206

Fahm Fahm

فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر

Genres

كان لهرمنيوطيقا ريكور الارتيابية تأثير بعيد يتجاوز الحدود المباشرة لدينامية «القارئ/النص»، ويتجلى هذا التأثير في اللاهوت التحرري بمختلف ألوانه (عند الزنوج وعند المذهب النسائي وفي أمريكا اللاتينية، وبخاصة عند جوان سيجندو بالأوراجواي الذي أقام لاهوته التحرري على هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور)، لم تكن حركة سيجندو موجهة لتأسيس «نسق» لاهوتي، وإن كان ذلك محتما، بقدر ما كان اهتمامه منصبا على تأسيس «منهج» لاهوتي، فإذا كان منهج المرء اللاهوتي باطلا فإن بنيته اللاهوتية الفوقية القائمة على المنهج ستكون أيضا باطلة لا محالة، ويذهب سيجندو إلى أن المنهج اللاهوتي هو صنيعة الأيديولوجيا، ومن هنا انجذابه للهرمنيوطيقا التي تتناول الأيديولوجيا بطريقة ارتيابية أي نقدية، هكذا برزت أهمية الأدوات التحليلية للارتياب، والمصممة لنبذ العادي والمبتذل والمذاهب الهروبية التسكينية والتفسيرات الزائفة، وقد أعمل سيجندو المقولات الفرويدية عن التحول النفسي المرتكزة على هرمنيوطيقا فضح الزيف وكشف الأقنعة والتي ترمي إلى جعل الفرد يقبل الواقع ولا يهرب منه، أي يدرك أن الأشياء ليست كما تبدو في الظاهر، فأسس «مبدأ الواقع»

Reality Principle

الخاص به، يقتضي ذلك قدرا من التواضع يسمح بفك شفرة المعنى الخفي وراء معنى ظاهر عندما يجري تأويل أيديولوجيا المجتمع (النص) على نحو ارتيابي.

في ضوء هذا التحليل يعاد تأويل جميع المقولات اللاهوتية، من قبيل الخطيئة والإيمان والنعمة والكنيسة والآخرة، تأويلا متسقا مع مبدأ كشف الأقنعة وفضح الزيف المتأصل في الأطر الأيديولوجية التقليدية التي تعمل على الإبقاء على الأوضاع الظالمة واستغلال الفقراء وقمعهم، وتدعيم هذه الأوضاع، يقول سيجندو: إن عقيدة «خطيئة العالم»، تلك العقيدة الباعثة على الاغتراب، هي أيديولوجيا، ويترتب على ذلك أن «التحرر يعني إذن أن نختار أن نمارس ارتيابا أيديولوجيا لكي نكشف اللثام عن البنى الأيديولوجية اللاشعورية التي تدعم الطغيان وتخدم مصالح أقلية متسلطة متمتعة بكل الامتيازات»، إن اللاهوت التحرري يهيب بهرمنيوطيقا الارتياب لأنه يرى أن لاهوتيي أوروبا وأمريكا الشمالية قد تأثروا في تأويلهم للكتاب المقدس بالعقلية الرأسمالية تأثرا زائدا.

هكذا تتجلى مرة أخرى مزايا هرمنيوطيقا الارتياب عند ريكور، وعيوبها أيضا، وتعبر عن نفسها في هذه المنطقة من الخطاب اللاهوتي، لا شك في وجاهة استبصارات اللاهوت التحرري وسدادها فيما يتصل بفعل الأيديولوجيا، ونزوع أي أيديولوجيا إلى الإبقاء، دون نظر، على الوضع الراهن والمحافظة على مصالح المستفيدين من الوضع، ها هنا تضطلع هرمنيوطيقا الارتياب بدور كبير في كشف التأويلات الزائفة أو المحرفة للمجتمع أو النص، سواء كان الارتياب موجها إلى نقد الأيديولوجيا بشكل مباشر أو نقدها بشكل غير مباشر من خلال الشك في نصوص الإنجيل التي درجنا على فهمها داخل قضبان أيديولوجية ثابتة دون تفطن ودون نقد.

ولكن لسوء الحظ فإن اللاهوتيين التحررين إذ يفشلون في تأسيس نقد مشروع في حدود رسالة الإنجيل نفسها، عن وعي ودراية، فإنهم يقعون ضحية أيديولوجيا غير إنجيلية (ذات لون ماركسي في الغالب!) وينتهي بهم المطاف إلى مجرد استبدال أيديولوجيا بأخرى! هكذا يتجمد هذا المنظور الجديد، وتلقي ظلال الشك على أي تأويل يتفق أنه يناقض تأويل المرء فيما يتعلق برسالة الإنجيل. إن ما نحتاج إليه حقا هو هرمنيوطيقا ارتياب وارتياب في هذا الارتياب أيضا! ذلك أن بميسور أي قارئ/مؤول أن يستبدل فهما للنص قائما على نقد ارتيابي بفهم آخر، خاطئ بنفس الدرجة، أقحمه على النص قارئ يجلب إلى النص، ربما دون أن يدري، مصالحه الخاصة وتحيزاته وفهمه اللاهوتي المسبق.

ولتجنب التأويل المبتسر والخاطئ هناك عاملان يجب أن يكونا في حالة نشاط دائم؛ أولا: اتخاذ موقف ارتياب موصول، ارتياب في الارتياب، و«انفتاح » مستمر على طريقة ريكور، ثانيا: وبنفس الدرجة من الأهمية، الحركة الصحيحة تجاه تحديد رسالة النص الإنجيلي، هنا نجد أن هرمنيوطيقا ريكور تتخبط ولا تسعفنا بشيء؛ وذلك بسبب اعتقاده الخاطئ بأن النص والمؤلف ينفصلان فور الكتابة، وأن قصد المؤلف من ثم لا يمكن، حتى من حيث المبدأ، الوصول إليه، الأمر الذي أدى إلى التماس المعنى في عالم يتفتح «أمام النص».

تحت هذه الظروف التأويلية لا فكاك من الوقوع في النسبية والذاتية اللتين تفتحان المجال للقارئ أن يملي على النص ما يريده، ويفرض على النص المعنى الذي يحبذه، وهكذا ينتهي الأمر بهرمنيوطيقا الارتياب، التي جهدت لكي تخلق توازنا بين «التفسير» و«الفهم» أو بين العلم والفن، إلى أن تسقط لا محالة في جانب الفن، والانفتاح الأبدي واللاحسم الذي يميز الفن، إن هرمنيوطيقا الارتياب هي بحاجة ماسة إلى أن تكملها وتوازنها هرمنيوطيقا أخرى تدرك أن النصوص المكتوبة تمثل تعبيرات صحيحة عن مقصد مؤلفها، وأن بالإمكان وضع مبادئ ترشد القارئ إلى هذا المقصد، وعلى الهرمنيوطيقا كعلم وفن معا أن تكون أكثر من دائرة تأويلية أبدية لا تنتهي، وأن تسعى نحو الانغلاق الذي ينتهي به مسار اللولب، لا شك أن هرمنيوطيقا الارتياب تسهم بنصيب في هذا المسار، بيد أنها غير قادرة بمفردها على إتمام هذه المهمة.

تذييل

محاورة أيون

Unknown page