Falsafa Qariyya Muqaddima Qasira
الفلسفة القارية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
مقدمة
1 - الفجوة بين المعرفة والحكمة
2 - أصول الفلسفة القارية: من كانط إلى المثالية الألمانية
3 - النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
4 - هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
5 - ما الذي يجب عمله؟ كيفية التعامل مع العدمية
6 - دراسة حالة في سوء الفهم: هايدجر وكارناب
7 - العلموية في مقابل الظلامية: تجنب المأزق التقليدي في الفلسفة
8 - تجرأ على التفكير بنفسك: استنفاد النظرية ووعد الفلسفة
ملحق
Unknown page
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
مقدمة
1 - الفجوة بين المعرفة والحكمة
2 - أصول الفلسفة القارية: من كانط إلى المثالية الألمانية
3 - النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
4 - هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
5 - ما الذي يجب عمله؟ كيفية التعامل مع العدمية
6 - دراسة حالة في سوء الفهم: هايدجر وكارناب
Unknown page
7 - العلموية في مقابل الظلامية: تجنب المأزق التقليدي في الفلسفة
8 - تجرأ على التفكير بنفسك: استنفاد النظرية ووعد الفلسفة
ملحق
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الفلسفة القارية
الفلسفة القارية
مقدمة قصيرة
جدا
Unknown page
تأليف
سايمون كريتشلي
ترجمة
أحمد شكل
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
مقدمة
كانت الفلسفة الأكاديمية في إنجلترا لبعض الوقت مقصورة إلى حد كبير على المنطق ونظرية المعرفة، ويوجد اتجاه لقصر الفلسفة على هذا الفهم واعتبار ارتباطها التقليدي بالنظم الأخلاقية والفكرية العامة خطأ. كانت هذه عادة طاغية ولكنها كانت محلية للغاية.
ريموند ويليامز، «كلمات أساسية»
في الخامس من أكتوبر عام 1999، عندما ضغط على مارجريت تاتشر لتعبر عن رأيها حيال إمكانية إنشاء اتحاد أوروبي، قالت: «أتت جميع المشاكل التي صادفتها في حياتي من أوروبا القارية، وجاءت كل الحلول من العالم الناطق بالإنجليزية.» وعلى الرغم من البهتان الواضح في هذا التصريح، فإنه يعبر عن حقيقة عميقة؛ وهي أنه بالنسبة إلى كثير من سكان دول العالم الناطق بالإنجليزية - وفي الواقع، بالنسبة إلى بعض الذين يعيشون خارجه - يوجد اختلاف حقيقي بين عالمهم ومجتمعات أوروبا القارية ولغاتها ونظمها السياسية وتقاليدها وجغرافيتها. تتحدد السياسة البريطانية خصوصا - ولكن ليس بصفة حصرية بأي نحو فيما يتعلق بتيار اليمين السياسي - في سياق التمييز بين «المحبين» و«الكارهين» لأوروبا القارية؛ وهذا يعني أنه يوجد اختلاف ثقافي - يراه البعض انقساما، وربما حتى فجوة كبيرة - بين أوروبا القارية وكل ما يعارضها؛ ما أطلقت عليه البارونة تاتشر، بنبرة تذكرنا على نحو متعمد بونستون تشرشل، «العالم الناطق بالإنجليزية». وتعد الفلسفة القارية تعبيرا عن هذا الاختلاف الثقافي. ويسعى هذا الكتاب القصير إلى تفسير سبب حدوث ذلك، وسبب أهمية هذه الحقيقة، وما قد يترتب عليها حيال النشاط الفلسفي في الحاضر والمستقبل.
Unknown page
تعد مسألة ما إذا كانت الفلسفة القارية أحد فروع الفلسفة مكتملة الأركان أم لا مسألة خلافية، وإذا رأى المرء أنها كذلك، فإن من مواضع الخلاف أيضا ما إذا كان مصطلح «الفلسفة القارية» يصف هذا الفرع على أفضل نحو أم لا (بدلا - مثلا - من مصطلح «الفلسفة الأوروبية الحديثة»، الذي كثيرا ما يستخدم كبديل). دعنا نقل فقط إن الفلسفة القارية مفهوم مثير للجدل. وبوضع هذا في الاعتبار، فإن لهذا الكتاب ثلاثة أهداف؛ وهي: (1)
إظهار السبب في كون الفلسفة القارية مجالا خلافيا من خلال إلقاء نظرة على تاريخ ومعنى هذا المصطلح وكيفية تمييزه وتوضيحه من خلال ما يزعم أنه يعارضه، وهو الفلسفة التحليلية أو الأنجلو أمريكية. (2)
إظهار كيف أن مفهوم الفلسفة القارية يمكن أن يعرف، في الواقع، بوضوح ويتضمن مجموعة مميزة من التقاليد والممارسات الفلسفية التي تتناول مجموعة جذابة من المسائل التي عادة ما يتجاهلها أو يرفضها التقليد الأنجلو أمريكي. (3)
إظهار كيف يمكننا في المستقبل - على الرغم من هذا - التحدث عن الفلسفة بعيدا عن مثل هذه الخلافات الأكاديمية حول ما هو قاري أو تحليلي.
أبدأ باتخاذ مسار مختلف قليلا وتوضيح مشكلة أكبر تواجه الفلسفة المعاصرة؛ وهي: العلاقة بين الحكمة والمعرفة؛ إذ توجد فجوة في جانب كبير من الفلسفة بين المسائل النظرية الخاصة بكيفية معرفة المرء ما يعرفه، والمسائل الأكثر واقعية أو وجودية حيال ما قد يعنيه عيش حياة بشرية جيدة أو مرضية. لقد تخلى جانب كبير من الفلسفة عن مهمة محاولة دمج المعرفة والحكمة في رؤية شاملة واحدة. وسوف أحاول أن أبين كم الجاذبية الذي يكمن في الفلسفة القارية بسبب محاولتها سد أو تقليص هذه الفجوة بين المعرفة والحكمة (أو النظرية والتطبيق)؛ ومن ثم الإبقاء على بعض من صدى التعريف القديم للفلسفة بأنها حب الحكمة. ولكن، كما سنرى، فإنه في هذا العالم الذي يتشكل على نحو متزايد اعتمادا على عمليات العلوم الطبيعية، هذه الرؤية لا تخلو من مشاكل خاصة بها.
يمكن تقسيم الفصول التالية في ضوء تمييز فلسفي كلاسيكي آخر: التاريخي والمنهجي. يقدم الفصل الثاني طرقا تاريخية مختلفة للتمييز بين الفلسفة القارية والتحليلية، فأرجع بدايات الفلسفة القارية إلى استقبال أعمال إيمانويل كانط في أواخر القرن الثامن عشر، الذي يعد في نواح كثيرة الشخصية العظيمة الأخيرة المشتركة لدى التقليدين: القاري والتحليلي، وهو أيضا الذي أعلن بدء انفصال هذين المنهجين أحدهما عن الآخر، وسوف أتناول السبب في هذه الحالة من خلال مقارنة المنهجين مع منهج كانط. كما سأتناول أيضا ببعض التفصيل الجدل الذي نتج عن أعمال كانط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر، وبعد ذلك سأوضح كيف أن هذا الجدل حدد القضية الرئيسية للمثالية الألمانية لدى جيه جي فيشته وجي دابليو إف هيجل. وهذه القضية على نحو بسيط هي: هل يقوض نقد كانط للعقل في نهاية المطاف، على النقيض تماما من نيته المعلنة، أساس المعتقدات الأخلاقية والدينية؟ بعبارة أخرى، ألا يؤدي نقد العقل، الذي لا بد أن يكون نقدا لكل المعتقدات، إلى كابوس الشك التام والعدمية؟ سوف نتتبع الآثار الكبيرة لهذا الأمر في الفلسفة القارية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يبدأ الفصل الثالث بتناول بعض مشاكل التمييز بين الفلسفة القارية والتحليلية، قبل تناول بعض التمثيلات النمطية إلى حد ما - والمثيرة للاهتمام حقا - لذلك في الأدبيات الفلسفية. وبعد ذلك أناقش معنيين للفلسفة القارية؛ الأول: باعتبارها وصفا ذاتيا أكاديميا يستخدمه الفلاسفة، والثاني: باعتبارها سمة ثقافية ذات تاريخ معين يستخدمها عدد أكبر من الأشخاص، من بينهم مارجريت تاتشر. وأرى أن معظم العداء وسوء الفهم فيما يتعلق بالفلسفة القارية من قبل الفلاسفة التحليليين يكمن في حقيقة أن هذين المعنيين يتم الخلط بينهما على نحو غير مفيد، وأن الوصف الذاتي الأكاديمي يخفي السمة الثقافية بطرق ضارة في أغلب الأحيان. وبعد ذلك ألقي نظرة على التاريخ والسياق الثقافي للفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية، مقدما الأطروحة القائلة بأن الصراع بين التقليدين القاري والتحليلي يفهم على نحو أفضل في سياق نموذج سي بي سنو الشهير الخاص ب «الثقافتين»؛ بمعنى أن الحياة الثقافية في العالم الناطق بالإنجليزية تتسم بانقسام بين العلم من جانب، والأدب أو الفهم الإنساني على الجانب الآخر. بعبارة أخرى، الفلسفة القارية ليست شيئا أجنبيا يحدث «هناك»، بل هي تعبير عن عداء في جوهر شيء مثل «الإنجليزية». أركز على المثال التاريخي المفيد لجون ستيوارت مل في هذا الصدد وتأملاته الرئيسية حول الانقسام الثقافي الإنجليزي بين طرق التفكير التجريبية والتأملية، الذي يصل مداه في الصراع بين رومانسية صامويل تيلور كولريدج ونفعية جيرمي بنثام. وأتطرق في الختام إلى تعبيرات أخرى أكثر حداثة عن الصراع بين هاتين الثقافتين.
وأحاول في الفصل الرابع أن أبين ما هو مميز وجذاب في الفلسفة القارية على نحو منهجي أكثر؛ فبعد تقديم بعض الملاحظات حول كيف أن المرء يمكن أن يفسر اختلاف الممارسة بين الفلاسفة، أركز على مفهومي التقليد والتاريخ وإيضاح كيفية فهم هذين المصطلحين على نحو مثير للاهتمام لدى اثنين من الفلاسفة هما إدموند هوسرل ومارتن هايدجر. وأقترح نموذجا لوصف الممارسة الفلسفية في التقليد القاري، والذي يتمحور حول ثلاثة مصطلحات رئيسية؛ هي: «النقد» و«الممارسة» و«التحرر». يهدف هذا إلى إيضاح كيفية اهتمام جانب كبير من الفلسفة القارية بتقديم نقد للممارسات الاجتماعية للعالم المعاصر والسبب في ذلك؛ وهو النقد الذي يطمح لتحقيق هدف التحرر الفردي والمجتمعي.
بعد ذلك أعود إلى المفهوم الأساسي المتمثل في العدمية - أي انهيار أو انخفاض قيمة القيم السامية، مثل الإيمان بوجود إله أو خلود الروح - والذي تجد التفصيل المحدد له في أعمال فريدريك نيتشه، وأتناول السياق الروسي المثير للاهتمام لفهم نيتشه للعدمية. أحاول بعد ذلك إيضاح كيف يمكن لدراسة الأمراض الثقافية والفكرية التي أدت إلى تشخيص نيتشه للعدمية أن تتشعب بعده إلى حداثة رجعية وتقدمية، وكيف أن هذا يقود إلى الفهم المحدد للعلاقة بين الفلسفة والمجالات غير الفلسفية في التقليد القاري.
يتناول الفصل السادس دراسة حالة معينة. إذا كان هناك صراع واحد يجسد جوانب الخلاف بين الفلسفة القارية والتحليلية، فإنه ذلك الذي حدث في الفترة من أوائل ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها بين هايدجر ورودولف كارناب. وهذا الصراع هو أساسا صراع بين التصور العلمي للعالم الذي قدمه كارناب وحلقة فيينا، والتجربة الوجودية أو «التأويلية» للعالم عند هايدجر. ويمكن إرجاع الكثير من جوانب الخلاف الحديثة بين فلاسفة التقليدين التحليلي والقاري إلى المواجهة اللافتة للنظر بين هايدجر وكارناب؛ لذا فإن الأمر يستحق النظر في الأخطاء التي حدثت بالضبط.
Unknown page
في الفصل السابع، قمت بتوسيع مناقشة العلاقة بين التصورين العلمي والتأويلي للعالم عن طريق تناول مسألة «العلموية» في مقابل «الظلامية». إن حقيقة أن جانبا كبيرا من الفلسفة في التقليد القاري يمكن أن يقال إنه استجابة للشعور بالأزمة في العالم الحديث، ومحاولة لإنتاج وعي نقدي للحاضر بتوجه تحرري؛ تساعد إلى حد كبير في تحديد الفارق الأكثر بروزا وإثارة الذي يميزه عن جانب كبير من الفلسفة التحليلية؛ ألا وهو «مناهضة العلموية». يكمن نقد التقليد القاري للعلموية في الاعتقاد بأن نموذج العلوم الطبيعية لا يمكن - وعلاوة على ذلك، لا «ينبغي» - أن يقدم نموذجا للمنهج الفلسفي، وأن العلوم الطبيعية لا توفر للبشر السبيل الأساسي والأكثر أهمية لفهم العالم. يجد المرء هذا الاعتقاد معلنا عنه لدى مجموعة كبيرة من مفكري الفلسفة القارية، مثل هنري برجسون وهوسرل وهايدجر والفلاسفة المرتبطين بمدرسة فرانكفورت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها. هذا القلق حيال العلموية مشروع، ولكنه أيضا تعرض في العقود الأخيرة لخطر الانصهار في توجه مناهض للعلموية، هذا الخطر هو خطر «الظلامية». ومن وجهة نظري، القطبان اللذان يجب تجنبهما في الفلسفة هما العلموية والظلامية، ويعكسان ميولا ضارة داخل كل من الفلسفة التحليلية والقارية، وذلك كما أوضح الصراع بين كارناب وهايدجر على نحو بليغ. وأقترح كبديل لطرفي النقيض هذين «سبيلا ثالثا» بينهما.
وأختتم الكتاب ببعض التأملات حول ما أرى أنه وعد الفلسفة. التقسيمات الحالية في دراسة الفلسفة ناتجة عن وصف ذاتي أكاديمي معين غير مناسب ومذهبي (هل أنت فيلسوف متبع للتقليد التحليلي، أم التقليد ما بعد التحليلي، أم التقليد القاري، أم التقليد الأوروبي الحديث؟) إلى حد كبير، تعد الفلسفة التحليلية والقارية وصفين ذاتيين مذهبيين ناتجين عن إضفاء الطابع الأكاديمي على المجال؛ الأمر الذي في رأيي أدى إلى إضعاف الوظيفة النقدية للفلسفة والتهميش التدريجي لها في حياة الثقافة. ورأيي هو أن الفلسفة يجب أن تكون تعبيرا حيويا عن تلك الحياة.
ثمة ملحوظتان وكلمة شكر قبل أن نبدأ. كان هدفي تقليل الإشارات المرجعية لأقصى حد من أجل التركيز على نقل الأفكار الرئيسية بأكبر قدر ممكن من البساطة؛ وهذا يعني أنني في كثير من المواضع أقتبس أو أستعير حجج وأفكار فلاسفة آخرين، بل وأحيانا بعضا من أفكاري التي نشرتها من قبل. أرى أنه لا ضير في ذلك؛ إذ إن هذا الكتاب موجه للقارئ غير المتخصص المحب للاطلاع. وخصصت قسمي «المراجع» و«قراءات إضافية» في نهاية الكتاب لعرض المصادر التي اعتمدت عليها في تأليف الكتاب وتقديم بعض الاقتراحات بشأن الكتب التي يمكن للقراء الرجوع إليها لمعرفة المزيد عن الموضوعات المعروضة في هذا الكتاب.
لن تجد في هذا الكتاب استعراضا أو ملخصا لجميع المفكرين والتقاليد والحركات الفلسفية التي تشكل ما نعتقد أنه الفلسفة القارية؛ من ثم توجد فجوات كبيرة في تغطيتي لهذا الموضوع. إن مثل هذه الكتب الملخصة متوفرة بالفعل، وبعضها جيد للغاية، ولكن لم يكن في نيتي أن أضيف واحدا إلى قائمتها. بدلا من ذلك، هذا الكتاب عبارة عن تأمل مدعم بالأدلة لطبيعة الفلسفة في التقليد القاري، والأسلوب المستخدم فيه يشبه الأسلوب المستخدم في كتابة مقال، لا كتاب. بعبارة أخرى، ما يلي يمثل وجهة نظر ذاتية للأمور.
كتبت المسودة الأولى لهذا الكتاب بين مارس ومايو من عام 2000، عندما شرفت بالعمل كمحاضر زائر في الفلسفة في جامعة سيدني، ويعتمد النص النهائي للكتاب على الملاحظات التي كتبتها عن محاضراتي هناك. أذكر هذا بسبب الصدفة التالية : في اليوم الذي وصلت فيه إلى سيدني - 1 مارس 2000 - أعيد دمج قسمي الفلسفة «العامة» والفلسفة «التقليدية والحديثة» في جامعة سيدني في قسم واحد للفلسفة بعد 27 عاما من الانفصال. والآن، على الرغم من أن هذا الانفصال - الذي لم يكن يخلو من الحدة كما يبدو؛ الحدة التي لا بد من القول إنها لم تختف دون ترك أثر - ترجع أصوله إلى الخلافات السياسية التي نجمت أساسا عن مشاركة أستراليا في حرب فيتنام في أوائل سبعينيات القرن العشرين، فإنه كان ناتجا أيضا عن خلافات فكرية، أهمها العلاقة بين الفلسفة والسياسة، وخاصة الماركسية والنسوية. وعلى الرغم من أنه ليس من الدقة القول بأن فصل القسمين كان مبررا في سياق التقسيم التحليلي-القاري، فإن هذا الأخير كسا بالتأكيد هذا الفصل بجميع أنواع الطرق السيئة بنحو أو بآخر. وأود أن أشكر أصدقائي وزملائي، وبالطبع طلابي في جامعة سيدني لمساعدتي على إعادة النظر في هذا التقسيم. وأخيرا، لم يكن هذا الكتاب فكرتي، ولكن كان فكرة محررتي الرائعة في مطبعة جامعة أكسفورد: شيلي كوكس. أود أن أشكرها على امتلاكها لمثل هذه الأفكار الرائعة.
