Falsafat Tarikh Cinda Vico
فلسفة التاريخ عند فيكو
Genres
لقد حاول فيكو وضع أصول للعلم الجديد، متشبها من الناحية الشكلية بطريقة إقليدس في وضع أصول علم الهندسة، وقدم مجموعة من المسلمات الفلسفية واللغوية يبلغ عددها مائة وأربع عشرة مسلمة تنطوي على مجموعة من المصادرات والتعريفات، وتتعدد موضوعات هذه المسلمات وتتشعب وتتسم بالتكرار وتتداخل وتتشابك أحيانا ويشوبها الغموض أحيانا أخرى، وربما كان هذا الغموض سببا من أسباب عدم فهم فيكو في عصره وإغفاله فترة زمنية طويلة بعد ذلك. وإذا كان قد تم اكتشافه في القرن التاسع عشر، فإن الاهتمام الحقيقي به لم يبدأ بصورة علمية جادة إلا في القرن العشرين. ونظرا لتكرار المسلمات وتعدد موضوعاتها وتشابكها سنحاول تصنيفها في مجموعات رئيسية تبعا للموضوعات، كما سنحاول وضع عناوين مناسبة لها، والتزاما بالأمانة العلمية سنقدم مسلمات هذه الأصول كما وردت في النص الأصلي وبنفس أرقامها - وإن لم يكن بنفس الترتيب إذ اقتضى الأمر في مواضع قليلة بعض التغيير في ترتيب المسلمات - ثم نقوم بالتعليق عليها في الفصول التالية التي تعد تطبيقا لها، وعلى الرغم من كثرة المسلمات وتنوعها إلا أنها تتناول بعض الأفكار الرئيسية الهامة التي يكاد فيكو أن يؤكدها في كل سطر من سطور مؤلفه، وهي الأفكار التي تدور حولها فلسفته بأكملها، أهم هذه الأفكار أن الإنسان هو صانع تاريخه وأنه لا يستطيع أن يعرف إلا ما يصنعه بنفسه، وهذه هي الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها نظرية المعرفة عنده، وتقابل هذه الفكرة فكرة أخرى رئيسية لا تقل عنها أهمية وهي فكرة العناية الإلهية التي وجهت البشر بطريقة غير مباشرة؛ فالعلم الجديد يدرس الطبيعة البشرية المشتركة للأمم في ضوء العناية الإلهية، ويكشف عن أصول التنظيمات الدينية وغير الدينية بين الأمم الأممية، وقد كانت البداية التاريخية بداية شعرية؛ فالأشعار والأساطير كانت سجلا مدنيا لتاريخ الأمم والشعوب، والعلم الجديد يدرس تاريخ الأفكار البشرية ليجد في النهاية أن هناك تاريخا مثاليا أبديا مرت به كل الشعوب - كل على حدة - في مرحلة نشأتها ونموها وتطورها ونضوجها ثم تدهورها وسقوطها.
تأثر فيكو تأثرا كبيرا بما قال به المصريون القدماء من وجود ثلاث مراحل للتاريخ هي المرحلة الإلهية وما تتميز به من لغة سرية مقدسة؛ والمرحلة البطولية وما تتميز به من لغة رمزية؛ والمرحلة البشرية وما تتميز به من لغة شعبية وهي لغة الرسائل. أضف إلى هذا اهتمامه بالاشتقاقات اللغوية - وليس هذا بغريب عليه وهو عالم اللغويات - وكيف تطورت اللغات إلى لهجات وتطور الشعر إلى النثر، وكانت المراحل التي مر بها هذا التطور هي الشواهد التاريخية على عادات العصور الأولى، كانت هذه هي أهم الأفكار الرئيسية التي تناولها فيكو في مسلمات علمه الجديد وإن لم تكن كل أفكاره؛ لأننا سنتعرض لها بالتفصيل في سياق هذا الفصل. ولنبدأ حديثنا عن الأصول بمجموعة المسلمات التي تتعلق بمعوقات البحث التاريخي في رأي فيكو، وتتناول الأوهام والأخطاء التي وقعت فيها الشعوب كما وقع فيها الباحثون وأصبح من الضروري التخلص منها. (1-1) أوهام الشعوب والباحثين
تأثر فيكو ببيكون فيما ذكره في الجزء الأول من كتابه «الأورجانون الجديد» عن أوهام الفكر، فاعتبر أن المؤرخين عرضة لأوهام مماثلة حصرها في أربعة وانتقد فيها الآراء القديمة عن مبادئ التاريخ البشري، وهذه الأوهام أو الأخطاء وقعت فيها أمم كاملة كما وقع فيها العلماء والباحثون؛ إذ تصوروا البدايات الأولى للبشرية على ضوء حياتهم وثقافتهم وعصرهم المستنير، وكان من الطبيعي أن يقع كلاهما في الخطأ والوهم، وفي هذا المعنى قدم المسلمات التالية في خصائص العقل البشري وهي المسلمات التي ترتب عليها وقوع كل من الشعوب والباحثين في الخطأ: «العقل الإنساني يجعل من نفسه مقياسا للحكم على الأشياء جميعا كلما ضل في الجهل» (مسلمة 1). «حكم العقل البشري على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه» (مسلمة 2). «وقعت الأمم في الخطأ عندما تصور كل منها - كما يقول المؤرخ ديدروس الصقلي - أن تاريخ العالم بدأ مع بداية تاريخ شعبه وأمته، وأنها سبقت جميع الأمم في اكتشاف أسباب الراحة والترف للإنسان» (مسلمة 3). «وقع الباحثون في نفس الخطأ عندما بالغوا في تصوير الحكمة الفذة لبعض الشعوب القديمة»
1 (مسلمة 4).
