204

Fajr Damir

فجر الضمير

Genres

بمقدار علو السماء وعرض الأرض وعمق البحر.

على أنه توجد أنشودة لأوزير من نفس ذلك العصر، يخاطب فيها بما يأتي:

أنت أب الناس وأمهم

وهم يعيشون من نفسك.

وفي كل ذلك نجد روح التضرع الإنساني، التي سبق أن ظهرت كما ذكرنا آنفا، إبان التعليم الاجتماعي في العهد الإقطاعي المصري، فإن تفضيل المستضعف على المستكبر المتجبر، والأمر السائد والمعرفة ، وهي صفات مقصورة على الملكية والإلهية، قد عثرنا عليها كلها من قبل في تلك المقالات الاجتماعية لأمثال «إبور»، بل أيضا في الوثائق الحكومية مثل الوثيقة الخاصة بنصيب الوزير الأكبر في الأسرة الثانية عشرة من ملوك المصريين القدماء، وكذلك القول بأن الإله هو الأب والأم لمخلوقاته يرجع بالطبع إلى ما كان عليه الاعتقاد في مذهب «آتون».

ومع أن أمثال تلك الأناشيد لا تزال كذلك تحتفظ في ثناياها بالعقيدة العالمية، والتغاضي عن فكرة القومية، وبالنظر الواسع البعيد المرمى، مما كان شأنه بارزا في تعاليم «إخناتون»، فإنها بالرغم من ذلك تكشف لنا عن ثقة فردية بطيبة الإله، فهي بذلك برهان هام على ظهور الوجدان الشخصي، وتكشف لنا عن بداية عصر جديد ساد فيه التدين الانفرادي الذاتي.

وعندما نمضي في إنعام النظر في المعتقدات البسيطة الخالية من تعقيدات رجال الدين في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر؛ أي في القرنين اللذين أعقبا عصر «إخناتون»، نجد أن ثقة المتعبد في عناية إله الشمس بكل المخلوقات حتى بأقل مخلوقاته قد تطورت إلى روح تعبدية وشعور فياض بالاتصال الذاتي بالإله، مما ظهرت بوادره من قبل في قول «إخناتون» لإلهه: «وإلى الآن فإنك ما زلت في قلبي.»

وعلى ذلك نجد أن التأثير الباقي لمذهب «آتون» وعقائد العدالة الاجتماعية للعهد الإقطاعي، قد بلغ أوجه في أعمق تعبير، عن الروح الدينية الخالصة، وصل إليه رجال مصر. ويضاف إلى ذلك أن هذه المعتقدات، ذات العلاقة الوثيقة الشخصية بين المتعبد وإلهه، بالرغم من تأصلها أولا في تعاليم فئة قليلة محصورة، قد صارت آنئذ بمرور القرون، ومع التطور التدرجي البطيء، منتشرة انتشارا واسعا بين طبقات الشعب، وكانت النتيجة انبثاق فجر عصر التقوى الانفرادية والإلهام الباطني الذي يناجي به المرء ربه.

والواقع أنه تطور هام، وأنه كالكثير من الانقلابات التي تعقبناها في هذا الكتاب، يعد أقدم تطور رأيناه من نوعه في تاريخ الشرق القديم، وبالنسبة لهذا الموضوع بالذات، في تاريخ البشرية جميعا.

وفي مقدورنا أن نتعقبه في «طيبة» وحدها، ولا يخفى ما في ذلك من الإمتاع الشائق، ما دام في مقدورنا أن نتعرف ما كان يجول في نفوس عامة الشعب الذين كانوا يملئون الطرقات والأسواق، والذين حرثوا الحقول وزرعوها ونهضوا بالصناعات، والذين أمسكوا بدفاتر الحسابات وقاموا بأعمال السجلات الرسمية، والذين قطعوا الأخشاب ورفعوا المياه، وغيرهم من الرجال والنساء الذين وقع على كواهلهم عبء الحياة المادية العظيم في تلك الحاضرة الشاسعة للدولة المصرية القديمة في خلال القرنين الثالث عشر والثاني عشر ق.م.

Unknown page