الفصل الأول
الفجوة بين المعرفة والحكمة
الفلسفة هي حب الحكمة؛ فإذا كنت تعتقد أنك تحب الحكمة، فإن الفلسفة هي المجال الذي يفترض أن تدرسه. ولكن ما هي الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة؟ بالنسبة إلى سقراط، وتقريبا كل الفلاسفة القدماء الذين جاءوا من بعده، الحكمة التي تعلمنا إياها الفلسفة تتعلق بما قد يعني عيش حياة بشرية طيبة. وكان بديهيا في معظم الأفكار الفلسفية القديمة أن الحياة البشرية الطيبة تكون أيضا حياة سعيدة. وفي إطار هذا التصور - الذي يوجد تعبير واضح عنه لدى أرسطو، ولكنه يكون مفترضا من قبل المدارس الهلينستية اللاحقة مثل المدرسة الرواقية - فإن الفلسفة تسمح بتحقيق أعلى درجة من السعادة، وهي حياة التأمل الزاهد؛ ومن ثم فإن الفلسفة هي الحياة التأملية، الحياة التي توضع قيد الاختبار والفحص، ويصير الافتراض أن الحياة غير المختبرة لا تستحق أن تعاش. فينبغي أن تشكل الفلسفة البشر، لا أن تعلمهم وتوجههم فحسب.
ولكن يجب ألا ننسى أنه على الرغم من أن الحياة غير المختبرة لا تستحق العيش، فإن الحياة التي لا تعاش لا تستحق التأمل، والفلسفة عند القدماء لم تنفصل عن التقلبات الفعلية التي تحدث في الحياة الاجتماعية اليومية. بل إن الفلسفة باعتبارها ممارسة تأملية لفحص ما يعتقد أنه حقيقة باسم الحقيقة هي شيء كان يحدث فيما سماه الإغريق «الدولة»؛ أي المجال العام للحياة السياسية. فكانت الفلسفة نشاطا «عمليا» بارزا، يختلف على نحو ملحوظ عن الشكل الاستقصائي النظري على نحو كبير الذي أصبحت عليه الفلسفة بداية من القرن السابع عشر.
شكل 1-1: جياسينتو براندي (1621-1691)، «رمزية الفلسفة».
Unknown page
في التصور القديم، الحكمة التي تعلمنا الفلسفة حبها هي السعي لتحقيق حياة طيبة، حياة تفكير وتأمل، ستكون بحكم تعريفها حياة سعيدة. والآن، وربما على نحو غريب، هذا هو النموذج الذي يعتقد معظم الأشخاص خارج مجال الفلسفة - أي خارج مجال الدراسة الأكاديمية للفلسفة - أن معظم الأشخاص داخل مجال الفلسفة يخضعون له، وهذا هو السبب في أنهم يفترضون على نحو طبيعي تماما أن المسألة الرئيسية في الفلسفة يجب أن تكون معنى الحياة. وبوضع هذه الفكرة في الاعتبار، تخيل المشهد التالي: تلتقي فيلسوفة أكاديمية شخصا غريبا في حفلة ويسألها: «ما عملك؟» تجيب بأنها فيلسوفة، ويتجرأ الغريب للحظة، ولافتقاده لأي شيء يقوله غير ذلك يسأل: «ما معنى الحياة إذن؟» عند هذه المرحلة، يحدث بعض الضحك العصبي مع محاولة قلقة من جانب الفيلسوفة إما لتغيير الموضوع بأسرع وقت ممكن، وإما للشرح بابتسامة خجلة أن الدراسة الأكاديمية للفلسفة لا تتعلق في الحقيقة بمثل هذه الأمور. والآن، وبقدر ما أجد هذا الموقف محرجا اجتماعيا، أعتقد أن الشخص الغريب لديه ما يبرر افتراضه تماما. بعبارة أخرى، إذا لم تعالج الفلسفة مسألة معنى الحياة - ليس بالضرورة أن تتوصل لكنهها، ولكن على الأقل تدرسها - فإنه يمكن القول إن الفلاسفة لا يقومون بعملهم على نحو صحيح.
في رأيي، المشكلة هنا لا تتعلق بالأشخاص خارج مجال الفلسفة أكثر من تعلقها بالأشخاص داخله؛ فلاسفتنا الأكاديميين. فبالنسبة إلى معظمنا، فكرة أن الفلسفة ربما تكون متعلقة بمسألة معنى الحياة أو تحقيق حياة بشرية طيبة وسعيدة تعد إلى حد ما مزحة؛ مزحة سخيفة بالتأكيد. فمثل هذه المسائل يدرسها مجال ما يسمى تجاوزا «علم النفس الشعبي». عموما، الفلسفة الأكاديمية سلمت عن طيب خاطر هذا المجال إلى هذا المد الكبير المتواصل الزيادة من الكتب التي تدور حول «العقل والجسد والروح»؛ تلك الرفوف من كتب العصر الجديد الزاهية الألوان التي تقبع على نحو محرج بالقرب من أقسام كتب الفلسفة المتواصلة التقلص في المكتبات الموجودة في الشوارع الرئيسية. لقد تخلت الفلسفة الأكاديمية إلى حد كبير عن هذه المعارك واختارت التقاعد المبكر.
إذن، بماذا تعنى الفلسفة بالنسبة إلى معظم الفلاسفة الأكاديميين، إذا لم تكن معنية بالحكمة؟ دعنا نقل إنها معنية ب «المعرفة». معرفة ماذا؟ في أوسع معانيها، يمكننا القول إن الفلسفة تعنى بمعرفة طبيعة الأشياء. ويبرز هنا المقابل اللاتيني لكلمة معرفة، وهو (علم)
scientia . ومسألة المعرفة - معرفة طبيعة الأشياء - مسألة علمية؛ فالعلوم - العلوم الطبيعية الحديثة - هي التي توفر لنا المعرفة الأفضل والأكثر موثوقية لماهية الأشياء. لماذا؟ لأن العلوم الطبيعية يمكن أن تقدم أدلة تجريبية على فرضياتها، فيمكن التأكد من صحة ادعاءاتها. فإذا قلت: «المسيح هو مخلص البشرية»، ولم أقدم أي دليل تجريبي، فإن قبولي لهذا الادعاء من عدمه مسألة تخص الإيمان كليا؛ ولكن إذا قلت إن مادة الماء تتكون في جميع الأوقات من جزأين من الهيدروجين وجزء من الأكسجين، فإنني أستطيع إثبات ذلك من خلال تجربة أقوم بها.
وكما ندرك جميعا تماما، نحن نعيش في عالم علمي؛ عالم يتوقع منا فيه تقديم أدلة تجريبية على ادعاءاتنا، وإلا فسترفض تلك الادعاءات على نحو مستحق؛ فالتصور العلمي للعالم، والذي يعود تاريخه إلى العقود الأولى من القرن السابع عشر في إنجلترا وفرنسا، يهيمن على الطريقة التي نرى بها الأشياء، وربما أهم من ذلك، أنه يهيمن على الطريقة التي «نتوقع» أن نرى بها الأشياء؛ فنحن نتوقع أن نرى الأشياء إلى حد ما مثل المتفرجين في مسرح حيث يمكننا فحصها نظريا؛ الكلمة الإغريقية التي تعني المتفرج في المسرح هي (نظرية)
theoros . وتقدم الأشياء ككائنات ترد تجريبيا وعلى نحو مباشر في شكل أحاسيس أو تمثيلات. ويمنحنا العلم معرفة بطبيعة هذه الأشياء، وبعد ذلك تسمى هذه الأشياء «حقائق».
في عالم يسيطر عليه العلم، ما الدور الذي يسنده الفيلسوف الأكاديمي للفلسفة؟ يمكن الإجابة عن هذا السؤال جزئيا بالإشارة إلى الكلمة الإغريقية التي تعني معرفة وهي
episteme ؛ فتصبح الفلسفة إبستمولوجي؛ أي نظرية المعرفة. وهذا يعني أنها تهتم على نحو كبير بالمسائل المنطقية والمنهجية؛ مثل كيفية معرفتنا لما نعرفه، وكيفية التأكد أن هذه المعرفة صحيحة. تصبح الفلسفة استقصاء نظريا حول الظروف التي تكون فيها المعرفة العلمية ممكنة. وفي التصور العلمي للعالم، يتغير دور الفلسفة من كونها ملكة العلوم - كما كانت بالنسبة إلى أفلاطون - حيث كانت المعرفة النظرية تتوحد مع الحكمة العملية لتصبح بدلا من ذلك عاملا مساعدا للعلم - وفقا لرؤية جون لوك في بداية «مقال عن الفهم الإنساني» في عام 1689 - تتمثل مهمته في إزالة المخلفات التي تعترض طريق المعرفة والتقدم العلمي؛ فيصبح الفيلسوف عامل نظافة في صرح العلم العملاق.
إن مهنة عامل النظافة محترمة بما فيه الكفاية، ولكن ماذا عن مسألة الحكمة؟ المشكلة هنا هي أن العلم مذهل؛ إذ إنه يقدم لنا وصفا أفضل وأكثر صدقا للطريقة التي تكون عليها الأشياء، وهو ما يغرم الفلاسفة المعاصرون بتسميته «الأنطولوجيا الطبيعية». علاوة على ذلك، من خلال عمل قرينة العلم - التكنولوجيا - تغيرت حياتنا وتحسنت إلى حد لا يمكن تصوره مقارنة بشخص من العالم القديم، أو حتى مقارنة بأجدادنا. وبناء على ذلك، فالعلم ليس مذهلا فحسب، وإنما فعال أيضا. ولكن على الرغم من هذا - أو ربما بسبب هذا - لا تزال مسألة الحكمة تزعجنا؛ تزعجنا مثل زائدة دودية نعتقد أننا لم نعد بحاجة إليها.
والسؤال هو: هل التصور العلمي للعالم يجعلنا في غير حاجة إلى الوصول لكنه مسألة معنى الحياة؟ هل يتطلب جسد المعرفة استئصال الزائدة الدودية المتمثلة في الحكمة؟ من وجهة نظر متطرفة معينة، يتطلب الأمر ذلك، وربما يجادل بعض الفلاسفة بأن جميع المسائل يجب أن تكون إما قابلة لتحديدها من خلال الاستقصاء التجريبي، وإما يتم رفضها باعتبارها غير صحيحة. على هذا النحو، ربما يدعى أن مسألة معنى الحياة يمكن سبر غورها على نحو سببي أو تجريبي من خلال نظرية التطور الداروينية. وفي هذا الإطار، يمكن تفسير الحياة على أساس بعض الفرضيات السببية، مثل الانتقاء الطبيعي؛ أي إن الإدراك البشري ناتج عن نزعات تطورية، حتى إنه يوجد فرع من فروع الفلسفة يسمى «نظرية المعرفة التطورية» الذي يحاول أولا تحويل جميع المسائل الفلسفية إلى مسائل معرفية، ثم الادعاء بأن كل هذه المسائل يجب أن يكشف عنها بالرجوع للنزعات التطورية.
Unknown page
إنني أعتنق وجهة نظر أقل تطرفا حيال العلاقة بين المعرفة والحكمة، أو بين الاستقصاء العلمي وما يمكن أن نسميه الاستقصاء الإنساني. أنا لا أعتقد أن مسألة معنى الحياة يمكن إخضاعها للدراسة التجريبية؛ فهي ليست مجرد مسألة سببية؛ فكما أعتقد، توجد فجوة بين المعرفة والحكمة؛ وهي ليست فجوة تفسيرية يمكن سدها من خلال إنتاج نظرية أفضل وأكثر شمولا، وإنما فجوة «شعورية». فإذا كان يمكن حل كل المشاكل المعرفية تجريبيا من خلال الاستقصاء العلمي، فإننا قد نشعر أنه حتى لو حلت كل تلك المشاكل في صباح يوم رائع وجميل، فسيظل هذا على نحو ما غير ذي صلة بمسألة الحكمة؛ بمسألة معرفة ما الذي قد تتألف منه الحياة البشرية الطيبة بالضبط.
والمفارقة - وإنها لمفارقة مهمة خاصة بخبرات الحياة اليومية، التي سنعرض لها في الفصل الثاني في صورة مفارقة العدمية - هي أن التصور العلمي للعالم لا يسد الفجوة بين المعرفة والحكمة، ولكنه يجعلنا نشعر بها على نحو أكثر حدة. حتى إنني أراهن أن هذه المفارقة تكون في أقصى حدة لها في المجتمعات المتقدمة للغاية علميا وتكنولوجيا. ويبدو أن الفجوة بين المعرفة والحكمة في المجتمعات الغربية المتقدمة تتسع إلى حد الهوة السحيقة. وبهذا المعنى، فإن المسألة التأملية المتعلقة بمعنى الحياة تكون نتيجة للترف والثراء. ربما كانت هكذا دائما؛ فالفلسفة تظهر فقط عندما تتوافر ضرورات الحياة الأساسية، فكما قال برتولت بريخت: «الغذاء أولا، ثم الأخلاق.» وهذا صحيح على نحو كاف، ولكن الحقيقة الغريبة عن البشر هي أنهم عندما تعطيهم طعاما - ولو طعاما أكثر مما يمكنهم أكله - وعندما تغدق عليهم كل النعم الدنيوية، فإنهم سوف يبتكرون مآسي جديدة لأنفسهم، واضطرابات عصبية وأمراضا جديدة، وحتى «علوما» جديدة للتعامل مع تلك الاضطرابات والأمراض الجديدة؛ على سبيل المثال، التحليل النفسي أو العلاج النفسي أو العلاج بالروائح أو علم المنعكسات، أو ما شابه. وعندما يبدأ الشعور بقوة هذه المفارقة وجوديا، تعود المسألة المهملة الخاصة بمعنى الحياة بحماس حقيقي ومخيف: «يبدو لي أنني أمتلك كل ما أحتاج وأريد، ولكن ما هو الهدف من حياتي؟»
تعد هذه الحالة الغريبة - على الرغم من أنها شأن يومي - مصدرا مبررا للعديد من المحاولات غير المبررة، من وجهة نظري، لملء «فجوة المعنى» والتعامل مع مسألة معنى الحياة. ويمكن أن يتم ذلك بطرق عديدة: من خلال العودة إلى الدين التقليدي، أو من خلال ابتداع دين جديد، أو من خلال السلطوية السياسية، والتي غالبا ما يصاحبها العودة إلى الدين التقليدي في صورة مزيج قوي عنيف (على سبيل المثال، القومية الصربية)، أو من خلال أحد فروع الروحيات السبعة والخمسين المتوافرة حاليا لسد فجوة المعنى: التنجيم أو اليوجا أو الجلوس تحت حيز هرمي مع حمل بلورات أو العثور على الطفل الموجود في داخل الشخص، أو أيا ما يكون. وكما سنرى في نهاية هذا الكتاب الصغير، هذه أشكال مختلفة من «الظلامية»؛ بمعنى أنه إذا ما كان خطأ جانب كبير من الفلسفة المعاصرة هو الافتتان بالعلم - الأمر الذي يؤدي إلى العلموية - فإن الرفض الخاطئ بالقدر نفسه للعلم يؤدي إلى الظلامية. ويتمثل أحد ادعاءاتي الختامية في خطر وجود الظلامية في جانب كبير من الفلسفة القارية المعاصرة؛ إذن، إذا كان الخطر الذي تتعرض له الفلسفة المعاصرة هو العلموية، فإن انعكاسه المقابل هو الظلامية. وبكلمات جون ستيوارت مل: «أحد الاتجاهين يمكن أن يصنع من الرجال وحوشا، والآخر مجانين.»
ولكي ألخص قليلا، فإن الفلسفة القديمة تميزت - من بين أمور أخرى - بهوية تقوم على المعرفة والحكمة، أو على الأقل بمحاولة دمجهما معا؛ أي إن معرفة طبيعة الأشياء من شأنها أن تؤدي إلى الحكمة في تسيير المرء لحياته. والافتراض الذي يربط المعرفة والحكمة معا هو فكرة أن الكون على هذا النحو يعبر عن هدف إنساني؛ ومن ثم فإن معرفة الكون ستكون جزءا لا يتجزأ مما يعنيه أن يكون المرء إنسانا. وهذا هو ما يسمى «النظرة الغائية للكون»؛ حيث يمكن تفسير كل شيء طبيعي في ضوء ما أطلق عليه أرسطو سببه النهائي، هذا الهدف الذي من أجله يكون أي شيء على ما هو عليه. وأدت هذه النظرة إلى وحدة ملائمة بين النظرية والتطبيق، بين المعرفة والحكمة، بين التفسير السببي والفهم أو المعنى الوجودي؛ حيث يمكن على سبيل المثال أن ينظر إلى الكون على أنه كتاب حي كتبه الرب.
في العالم الحديث، ومن خلال التقدم الاستثنائي للعلوم من القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر، تصدعت هذه الوحدة. وكتب رينيه ديكارت بالفعل في عام 1641، في عمله «تأملات في الفلسفة الأولى» قائلا: «البحث المألوف عن الأسباب النهائية لا طائل منه مطلقا في الفيزياء.» لا يعبر الكون عن أي هدف إنساني؛ فهو يخضع ببساطة للقوانين الفيزيائية التي يمكننا أن نبذل قصارى جهدنا للتحقق منها، ولكنها غير مبالية بالسعي البشري؛ فالكون واسع وقاس ولا إنساني وآلي، وهذا هو السبب في كتابة بليز باسكال في وقت ظهور هذه النظرة المتحولة للعالم في أواخر خمسينيات القرن السابع عشر قوله: «الصمت الأبدي للفضاء اللامتناهي يملؤني بالخوف»؛ أي «معرفة» أن كون كوبرنيكوس وجاليليو المفتوح اللامتناهي دون معنى أو هدف نهائي تسبب خوفا كبيرا عندما يتحول المرء للتفكير في مسألة «الحكمة». وهذا أحد التعبيرات عن التجربة التاريخية والروحية التي تعرف باسم «التنوير»؛ إذ يترك ذلك لدينا فجوة تجريبية بين عوالم المعرفة والحكمة، والحقيقة والمعنى، والنظرية والممارسة، والتفسير السببي والفهم الوجودي. وكما عبر ماكس فيبر عن ذلك بعد حوالي قرنين ونصف القرن، فإن الثورة العلمية، في حقيقتها التي لا يمكن إنكارها، تسببت في «نزع السحر عن الطبيعة »؛ فلم تعد الطبيعة تعبيرا مرئيا ل «روح العالم» الذي يشارك فيه البشر أيضا، بل بدلا من ذلك، الطبيعة هي «مادة» موضوعية غير شخصية على نحو صرف، تحكمها القوانين، ويمكن تفسيرها سببيا، ولكن لا علاقة لها مطلقا بأهداف البشر.