وقد وقع - على حد زعم فيكو - كل من الكلدانيين والسكيثيين والمصريين والصينيين في هذا الوهم، ولا يستثنى من ذلك غير الشعب اليهودي لأنه شعب منقطع الصلة بالشعوب الأخرى؛ فالتاريخ العبري، كما يقول التاريخ المقدس، أحدث عهدا من التاريخ القديم، وقد استثنى فيكو التاريخ المقدس من دائرة علمه الجديد، وربما لجأ إلى هذا تجنبا لمشاكل كثيرة كان من الممكن أن يتعرض لها لو طرح التاريخ المقدس على مائدة النقد التاريخي، وهنا يجب ألا نتجاهل الظروف التي عاش فيها؛ فقد كان عصره هو عصر محاكم التفتيش والاستبداد الديني.
وقع الباحثون أيضا في نفس الخطأ عندما ضخموا أقوال زرادشت وحكمة هرمس مثلث الحكمة، والأشعار الأورفية المنسوبة لأورفيوس، والأبيات الذهبية المنسوبة لفيثاغورس وبالغوا في قيمتها أكثر مما تستحق، ويصدق هذا أيضا على محاولة العلماء استكناه الأسرار الصوفية في اللغة الهيروغليفية القديمة واستخراج الرموز الفلسفية من الأساطير اليونانية. (1-2) الفلسفة وفقه اللغة
يؤكد فيكو على وظيفة الفلسفة ورسالتها في خدمة الجنس البشري، وهنا يظهر تأثره بمثالية أفلاطون؛ إذ سمح للفلاسفة السياسيين وخصوصا الأفلاطونيين بالانضمام إلى مدرسة علمه الجديد، ويرجع ذلك في رأيه إلى أمور ثلاثة: اعترافهم بالعناية الإلهية، الاعتدال في الانفعالات البشرية والإيمان بخلود الروح وهي - كما سنرى فيما بعد - المبادئ الثلاثة للعلم الجديد. وعلى هذا استبعد فيكو الرواقيين لأنهم يميتون الجسد ويحاربون اللذة، كما استبعد الأبيقوريين لأنهم يعتبرون الإحساس هو المعيار، وكلا الاتجاهين في رأيه خاطئ لأن الرواقيين ربطوا أنفسهم بأغلال القدر، كما أن الأبيقوريين تركوا أنفسهم للمصادفة وزعموا أن الروح الإنسانية تموت مع الجسد. نعود إلى الفلسفة والدور الهام الذي تقوم به لتوجيه الشعوب لما هو أفضل فنجد المسلمات التالية: «يجب أن تساهم الفلسفة في الأخذ بيد الإنسان وتوجيهه عندما يضعف ويسقط» (مسلمة 5). «تنظر الفلسفة إلى الإنسان باعتبار ما ينبغي أن يكون عليه؛ بحيث تنفع القلة الضئيلة من الناس، وهم أولئك الذين يتمنون أن يعيشوا في جمهورية أفلاطون» (مسلمة 6).
ويضع فيكو التشريع في مقابل الفلسفة. فإذا كانت الفلسفة تنظر إلى الإنسان كما ينبغي أن يكون، فإن التشريع ينظر إلى الإنسان كما هو كائن في الواقع ويحول رذائله إلى فضائل. إن التشريع يصنع السعادة المدنية من الرذائل التي كان يمكن أن تدمر الجنس البشري؛ فالإنسان قادر على أن يحول غرائزه وانفعالاته الطبيعية إلى فضائل اجتماعية لأنه يملك حرية الاختيار، كما يتضح من المسلمة الآتية: «ينظر التشريع للإنسان في واقعه بحيث يصبح نافعا للمجتمع البشري، وهو يحول القسوة والبخل والجشع، وهي الرذائل الثلاث التي تدفع الجنس البشري بأسره، إلى فضائل تقوم عليها الطبقات العسكرية والتجارية والحاكمة، وبهذا يدعم قوة المجتمعات وثرواتها وحكمتها»
2 (مسلمة 7).
ويميز فيكو بين الوعي أو الضمير وبين العلم أو المعرفة؛ فالأول يطلب اليقين المؤكد ووسيلته في البحث عنه هي فقه اللغة، والثاني يطلب الحق ووسيلته الفلسفة، والعلم الجديد يجمع بين الفلسفة وفقه اللغة ويطلب تضامن علماء اللغة والفلاسفة لتحقيقه. ومفهوم علم اللغة لا يقتصر على مفهوم علماء اللغة والنحو وإنما يتسع للمؤرخين والنقاد الذين عكفوا على دراسة لغات الناس وأعمالهم سواء في ملاحظة عاداتهم وشرائعهم التي يتبعونها في بلادهم، أو في حروبهم وسلامهم وأحلافهم وتجارتهم وأسفارهم إلى الخارج.
Unknown page