145

Fahm Fahm

فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر

Genres

من المطلقات، وما من موضوع للمعرفة إلا هو مشمول باللغة وواقع داخل أفق اللغة، ولنا أن نسمي هذه الحقيقة «الصبغة اللغوية لخبرة الإنسان بالعالم».

من شأن هذا التصور أن يوسع الأفق الذي نرى فيه الخبرة التأويلية توسيعا هائلا، فالذي نفهمه من خلال اللغة ليس مجرد خبرة معينة بل العالم الذي تتكشف داخله هذه الخبرة، إن قدرة اللغة على الكشف تتخطى حتى الزمان والمكان، وبإمكان نص قديم من أناس ذهبوا منذ عهد بعيد أن يحيي العالم اللغوي «بين الشخصي» الذي كان موجودا بين أولئك القوم بدقة مذهلة ويجعله حاضرا أمامنا، هكذا تتحلى عوالمنا اللغوية الخاصة بعالمية معينة تكمن في هذه القدرة على فهم موروثات أخرى وأماكن أخرى، يقول جادامر: «إن عالمنا اللغوي الخاص، هذا العالم الذي نعيش فيه، ليس بالسياج الضيق الذي يعوق معرفة الأشياء كما هي، بل هو على العكس عالم رحب يحيط بكل شيء يمكن لبصيرتنا أن تمده وترفعه، من المؤكد أن كل تراث يرى العالم بطريقة مختلفة عن غيره، وأن العوالم التاريخية على مر التاريخ قد اختلفت عن بعضها البعض وعن عالمنا اليوم، غير أن العالم، في الوقت نفسه، هو دائما عالم إنساني، وهذا يعني أنه عالم من خلق اللغة، عالم ممثل في موروث أيا ما كان هذا الموروث.»

19

تتمتع اللغة بقدرة على القول تسمح لها أن تخلق العالم الذي يمكن لكل شيء أن يتكشف فيه، وتتمتع اللغة بشمول وإحاطة تسمح لنا أن نفهم مختلف العوالم التي تمثلت في اللغة مهما تباينت وتنوعت، وتتمتع اللغة بقوة كشف تسمح حتى للنص القصير نسبيا أن يفتح عالما مختلفا عن عالمنا، غير أن بإمكاننا أن نفهمه. (3-4) الصبغة اللغوية والخبرة التأويلية

الخبرة التأويلية، كما لاحظنا، هي لقاء بين موروث في هيئة نص منقول عبر الزمن وبين أفق المفسر، وتقدم الصبغة اللغوية الأرض المشتركة التي يتقابلان فيها وعليها، واللغة هي الوسط الذي يختبئ فيه التراث وينتقل عبر الزمن. الخبرة ليست شيئا ما يأتي سابقا على اللغة، بل الخبرة نفسها تحدث في اللغة وخلال اللغة، الصبغة اللغوية هي شيء يغمر الإنسان التاريخي ويتخلل طريقته في الوجود في العالم، والإنسان كما لاحظنا لديه «عالم» ويعيش في عالم؛ وذلك بسبب اللغة وبفضل اللغة.

ومثلما «ينتمي» الإنسان إلى جماعة معينة فإنه ينتمي إلى زمن ومكان معينين في التاريخ، وينتمي إلى بلد معين، والمرء لا يقول إن الجماعة تنتمي إليه أو إن التاريخ من الممتلكات الشخصية لذاتيته، ولا هو بأية حال يتحكم في بلده بقدر ما يتحكم بلده في حياته وينظمها، إنه ينتمي إلى هذه الأشياء ولا تنتمي هي إليه، إنه يشارك «فيها»، بنفس الطريقة وبنفس القياس نحن ننتمي إلى اللغة والتاريخ، نشارك فيهما، نحن لا نسيطر على اللغة بقدر ما نتعلمها ونذعن لمقتضياتها، وقوة اللغة على تنظيم فكرنا وتطويعه لا تعود إلى تصلب في اللغة أو قصور بل إلى الموقف وإلى الحالة التي توصلها. الموقف إذن ومقتضى الحال هو ما ينبغي أن نمتثل له ونكيف تفكيرنا وفقه، اللغة ليست سجنا بل هي فضاء مفتوح في الوجود يسمح بالتوسع اللانهائي بحسب انفتاح المرء على التراث.

لظاهرة الانتماء هذه أهمية كبرى للخبرة التأويلية، فهي تتيح الالتقاء بموروث المرء في النص، فبفضل انتمائنا للغة وانتماء النص إليها في الوقت نفسه يغدو انبثاق أفق مشترك أمرا ممكنا، وانبثاق (أو بزوغ) أفق مشترك هو ما يسميه جادامر «التحام الآفاق» كما يحدث للوعي التاريخي الحق، هكذا يتبين أن الصبغة اللغوية هي الأساس الذي يقوم عليه الوعي التاريخي الحق، فالانتماء للغة والمشاركة فيها بوصفها الوسط الخاص بخبرتنا بالعالم (بل السبب الذي يتيح لنا أن يكون لدينا عالم، فضاء مفتوح يمكن لوجود الأشياء أن يتجلى فيه) هما الأساس الحقيقي للخبرة التأويلية.

يعني ذلك من الوجهة المنهجية أن المرء لا يسعى إلى أن يكون سيدا على النص بل أن يكون «خادما» له، ولا يحاول أن يلاحظ ويرى ما في النص بقدر ما يتبع ما يقال بواسطة النص ويشارك فيه ويصغي إليه، وهنا يتلاعب جادامر بالعلاقة بين الاستماع والانتساب والخدمة التي توحي بها كلمة

Zugehorigkeit (الانتماء)، يذهب جادامر إلى أن السمع أهم من البصر وأكثر قوة، «فلا شيء يمكن أن يند عن السمع من خلال اللغة.» لماذا كان ذلك؟ لأنه من خلال السمع، من خلال اللغة، يجد المرء منفذا إلى «اللوجوس»، إلى العالم الذي ننتمي إليه. هذا بالتحديد ما يمنح الخبرة التأويلية أهميتها بالنسبة للحياة الحاضرة للمفسر، هذه الموضوعية الخاصة التي تتحلى بها اللغة والتي تجعلها قادرة على كشف اللثام عن الأشياء كما هي، وهذه الأبعاد الأعمق للغة والتي تستمد منها قوتها على كشف الأشياء في وجودها، هي ما يضفي على اللغة تلك العمومية الأنطولوجية التي تجعل الخبرة التأويلية خبرة كشف أنطولوجي مفصح بصورة مباشرة، هذا هو السبب الذي يجعل بمكنة التراث أن يخاطبنا، لا مصادفة ولا بهرجة، بل بطريقة تؤثر علينا مباشرة وتعني شيئا معينا بالنسبة لنا.

20

Unknown page