إذا كان الأمر كذلك، فإن المشكلة بالنسبة إلينا - نحن المعاصرين - واضحة؛ ففي مواجهة نزع السحر عن العالم الذي أحدثته الثورة العلمية، فإننا نشعر بفجوة بين المعرفة والحكمة تتسبب في تجريد حياتنا من المعنى. والسؤال هو: هل تستطيع الطبيعة أو، في الواقع، الذوات البشرية أن تصبح مسحورة مرة أخرى بطريقة تقلل بل تزيل فجوة المعنى وتنتج تصورا معقولا للحياة الجيدة؟ تبدو هذه المعضلة غير قابلة للحل؛ فمن جهة، يبدو أن التكلفة الفلسفية للحقيقة العلمية هي العلموية، وفي هذه الحالة نصبح وحوشا. ومن جهة أخرى، يبدو أن رفض العلموية من خلال أنسنة جديدة للكون يؤدي إلى الظلامية، وفي هذه الحالة نصبح مجانين. ولا تتميز إحدى جهتي هذا البديل بجاذبية خاصة. وفي نهاية هذا الكتاب، سأحاول اقتراح حل وسط.
شكل 1-2: فريدريكو زوكاري (1540-1609)، «الحكمة».
ربما تتساءل: ولكن ما علاقة هذا بالفلسفة القارية؟ في رأيي أن ما يجب أن يتمحور حوله تفكير الفلسفة في الوقت الحاضر هو هذه المعضلة التي تهدد على أحد جانبيها بتحويلنا إلى وحوش، وعلى الجانب الآخر بتحويلنا إلى مجانين؛ وهذا يعني أن مسألة الحكمة، ومسألة معنى الحياة المرتبطة بها، ينبغي على الأقل أن تدخل في صلب الأنشطة الفلسفية، وألا تعامل بلا مبالاة أو بحرج أو حتى باحتقار. إن جاذبية الكثير مما يقع تحت مسمى الفلسفة القارية في رأيي تتمثل في أنه يحاول الجمع بين مسألتي العلم والحكمة، والحقيقة الفلسفية والمعنى الوجودي، أو على الأقل التقريب بينهما. والأمثلة على هذا وفيرة، سواء فكرنا في فلسفة هيجل حول صراع الإنسان حتى الموت من أجل الاعتراف به ككائن بشري له كرامة ومنزلة داخل الطبيعة باعتبار ذلك جزءا لا يتجزأ من ارتقائه إلى المعرفة المطلقة؛ أو فلسفة نيتشه حول موت الرب والحاجة إلى إعادة تقييم القيم؛ أو فلسفة كارل ماركس حول اغتراب البشر في ظل ظروف الرأسمالية والحاجة إلى التحول الاجتماعي التحرري والعادل؛ أو فرويد حول الكبت اللاواعي النشط في الأحلام والنكات وزلات اللسان وما يكشفه ذلك عن اللاعقلانية الموجودة في قلب الحياة العقلية؛ أو هايدجر حول القلق، وعدم الاكتراث المميت بالحياة الاجتماعية الزائفة، والحاجة إلى وجود حقيقي؛ أو سارتر حول خداع الذات، والغثيان، والشغف غير المجدي - على الرغم من أنه ضروري - بحرية الإنسان؛ أو ألبير كامو بشأن مسألة الانتحار في الكون الذي أضحى عبثيا بسبب وفاة الرب؛ أو إيمانويل ليفيناس حول صدمة مسئولياتنا اللانهائية تجاه الآخرين. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية.
هذا يعني أن أهم عوامل جاذبية الفلسفة القارية هو أنها تبدو أقرب إلى قلب وتفاصيل الوجود الإنساني؛ فتبدو أكثر واقعية بالنسبة إلى دراما الحياة، والآمال والمخاوف البشرية، والعديد من مواقف السراء والضراء التي نتعرض لها. وبطبيعة الحال، هذا لا يعني أن هذه المخاوف غائبة تماما عن الفلسفة الأنجلو أمريكية أو التحليلية. على الرغم من أنه قد يكون من الإنصاف القول، من وجهة نظري، إن جزءا كبيرا من هذا النوع الأخير تهيمن عليه مسألة المعرفة، المتصورة علميا أو طبيعيا، على حساب مسألة الحكمة، فإن هذا لا يفسر شخصية مثل لودفيج فيتجنشتاين - على سبيل المثال - الذي يمكن أن يقال إن جاذبيته الهائلة باعتباره مفكرا تعتمد على طريقة جمعه بين الحقيقة الفلسفية وتصور معين للمعنى الوجودي، أو في الواقع، طريقة معينة للحياة. وهكذا ربما يقال إن الهدف الأساسي وراء أعمال فيتجنشتاين هو هدف علاجي وإرشادي؛ لذا دعنا نقل إن محاولة سد الفجوة بين المعرفة والحكمة ليست عاملا كافيا للتمييز بين الفلسفة التحليلية والقارية. وليست تلك هي المشكلة؛ فنقطتي الرئيسية هي أن محاولة سد هذه الفجوة يجب أن تكون أساسا ضروريا «لجميع» طرق التفلسف.
الفصل الثاني
Unknown page
أصول الفلسفة القارية: من كانط إلى المثالية الألمانية
تتمثل مهمة الفصول القليلة القادمة في تعريف الفلسفة القارية ثم إيضاح ما هو مميز وجاذب فيها، وأود أن أفعل هذا بطريقة ذات شقين: شق تاريخي وآخر منهجي. سوف يتناول الفصلان الثاني والثالث التطور التاريخي، بينما سأقدم في الفصل الرابع عرضا أكثر منهجية وجدلية للفلسفة القارية. كانت فكرة كتابة تاريخ الفلسفة بطريقة منهجية وجدلية وسيلة شائعة جدا للشروع في اتباع التقليد الفلسفي القاري منذ رائعة هيجل «فنومينولوجيا الروح»، ذاك الكتاب الذي ظهر في عام 1807 وجمع بين كلا النهجين. ويمكن للمرء أيضا أن يجد الأسلوب نفسه متبعا في أعمال أخرى أكثر معاصرة، مثل: كتاب يورجن هابرماس «المعرفة والمصالح البشرية» (1968)، وكتاب فوكو «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» (1961)، وكتاب دريدا «في علم الكتابة» (1967). وهذا الأسلوب أقل شيوعا بكثير في التقليد الفلسفي الأنجلو أمريكي. (1) هوسرل أم كانط؟ طريقتان لبدء الفلسفة القارية
اسمح لي أن أبدأ بتناول طريقتين مختلفتين لتمييز الفلسفة القارية عن الفلسفة التحليلية. يمكن للمرء أن يتصور كتابا حول الفلسفة القارية، يبدأ تاريخ هذا الموضوع في حوالي عام 1900 بنشر كتاب هوسرل «مباحث منطقية»، وهو ما يطلق عليه هايدجر العمل «الثوري»، الذي بدأ التقليد الذي يسمى الفنومينولوجيا. ويمتلك هذا النهج ميزة تذكير القراء بأن التقسيم المعاصر (أو في الواقع، الفجوة الواسعة) المتمثل في الفلسفة التحليلية والقارية، هو في جوهره تقسيم بين التقاليد المستوحاة من الفلسفة الثورية في المنطق واللغة لجوتلوب فريجه - مثل الأعمال المبكرة لفيتجنشتاين، والوضعية المنطقية لحلقة فيينا وفلسفة اللغة الأنجلو أمريكية - وبين تلك المستمدة من المواجهة النقدية مع فنومينولوجيا هوسرل، مثل الوجودية والتفكيكية. وكان يوجد تواصل كبير بين فريجه وهوسرل، وفي عام 1894 نشر فريجه مراجعة نقدية متعمقة لكتاب هوسرل الأول؛ «فلسفة علم الحساب» (1891)، أدت إلى تغير كبير في وجهات نظر هوسرل حيال العلاقة بين المنطق وعلم النفس؛ بمعنى أن المنطق لا يمكن - كما كان يعتقد هوسرل في البداية - أن يرد إلى علم النفس.
ما هي الفلسفة القارية؟
الفلسفة القارية هي اسم لفترة تمتد لمائتي سنة في تاريخ الفلسفة، تبدأ بنشر الفلسفة النقدية لكانط في ثمانينيات القرن الثامن عشر. وحفز ذلك ظهور الحركات الفلسفية الرئيسية التالية: (1) المثالية والرومانسية الألمانية وما تلاها (فيشته، وشيلينج، وهيجل، وشليجل ، ونوفاليس، وشلايرماخر، وشوبنهاور). (2) نقد الميتافيزيقا (أو ما وراء الطبيعة) و«سادة الشك» (فيورباخ، وماركس، ونيتشه، وفرويد، وبرجسون). (3) الفلسفة الوجودية والفنومينولوجيا الألمانية (هوسرل، وماكس شيلر، وكارل ياسبرس، وهايدجر). (4) الفنومينولوجيا، والهيجلية، واللاهيجلية الفرنسية (كوجيف، وسارتر، وميرلو-بونتي، وليفيناس، وباتاي، ودي بوفوار). (5) التأويلية (ديلتاي، وجادامير، وريكور). (6) الماركسية الغربية ومدرسة فرانكفورت (لوكاتش، وبنجامين، وهوركهايمر، وأدورنو، وماركوزه، وهابرماس). (7) البنيوية الفرنسية (ليفي-شتراوس، ولاكان، وألتوسير)، وما بعد البنيوية (فوكو، ودريدا، ودولوز)، وما بعد الحداثة (ليوتار، وبودريار)، والنسوية (إيريجاري، وكريستيفا).
بطبيعة الحال، الغريب بشأن هذين التقليدين المتباينين ظاهريا المتمثلين في الفلسفة التحليلية والفنومينولوجيا؛ هو أن كليهما له أصول مشتركة من وسط أوروبا في أعمال الفيلسوف برنارد بولزانو الذي كان يعيش في براغ، وفرانز برنتانو الذي كان أستاذا جامعيا في فيينا وأشار إلى أن سيجموند فرويد الشاب كان من بين طلابه. باختصار، ما أخذه فريجه وهوسرل من بولزانو هو فكرة أن الأفكار ليست خبرات عقلية ذاتية، ولكن لها محتوى موضوعي قادر على التحليل، في حين أن ما أخذاه من فرانز برنتانو هو أطروحة القصدية؛ وهي أن كل فكرة موجهة نحو أشياء في العالم وليست حبيسة خزانة في الوعي. غذت هاتان الفكرتان رفض الشكوكية والنسبوية، وما كان يسمى «النفسانية»؛ وهي وجهة النظر التي تطورت في ألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر، بأن جميع المسائل المنطقية والفلسفية يمكن ردها إلى آليات نفسية. وتمسك هوسرل بتفسير نفسي للمنطق والحساب حتى أقنعه فريجه بخلاف ذلك. وكان نقد النفسانية إلى جانب الرفض القاطع لأي محاولة لرد الفلسفة إلى العلم التجريبي، هما الأمرين اللذين يجمعان بين فلسفة اللغة لفريجه وفنومينولوجيا هوسرل. وهكذا، يتضح لنا أن الفلسفتين التحليلية والقارية لهما نفس الأصول التاريخية، وتنتميان لمصدر جغرافي مماثل في دول وسط أوروبا الناطقة بالألمانية، ولهما عدو فلسفي مشترك. والطريقة الوحيدة لإعادة التواصل بين الفلاسفة هي من خلال العودة إلى النقطة التاريخية والمفاهيمية التي تفرع عندها هذان التقليدان.
هذه هي استراتيجية مايكل دوميت في كتابه الكبير التأثير، المنشور في عام 1993 «أصول الفلسفة التحليلية». يروي دوميت تاريخ الفلسفة التحليلية بداية من فريجه فصاعدا، على أمل محمود بأن تقديم فهم أكثر وضوحا للماضي الفلسفي سيكون مقدمة لنوع من الفهم المتبادل بين الفلاسفة المعاصرين. ووصف دوميت الوضع الحالي بكلمات قاتمة ملائمة:
لا أقصد التظاهر بأن الفلسفة في التقليدين هي في الأساس نفسها؛ فمن الواضح أن هذا سيكون سخيفا. يمكننا إعادة تأسيس التواصل فقط من خلال العودة إلى نقطة التفرع؛ فلا فائدة الآن في الصياح من على جانبي هذه الهوة السحيقة. ومن الواضح أن الفلاسفة لن يصلوا لاتفاق أبدا. مع ذلك، إنه لأمر مؤسف إذا لم يعد باستطاعة بعضهم التحدث مع بعض أو فهم بعضهم بعضا؛ فمن الصعوبة تحقيق مثل هذا الفهم، لأنك إذا كنت تعتقد أن هناك أشخاصا يسيرون على الطريق الخطأ، فربما لن تمتلك أي رغبة في التحدث معهم أو خوض عناء انتقاد وجهات نظرهم. ولكننا وصلنا لمرحلة كما لو أننا نعمل على مواضيع مختلفة.
وعلى هذا النحو، فإن السياق الفلسفي المعاصر يتناقض على نحو سلبي للغاية مع السياق الفلسفي في بداية القرن العشرين. كتب دوميت:
كان فريجه مؤسس الفلسفة التحليلية، وكان هوسرل مؤسس المدرسة الفنومينولوجية؛ وهما حركتان فلسفيتان مختلفتان جذريا. في عام 1903 مثلا، كيف كانا سيبدوان لأي طالب فلسفة ألماني عرف أعمالهما؟ بالتأكيد، لن يبدوا مفكرين متعارضين بشدة؛ بل كانا سيظهران متقاربين في التوجه كثيرا، على الرغم من بعض الاختلاف في الاهتمامات.
Unknown page
ثم يمضي دوميت، على نحو مثير، في مقارنة فريجه وهوسرل بنهري الراين والدانوب، «اللذين ينبع أحدهما على مسافة قريبة جدا من الآخر، ويتبعان مسارين متوازيين تقريبا لفترة ما، حتى يتفرعا في اتجاهين مختلفين تماما ويصبا في بحرين مختلفين». وعلى الرغم من أنه من الواضح - بالنسبة إلى دوميت على الأقل - أن راين فريجه هو المسار الصحيح للفكر (في حين أن دانوب هوسرل يتدفق نحو بحر المثالية الأسود الخاص بالفلسفة القارية)، فإن هذه صورة موجهة وموحية تزعزع التمييز بين تقليدي الفلسفة على نحو رائع جدا.
استراتيجية دوميت مقنعة، وسأستخدمها ضمنيا في مناقشتي حول الصراع بين التصور العلمي والتصور التأويلي للعالم في الفصل السادس؛ وأعني تحديدا أن إحدى طرق تحقيق الفهم المتبادل بين أطراف هذا الصراع هي تتبع مصدره الفلسفي في المواجهة بين هايدجر وكارناب. ومع ذلك - وهذه هي الطريقة الثانية للتمييز بين التقليدين الفلسفيين - إذا أردنا أن نفهم طبيعة الفلسفة في التقليد القاري، فأعتقد أنه من الضروري أن نبدأ بكانط، الذي يعد، كما ذكرت سابقا، آخر شخصية فلسفية عظيمة مشتركة بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، والذي أعلن عن انفصالهما. بادئ ذي بدء، يوجد سببان بسيطان جدا للبدء بكانط بدلا من هوسرل؛ أولا: التطورات التي شهدتها الفلسفة القارية خلال القرن العشرين لا يمكن فهمها إلى حد كبير عند عدم الإشارة إلى بواكيرها في القرن التاسع عشر، وبخاصة فكر هيجل وماركس ونيتشه. وينطبق هذا بصفة خاصة على الفلسفة الفرنسية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، التي ربما توصف على نحو جيد في سياق سلسلة من عمليات الرجوع إلى هيجل (بالنسبة إلى أعمال ألكسندر كوجيف والأعمال المبكرة لجان بول سارتر)، أو نيتشه (بالنسبة إلى أعمال ميشيل فوكو وجيل دولوز)، أو ماركس (بالنسبة إلى أعمال لوي ألتوسير). ثانيا: تاريخ الفلسفة في الدول غير الناطقة بالإنجليزية في القرن التاسع عشر - في بريطانيا على الأقل - لا يتم تضمينه للأسف على نحو كاف في المناهج الدراسية بأقسام الفلسفة بالجامعات؛ حيث إنه لا يزال من الممكن الحصول على درجة علمية في الفلسفة دون أن تجب عليك قراءة الكثير - إن قرأت أي شيء من الأساس - من الفلسفة الألمانية بين كانط وفريجه؛ ولذا فإنه لا يزال من الضروري محاولة سد هذه الثغرة. (2) طريقتان لقراءة كانط
الكثير من الفروق بين الفلسفة التحليلية والقارية يعتمد ببساطة على «كيفية» قراءة المرء لكانط، و«الجوانب» التي يركز عليها المرء في فكره؛ وهذا يعني ما إذا كان الشخص مهتما فحسب بالقضايا المعرفية الموجودة في عمله النقدي الأول «نقد العقل المحض» (1781)، أو بالطموحات المنهجية الأكبر في عمله النقدي الثالث «نقد ملكة الحكم» (1790). وأود أن أستكشف هذه الفكرة بعمق أكثر قليلا.
شكل 2-1: نقش لإيمانويل كانط (1724-1804).
إذا كان الشخص يركز على كتاب «نقد العقل المحض»، فإنه عادة ما يكون مهتما بنجاح حجة الاستنتاج المتعالي؛ هنا كانط يحاول أن يظهر أنه من أجل اختبار الأشياء بأي نحو، يجب أن نفترض وجود عمليات ما يسميه «مقولات الفهم»؛ ومن ثم وجود ذات إنسانية تفهم؛ أي تجمع الفوضى المزعجة الناشئة من الخبرة الحسية في شكل مفاهيم. وهكذا، كما يقول كانط: «الأشياء تتوافق مع المفاهيم، وليست المفاهيم هي التي تتوافق مع الأشياء.» وستوجه هذه القراءة لفكر كانط من خلال مسألة ما إذا كان ينجح في توفير أساس صحيح للمعرفة التجريبية ومواجهة تحدي شك ديفيد هيوم، أم لا. ادعى كانط أن هيوم أيقظه من «سباته الدوجماتي»، من خلال توضيح أننا إذا أخذنا تحدي الشك هذا بجدية، فإننا لا يمكننا أبدا أن نكون متأكدين مما إذا كانت مفاهيمنا - الكامنة في الأحاسيس والانطباعات العابرة - مقابلة على نحو كاف للأشياء في ذاتها ومنتجة للمعرفة أم لا. ورد كانط هو تحويل المسألة برمتها، من خلال التأكيد على أنه على الرغم من أننا لا يمكننا أبدا معرفة الأشياء في ذاتها، فإن عناصر تمثيلاتنا لها تتطابق مع مفاهيمنا لها على نحو كاف للمعرفة. وهذا التحول هو ما يدعوه كانط «التحول الثوري» في الفلسفة. والعالم التجريبي هو في الواقع حقيقي بالنسبة إلينا، ولكن من أجل تفسير كيفية فهمنا للعالم يجب أن نفترض منطقيا، أو بلغة كانط «على نحو متعال»، وجود ذات أو وعي يوحد ما ينتج عن الحدس في شكل مفاهيم. وهذا هو الشكل الأولي لأطروحة ما يسمى «المثالية المتعالية»، الأطروحة التي يعتقد كانط أنها متسقة مع الواقعية التجريبية. وبالقراءة من خلال وجهة النظر تلك، فإن المساهمة الفلسفية الكبرى لكانط تقع في مجال نظرية المعرفة، وضمنيا فلسفة العلم. في الواقع، كانت هذه هي طريقة قراءة كانط على نحو كبير لدى المدرسة الكانطية الجديدة، التي هيمنت على الفلسفة الأكاديمية الألمانية والفرنسية في الفترة من عام 1890 حتى أواخر عشرينيات القرن العشرين. لقد كانت طريقة القراءة المعرفية لكانط تلك لدى بيتر ستراوسون وغيره، هي التي سيطرت على فهم التقليد الأنجلو أمريكي لفلسفة كانط حتى وقت قريب إلى حد ما.
