تصدير
هذه مجموعة دراسات نشرت في مواضع فكرية وثقافية مختلفة، تجتمع في أنها تتناول بالتحليل الفلسفي والنقدي بضعة مصطلحات ومفاهيم مما ترتكز عليه تيارات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، من قبيل الليبرالية والاشتراكية والماركسية والطريق الثالث والديمقراطية والاستعمارية والقومية والمقاومة وما بعد الاستعمارية والنسوية والعولمة وحوار الحضارات؛ بخلاف مفاهيم فرعية تندرج تحت هذه المفاهيم الكبرى أو الركائز، من قبيل العقد الاجتماعي والقوانين الطبيعية والاحتكار وفائض القيمة والعدالة الاجتماعية والفابية والراديكالية والتخطيط الكلي والجزئي والهندسة الاجتماعية وحقوق الأقليات والمهمشين والإمبريالية والمركزية الغربية؛ تسهم جميعها في رسم معالم للفلسفة السياسية الحديثة، بقدر ما أسهمت في تشكيل الواقع السياسي والمسار الحضاري عبر حقب الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
وفي هذا ربما نجد فلسفة السياسة تماثل فلسفة المعرفة العلمية من حيث إنها حوار بين الفكر والواقع أو بين النظرية والتجربة، ومركب جدلي منهما؛ فلا يستطيع أحد الجانبين - الفكر أو الواقع - إغفال الآخر بحال.
وقد جاء تتبع المفاهيم أو الركائز مواكبا لتتابعها التاريخي عبر مسار الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، وكانت الليبرالية هي أول ركيزة فرضت نفسها؛ فقد ارتهنت نشأتها بأفول العصور الوسطى وانهيار النظم الإقطاعية، حتى باتت الليبرالية تمثل معلما من معالم تجربة الحداثة الأوروبية، وتطورت على مدار تطورها، ثم أدى نموها ونضجها إلى ظهور التيار المقابل الذي يحاول تجاوز سلبياتها ومثالبها؛ أي الفكر الاشتراكي، فباتت الليبرالية بإطارها الرأسمالي تمثل فلسفة الأمر الواقع الذي ينبغي الحفاظ عليه، ولعل ارتباط الرأسمالية والليبرالية بالأمر الواقع أو العالم الواقعي المعاش يفسر لنا لماذا كان فيلسوف العلم والمعرفة التجريبية البارز في حقب متتالية من العصر الحديث هو فيلسوف الليبرالية البارز أيضا، فهكذا كان جون لوك ثم جون ستيوارت مل ثم برتراند رسل ثم كارل بوبر.
باتت الرأسمالية تمثل اليمين وما هو كائن، لتمثل المذاهب الاشتراكية اليسار؛ أي النزوع إلى التغيير والنقض وتحقيق ما يراه معتنقوها هو ما ينبغي أن يكون. إنه التقابل بين اليمين واليسار الذي حكم أطر الفلسفة السياسية الحديثة طويلا، حتى تساءل الفيلسوف الليبرالي أشعيا برلين
Isaiah Berlin (1909-1997م) في سبعينيات القرن الماضي عما إذا كان القرن العشرون قد عجز عن إنجاب أية فلسفة سياسية جديدة.
ظل هذا التقابل بين اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي ماثلا، حتى كان الانهيار المدوي للاتحاد السوفيتي، والمتغيرات التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين صوب ما سمي - حقا أو زورا - النظام العالمي الجديد، الذي يفتقر كثيرا للنظامية أصلا، لا سيما بعد ارتفاع وتيرة العولمة وسواها من مفاهيم صاخبة يموج بها الفكر السياسي الراهن، ليمثل ما سمي بالطريق الثالث؛ المفهوم الجدير حقا بالتوقف عنده.
ولعل من أبرز ما يميز الفكر والواقع وجدليتهما في قرننا الحادي والعشرين، هو انتهاء عصر المركزية الغربية وبروز مراكز حضارية أخرى، وعلى وجه الخصوص تمثل نهضة شرق آسيا ومعدلات التحديث والتصنيع والتنمية المتصاعدة هنالك مركزا متألقا ونموذجا يحتذى، ليس فقط مع العملاقين اليابان الرائدة والصين الواعدة، بل أيضا مع بقية النمور الآسيوية المنطلقة بعزم أكيد.
لقد اقترنت المركزية الغربية بالاستعمارية والإمبريالية، وهما نتيجة من نواتج النمو الرأسمالي الذي وطدت له الليبرالية. والاستعمارية بدورها من المرتكزات التي سوف نتوقف عندها، ثم عند أفولها وبروز عصر ما بعد الاستعمارية المرتهن بعصر ما بعد الحداثة، وتحديدا عند واحد من أهم التيارات الفكرية الراهنة؛ أي الفلسفة النسوية وموقفها النقدي الراديكالي الرافض للمركزية الغربية والاستعمارية، ورؤيتها لحقوق الأقليات والطبقات المهمشة والشعوب والثقافات المقهورة، وللعولمة في مقابل القومية، وأخيرا ننتهي عند نقطة ساخنة حقا وهي الدفاع المشبوب عن القومية العربية، كواقع وكمثال.
ولعل الصفحات المقبلة التي تتناول هذه الركائز بالعرض والنقد والتحليل تساهم في ترسيم معالم للفكر السياسي والفلسفة السياسية الحديثة في ذهن القارئ.
Unknown page