن الدول المتحاربة 475-221 ق.م.)]، كل الأشياء الملموسة تتبادل التأثير في بعضها بعضا بما هو مركوز في طبعها من خصائص، غير أنه من المستحيل أن نستخدم خصائص شيء واحد لإخضاع الأشياء كافة، ولئن كان التأثير المتبادل بين الأشياء صحيحا كقاعدة عامة، (فهناك - برغم ذلك - فروق دقيقة؛ لأنه ...) من اللازم تحديد الأشياء ونوع ما ينشأ بينها من تأثير؛ لأن الفروق قائمة. فمن ثم، يدرك الخبير في أمور الحرب ما يعتري (قوات) أعدائه من نقائص بمجرد أن يطلع على مزاياهم، ويمكنه أن يقدر نقاط ضعف أعدائه، أيضا، على ضوء ما يملكونه من مزايا، ويتنبأ بالنصر، كأنه يراه مرأى الشمس والقمر لعينيه، كما يستطيع أن يقهر عدوه ويحقق النصر، (بكل السهولة والثقة ...)، كأنه يطفئ جذوة متقدة بحفنة من الماء.
إن مواجهة حرب تقليدية بحرب مثلها يدخل ضمن نطاق ما هو ثابت ومقرر (في القواعد العسكرية)، أما مواجهة حرب تقليدية بأساليب قتال غير مفهومة وغير مستقرة، فذلك هو التقلب والتبدل.
إن التغيرات (الناجمة عن التقاء) القاعدة المستقرة بالتبدلات، كثيرة لا يحدها حصر، وكلها (تبرز بوضوح) وتستبين في (نظام) توزيع ونشر القوات. ويمكن توزيع المهام (الثابت منها والمتغير) على الوحدات حسب نسق ترتيبها، بحيث تشتبك مع قوات العدو مسترشدة بنموذج الصراع المتبادل بين العناصر الخمسة.
ويجب، عند الاشتباك مع العدو، أن يجري استخدام [فراغ]، وبعد نشر القوات وتوزيعها، يجري تنظيمها في تشكيلات، وإذ تنتظم في تشكيلات فستكون عرضة للاستطلاع [حرفيا: لعيون مستطلعة]، وعندما تكون مكشوفة لعين الرائي، فسيسهل - عندئذ - ضربها، [فراغ]، [أوردت إحدى النسخ المترجم عنها مكان الفراغ السابق عبارة، مفادها: ...] فمن ثم، لزم أن يؤخذ في الحسبان المداومة على تغيير أساليب القتال [اتباع أساليب مغايرة «متغيرات»]؛ لأنه إذا تماثلت تلك الأساليب في كل مرة، فسيتعذر إحراز النصر. وهكذا، ففي حين تعطي القوات الانطباع بأنها (كقاعدة ثابتة) هادئة، ساكنة، إلا أنها ستلجأ إلى الحركة المفاجئة (كأسلوب مغاير)، وإذ تعطي الانطباع بأنها في غاية الإعياء، فستكون قد نالت أعظم قسط من الراحة، وعندما تبدي (المظهر المتغير لأعراض تفشي الجوع بين الأفراد) فستكون - في الثابت من أحوالها - قد أخذت كفايتها من الطعام، وبينما تبدو على مظاهرها أعراض الفوضى، ستكون في جوهر حالها الثابت، شديدة الانضباط، بل ستنطلق من قاعدة الحشد الوافر للجند لكي تعطي مظهرا متغيرا لندرة أعداد المقاتلين، وسيفاجأ العدو باكتشاف تلك الثوابت في أحوال القوات، وإذ يؤخذ على حين غرة، فسيقع فريسة للارتباك، ويصبح التغلب عليه منالا سائغا. وكلما تنوعت أساليب القتال المتغيرة [... في نسخة أخرى: المفاجئة]، تعززت فرص النصر وزادت احتمالات الغلبة. (واعلم أنه كما ...) تتداعى مفاصل أطراف الجسد جميعا، لما أصاب جزءا واحدا منها، بطبيعة ما يؤلف بينها من نسيج وروابط جسد واحد، (فكذلك الأمر في التشكيلات المقاتلة، إذ ...) إن ما تقع فيه طليعة القوات من هزائم، يؤثر في الساقة؛ لأن الجيش كله كيان واحد (وبناء على ذلك، ف...) لا ينبغي أن تتعرض التشكيلات الكبرى للاختراق والانشطار، ولا الوحدات الصغرى للتفكك والانهيار ، ولتحذر الوحدات الخلفية أن تتقدم على، أو تتجاوز الوحدات المتقدمة، كما يجب أن تمتنع الوحدات عن التراجع إلى ما بعد الوحدات الخلفية؛ وذلك لأنه من المهم أن تبقى الطرق الأمامية مفتوحة قبالة الوحدات المتقدمة، وأن يظل وراء الوحدات الخلفية طرق تسمح لها بالانسحاب إلى الخلف.
وبالنسبة لما يلقى على الجنود من أوامر، فسوف يسارعون إلى تنفيذها ما دامت في حدود استطاعتهم، بغض النظر عن حوافز المكافأة أو جزاءات العقاب، لكنهم لن يتورعوا عن أن يصموا آذانهم دون الأوامر إذا كانت تطالبهم بما يتجاوز مقدرتهم حتى لو كانت المكافأة ثمينة (من جانب ...) أو كان العقاب مفزعا (... من جانب آخر).
Unknown page