ومع ذلك، فإن طموح عمل كانط «نقد ملكة الحكم» مختلف إلى حد ما؛ فقد حاول بناء جسر بين ملكات الفهم (مجال نظرية المعرفة المعني بمعرفة الطبيعة) والعقل (مجال الأخلاق المعني بالحرية)، من خلال نقد ملكة الحكم. وسيكون الحكم الوسيط بين عالمي الطبيعة والحرية، وسينسق عناصر الفلسفة النقدية في نظام ما. وإذا ما سلك المرء هذا المسار، فإن القضية الأساسية لفلسفة كانط تصبح معقولية العلاقة بين العقل المحض والعقل العملي، أو الطبيعة والحرية، أو وحدة النظرية والتطبيق. كما سنرى لاحقا، هذا هو بالضبط المسار الذي اتبعته المثالية الألمانية لدى فيشته، وإف دبليو جيه شيلينج، وهيجل، والرومانسية الألمانية المبكرة لدى فريدريك شليجل ونوفاليس. ويمكن القول إن هذا هو المسار الذي اتبعته الفلسفة القارية منذ ذلك الحين. (3) كانط وهامان: نقد العقل المحض، والحاجة لنقد النقد
اسمح لي أن أحاول شرح كيف نصل من فلسفة كانط إلى الفلسفة المثالية الألمانية بشيء من التفصيل، من خلال محاولة إعادة بناء بعض سياق الفلسفة فيما بعد كانط. عانى مشروع التنوير الألماني بأكمله - الذي كان مستندا إلى سيادة العقل - نوعا من الانهيار الداخلي. يمكن وصف المشكلة ببساطة كما يلي: سيادة العقل تتمثل في ادعاء أن العقل بإمكانه انتقاد كل معتقداتنا. فكما كتب كانط في مقدمة الطبعة الأولى من عمله «نقد العقل المحض»:
عصرنا هو عصر النقد بدرجة كبيرة، ويجب أن تخضع جميع معتقداتنا للنقد؛ فالدين بقدسيته، والدولة بهيبتها، لا يمكنهما إعفاء أنفسهما من الخضوع لهذا النقد دون إثارة أي شكوك بشأنهما.
ولكن إذا كان ذلك صحيحا - إذا كان العقل يستطيع انتقاد كل شيء - فمن المؤكد أنه يجب أيضا أن ينتقد نفسه؛ لذلك، يجب أن يوجد نقد للنقد إذا أردنا أن يكون النقد فعالا حقا. هذه هي وجهة نظر يوهان جورج هامان، ناقد كانط الأول الأكثر تأثيرا، الذي كان يسكن معه في مدينة كونيجسبرج، والذي صاغ مفهوم «نقد النقد»، الذي لا يزال مصطلحا شائعا جدا في الفلسفة الألمانية. إذا كان كانط يمثل عقلانية التنوير ويحاول الدفاع عنها، فإن هامان هو صوت مناهضة التنوير التي من شأنها أن تزدهر في الحركات الجمالية والثقافية المسماة ب «العاصفة والاندفاع» والرومانسية الألمانية المبكرة. وخضع هامان لتحول ديني درامي بعد بعض المغامرات المثلية المثيرة، خلال رحلة عمل فاشلة في لندن عام 1758. وتعد قصة علاقة هامان اللاحقة بكانط - حيث استعان صاحب عمل هامان السابق في ريجا بكانط لإعادة المتدين الذي ولد من جديد إلى طريق العقل - مادة لأفضل الروايات التاريخية.
ولكن هذا ليس موضوعنا. في عام 1784، ألف هامان «نقد نقد العقل المحض»؛ حيث انتقد شكلية كانط، وتحديدا مغالاته حيال الطابع الشكلي للمعرفة، والإيمان بأنه يمكن فصل العقل عن الخبرة؛ أي إنه يمكن فصل ما هو قبل عما هو بعد. ويعد نقد هامان مقدمة لنقد صديقه - ورفيقه لفترة طويلة في الواقع - فريدريك هاينريش جاكوبي، وكذلك نقد هيجل. وهو يأخذ الشكل التالي: تنقسم فلسفة كانط النقدية إلى سلسلة من الثنائيات المعيبة (الشكل في مقابل المحتوى، الإحساس في مقابل الفهم، العقل في مقابل الخبرة، الطبيعة في مقابل الحرية، المحض في مقابل العملي، وما إلى ذلك)، وتعد سيادة العقل العملي مجرد شكلية فارغة للواجب المجرد. بالنسبة إلى هامان - في تنبؤ غريب آخر بالتطورات الفلسفية اللاحقة، التي تسمى الانعطاف اللغوي - فإن الفصل بين العقل والخبرة، أو الشكل والمضمون، أمر مستحيل؛ لأن الفكر يعتمد على اللغة، التي بطبيعة الحال تكون مزيجا من الاثنين معا. من أين بالضبط تستقي التمييز بين المفهوم والحدس في الاستخدام الفعلي للغة؟ يقول هامان: «القدرة الكاملة على التفكير لا تعتمد على اللغة فحسب ... ولكن تقبع اللغة أيضا في قلب سوء فهم العقل لنفسه.»
Unknown page
شكل 2-2: بورتريه ليوهان جورج هامان (1730-1788).
لذلك، إذا كان يجب أن ينتقد العقل كل الأشياء، فيجب أن يوجد نقد للعقل. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يمنع نقد النقد هذا من الوقوع في الشك؛ الشك الجذري والتام؟ كما يشير فريدريك بايزار: «ثمة كابوس يلوح في الأفق الذي يتمثل في أن النقد الذاتي للعقل ينتهي إلى العدمية؛ الشك في وجود كل شيء. وكان هذا الخوف هو جوهر أزمة التنوير.» وكما سأحاول وأناقش فيما يلي، فإن مفهوم العدمية هو أفضل ما يسمح للمرء بالتمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية. وكانت هذه القضية تقع في جوهر اثنين من الصراعات الأكثر أهمية في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا، وكان جاكوبي في قلب كليهما: صراع وحدة الوجود، وصراع الإلحاد. (4) صراع وحدة الوجود وصراع الإلحاد: انعكاسات عمل جاكوبي
بدأ صراع وحدة الوجود بنشر عمل جاكوبي «رسائل حول مذهب سبينوزا» في عام 1785، الذي كان عبارة عن مراسلاته مع موزس مندلسون بشأن الاعتراف الصادم المتأخر لجي إي ليسينج بتأثره الشديد بأفكار سبينوزا. وشارك معظم أفضل العقول في هذا العصر في هذا الصراع، بما في ذلك مندلسون وكانط ويوهان هيردر ويوهان فولفجانج فون جوته وهامان. كان باروخ دي سبينوزا يصور بنحو كاريكاتوري ساخر حتى وقت هذا الصراع إما في صورة فيلسوف عقلاني مؤمن بوحدة الوجود وإما في صورة ما هو أسوأ؛ شيطان ملحد. وكان لهذا الصراع أثر جانبي يتمثل في وضع حد لهذه الصورة الكاريكاتورية، وقد بلغ ذروته في وصف نوفاليس لسبينوزا بأنه «الثمل بحب الرب»، ولكن لم تكن هذه هي المشكلة الحقيقية؛ فجاكوبي يستخدم اعتراف ليسينج بتأثره الشديد بالفكر الاسبينوزي لتقديم نقد داخلي للتنوير. كان جاكوبي يسعى لإيضاح أن فلسفة سبينوزا هي مثال للعقلانية، وأنه إذا التزم الشخص بالعقلانية على نحو منتظم، فإنها تؤدي إلى الإلحاد؛ لذلك، على النقيض من كانط «التنويري»، يؤدي العقل إلى انهيار أي أساس للاعتقاد الديني أو الحياة الأخلاقية. يضيف جاكوبي أنه إذا كان الأمر كذلك، فإن لدينا خيارا واضحا وقاسيا إلى حد ما، لا بد أن نتخذه: إما أن نعتنق الإلحاد العقلاني للتنوير، وإما أن نرفضه من خلال قفزة إيمانية غير عقلانية. ويجد جاكوبي مصدر إلهام لهذا في قراءته لأعمال باسكال، الذي يرى أنه «لا يوجد شيء متسق للغاية مع العقل مثل عملية إنكار العقل تلك»؛ بمعنى أن الإعمال الصحيح للعقل يوصل إلى النقطة التي علينا أن ندرك فيها ما يكمن وراءه؛ مجال الإيمان. وكانت نسخة جاكوبي من رؤية باسكال مهمة أيضا لناقد ديني آخر للعقلانية العلمانية جاء لاحقا، وهو سورين كيركجور. إن مسألة وضع العقل والعقلانية في مقابل لاعقلانية كثير من الوجود الإنساني؛ تمثل صراعا يقع في قلب الخلافات في التقليد الفلسفي القاري حتى يومنا هذا؛ على سبيل المثال: في جدال الحداثة/ما بعد الحداثة، الذي ميز فترة كبيرة من ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين. وكان بايزار محقا في قوله: «ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن هذا الجدل حدد واحدة من القضايا المميزة للتقليد الفلسفي القاري ككل؛ وهي مسألة سلطة العقل. لقد بدأ ما يسمى «مأزق ما بعد الحداثة» فعليا حينها في عام 1786.»
والمسألة الأخرى التي تحدد مسار الفلسفة القارية هي صراع الإلحاد، الذي بدأ في عام 1798، والذي أدى في عام 1799 إلى عزل فيشته عن منصبه الأكاديمي في جامعة ينا بتهمة الإلحاد. ويكمن أصل هذا الصراع في نشر العديد من الكتيبات المسيئة المجهولة المصدر في عام 1798، والتي أعقبت نشر مقالات في إحدى المجلات، على يد فيشته والفيلسوف غير المعروف كثيرا الآن فريدريك سي فوربج، حول مكانة الدين والأخلاق. إن قصة إقالة فيشته مؤسفة إلى حد كبير، وتتشابه بعض الشيء مع مشكلة إلحاد ببرتراند راسل في نيويورك في عام 1940؛ حيث منع من تولي منصبه في كلية سيتي كوليدج بنيويورك، بناء على حملة تشهير شنت ضده لإعلانه الإلحاد وإبدائه آراء ليبرالية حول مسألة الأخلاقيات الجنسية. ووصف اللورد راسل من جانب جوزيف جولدشتاين - محامي السيدة جين كاي التي قادت الحملة ضد راسل - بأنه «فاسق، وشبق، وشهواني، وداعر، ومصاب بالهوس الشبقي، ومحرض على الشهوة الجنسية، ووقح، وضيق الأفق، وكاذب، ومجرد من المبادئ الأخلاقية». يا له من قدح فظيع! ولكن الفلاسفة منذ زمن سقراط يتهمون بإفساد أخلاق الشباب. وعلى الرغم من أن ينا في تسعينيات القرن الثامن عشر لم تكن تماما مثل مانهاتن في أربعينيات القرن العشرين، فإنه ينبغي أن نتذكر أنها كانت المركز الفلسفي للحياة الفكرية في ألمانيا خلال هذه الفترة، وموطن العديد من أعظم العقول في ذلك الوقت (فيشته، والأخوين شليجل، ونوفاليس، وشيلينج)، والبوتقة التي ولدت منها الرومانسية الألمانية المبكرة أو رومانسية ينا.
شكل 2-3: بورتريه لفريدريك هاينريش جاكوبي (1743-1819).
شكل 2-4: إميل دورستلينج، لوحة لعشاء تخيلي في منزل كانط مع هامان وجاكوبي وآخرين (1801).
على الرغم من أن التفاصيل التاريخية لهذا الصراع مثيرة للاهتمام ومحبطة قليلا في نفس الوقت، فإنها تصبح مهمة فلسفيا عندما يعبر جاكوبي عن رأيه في عام 1799 في عمله «رسالة إلى فيشته». ونجد في هذا النص أول توظيف فلسفي لمفهوم «العدمية»؛ فكما أشار جاكوبي ببساطة، وجهة نظر فيشته - المعروفة باسم مثالية فيشته - عدمية. وما يعنيه بهذا يجب أن أن يفهم في ضوء تراجع النقد الكانطي للميتافيزيقا التقليدية المذكور سابقا، الذي لا ينكر الإدراك المعرفي للبشر للكيانات المتخيلة من جانب الميتافيزيقا الكلاسيكية (الرب والروح) فحسب، ولكن يستبعد أيضا إمكانية معرفة الذوات أو الأشياء في ذاتها وما وصفه كانط بأنه الأساس «الحقيقي» للذات، والذي لا يمتلك وجودا ظاهريا. تمثلت فرضية جاكوبي الأساسية في أن إحياء فيشته للمثالية المتعالية لكانط، يؤدي إلى «أنا» فقيرة لا يوجد لديها معرفة بالأشياء في ذاتها. وهي عدمية لأنها لا تسمح بوجود شيء خارج أو منفصل عن الأنا، والأنا في حد ذاتها ليست سوى نتاج «قوة التخيل الحرة». ويحتج جاكوبي، في فقرة استثنائية، قائلا:
إذا كان أكبر ما أستطيع تأمله، وما يمكنني التفكير فيه، هو الأنا خاصتي الفارغة والنقية، العارية والمحضة، باستقلالها وحريتها؛ إذن، فالتأمل الذاتي العقلاني - العقلانية - سيكون بالنسبة إلي لعنة، وسأكون آسفا على وجودي.
وفي مقابل ما يراه جاكوبي على أنه أحادية مثالية لفيشته، دعا لشكل من أشكال الثنائية الفلسفية؛ حيث إنه وراء الانشغال الفلسفي بالحقيقة، يقع مجال الحقيقية، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق الإيمان أو القلب. مرة أخرى، نقد جاكوبي لفيشته يذكرنا بقوة بنقد باسكال لديكارت؛ حيث إن العدمية هي التهمة التي وجهتها نظرة العالم المسيحي للعقلانية العلمانية؛ ومن ثم فإن الاختيار الوجودي الذي يواجهنا - والذي لا يمكن إثباته بعقلانية ولكن يجب علينا أن نراهن عليه - هو بين مثالية فيشته، وهي عدمية لأنها لا توفر معرفة بأي شيء خارج تقديرات الأنا، وثنائية جاكوبي، التي وصفها بسخرية ذاتية بأنها «وهمية» لأنها تدعي أن الرب هو جوهر العقل دون أن تتمكن من إثبات ذلك بعقلانية. ويخلص جاكوبي قائلا:
لكن الإنسان أمامه اختيار واحد: العدمية أو وجود إله. إذا اختار الإنسان العدمية، فإنه يجعل من نفسه إلها؛ أي إنه يجعل من الوهم إلها؛ لأنه في حالة عدم وجود إله، يستحيل أن يكون الإنسان وكل ما يحيط به إلا وهما. أعود وأكرر: إما أن يكون الإله كيانا حيا قائما بذاته، وموجودا خارج نفسي، وإما أن أكون أنا الإله. وهما أمران لا ثالث لهما.
Unknown page
عند إنكار وجود إله، فإننا نخاطر بتحويل الإنسان إلى إله؛ وهذا يعني وجود إغراء كإغراء بروميثيوس في مثالية كانط وفيشته؛ حيث يتحول الإنسان إلى نسخة طبق الأصل من الإله، ويخلق من العدم (تجدر الإشارة إلى أن رواية ماري شيلي «فرانكنشتاين» (1819) كان عنوانها الفرعي «بروميثيوس الحديث»؛ حيث طارد شيء مشوه الخلقة العقلانية العلمية للتنوير).
لإظهار بعض من آثار هذا الفكر على التقليد الفلسفي القاري، اسمح لي أن أقدم بعض الأمثلة الأخرى. إذا كانت العدمية هي اتهام للأنا الفلسفية، حيث تبخر في الهواء كل ما كان راسخا في النظرة العالمية التي سبقت ظهور كانط، فإن المرء يجد تأكيدا غريبا لنقد جاكوبي في أنانية كتاب ماكس شتيرنر الاستثنائي «الأنا وذاتها» (1844)، وهو الكتاب الذي تعرض لنقد طويل ولاذع من قبل ماركس وفريدريك إنجلز في عملهما «الأيديولوجيا الألمانية» (1846). ما انتقده جاكوبي على أنه عدمية احتفى به شتيرنر على نحو فوضوي على أنه تحرر للفرد. فإذا كنت عدما أو لا شيء، كما يقول شتيرنر، «فإنني لست عدما بمعنى الفراغ، ولكنني العدم المبدع، العدم الذي أخلق منه أنا كمبدع كل شيء». وكنتيجة خاطئة لمحاولته إظهار أن نقد هيجل ولودفيج فيورباخ للدين لا يزال متشابكا بقوة مع النماذج الدينية في التفكير، يجيب شتيرنر على مسألة «ماهية الإنسان» من خلال تحويل الأنا إلى نسخة طبق الأصل من الإله؛ فيصبح الإنسان السبب ذاتي التسبب، وهي ذاتية التسبب الخاصة بالنظرية اللاهوتية للقرون الوسطى. ولاستباق وجودية سارتر، التي وجد فيها شتيرنر صدى مثيرا بعد قرن من الزمن، في عالم ملحد عدمي، يمتلك البشر حرية عاطفية ليصبحوا مثل الإله. هذا هو السبب في ختم سارتر كتابه «الوجود والعدم» بعبارة «الإنسان عاطفة لا جدوى منها».
ويجد المرء أيضا صدى لنسخة جاكوبي من رهان باسكال في تصوير فيودور دوستويفسكي لشخصية كيريلوف العدمي في روايته «الشياطين» (1871).
إن كل من يرغب في الحرية الأسمى يجب أن يجرؤ على قتل نفسه؛ فالذي يجرؤ على قتل نفسه قد تعلم سر الخداع. فبخلاف ذلك لا توجد حرية؛ هذا كل شيء، وبخلاف ذلك لا يوجد شيء. إن الذي يجرؤ على قتل نفسه هو إله. والآن يمكن للجميع فعل ذلك كي لا يوجد أي إله، ولا يوجد أي شيء؛ ولكن لم يفعل ذلك أحد حتى الآن.
