اللذين يستقطبان أقوى التيارات النقدية للحضارة الغربية.
ولئن كان ظهور الفلسفة النسوية إنجازا لافتا للحركة النسوية، فإن امتدادها إلى مجال الإبستمولوجيا وفلسفة العلم ضربة استراتيجية حقا أحرزت أكثر من سواها أهدافا للحركة النسوية والفكر النسوي، وجعلت الفلسفة النسوية استجابة واعية وأكثر عمقا للموقف الحضاري الراهن.
فقد كان العلم الحديث أكثر من سواه تجسيدا للقيم الذكورية، وأحادي الجانب باقتصاره عليها واستبعاده لكل ما هو أنثوي، فانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها واستغلالها مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وجاءت العولمة لتنذر بعالم يفقد تعدديته وثراءه وخصوبته. وتأتي فلسفة العلم النسوية لترفض التفسير الذكوري الوحيد المطروح للعلم بنواتجه السلبية و«تحاول إبراز وتفعيل جوانب ومجالات وقيم مختلفة خاصة بالأنثى، جرى تهميشها وإنكارها والحط من شأنها بحكم السيطرة الذكورية، في حين أنها يجب أن يفسح لها المجال وتقوم بدور أكبر، لإحداث توازن منشود في مسار الحضارة والفكر».
2
وكبديل عن الإبستمولوجيا التي تقطع علاقتها بالميتافيزيقا وبالقيم لكي تكون علمية على الأصالة، تريد الإبستمولوجيا العلمية النسوية أن تكون تحريرية، تمد علاقة بين المعرفة والوجود والقيمة، بين الإبستمولوجيا والميتافيزيقا لتكشف عن الشكل العادل لوجود البشر في العالم،
3
وترى العلم علما بقدر ما هو محمل بالقيم والأهداف الاجتماعية، ولا بد أن يكون ديمقراطيا يقبل التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر؛ إنها الانفتاح على الطبيعة والعالم بتصورات أنثوية تداوي أحادية الجانب، لا تنفي الميثودولوجيا العلمية السائدة أو تريد أن تحل محلها، بل فقط أن تتكامل معها من أجل التوازن المنشود، فالنسوية ضد الاستقطابية والمركزية.
هكذا، تحاول الفلسفة النسوية أن تضيف إلى العلم قيما أنكرها، فتجعله أكثر إبداعية وإنتاجا، أكثر دفئا ومواءمة إنسانية، مستجيبا لمتطلبات واقعه الثقافي ودوره الحضاري، وتجعل فلسفة العلم ذاتها تطبيقية مرتبطة بالواقع الحي النابض، بحيث يمكن القول إن فلسفات العلم التقليدية جميعها تبلور إيجابيات العلم وتستفيد منها، تأخذ من العلم، أما الفلسفة النسوية فهي تحاول أن تضيف إلى العلم ما ينقصه ويجعله أفضل.
بدأت الفلسفة النسوية في السبعينيات بداية واعدة متقدة، وشهد ذلك العقد فيضا من الإنتاج النسوي في سائر فروع الفلسفة، يتحدى أبرز الافتراضات الفلسفية الجوهرية ويقدم بدائل شديدة التفصيل؛ بدأت بما يسمى بفروع الفلسفة اللينة السهلة وهي السياسة والأخلاق والجمال. ومع الثمانينيات كانت الفلسفة النسوية قد وصلت إلى كبد الحقيقة وقلب الأوضاع من جذورها، حين تطرقت إلى ما يسمى بفروع الفلسفة العسيرة الشاقة وهي الميتافيزيقا والإبستمولوجيا والميثودولوجيا وفلسفة العلوم.
وفي هذا نلاحظ أن فلسفة العلم النسوية لها نظريتها الإبستمولوجية، وأطروحتها الميثودولوجية ورؤيتها الخاصة لمنطق التفكير العلمي، فضلا عن اشتباكها الحميم بالقضايا المستجدة في هذا الصدد، من قبيل قضايا فلسفة البيئة وأخلاقيات العلم وقيم الممارسة العلمية، وعلاقة العلم بالأبنية الحضارية والمؤسسات الاجتماعية الأخرى وبالأشكال الثقافية المختلفة، واتخاذه أداة لقهر الثقافات والشعوب الأخرى. إن الفلسفة النسوية في جملة توجهاتها فلسفة بعد استعمارية.
Unknown page