هذا هو الموقف الذي يصفه دوستويفسكي ب «الانتحار المنطقي»؛ وهذا يعني - كما يقول في مذكراته - إنه بعد أن يرفع البشر أنفسهم فوق مستوى البهائم، فإن الفكرة «الأساسية» و«الأعظم» و«الأسمى» للوجود البشري تصبح ضرورية للغاية: الاعتقاد بخلود الروح. وبمجرد أن ينكسر هذا المعتقد، كما رأى دوستويفسكي في العدمية أو اللاتفريقية لدى الطبقات المثقفة الروسية في ستينيات القرن التاسع عشر، فإن الانتحار هو الحل المنطقي الوحيد؛ ومن ثم، وجدنا كيريلوف الذي فقد الإيمان بخلود الروح يحاول تأليف كتاب يدرس الأسباب التي تجعل الناس لا يقتلون أنفسهم.
وهكذا، يمكن للمرء أن يقول إنه يوجد مسار في التقليد الفلسفي القاري من نقد كانط في أعمال هامان وجاكوبي، حتى أفكار كيركجارد وشتيرنر ودوستويفسكي - الدينية والإلحادية - المناهضة للعقلانية، وصولا إلى وجودية ما بعد الحرب الفرنسية لسارتر وكامو. (5) توحيد ثنائيات كانط
كان التأثير المشترك لنقد فلسفة كانط في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر هو أن إيمان التنوير بالعقل بدا مشكوكا فيه على نحو أكبر من أي وقت مضى؛ فكما أشار بايزار: «لم يكن كانط مانعا لمسيرة التدمير الذاتي للعقل نحو الهاوية، ولكنه كان مشجعا عليها.» ومن الواضح أن قضية معرفة ما إذا كانت هذه النظرة لكانط لها ما يبررها من الناحية الفلسفية أم لا؛ قضية منفصلة. الهدف هنا هو أن سلسلة كاملة من المناقشات التي تحدد التقليد الفلسفي القاري بدأت من هذه النقطة، ورأيي هو أن الفلسفة القارية يجب أن تفهم على هذا الأساس.
اسمح لي أن أختتم هذا الفصل بالعودة إلى الجدل السابق الذي مفاده أن كانط ترك لنا سلسلة من الثنائيات التي بحاجة إلى التوحيد؛ وهذا هو أحد الاعتراضات التي قدمها الفيلسوف الذي اعتبره كانط أفضل ناقد له، وهو سالومون ميمون. ونشرت انتقادات ميمون في عام 1790 تحت عنوان «مقال عن الفلسفة المتعالية». وتتمثل وجهة نظره الأساسية في أن ثنائية كانط بين الفهم والإحساس، التي تقع في جوهر المثالية المتعالية، متطرفة وعميقة الأثر لدرجة أنها تمنع إمكانية التفاعل بين المفهوم المسبق والحدس التجريبي؛ وهذا يعني أن حجة الاستنتاج المتعالي تبطل عن طريق الثنائيات ذاتها التي افترضها كانط من أجل تنفيذ هذا الاستنتاج. هذا ما يغرم بعض فلاسفة التقليد القاري بتسميته «التناقض الذاتي الأدائي».
شكل 2-5: كانط يخلط الخردل في وعاء. (لوحة بريشة فريدريك هاجمان (1801).)
المهم هنا هو إدراك كيف أثرت انتقادات ميمون على فلسفة ما بعد كانط. كيف يمكننا التغلب على الثنائيات الخاطئة لنظام كانط؟ المطلوب هو مبدأ موحد أسمى من شأنه أن يكون في مأمن من هذه الانتقادات. وانطلاقا من هذا السؤال بدأت مثالية فيشته والمثالية الألمانية. وجد فيشته هذا المبدأ الموحد في نشاط الذات، فتوحدت ثنائية النظرية والتطبيق في التأمل الذاتي للذات؛ وعيها للحرية. وكانت هذه هي وجهة النظر التي درسها فيشته في كتابه المشهور «مذهب العلم» (1794). أما على النقيض، بالنسبة إلى شيلينج الشاب، كان المبدأ الموحد هو مفهوم القوة أو الحياة، المذكور في فلسفته المبكرة حول الطبيعة؛ وبالنسبة إلى هيجل، كان مفهوم الروح؛ وبالنسبة إلى آرثر شوبنهاور، كان مفهوم الإرادة؛ وبالنسبة إلى نيتشه ، كان القوة؛ وبالنسبة إلى ماركس، كان مفهوم الممارسة؛ وبالنسبة إلى فرويد، كان اللاوعي؛ وبالنسبة إلى هايدجر، كان الوجود. ويمكن أن تمتد هذه القائمة إلى ما لا نهاية. الهدف هنا هو تأكيد أن القضية الأساسية للفلسفة القارية نشأت من هذه الانتقادات لكانط، ويجب أن تفهم في هذا السياق.
Unknown page
الفصل الثالث
النظارات والعيون: ثقافتان في الفلسفة
لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لإدراك أنه توجد مشاكل خطيرة في التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية. الفلسفة القارية عبارة عن سلسلة انتقائية ومتباينة للغاية من التيارات الفكرية التي من الصعب أن يقال إنها تمثل تقليدا فلسفيا موحدا. على هذا النحو، فإن الفلسفة القارية مصطلح «ابتدعه» الفكر الأنجلو أمريكي الأكاديمي ليميز نفسه عن الفكر الفلسفي لأوروبا القارية، الذي لم يكن في الوقت نفسه ليقر بشرعيته وتميزه؛ ما يشبه قليلا طلب إفطار قاري (كونتينينتال) في باريس.
ومع ذلك، إذا أخذ مفهوم الفلسفة القارية بمعناه الظاهري كتصنيف جغرافي، فحينها ستنشأ مشاكل أخرى. فيوجد فلاسفة من أوروبا القارية، مثل فريجه وكارناب لا يتبعون فكر الفلسفة القارية، وفلاسفة من خارج أوروبا القارية يتبعونه. وأيضا، من الناحية الجغرافية، يمكن أن تصبح الأمور مختلطة إلى حد كبير، كما هي الحال عندما يدعي دوميت على نحو صحيح أن مصطلح «الأنجلو أمريكية» (وهو تسمية جغرافية أخرى ليس لها مدلول أكثر وضوحا من «القارية») تسبب في ضرر أكبر مما تسبب فيه من نفع؛ لأنه تجاهل جذور الفلسفة التحليلية التي نشأت في الدول الناطقة بالألمانية. بدلا من ذلك، اقترح دوميت - على نحو عابث ولكن دقيق - استبدال مصطلح «الأنجلو نمساوية» به.
ثمة اعتراض أعمق على التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية أثاره برنارد ويليامز، عندما يدعي أن التمييز يقوم على خلط بين الجوانب الجغرافية والمنهجية، كما لو كان المرء يصنف السيارات إلى سيارات دفع أمامي وسيارات يابانية. فعلى الرغم من أن الفلسفة التحليلية كثيرا ما ترتبط بقوة بأماكن معينة - أكسفورد أو برنستون مثلا - فإنها تدل على التزام بأسلوب تفلسف معين، وبمعايير معينة للمحاججة والوضوح والصرامة المنهجية ، في حين أن الفلسفة القارية يبدو أنها تدل على التزام بمكان معين، بغض النظر عن المنهجية. وهكذا، فإنه بالنسبة إلى ويليامز، التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية يقوم على مقارنة تخلط بين الجوانب المنهجية والجغرافية.
ومع ذلك، لن يصحح هذا الالتباس عن طريق إعادة صياغة المصطلحات المتقابلة بدقة اعتمادا على تصنيف جغرافي (أي أنجلو أمريكية في مقابل قارية)، أو منهجي (أي تحليلية في مقابل فنومينولوجية). إذا أعيدت صياغة المصطلحات المتقابلة جغرافيا، فإن هذا سيزيد الأمور سوءا؛ لأن ذلك يعني خطأ أن الفلسفة في المملكة المتحدة وأمريكا الشمالية وأسترالاسيا غير قارية بحكم التعريف، وأن الأب المؤسس للفلسفة التحليلية (فريجه) وأن أكبر ممثل لها (فيتجنشتاين) كانا من أصحاب فكر الفلسفة القارية. إذا تم إعادة صياغة المصطلحات المتناقضة منهجيا، فبالكاد سيكون ذلك مسئولا عن حقيقة أنه على أحد جانبي التقسيم، يمكن أن يقال إن عددا قليلا جدا من الفلاسفة يتبعون الأشكال التقليدية للتحليل الفلسفي (فضلا عن الحديث عن الفلسفة «ما بعد التحليلية» في السنوات الأخيرة)، وعلى الجانب الآخر، لن توجد ببساطة فئة يمكن أن تغطي كافة الأعمال المتنوعة التي أنتجها مفكرون مختلفون منهجيا وموضوعيا مثل هيجل وكيركجارد، أو فرويد ومارتن بوبر، أو هايدجر وتيودور أدورنو، أو جاك لاكان ودولوز.
إن ويليامز محق في كونه متشككا حيال أي تصور من هذا النوع للتمييز بين المدارس والمذاهب الفلسفية؛ لأنه يخفي جدلا ممكنا أكثر عمقا وإثارة للاهتمام حول هوية الفلسفة نفسها. وعلى الرغم من أنه من الواضح، من خلال نقد ويليامز، أن هوية الفلسفة بالنسبة إليه تمثل على نحو أفضل من خلال الفلسفة التحليلية، التي تتمثل مزيتها الأساسية إلى حد ما في «الصدق البارع»، والتي تبدو مستندة إلى مقارنة محل جدل إلى حد كبير بين الفلسفة وإجراءات العلوم الطبيعية؛ فإنه من الواضح أن لديه وجهة نظر حيال هذا الموضوع، والذي سأعود إليه في ختام هذا الكتاب. يوجد شيء محدود الأفق وجبان على المستوى الفكري حيال تحديد المرء لانتمائه لأحد طرفي تقسيم فلسفي متصور؛ لأن ذلك يمنع ظهور التحديات الفكرية الممكنة التي قد تنتج عن حوار خارج نطاق الفلسفة التي يتبناها المرء. (1) نظرة على بعض الأفكار النمطية عن التمييز بين الفلسفتين
مع ذلك، لا ينبغي تنحية التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية جانبا دون محاولة تشخيص بعض الأفكار النمطية الثقافية العالقة في داخله وتخليصه منها. وتواصل نطاقات الفلسفات وجودها، ويتمثل الأمر الآن في محاولة معرفة سبب كون الحال كذلك، من خلال تناول بعض الأمثلة.
يلخص ستانلي روزن، بسخرية شديدة وبمهارة، التمثيل النمطي للتمييز بين الفلسفة التحليلية والقارية على النحو التالي: «الدقة والوضوح المفاهيمي والصرامة المنهجية هي سمات الفلسفة التحليلية، في حين أن الفلسفة القارية تستغرق في الميتافيزيقا التأملية أو التأويلية الثقافية؛ أو بدلا من ذلك، واعتمادا على مدى تعاطف المرء معها، تستغرق في الاستسلام للأوهام والسخافات.» وأخشى أن هذه الأفكار النمطية تتأكد فقط من خلال المناقشات في الصحافة وملاحظات بعض الفلاسفة الأكاديميين الذين ينبغي أن يكونوا على دراية أكبر بالأمور. ولضرب مثل على هذا النوع الأخير من الفلاسفة، لا يجب علينا النظر إلى أبعد مما حدث مع دريدا في جامعة كامبريدج في عام 1992؛ حيث عارض بعض الأعضاء البارزين في الجامعة ترشيح جاك دريدا للحصول على الدكتوراه الفخرية. وفي اليوم التالي لخسارة المعارضة في التصويت، نشرت صحيفة بريطانية ذات منزلة رفيعة خبرا تحت عنوان «العدمية المعرفية تغزو مدينة إنجليزية».
ولكن ربما تم التعبير عن الهوة التي تفصل بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية على نحو أكثر إحكاما أثناء المناقشة العصبية والسيئة السمعة التي تلت تقديم جيلبرت رايل لبحثه في مؤتمر حول الفلسفة التحليلية في فرنسا في عام 1960، والتي أجاب فيها رايل عن سؤال موريس ميرلو-بونتي «أليس برنامجنا واحدا؟» قائلا: «آمل ألا يكون كذلك.» إن هذه العبارة، هذه ال «لا» الثابتة في وجه الغرابة الملحوظة في أوروبا القارية، هي الكاشفة بوضوح لتحامل أيديولوجي ينبغي بالتأكيد ألا يكون له مكان في الفلسفة. كانت هذه ال «لا» هي نفس ال «لا» التي قالتها البارونة تاتشر لخطط جاك ديلور الخاصة بالاتحاد الأوروبي ، والتي كانت بداية سقوطها السياسي في عام 1990. والمفارقة هنا هي أن رايل الشاب بدأ حياته بوصفه مؤيدا للفنومينولوجيا، فكان أول عمل منشور له هو مراجعة دقيقة جدا لكتاب هايدجر «الوجود والزمان»، الذي نشر في دورية «مايند» في عام 1930، وألقى الكثير من المحاضرات في جامعة أكسفورد في ثلاثينيات القرن العشرين حول بولزانو وبرنتانو وفريجه وماينونج وهوسرل. وكما أشار دوميت على نحو أضعف مما تقتضيه الحقيقة: «إنه لأمر مؤسف حقا أن قليلا فحسب من علمه حول هؤلاء المبدعين حفظ مطبوعا، وبالمثل - من وجهة نظري - أن استمر قليل مما تعلمه منهم في أعماله اللاحقة.»
Unknown page
وبمناسبة إشارتنا لميرلو-بونتي، يوضح إيه جيه آير ببراعة الهوة التي تفصل فلاسفة التقليد التحليلي عن فلاسفة التقليد القاري، من خلال الذكرى التالية التي وردت في سيرته الذاتية:
ربما كان من المتوقع أن نجد أنا وميرلو-بونتي أرضية مشتركة للنقاش. ولقد حاولنا فعل ذلك حقا في عدة مناسبات، ولكن لم نمض كثيرا قبل أن نبدأ في النزاع حول نقطة ما لم يكن أي منا على استعداد للتنازل عنها. وبما أن هذه المناقشات تميل إلى أن تكون حادة، اتفقنا ضمنيا على إيقافها واللقاء على مستوى اجتماعي خالص، وهو الأمر الذي ترك لنا مادة كافية للحديث عنها.
يشبه هذا قليلا الصراخ عبر الهوة التي تحدث عنها دوميت وأشرنا إليها سابقا. ثمة مثال آخر، يشمل آير أيضا، أكثر إثارة للاهتمام، وحتى غير محتمل قليلا؛ ويتعلق هذا المثال باجتماع بين آير وربما المفكر الأكثر تطرفا من بين أتباع الفلسفة القارية جورج باطاي، الذي كان معارضا للفلسفة التقليدية، والمعرفة، والفكر الديني، وشبقيا. فقد التقيا في حانة باريسية في عام 1951، مع ميرلو- بونتي. ويبدو أن المناقشة استمرت حتى الثالثة صباحا، وكانت الأطروحة قيد المناقشة بسيطة جدا: هل وجدت الشمس قبل وجود البشر؟ لم يجد آير أي سبب للشك في وجود الشمس قبل البشر، في حين اعتقد باطاي أن الفكرة برمتها لا معنى لها. بالنسبة إلى فيلسوف مؤمن بوجهة النظر العلمية حيال العالم مثل آير؛ فمن المنطقي قول إن الأشياء المادية مثل الشمس موجودة قبل تطور البشر. في حين أنه بالنسبة إلى باطاي - الأكثر دراية بالفنومينولوجيا - يجب أن تدرك الأشياء المادية من منظور ذات إنسانية من أجل أن يقال إنها موجودة. ونظرا لعدم وجود البشر في الوقت المفترض في الفكرة، فمن ثم لا معنى للادعاء بأن الشمس كانت موجودة قبل البشر. ويخلص باطاي إلى ما يلي:
أود أن أقول إن محادثة الأمس كان لها تأثير الصدمة؛ إذ يوجد بين الفلاسفة الفرنسيين والإنجليز نوع من الهوة التي لا نجدها بين الفلاسفة الفرنسيين والألمان.
من أجل رؤية مثال كاشف على التحامل الذي ما زالت تعامل به الفلسفة القارية، يمكن للمرء أن يأخذ كدراسة حالة مقالتين كتبهما اللورد أنتوني كوينتن حول الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، ونشرتا على التوالي في كتاب «أكسفورد كومبانيون تو فيلوسوفي» مؤخرا في عام 1995. تعد مقالة كوينتن حول الفلسفة التحليلية ملخصا منصفا لمفهومي الذرية المنطقية والوضعية المنطقية، على الرغم من أنها وجيزة جدا لدرجة تمنعها من أن تكون مفيدة حول التطورات التي حدثت فيما بعد الحرب في هذا المجال. ويختتمها بالإشارة إلى الفيلسوفين التحليليين هيلاري بوتنام وروبرت نوزيك بقوله: «هما يفكران ويكتبان بروح تحليلية، تحترم العلم، باعتباره نموذجا للمعتقدات المعقولة، وبما يتفق مع صرامته الجدلية ووضوحه وتصميمه على أن يكون موضوعيا.» ومع ذلك، فإن نفس هذا التصميم على الموضوعية ليس واضحا في مقالة كوينتن حول الفلسفة القارية. تبدأ المقالة - على نحو معقول بما فيه الكفاية - بإشارة كوينتن الصحيحة إلى كيفية ارتباط المعنى الحالي بالفلسفة القارية حديثا في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وتعرض أيضا ملاحظات مفيدة حول وحدة المسعى الفلسفي، الذي اتسمت به العصور الوسطى اللاتينية وعصر النهضة، وهو حوار لم يمثل إشكالية على نحو باهر بين الفلاسفة من بريطانيا وأوروبا القارية، امتد لفترة طويلة حتى وصل إلى عصر التنوير؛ حيث كان لوك قارئا لأعمال ديكارت وجاسندي ومالبرانش، وكان هيوم قارئا لأعمال بايل وعرف روسو، ودرس مل أعمال كونت، إلى آخره. الأمور حتى الآن جيدة جدا ، ولكن يدعي كوينتن أنه «لا يوجد حقا أي تقارب ملحوظ بين عالمي الفلسفتين»، ولكي يثبت وجهة نظره (عن غير قصد، بالطبع)، يقدم ملخصات صادمة جدا للوجودية والبنيوية والنظرية النقدية؛ فالأولى مرفوضة، من دون إشارة كافية إلى الفنومينولوجيا، وذلك لاعتمادها «على الأسلوب الدرامي، وحتى الميلودرامي، بدلا من الحجج العقلانية المثبتة». ويقال إن الثانية قد «بلغت ذروتها مع فوكو، وأنها تجاوزت نفسها، وانطلقت إلى فضاء فكري خارجي مع دريدا». أما الثالثة، فرفضت بنحو غريب على النحو التالي: «أبطلت النوايا السياسية الواضحة لمنظري النظرية النقدية أي اهتمام من جانب الفلاسفة التحليليين الملتزمين بالحياد.» إذا كان يمكن أن يقال إن مثل هذه التعليقات تظهر التزاما بالحياد، فضلا عن الفضائل المذكورة أعلاه المتمثلة في الصرامة الجدلية والوضوح والتصميم على أن يكون موضوعيا، فربما يكون اعتقاد كوينتن بأنه لا يوجد أي تقارب ممكن بين عالمي الفلسفتين مبررا على نحو جيد. ولا داعي للقول إن مثل هذه الملاحظات ليست خاطئة فحسب، ولكنها - كما أرى - متعصبة فكريا، وتعمل ببساطة على استمرار الأفكار النمطية الثقافية الضارة. (2) الفلسفة القارية: وصف ذاتي أكاديمي وسمة ثقافية
إذن، كيف نفسر هذه الهوة بين الفلسفتين القارية والتحليلية وفلاسفتهما؟ تثير صفة «قارية» - على الأقل بالنسبة إلى القارئ البريطاني - ارتباطات بالاستخدامات الأخرى لها، مثل الإفطار القاري أو ما كانت والدتي تدعوه «لحاف قاري»؛ وهذا يعني أنه مصطلح جغرافي أو «اسم مكاني» يشير إلى شيء يحدث في مكان معين، وهو أوروبا القارية. والصفة تكشف عن تمييز بين القاري وما هو غير قاري؛ أي تمييز، من وجهة نظر البريطاني، غالبا ما يخاطر بتوطيد اختلاف بين البريطاني والقاري؛ حيث يعرف هذا الأخير على أنه أجنبي وغريب ودخيل، ويعرف الأول على أنه غير أجنبي ووطني ومألوف. على هذا النحو، فإن مفهوم «قاري» يشير إلى المسائل التي تبدو مستعصية على الحل ومزعجة إلى حد ما، والخاصة بالجغرافيا السياسية، والتي تتمثل تحديدا فيما إذا كانت بريطانيا هي المنفصلة عن أوروبا القارية أم العكس (تذكر العنوان الرئيسي السيئ السمعة الذي ظهر بإحدى الصحف : «ضباب على القناة الإنجليزية، وانعزال عن أوروبا القارية»).
شكل 3-1: لوحة لبيتر بول روبنس (1577-1640)، بعنوان «الفلاسفة الأربعة».
أرغب الآن في تقديم ادعاءين حول المعنى التاريخي للفلسفة القارية؛ أولهما هو أنه «وصف ذاتي أكاديمي» على نحو أساسي؛ أي إنه وسيلة ينظم بها الفلاسفة وأقسام الفلسفة أبحاثهم ومحاضراتهم، ويشيرون من خلالها لانتماءاتهم الفكرية. وبهذا المعنى، الفلسفة القارية هي سمة لإضفاء الطابع الأكاديمي على الفلسفة. وبهذا المعنى المحدد، مفهوم الفلسفة القارية هو مفهوم حديث. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع بشأن الأصل الدقيق لمفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي، فإنه لم يظهر كتوصيف للدورات الدراسية الجامعية وتلك الخاصة بالدراسات العليا في الفلسفة قبل سبعينيات القرن العشرين. ومن الواضح أن هذا حدث في الولايات المتحدة الأمريكية قبل بريطانيا؛ حيث قدمت أول دورات دراسية في مرحلة الدراسات العليا في الفلسفة القارية في جامعة إسكس وجامعة وريك في أوائل ثمانينيات القرن العشرين. في السياق الأمريكي، وإلى حد أقل في بريطانيا، حل مصطلح «الفلسفة القارية» محل المصطلحات الأقدم «الفنومينولوجيا» أو «الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية». وحفظت هذه المصطلحات في أسماء الجمعيات الأكاديمية المرتبطة على نحو وثيق بالفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية؛ «جمعية الفنومينولوجيا والفلسفة الوجودية» التي تأسست في عام 1962، و«الجمعية البريطانية للفنومينولوجيا» التي تأسست في عام 1967. إذن، يبدو أنه في فترة ما بعد الحرب كانت الفلسفة القارية مرادفة على نطاق واسع للفنومينولوجيا (في رداء وجودي في كثير من الأحيان)، وهي الحقيقة التي تنعكس أيضا من خلال بعض عناوين الكتب الأمريكية التقديمية من ستينيات القرن العشرين: «دعوة للفنومينولوجيا» (1965)، و«الفنومينولوجيا في أمريكا» (1967). وربما يدلل على ذلك أن العنوان الأخير خضع لمحاكاة وتغيير في عام 1983 بظهور كتاب آخر حول نفس الموضوع ولكن بعنوان «الفلسفة القارية في أمريكا». والسبب في أن حل مصطلح «الفلسفة القارية» محل مصطلح «الفنومينولوجيا» ليس واضحا تماما، ولكن يبدو أنه قدم للأخذ في الاعتبار الحركات الفكرية الفرنكوفونية ما بعد البنيوية العديدة، التي كانت مختلفة على نحو كبير عن الفنومينولوجيا وغالبا ما كانت معارضة لها؛ إلى حد أقل في أعمال جاك لاكان ودريدا وجان فرانسوا ليوتار، وإلى حد أكبر في أعمال جيل دولوز وميشيل فوكو.
ويمكن ملاحظة هذا التقسيم الموجود في الواقع بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية في ظواهر ثانوية فلسفية متنوعة، مثل توصيف الوظائف الذي يطلب «متخصصين في الفلسفة القارية»، وقوائم أعمال الناشرين التي تخصص عادة في الجزء الأخير منها صفحات خاصة للفلسفة القارية. وكما يؤكد جون سيرل برضى، توجد هيمنة أكاديمية شبه كاملة للفلسفة التحليلية في العالم الناطق بالإنجليزية؛ حيث تشعر أنواع الفلسفة غير التحليلية - مثل الفنومينولوجيا - بأنه من الضروري تحديد موقفها فيما يتعلق بهذه الهيمنة. ومع ذلك، على الرغم من هذه الهيمنة التي لا شك فيها، توجد جامعات في المملكة المتحدة وأيرلندا وكندا وأستراليا تتخصص في الفلسفة القارية، وغيرها الكثير في الولايات المتحدة الأمريكية، معظمها من الجامعات الكاثوليكية، مع وجود بعض الاستثناءات البارزة. في أقسام وكليات الفلسفة، حيث تكون الفلسفة التحليلية هي المهيمنة، غالبا ما توجد دورة دراسية أو ورقة بحثية حول «الفلسفة الأوروبية الحديثة»، أو «فلسفة ما بعد كانط»، أو «الفنومينولوجيا والوجودية»، وهي الدورات التي كثيرا ما تبدأ استجابة لرغبة الطلاب، والتي عادة ما تكون كبيرة جدا في هذا المجال. وأيضا، يمكن القول إن تأثير الفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية، ولا سيما في نسخها الفرنكوفونية الأحدث، أقوى بكثير خارج أقسام الفلسفة من داخلها؛ حيث إنها أثرت على نحو حاسم في العديد من الابتكارات النظرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية: في النظرية الأدبية، والتاريخ، والنظرية الفنية، والنظرية السياسية والاجتماعية، والدراسات الثقافية، وعلم التأريخ، والدراسات الدينية، والأنثروبولوجيا، فضلا عن المناقشات في مجالات الفنون الجميلة والهندسة المعمارية والنسوية، والتحليل النفسي. وعموما، يتم الترحيب بأفكار الفلسفة القارية في العالم الناطق بالإنجليزية - على نحو معبر وملحوظ - خارج أقسام الفلسفة.
ومع ذلك، إذا كانت هذه هي نهاية القصة، فإن المناقشات حول الفلسفة القارية ستكون ذات أهمية عامة قليلة، مثل الخلافات الأكاديمية الأخرى في العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ولشرح الانفعال الشديد المستمر الذي يسود النزاعات المحيطة بالفلسفة القارية التي ظهرت في رفض كوينتن وصدمة باطاي، فإنه لا بد من تقديم ادعاء ثان؛ وهذا الادعاء بالتحديد هو أن مفهوم الفلسفة القارية كوصف ذاتي أكاديمي أكثر إثارة للخلاف والإزعاج؛ لأنه يحجب معنى «ثقافيا» أقدم، ويعود إلى الجدل حول علاقة بريطانيا والعالم الناطق بالإنجليزية بأوروبا القارية، وهو الجدل المتقد بشدة في السياسة البريطانية المعاصرة على سبيل المثال. وبهذا المعنى، فإن المسائل المتعلقة بتحديد هوية تقليد فلسفي ما، تصبح واقعة على نحو خطير في شرك التحيزات الأيديولوجية للجغرافيا السياسية الظاهرة في مفاهيم غامضة ومضللة، مثل: «التجريبية البريطانية»، و«العقلانية الفرنسية»، و«الميتافيزيقا الألمانية»، وما إلى ذلك. (3) حالة جون ستيوارت مل المثيرة للاهتمام
Unknown page
التاريخ الفكري للعلاقة الفلسفية بين بريطانيا وأوروبا القارية يعود على الأقل إلى أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر؛ حيث ظهور الفلسفة في شكل مكتوب باللغات المحلية الوطنية مثل الفرنسية والإنجليزية وليس اللغة اللاتينية. ومن المعالم التاريخية ذات الصلة في هذا الإطار نشر مؤلف مونتين «المقالات» بالفرنسية في عام 1580، وكتاب فرانسيس بيكون «تقدم المعرفة» بالإنجليزية في عام 1605. لكن البعد الرئيسي الذي يفسر ظهور شيء يمكن للمرء تعريفه بأنه «الفلسفة القارية»، يبدأ في اعتقادي بعد ذلك بفترة طويلة، مع استقبال فلسفة كانط والمثالية والرومانسية الألمانية في إنجلترا في السنوات التي تلت قيام الثورة الفرنسية. وتتمثل الشخصية الرئيسة في هذا الإطار في الشاعر صامويل تيلور كولريدج وفهمه المؤثر - وإن كان غريبا وشاذا - للمثالية والرومانسية الألمانية. ومن المهم جدا في هذا الصدد أيضا اثنتان من المقالات الطويلة، كتبهما جون ستيوارت مل حول جيرمي بنثام وكولريدج، وظهرتا في دورية «لندن آند ويستمنستر ريفيو» في عامي 1832 و1840 على التوالي. وفيما يتعلق بالتأثيرات الفلسفية الألمانية على كولريدج، يتحدث مل عن «فلاسفة الفلسفة القارية» و«الفلسفة القارية»، كما يتحدث أيضا عن «المذهب الألماني الكولريدجي» و«الفلسفة الفرنسية». يكتب مل في بداية مقالته عن كولريدج قائلا:
من يستطع فهم المقدمات المنطقية لفكر كولريدج وبنثام والجمع بين منهجيهما، فسوف يستوعب الفلسفة الإنجليزية بأكملها في عصرهما. اعتاد كولريدج قول إن كل شخص يولد إما أفلاطونيا وإما أرسطيا؛ وربما يمكن التأكيد على نحو مماثل بأن كل إنجليزي في وقتنا الحاضر يكون ضمنيا إما بنثاميا وإما كولريدجيا؛ أي يحمل آراء حيال الشئون الإنسانية، والتي يمكن إثبات صحتها فقط من خلال مبادئ بنثام أو تلك الخاصة بكولريدج.
الفكرة المثيرة للاهتمام هنا هي أن الجمع بين بنثام وكولريدج يمنح المرء الفلسفة الإنجليزية الكاملة لعصرهما. يرجع هذان الاتجاهان إلى سؤالين: إذ يعتقد مل أن بنثام يطرح السؤال التالي بشأن أي مذهب قديم أو رأي سائد: «هل هو صحيح؟» في حين يطرح كولريدج السؤال التالي: «ما معناه؟» إذن، «الفلسفة القارية» معنية بالمعنى، في حين أن مذهب بنثام المقابل لها معني بالصحة. ومن حيث المخطط المذكور في الفصل الأول، إذا كان بنثام معنيا بمسألة المعرفة، فإن كولريدج معني بمسألة الحكمة.
بطبيعة الحال، من المغري للغاية تحليل ما يقوله مل هنا نفسيا؛ لأنه في شتاء عام 1826-1827، عندما كان في سن العشرين، عانى من «أزمة نفسية» شديدة. فسأل مل نفسه - مثل الكثير من الشباب - ما إذا كان سيصبح سعيدا إذا تحققت كل أهدافه في الحياة، واضطر للإجابة بأنه لن يكون سعيدا. إن نفعية التعليم غير العادي الذي خضع له مل أنتجت معرفة ولكنها لم تكن كافية للحكمة، فضلا عن السعادة بالطبع. تغلب مل جزئيا على اكتئابه من خلال قراءة قصائد وردزوورث قائلا في هذا الصدد: «يبدو أني تعلمت منها ما سيكون المصادر الدائمة للسعادة.» تعلم مل - بحسب قوله - أنه «ليس شجرة أو حجرا»، وأدى ذلك لمعارضته لحكم بنثام بأن «الشعر ليس أفضل من لعبة الدبابيس». وحكم مل أنه كان أفضل بكثير من لعبة الدبابيس، وانغمس في قراءة أعمال أتباع كولريدج، وأسلافهم الألمانيين، مثل جوته، الذي أعجب مل ب «تعدد جوانبه»، واللغوي والفيلسوف الإنسانوي فيلهلم فون همبولت. وعندما سئل من قبل المؤرخ توماس كارليل عما إذا كان قد غير نظرته للأمور تماما، أجاب مل مشيرا إلى المنطق الذي ربي عليه: «أنا أومن بالنظارات.» ولكنه أضاف: «ولكني أومن أن العيون ضرورية أيضا.»
شكل 3-2: رسم كاريكاتيري لجون ستيوارت مل (1806-1873).
بالعودة إلى مقالتي مل، بنثام هو «المدمر» العظيم، أو «بلغة فلاسفة التقليد القاري: هو المفكر «النقدي» العظيم في عصره وبلده». وهو يباشر هذا النقد المدمر باستخدام طرق التحليل المنطقي والحس التجريبي السليم للسعي وراء حقيقة «الأمور العملية». بالنسبة إلى مل، بنثام هو امتداد عملي التفكير لشك هيوم نقل على وجه الخصوص إلى نطاقي القانون والحكم. وما يستحق بنثام الثناء عليه هو أنه استخدم هذه المواهب الناقدة بروح المصلح الاجتماعي من أجل تحسين الصالح العام. من ناحية أخرى، لم يكن كولريدج مهتما بالسعي وراء حقيقة الأشياء، ولكن بالسعي وراء معناها. على هذا النحو، ليس هذا المنهج مدمرا للمذاهب والتقاليد الفلسفية السائدة، وإنما يقدم إعادة بناء تأويلية لمعنى هذه المذاهب والتقاليد. بمصطلحات معاصرة، وبالتفكير في أعمال كوينتن سكنر المهمة، فإنه يمكن للمرء أن يطلق عليها منهجا «سياقيا» لتناول الأمور؛ بمعنى أنه إذا أردنا أن «نفهم» معنى ممارسة أو حدث معين أو بالطبع نص في الواقع، فإن علينا تحديد نشأته التاريخية ووضعه في إطار شبكة الحياة الاجتماعية والسياسية المعقدة؛ وبهذا المعنى - وربما على نحو مفاجئ - فإن «الفلسفة القارية الكولريدجية» هي المحافظة على التقليد والعدو الكبير للثورات الاجتماعية، في حين أن فلسفة بنثام هي المدمرة للتقليد وصديقة التغيير والتقدم الاجتماعيين. والمرء معتاد على التفكير في التمييز بين هذين التقليدين أو الاتجاهين على عكس ذلك؛ حيث تكون الفلسفة التحليلية محافظة ومنغلقة فيما يشبه غرفة استراحة الأساتذة الجامعيين الذين يرتدون ملابس تقليدية، والفلسفة القارية هي المقابل غير التقليدي للحذق العصري. وسوف نحظى على نحو مثير للاهتمام بفرصة تناول تقسيم سياسي مقابل في الصراع بين كارناب وهايدجر؛ حيث الأول إصلاحي وتقدمي، في حين أن الثاني - في أسوأ أحواله - رجعي ومحافظ.
ويمكننا عرض مخطط لبعض التقابلات المستقاة من مقالتي مل على النحو التالي:
بنثام
كولريدج
الحقيقة
Unknown page
المعنى
التدمير النقدي
إعادة البناء التأويلية
التغيير الاجتماعي والإصلاح
المحافظة الاجتماعية
التقدم
التقليد (فلسفة تحليلية) (فلسفة قارية)
بالنظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فإن التمييز بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية ليس تمييزا جغرافيا بين مكانين مختلفين، مثل بريطانيا وأوروبا القارية، بل هو اختلاف داخلي بالنسبة إلى ما يمكن تسميته ب «العقل الفلسفي الإنجليزي». بعبارة أخرى، هو اختلاف يرتبط بثقافة معينة؛ ثقافة من ثم منقسمة داخليا ومذهبية بالكامل. ويعبر مل عن هذه النقطة ببراعة، مقارنا الصراع الفلسفي بالتعصب الديني بقوله:
روح الفلسفة في إنجلترا - مثل تلك الخاصة بالدين - لا تزال مذهبية على نحو شديد؛ فالمفكرون المحافظون والليبراليون، وأنصار الفلسفة المتعالية والمعجبون بهوبز ولوك، يرى بعضهم بعضا خارج حدود ملة الخطاب الفلسفي، وينظر بعضهم إلى أفكار بعض باعتبارها فاسدة من جراء خطيئة أولى؛ مما يجعل دراستها برمتها - إلا لأغراض الهجوم عليها - غير مجدية، إن لم تكن ضارة.
على الرغم من أن هذا مكتوب منذ أكثر من مائة وخمسين سنة، فإنه ربما يكون وصفا جيدا للطريقة التي يرى بها كثير من الفلاسفة أعداءهم في المجال من الجانب الآخر للهوة - أو الرواق بين الأقسام - التي تفصل بينهم. وتخاطر الفلسفة الأكاديمية بأن تكون مذهبية مثل الصراع الديني الذي يدرس فيه المرء عدوه فحسب من أجل التحضير للهجوم عليه. ولكن دعنا لا نطيل النظر في هذه التفاصيل السيئة.
Unknown page
ما الذي يمكن القيام به حيال ذلك إذن؟ يقدم مل الاقتراح التالي المثير للاهتمام:
من بين الحقائق التي أدركها فلاسفة التقليد القاري منذ فترة طويلة، ولكن لم يتوصل إليها من الفلاسفة الإنجليز سوى عدد قليل جدا حتى الآن؛ حقيقة أهمية أساليب تفكير المعارضة، في الحالة الناقصة الحالية التي عليها العلوم النفسية والاجتماعية؛ والتي هي ضرورية لكل منها في التفكير، مثل الضوابط والتوازنات بين سلطات الدولة في أي دستور سياسي. وفي الواقع، الإدراك الواضح لهذه الضرورة هو الأساس المنطقي أو الثابت الوحيد للتسامح الفلسفي ...
ويمضي مضيفا أن الخطر الكبير في الأمور الفلسفية:
لا يتعلق بالاعتقاد بالباطل بدلا من الحقيقة، بقدر تعلقه بسوء فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة بالكامل. وقد يكون من المعقول القول إنه تقريبا في كل جدال من الجدالات الرئيسية، في الماضي أو الحاضر، في الفلسفة الاجتماعية، كان كلا الجانبين محقين فيما أكداه، على الرغم من أنهما مخطئان فيما أنكراه، وإنه لو بذل أحدهما بعض الجهد لتبني وجهة نظر الآخر بالإضافة إلى وجهة نظره، لكان سيحتاج للقليل من العمل حتى يثبت صحة مذهبه.
يمكن التقاط عدد من الخيوط من هذه الفقرة؛ بداية، ثمة حقيقة شائعة فيما يتعلق ب «الفلسفة القارية»؛ وهي الحاجة لأساليب تفكير معارضة؛ وهذا يعني أن الحقيقة لا يمكن العثور عليها في أي جزء من الكل، ولكن من خلال تأمل الكل على ما هو عليه. وعلى الرغم من أن مل لم يأت على ذكر هيجل، فإن هذه فكرة هيجلية خالصة؛ قريبة من مفهوم «الجدل» عند هيجل. يقول هيجل في تمهيد كتابه «فنومينولوجيا الروح»: «الحقيقي هو الكل.» وهذا يعني أنه إذا أراد المرء الوصول للحكمة والمعرفة الحقيقية في الأمور الفلسفية (ما يسميه هيجل «المعرفة المطلقة»)، فلا بد أن يستعرض المجموعة الكبيرة المتنوعة من الأطروحات والمواقف التي تشكل تاريخ وحاضر الفلسفة حيث يعبر كل منها عن حبة من حبات الحقيقة. ويسبب اختيار حبة واحدة من هذه الكومة خطر عدم الحصول على رغيف الخبز المغذي، الذي يمكن للمرء خبزه من كمية الحبوب الكاملة.
يقارن مل الحاجة لمثل هذه المعارضة أو الجدل بالضوابط والتوازنات التي تشكل جزءا أساسيا من النظام الليبرالي والديمقراطي للحكم. أحد المبررات لوجود نظام حزبي تنافسي في الحكم هو أنه من واجب المعارضة أن تتحقق باستمرار من سياسات وتشريعات الحزب المشكل للحكومة، والعكس صحيح عندما تعكس الأدوار. من وجهة نظر مل المتفائلة، الخطأ في الفلسفة هو سوء فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة بأكملها، أو كما يشير هيجل، وضع الخوف من الخطأ في مكانة أعلى من الرغبة في الحقيقة. بهذا المعنى، لا يتمحور الأمر حول مسألة البت فيما إذا كان بنثام أم كولريدج هو المحق، ولكن يتمحور حول رؤية كلا الاتجاهين الفلسفيين بمنزلة تعبير متحد عن حقيقة أكبر - وهي أن البشر مهتمون بمسألتي المعرفة والحكمة على حد سواء - وأن الأمر يتطلب النظارة للنظر من خلالها، والعينين للرؤية بهما. تتطلب الفلسفة التدمير النقدي والمنطقي وإعادة البناء التأويلية المتأنية؛ بمعنى أن الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية نصفان لكل ثقافي أكبر، ولن تتحقق الحقيقة في الأمور الفلسفية من خلال التأكيد على جانب واحد وإنكار الآخر، ولكن كما يقول مل من خلال: «تبني وجهة نظر الآخر بالإضافة إلى وجهة نظره.» (4) ثقافتان في الفلسفة
ذكرت باختصار ادعاءين تاريخيين حول الفلسفة القارية؛ إنها وصف ذاتي أكاديمي وسمة ثقافية. وباعتبارها وصفا ذاتيا، فإن الفلسفة القارية شر لا بد منه - ولكن ربما عابر - ناتج عن إضفاء الطابع الأكاديمي على المجال. وكسمة ثقافية، تعود الفلسفة القارية على الأقل إلى عصر مل، وما يمكن تعلمه من آرائه هو أن الفصل بين التقاليد الفلسفية هو تعبير عن صراع (وعلاوة على ذلك صراع مذهبي) داخلي لدى «الإنجليزية» وليس تقسيما جغرافيا بين العالم الناطق بالإنجليزية وأوروبا القارية. وعلى هذا النحو، فإن الهوة بين الفلسفة التحليلية والقارية هي تعبير عن انقسام ثقافي عميق بين عادات فكر مختلفة ومتعارضة؛ دعنا نسمها البنثامية في مقابل الكولريدجية، أو التجريبية-العلمية في مقابل التأويلية-الرومانسية. النقطة الأعمق التي يود مل التأكيد عليها، هي أن حقيقة الأمور الفلسفية والثقافية، أيا ما قد تكون، لا يمكن العثور عليها عن طريق اختيار أحد الجانبين؛ ومن ثم سوء فهم جزء على أنه الكل. بل الحقيقة - بكلمات هيجل - هي كل، والكل يجب فهمه في سياق حركته المنهجية وتطوره التاريخي. وآمل أن يسهم هذا الكتاب في اتجاه هذا الفهم.
في اعتقادي أن كثيرا من العداء والشك الذي يبديه فلاسفة التقليد التحليلي تجاه الفلسفة القارية، يحدث بسبب خلط هذين الادعاءين - الأكاديمي والثقافي - على نحو ضار وتبني أحد الجانبين. ولكن هذا العداء ليس دائما من جانب واحد؛ فبالإضافة إلى البهيمية البنثامية لبعض فلاسفة التقليد التحليلي، يمكن أيضا أن يقال إنه ينشأ من الجنون الكولريدجي لبعض فلاسفة التقليد القاري، عندما فشلوا في فهم أحوال موقعهم الثقافي والتحدث بلغة أهلهم؛ على سبيل المثال: يعد هايدجر ودريدا من الفلاسفة العظام، ولكن لا يوجد سبب على الإطلاق للكتابة مثلهما باللغة الإنجليزية. وكانت النتيجة تقليدا محرجا للآخرين في أحسن الأحوال، وكلاما غير مفهوم في أسوأ الأحوال. ما ينبغي على فلاسفة التقليد القاري فهمه إذن هو «إنجليزية» الفلسفة القارية. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع أن أخوض في هذا هنا، فإني أعتقد أنه يمكن تقديم ملاحظات مماثلة عن «أمريكية» أو «أسترالية» أو «كندية» الفلسفة القارية - على سبيل المثال - في العالم الناطق بالإنجليزية.
بعبارة أخرى، يوجد نوعان من الثقافات في الفلسفة، ولن يتغير في الفلسفة، أو في الواقع في الثقافة، سوى القليل، حتى يتم النظر في هذا الوضع على نحو ملائم. وبعد ما يقرب من مائة وعشرين عاما على نشر مقال مل حول كولريدج، في 7 مايو عام 1959، ألقى سي بي سنو محاضرة ريدي الشهيرة في جامعة كامبريدج، وفيها حلل فقدان الثقافة المشتركة وظهور ثقافتين مختلفتين: تلك التي يمثلها العلماء من جهة، وتلك التي يمثلها من سماهم سنو ب «المفكرين الأدبيين» من جهة أخرى. فإذا كان العلماء يؤيدون الإصلاح الاجتماعي والتقدم من خلال العلم والتكنولوجيا والصناعة، فإن المفكرين هم من سماهم سنو «اللوديين الطبيعيين» في فهمهم للمجتمع الصناعي المتقدم وتعاطفهم معه. وبعبارة مل، فإن التقسيم يقع بين البنثاميين والكولريدجيين. وفي كتاب «الثقافتان: نظرة ثانية» (1963)، الذي كتبه سنو بعد سنوات من الجدل الشديد في بعض الأحيان، الذي سببته محاضرته التي ألقاها في عام 1959، قدم الملخص التالي لحجته الرئيسية بأسلوبه النثري المقتصد البارع:
في مجتمعنا (أي المجتمع الغربي المتقدم) فقدنا حتى التظاهر بوجود ثقافة مشتركة؛ فالأشخاص المتعلمون الذين نعرف أنهم تلقوا تعليما مكثفا للغاية، لم يعودوا قادرين على التواصل بعضهم مع بعض على مستوى اهتماماتهم الفكرية الرئيسية. وهذا أمر خطير بالنسبة إلى حياتنا الإبداعية والفكرية، وحياتنا الطبيعية قبل كل شيء. وذلك يقودنا إلى تفسير الماضي على نحو خاطئ، وسوء الحكم على الحاضر، والحرمان من آمالنا للمستقبل. وهذا يجعل من الصعب أو من المستحيل بالنسبة إلينا اتخاذ الخطوات المناسبة.
Unknown page
قدمت المثال الأبرز على افتقاد التواصل هذا في صورة مجموعتين من الأشخاص تمثلان ما سميته «الثقافتين». تتضمن إحدى هاتين المجموعتين العلماء، الذين لا حاجة بنا إلى التأكيد على قيمتهم وإنجازاتهم وتأثيرهم؛ وتتضمن الأخرى المفكرين الأدبيين. وأنا لم أقصد أن هؤلاء المفكرين بمنزلة صناع القرار الرئيسيين في العالم الغربي، وإنما قصدت أنهم يعبرون عن حالة الثقافة غير العلمية، وإلى حد ما يشكلونها ويتنبئون بها؛ فهم لا يصنعون القرارات، ولكن كلامهم يتسرب إلى أذهان من يقومون بذلك. وبين هاتين المجموعتين - العلماء والمفكرين - يوجد تواصل ضئيل، وشيء من العداء، بدلا من التشارك في بعض الاهتمامات.
كان القصد من هذا وصفا للحالة الراهنة للأمور، أو تقريبا أوليا بسيطا جدا لها. وهذا وضع كرهته بشدة، وأعتقد أنه وضح على نحو ملائم.
التشابه هنا مع ملاحظات مل واضح، لا سيما العداء الذي يشعر به ممثلو كلتا الثقافتين بعضهم تجاه بعض. وكما هي الحال مع مل، فإنه من المغري إخضاع جهود سنو للتحليل النفسي. حصل سنو على شهادته الجامعية في الكيمياء بتفوق عام 1927، وفي عام 1928 بدأ العمل للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة كامبريدج، وذلك في مختبر كافنديش الشهير على مستوى العالم الذي كان يرأسه اللورد رذرفورد. ووصل النجاح إلى أن أصبح عالما بحثيا متميزا، وأصبح في عام 1964 الرجل الثاني في وزارة التكنولوجيا المنشأة حديثا على يد هارولد ويلسون. ومع ذلك، كان لديه دائما شغف بالأدب، وفي عام 1932، نشر قصة بوليسية بعنوان «موت تحت الشراع»، تبعتها سلسلة «غرباء وإخوة» التي وصل عدد رواياتها إلى ما لا يقل عن إحدى عشرة، حظيت بشعبية كبيرة؛ ومن ثم، وبطرق عديدة، كان تعبيره عن أزمة الثقافتين يمثل صرخة استغاثة من القلب. ومع ذلك، كما هي الحال مع مل، كانت تلك الأزمة أيضا جزءا من مرض ثقافي أكبر.
تعرض سنو لهجوم شرس على شخصه من قبل الناقد الأدبي والثقافي الأبرز في عصره إف آر ليفيس، الذي هاجم «قدرة سنو على الإقناع الزائف المتعدد الجوانب» ونقص الفهم الأدبي لديه. وتجاهل سنو على نحو صحيح تلك المحاولات النخبوية لتجاهل المشكلة، ولكن من الواضح أن ما تكشف عن مناقشات سنو وليفيس كان هو الصراع الذي أصبح الآن معروفا بين بنثام وكولريدج، صراع النفعية في مقابل الرومانسية. في الواقع، هذا اشتباك مألوف في التاريخ الثقافي الإنجليزي. وكمثال أخير، تاريخيا، ثمة خلاف بين تي إتش هكسلي وماثيو أرنولد في الفترة ما بين مل وسنو. باختصار، أيد هكسلي في محاضرة في عام 1880 ألقاها في برمنجهام - التي كانت تعد حينها المحور الصناعي لبريطانيا - التعليم العلمي في مقابل التعليم التقليدي السائد الذي كان يسيطر على الجامعات حينها. ورد أرنولد في محاضرة ريدي في عام 1882 في جامعة كامبريدج بعنوان «الأدب والعلم»، بالزعم بأن الأدب والعلم يمكن دمجهما في فهم أوسع وجرماني أكثر للعلم باعتباره المعرفة بمعناها الواسع. وعلى الرغم من كونه ردا بناء، فإن المقصد الحقيقي يظهر في معارضة أرنولد الراسخة لتنقيح الفكر الجامعي التقليدي؛ ومن ثم فإن نفس القصة تستمر، ومما لا شك فيه أنه ستظهر صور أخرى أكثر معاصرة منها.
ومن ثم، فإن اقتراحي هو أن علينا فهم التقسيم الحالي للفلسفة في ضوء نموذج الثقافتين؛ حيث إن الصراع بين قطبي هذا العداء يشكل ما نراه كثقافة. وعلى هذا النحو، من غير المرجح مطلقا أن يختفي أي من هذين القطبين أو كلاهما. وكما يقول مل، توجد حقيقة في هذا العداء عرفها «فلاسفة التقليد القاري» لبعض الوقت. وأفضل ما يمكن أن نأمله هو أن يقتنع طرفا هذا العداء على الأقل بوجهة النظر القائلة بأن وجود الطرف الآخر أمر مشروع، وأنه ربما يوجد شيء لديه يمكن مناقشته، وفي أحسن الأحوال، التعلم منه.
العلاج الذي قدمه سنو للتعامل مع هذا التقسيم الفلسفي والثقافي بسيط جدا، ويمكن تلخيصه في كلمة واحدة: «التعليم». ومن وجهة نظري، إنه لا يزال محقا. وقد أدى هذا التشخيص الثقافي الذي قدمه سنو - على نحو مباشر إلى حد ما - إلى ظهور تقرير روبنز حول التعليم العالي في عام 1963، وإلى تأسيس عدد من «الجامعات الجديدة»: ساسكس، ووريك، ويورك، وكيل، وكينت، وإيست أنجليا، وجامعتي التي ارتدتها إسكس. وكان الهدف الضمني لهذه الجامعات هو معالجة مشكلة الثقافتين بالإصرار على حصول الطلاب على تعليم شامل؛ حيث ينبغي على علماء العلوم الطبيعية دراسة موضوعات من العلوم الإنسانية والاجتماعية، والعكس صحيح. ومن الحقائق المحزنة أنه نتيجة للهجوم على الجامعات الذي شنته حكومة تاتشر في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، تخلت هذه المؤسسات عن هذه المهمة إلى حد كبير، واحتل مكانها طلسم «تعدد التخصصات» المبهم.
وأخيرا، ربما نتأمل حجة ستيفن تولمين في كتاب «المدينة العالمية»؛ حيث يقول بجرأة إن هناك ثقافتين لأن هناك بدايتين للحداثة؛ إحداهما إنسانية، والأخرى عقلانية. إذا كان اسم ديكارت يرتبط عادة بهذه الأخيرة، فإن رأي تولمين هو أن الحداثة العلمية التي تبدأ في العقود الأولى من القرن السابع عشر تحجب - بل تشوه أيضا - الحداثة الإنسانية التي يمكن تتبع أصلها إلى التشكك الإنساني العملي التفكير لمؤلف «المقالات» لمونتين، الذي ظهر في عام 1580. بالنسبة إلى تولمين، كان هناك مسار مزدوج غير محدد للحداثة - بجانبيه الإنساني والعلمي - أدى إلى انهيار أو تفكك وحدة النظرية والتطبيق، أو الحقيقة والمعنى، أو المعرفة والحكمة. ويتمثل اقتراح تولمين المتفائل (مفرط التفاؤل في رأيي، ولكنه مثير للإعجاب مع ذلك) في أننا بحاجة إلى أنسنة الحداثة، وللقيام بذلك نحتاج إلى بعث الفلسفة العملية من جديد. ويعيد تنشيط كتابات فيتجنشتاين اللاحقة التشكك الإنساني لمونتين ويجدد الدافع العملي للتفلسف. يقول تولمين في هذا الصدد:
إذا كانت الثقافتان لا تزالان منفصلتين، فإن هذا ليس سمة خاصة ببريطانيا القرن العشرين وحدها؛ فهي تذكير بأنه كان للحداثة نقطتا انطلاق مختلفتين؛ واحدة إنسانية متأصلة في الأدب الكلاسيكي، وأخرى علمية متأصلة في الفلسفة الطبيعية في القرن السابع عشر.
ما لم يوضح حتى الآن هو السبب في عدم رؤية أن هذين التقليدين من البداية متكاملان، وليسا متنافسين. مهما كان المكتسب من جهود جاليليو وديكارت ونيوتن في الفلسفة الطبيعية، فإن شيئا ما فقد أيضا من خلال التخلي عن إرازموس ورابليه، وشكسبير ومونتين.
الفصل الرابع
Unknown page
هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
لا شيء يبدو لي عتيق الطراز أكثر من المثل التحرري الكلاسيكي.
جاك دريدا
بعد أن قدمت في الفصلين السابقين نوعا من السرد التاريخي للفلسفة القارية، دعني الآن أحاول تقديم سرد أكثر منهجية للاختلافات بينها وبين الفلسفة التحليلية. وسوف يأخذنا هذا لاستعراض الدور المهم للتقليد والتاريخ وما يسمى ب «التاريخانية». وسأنهي الفصل باقتراح نموذج معين للممارسة الفلسفية يدور حول ثلاثة مصطلحات: «النقد» و«الممارسة» و«التحرر». وستبدأ هذه المجموعة من المفاهيم - كما آمل - في شرح السبب في كون جانب كبير من الفلسفة في التقليد القاري يهتم بتقديم نقد فلسفي للممارسات الاجتماعية للعالم المعاصر، الذي يطمح نحو فكرة التحرر الفردي أو المجتمعي. بعبارة أخرى، يطلب جزء كبير من الفلسفة القارية منا أن ننظر إلى العالم على نحو ناقد بقصد تحديد نوع من التحول، سواء أكان شخصيا أم جماعيا. وفي رأيي، هذه هي مجموعة الافتراضات التي تعمل في الخلفية التي تربط الفلاسفة الكلاسيكيين مثل هيجل ونيتشه، مع ورثتهم المعاصرين من أمثال يورجن هابرماس وفوكو ودريدا. (1) شخصيات أم مشكلات؟
يعد ريتشارد رورتي واحدا من عدد قليل من الفلاسفة الناطقين بالإنجليزية، الذين حاولوا على نحو مستمر ومستميت إنهاء التقسيم بين الفلسفة التحليلية والقارية، من خلال العمل في كلا المعسكرين. ولذلك اتهم وعلى نحو غير مبرر من قبل كلا الجانبين أنه يفهم الأمور على نحو خاطئ. وقد مال رورتي لإرجاع أصل كل من التقليدين التحليلي والقاري إلى البراجماتية الأمريكية لجون ديوي. ويشير رورتي إلى أن الفارق بين التقليدين يتمثل على نحو أساسي في حقيقة أن الفلسفة التحليلية تتعامل مع مشاكل، في حين أن الفلسفة القارية تتعامل مع شخصيات. يبدو أن هذا بنحو أو بآخر صحيح لدرجة أن الفلسفة القارية عادة ما تمثل من قبل أشخاص مثلي على هيئة تسلسل زمني لشخصيات تبدأ بكانط، بدلا من النهج القائم على المشاكل الذي يميل المرء إلى ربطه بالفلسفة التحليلية. ولكن يجب على المرء أن يكون حذرا هنا؛ لأن معيار رورتي للتفرقة بين الفلسفتين يمكن أن يقال إنه نوع من التعميم الذي يؤكد الفكرة النمطية السخيفة، بأن الفلسفة القارية غير مهتمة إلى حد ما بالمشاكل والمحاججة الخاصة بها.
ومع ذلك تعكس ملاحظة رورتي شيئا مثيرا للاهتمام؛ فالكتب والأبحاث والمناقشات حول الفلسفة القارية المعاصرة - سواء أكانت في أوروبا القارية أم العالم الناطق بالإنجليزية - لديها ميل للتركيز على نصوص فيلسوف رئيسي معين، أو تقديم دراسة مقارنة لنصوص اثنين أو أكثر من الفلاسفة. وهكذا، بدلا من كتابة بحث بعنوان «مفهوم الحقيقة»، ربما يكتب المرء بحثا حول «مفهوم الحقيقة عند هوسرل وهايدجر»؛ وبدلا من كتابة بحث حول «النقد الجماعاتي لليبرالية»، يمكن للمرء أن يكتب عن «علاقة نقد هيجل لكانط بالنظرية السياسية المعاصرة»؛ وبدلا من الكتابة عن «حدود النظرية الأخلاقية»، يمكن للمرء أن يكتب عن «العودة الدائمة لنقد نيتشه الجينيالوجي للأخلاق»؛ وبدلا من الكتابة عن «مشكلة الهوية الشخصية»، ربما يكتب المرء حول «مفهوم الذات من كانط إلى دريدا»؛ وهكذا.
ومن الإنصاف أن نقول إن هذه الممارسة في كثير من الأحيان تربك وتغضب الفلاسفة الذين تدربوا على التقليد التحليلي، الذين يصرون على أن فلاسفة التقليد القاري يقدمون تعليقات فحسب ولا يقدمون فكرا جديدا؛ أي إنهم يقدمون فقط «تفسيرا للنصوص» ذا طابع فرنسي، وليس محاججة فلسفية دقيقة. ويرى كثيرون أن هناك ميلا كبيرا جدا نحو التعليق على حساب الأصالة في الفلسفة القارية المعاصرة في العالم الناطق بالإنجليزية. ولكن ما ينقص مثل هذه الانتقادات (ومعيار رورتي)، هو تحديد معالم ممارسة مختلفة للفلسفة بإدراك مختلف تماما لأهمية الترجمة والتعليق والتأويل والتقليد والتأريخ للبحث الفلسفي المعاصر. ليس الأمر أن الفلسفة في التقليد القاري رافضة للتعامل مع المشاكل؛ بل على العكس من ذلك؛ غالبا ما تتناول المشاكل «من الناحية النصية والسياقية»؛ ومن ثم تتطلب أسلوبا مختلفا للتعامل معها، النوع الذي قد يبدو غير مباشر على نحو أكبر. (2) النصوص والسياقات
ستانلي كافيل هو فيلسوف أمريكي كبير آخر رفض على نحو دائم السماح بتصنيف أعماله تحت النهج التحليلي أو القاري في التفكير. مع ذلك، وعلى النقيض من رورتي، يرى كافيل أن أصول كلتا الفلسفتين تعود إلى تقليد الفلسفة المتعالية الأمريكية المهمل فلسفيا، الذي يعبر عنه على نحو واضح في أعمال رالف والدو إيمرسون وهنري ديفيد ثورو. وكتب كافيل في بداية أعظم أعماله «زعم العقل» (1979) يقول: «كنت أرغب في فهم الفلسفة كمجموعة من النصوص وليس كمجموعة من المشكلات.» ومع ذلك، أعتقد أن هذا يوضح المقصد بقوة كبيرة. وأرى، بدلا من ذلك، أن مختلف التقاليد الفكرية التي شكلت الفلسفة القارية المعاصرة تشكل كوكبة محددة، على الرغم من أنها متغيرة باستمرار من النصوص، سيسطع فيها نجم بعض النصوص على نحو أكبر لفترة من الوقت ثم يخبو، لينجذب انتباهنا إلى ضوء نصوص أخرى. سوف يسطع نجم بعض هذه النصوص مثل النجوم العملاقة الحمراء لتغطي على كل شيء آخر في مجالها، في حين أن البعض الآخر سوف يخبو مثل الثقوب السوداء ويفشل في إصدار أي ضوء. وكما نعلم جميعا، فإن الطريقة التي تبدو عليها السماء ليلا تتحدد عن طريق مكاننا في العالم، وشدة بريق بعض النصوص سوف تعتمد على السياق الذي ينظر إليها من خلاله، وعوامل محتملة أخرى مثل كمية التلوث الفكري في المناخ الثقافي.
ولاختيار صورة واقعية أكثر، نقول إن نصوص التقليد القاري تشكل نوعا من الأرشيف الوثائقي للمشاكل الفلسفية، مع وجود علاقة واضحة بينها وبين سياقها وسياقنا، وهي تتميز بوعي قوي بالتاريخ. وسوف نستخدم مصادر مختلفة من هذا الأرشيف في أوقات مختلفة، اعتمادا على طبيعة المشاكل التي تواجهنا، والتي نسعى إلى إيجاد حلول لها. ولكن ما يميز العديد من النصوص في هذا الأرشيف هو أنها - على غرار أعمال هيجل، وماركس، ونيتشه - تتميز بوعي ذاتي تاريخي قوي لن يسمح بقراءتها دون الإشارة إلى سياقها أو سياقنا. وهذا النهج التاريخي هو النهج الذي اتبعته في الفصلين الثاني والثالث؛ حيث سعيت لتحديد الإشكالية الفلسفية لفكر ما بعد كانط، عن طريق توضيح التاريخ النصي والسياقي لتلك الفترة في العالم الناطق بالألمانية، والظروف التي وصل فيها هذا الفكر إلى العالم الناطق بالإنجليزية. لا يتمتع هذا النهج فحسب بالميزة الكبيرة المتمثلة في تقديم تاريخ الفلسفة في صورة جيدة للقراءة تجعل المرء راغبا في معرفة المزيد عنها، ولكنها تلمح أيضا إلى أن النقاش الفلسفي المنهجي لا يمكن فصله عن الظروف النصية والسياقية لنشأته التاريخية.
اسمح لي أن أقدم أربعة أمثلة حديثة على ذلك: (1)
Unknown page
كان الاهتمام بكتاب كانط «نقد ملكة الحكم» في ثمانينيات القرن العشرين، وعلى وجه التحديد الاهتمام بمناقشة مفهوم التعالي؛ سببا ونتيجة للمشاكل التي طرحها خلاف الحداثة/ما بعد الحداثة. وعلى هذا النحو، اعتمدت النقاشات الحادة في كثير من الأحيان بشأن ما إذا كانت الحداثة انتهت (وهو موقف جان-فرانسوا ليوتار) أو ببساطة غير مكتملة (وهو موقف هابرماس)؛ على كيفية قراءة المرء لكانط وأي أعماله يختار أن ينصب تركيزه عليها. ولحسن الحظ أصبح هذا الخلاف مبتذلا إلى حد كبير، وتخطته المناقشات. (2)
عندما كنت طالبا جامعيا في تخصص الفلسفة خلال أوائل ثمانينيات القرن العشرين، كان شيلينج اسما لم نسمع به أو سمعناه فقط مرتبطا بنقد هيجل المبكر لعمله. ونشأت زيادة الاهتمام الحديثة بأعمال شيلينج من المشاكل الفلسفية الملموسة في الاستقبال الأنجلو أمريكي للفكر «ما بعد البنيوي» الفرنسي. وأصبح من الواضح أن شكل المحاججة لدى مفكر مثل دريدا، يحمل أوجه تشابه ملفتة للنظر لذلك الخاص بشيلينج، وإذا كانت هذه هي الحال، فربما لم تكن «التفكيكية» طليعية جدا كما كان متصورا سابقا. (3)
يعتبر إيمانويل ليفيناس في الوقت الراهن عموما واحدا من أعظم الفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين. مع ذلك، لاقت أعماله تجاهلا على نحو كبير في فرنسا حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين. ويبدو أن الفيض الحالي للأعمال حول فلسفة ليفيناس كان نتيجة مباشرة للمعلومات الجديدة التي تم الكشف عنها في شتاء عام 1986-1987 حول مدى تورط هايدجر المخزي مع النازية؛ لذلك، ينشأ الاهتمام بأعمال ليفيناس في سياق ضيق الأفق الأخلاقي والسياسي لتفكير هايدجر، وضمنيا التفكير الذي استلهم من هايدجر، لا سيما تفكيكية دريدا. (4)
بالاستثناء الواضح للعمل الرائد لتشارلز تيلور، كان هيجل حتى وقت قريب بعض الشيء شخصية مغمورة نوعا ما في الفكر الفلسفي الأنجلو أمريكي. والتجدد الحالي للاهتمام بأعمال هيجل ناتج عن المناقشات في الفلسفة الأنجلو أمريكية المعاصرة في أعمال جون ماكدويل وروبرت براندوم وغيرهما، حول قصور الفلسفة الطبيعية والحاجة إلى إيجاد وسيلة لمواءمة الطبيعة مع الحرية أو العقل.
يمكن تقديم أمثلة أخرى من هذا النوع؛ حيث تعمل الفلسفة القارية كنوع من الأرشيف النصي الكبير لمشكلات فلسفية محددة السياق؛ فأية مشكلة فلسفية معاصرة مهمة سوف تؤدي بالمرء إلى استدعاء نص ومجموعة من المفاهيم من هذا الأرشيف. وطريقة مضي المرء قدما من الناحية الفلسفية تكون بالنظر إلى الماضي بطريقة جديدة.
بعبارة أخرى، بالنسبة إلى الفلسفة القارية، فإن المشاكل الفلسفية لا تسقط من السماء جاهزة، ولا يمكن التعامل معها كعناصر في خيال لا تاريخي من «الفلسفة الدائمة». وقراءة المرء لنص فلسفي كلاسيكي من هذا التقليد لا تأخذ شكل نقاش على العشاء في الجامعة، بقدر ما تكون في صورة اجتماع مع شخص غريب من أرض بعيدة بدأ المرء للتو فهم لغته، وبصعوبة. أتذكر - بحرج شديد - تقديم بحث إلى بعض الفلاسفة في إحدى الجامعات البريطانية الكبرى بعد بداية مسيرتي الأكاديمية بقليل، وعلى العشاء، وبعد تحمل حديثي الطويل حول تغير معنى مفهوم الذات من أرسطو إلى ديكارت إلى هايدجر إلى دريدا، سئلت: «لماذا لا يمكنني قراءة أعمال ديكارت كما لو كنت أتناول العشاء معه، تماما مثلما أتناول العشاء معك؟» أجبت بأن ديكارت توفي قبل 350 عاما، بعد أن رأى رأي العين الفوضى الشديدة التي نتجت عن حرب الثلاثين عاما، وأنه كتب باللاتينية والفرنسية، وأنه استخدم أجناسا أدبية معينة مثل مقال السيرة الذاتية (في عمله «مقال عن المنهج»)، والممارسة الروحية (في عمله «تأملات في الفلسفة الأولى»)؛ ولذلك، استنتجت أنه لا يمكن للمرء أن يطلع ببساطة على كل تلك العوامل ليقرر ما إذا كانت حججه صحيحة أم لا. ولا حاجة بي إلى قول إنني فشلت في إقناع محدثي وغيره من الضيوف على العشاء، ولكن المشهد مع ذلك مفيد في توضيح وجود اختلافات بيننا في النهج الفلسفي.
وهذا يعني أن المشاكل الفلسفية - نصيا وسياقيا - «متجذرة»، وفي الوقت نفسه «منفصلة». وهذا المزيج من التجذر والانفصال ربما هو ما يفسر السبب في أن المشاكل التي تبدو هامشية، الخاصة بالترجمة واللغة والقراءة وفهم النص والتفسير وتأويل التاريخ، لها هذه الأهمية الكبيرة في التقليد القاري. بطبيعة الحال، هذا غالبا ما يترك المرء معرضا للتهمة الغريبة بأنه يسلك مسلكا «أدبيا» بدلا من المسلك «الفلسفي»، كما لو كانت افتراضات الفيلسوف لها علاقة شفافة ودون وساطة بالتجربة؛ وهي الرغبة التي يبدو أنها تقوم على ما سماه ويلفريد سيلرز «وهم المعرفة الموهوبة»، وهي فكرة أن المعرفة الفلسفية تقوم على نحو واضح وصريح على الأمور التي نكون على دراية بها على نحو مباشر أو تكون «مباشرة أمام العقل». (3) التقليد والتاريخ
وهكذا، وعلى الرغم من أن الاعتماد في التفرقة بين التقليد التحليلي والقاري على اختلاف سطحي يتمثل في اعتماد الأول على المشكلات والثاني على الشخصيات، لا يعد كافيا؛ فهو يؤدي إلى أسئلة أعمق حول التقليد والتاريخ، وأهمية هذا الأخير بالنسبة إلى التقليد القاري. ربما أسهل وسيلة وأكثرها إيجازا لتحديد الفارق بين الفلسفتين تكون من حيث ما تراه كل منهما على أنه شكل تقليدها الفلسفي والفلاسفة الذين يمثلون هذا التقليد؛ وهذا يعني أن ما يهم هو التقليد الذي «يشعر» الفيلسوف بالانتماء إليه، مع معرفة من الذي يعتبر سلفا أو مرجعا له (وربما الأهم من ذلك، معرفة من الذي لا يعتبر كذلك؛ وفي بعض الأحيان دون معرفة السبب). وهكذا، في حين أن فيلسوف التقليد التحليلي ربما يرى فريجه وراسل وجي إي مور باعتبارهم مرجعيات له، فإن فيلسوف التقليد القاري ربما يرى هيجل وهوسرل وهايدجر كذلك. وبهذا المعنى، يمكن التفرقة بين الفلسفة التحليلية والقارية من خلال أسلافهما، مثل بورتريهات وصور العائلة القديمة؛ حيث يمكن للمرء اكتشاف التشابه بين الوجوه القديمة الموجودة بتلك الصور وورثتهم في الوقت الحاضر.
ولكن التفرقة بهذه الطريقة لا تدخل إلى صميم المسألة حقا؛ لأن ما هو مثير في الفلسفة التحليلية - من منظور الفلسفة القارية - هو أنها حتى وقت قريب جدا لم تكن لديها وعي ذاتي بتقليدها على نحو غريب. وبدأ هذا في التغير، وقدمت أعمال مهمة حول أصول الفلسفة التحليلية، سواء فيما يتعلق بجذورها الألمانية لدى فريجه، كما رأينا بالفعل في حالة دوميت، أم فيما يتعلق بنقد راسل للمثالية البريطانية. ويمكن النظر إلى ظهور الفلسفة التحليلية في العقود الأولى من القرن العشرين على أنه يسير بالتوازي مع حركات حداثية أكبر في الشعر والفنون الجميلة والهندسة المعمارية. وبوضع هذا في الاعتبار، فإنه ربما ليس من قبيل المفاجأة أن فيتجنشتاين لم يكن فحسب مؤلف كتاب «رسالة منطقية فلسفية»، ولكنه صمم أيضا وبنى منزلا بأقل الأساليب الحداثية تكلفة لأخته في فيينا.
ثمة عرض مهم آخر في «التأريخ» الحديث للفلسفة التحليلية يتمثل في أن السيرة الذاتية أصبحت مادة للاهتمام الفلسفي المشروع والفضول الثقافي الكبير. والمثال هنا مرة أخرى هو فيتجنشتاين في كتاب راي مونك الرائع «لودفيج فيتجنشتاين: واجب العبقري» (1990)، وفي فيلم ديريك جرمان الأقل روعة: «فيتجنشتاين» (1993). وقد تعزز هذا التحول نحو السير الذاتية في عام 1996 بالسيرة الذاتية لبرتراند راسل التي كتبها مونك، والسير الذاتية الناجحة الحديثة التي كتبها أشعيا برلين وإيه جيه آير. وعلى الجانب القاري، تعد السيرة الذاتية الفكرية لهايدجر من تأليف روديجر زافرانسكي جديرة بالذكر. وتكمن جاذبية السيرة الذاتية في أن إنتاج الفيلسوف الفكري يمكن النظر إليه باعتباره تعبيرا عن توجه وجودي معين. وعلى هذا النحو - وهذا هو أهم عوامل جاذبية فكر فيتجنشتاين - يمكن النظر إلى الفلسفة على أنها متجسدة في صورة أسلوب حياة. وهكذا، فإن تأييد أو مناصرة وجهات نظر فيلسوف معين قد تؤدي إلى محاكاة أو محاولة مضاهاة معينة لتلك الحياة، ويرى المرء كل هذا طوال الوقت على المستوى الأكاديمي؛ حيث لن يدافع طلاب فيلسوف شهير ذي كاريزما عن مذهبه فحسب، ولكنهم أيضا سيقلدون إشارات يديه، وتردده في الكلام، والمشكلات التي يعاني منها في الحديث، وحتى تدخينه، وشربه للخمور، وعاداته الجنسية. وليست كلمة التلمذة كلمة قوية بما يكفي للدلالة على ما يجري هنا. ولكن هذا ليس بالفكرة الجديدة؛ حيث إن السيرة الذاتية كانت أداة رئيسة في التعليم الفلسفي في العالم القديم؛ وهي تتضح بمثال سقراط، وكذلك أيضا في مختلف المدارس الهلينستية اللاحقة، مثل الرواقية والأبيقورية؛ ففي السيرة الذاتية، تندمج الفلسفة مع أسلوب للحياة. (4) التاريخانية والتحرر
Unknown page