كان رد ماركس في 27 نوفمبر محددا على نحو مميز؛ إذ لم يذكر مطلقا قوانين الطبيعة فقال: «إن تأكيد دور العامل «التربيعي» عند تحول الطاقة مع تغير شكل القوة الثانية، لهو أمر رائع جدا، وأنا أهنئك عليه» (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الخامس والثلاثون).
استفاض إنجلز في الحديث عن ماركسية سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر في أعمال أخرى تناولت الفلسفة المادية وآراء مادية حول أصل الإنسان ومؤسساته الاجتماعية والسياسية، وفي عام 1886 انتهز فرصة لتوضيح فرضيات «النظرة الماركسية للعالم»، واستفاد من ذلك في إكمال العمل الذي بدأه مع ماركس في كتاب «الأيديولوجية الألمانية». قدم إنجلز مراجعته النقدية المطولة لكتاب «لودفيج فيورباخ» للكاتب كيه إن ستاركي، واصفا إياه بأنه «عرض قصير ومترابط لعلاقتنا بالفلسفة الهيجلية»، و«اعتراف كامل بتأثير فيورباخ - أكثر من أي فيلسوف آخر من الفلاسفة الذين تلوا عصر هيجل - علينا خلال فترة العاصفة والاندفاع.» ولما انتقد إنجلز مخطوطة كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، واصفا إياه بأنه غير صالح للاستخدام لأنه لا يتضمن نقدا لمعتقد فيورباخ نفسه، فضلا عن كونه عرضا غير كامل «للتفسير المادي للتاريخ»؛ لفت الانتباه إلى أطروحات ماركس الإحدى عشرة عن فيورباخ، التي لم تكن قد نشرت في ذلك الوقت؛ تلك الأطروحات التي أضافها فيما بعد (في صورة محررة) على هيئة ملحق بعد ظهور مراجعته النقدية المطولة في كتاب عام 1888 (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وبقيامه بهذا الأمر، أطلق إنجلز أول استقصاء عن أعمال ماركس المبكرة، متتبعا العوامل التي أثرت عليه، لا سيما الفلسفية منها في المقام الأول، وباحثا في الأعمال الأولى لماركس عما يوضح أصول ومعاني أعماله اللاحقة.
بعد أن أوضح إنجلز في كتابه «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية» «الأهمية الحقيقية» للفلسفة الهيجلية - قائلا إنها تكمن في أنها «وجهت للأبد الضربة القاضية لفكرة غائية كل منتجات الفكر والفعل البشريين» - انتقل ليفسر مرة أخرى مقدمة ماركس لكتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» التي يعود تاريخها لعام 1859 (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وكتب ماركس يقول:
في العموم يمكن وصف أنماط الإنتاج الآسيوية والقديمة والإقطاعية والبرجوازية المعاصرة بأنها عصور تسير في اتجاه تقدمي في عملية التكوين الاقتصادي للمجتمع، كما أن علاقات الإنتاج البرجوازية هي آخر الأشكال العدائية لعملية الإنتاج الاجتماعية - وهي ليست عدائية بمعنى العداوة الفردية، بل عداوة نابعة من الظروف الاجتماعية لحياة الأفراد، وفي الوقت نفسه تخلق القوى المنتجة التي تتكون في رحم المجتمع البرجوازي، الظروف المادية لحل تلك العداوة؛ ولذلك فإن هذا التكوين الاجتماعي ، يضع نهاية لعصر ما قبل المجتمع البشري (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
يعبر إنجلز عن ذلك قائلا: «كل الأنظمة التاريخية المتعاقبة ما هي إلا مراحل انتقالية في المسار اللانهائي لتطور المجتمع البشري من الأدنى إلى الأعلى.» وأضاف: «إن كل مرحلة هي مرحلة ضرورية.» ورأى أن «الفلسفة الجدلية ليست سوى انعكاس لهذه العملية في العقل المفكر.» وكان «هذا النوع من التوجه متفقا تماما مع الحالة الحالية للعلوم الطبيعية، التي تنبأت بنهاية ممكنة حتى للأرض.» وعلى الرغم من أنه «بالنسبة إلى التاريخ البشري» وفقا لهذه النظرة الجدلية، «لا يوجد جانب تصاعدي فحسب، بل يوجد جانب تنازلي أيضا»، فلقد كنا لحسن الحظ «على مسافة كبيرة من نقطة التحول.» كان منهج إنجلز يتمثل في البحث عن «حقائق نسبية قابلة للتوصل إليها عن طريق العلوم الوضعية، وجمع نتائجها من خلال التفكير الجدلي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وبعد أن حاول تحديد العلاقة بين التفكير الجدلي والتاريخ والعلوم، تناول إنجلز «القضية الأساسية الكبرى لكل الفلسفة»؛ ألا وهي: «علاقة التفكير والوجود». وفي سعيه لحل هذه المشكلة، حاول التعامل مع العلاقات بين المادة والوعي، والمنهج العلمي والتفسير، وقال في هذا الشأن:
إننا ندرك المفاهيم الموجودة في رأسنا بطريقة مادية كالعادة؛ بوصفها صورا للأشياء الحقيقية بدلا من اعتبار الأشياء الحقيقية صورا لهذه المرحلة أو تلك من المفهوم المطلق. وهكذا أصبح الجدل علما للقوانين العامة للحركة، لكل من العالم الخارجي والفكر البشري؛ مجموعتان من القوانين متطابقتان في الجوهر، لكنهما تختلفان في طريقة التعبير عن كل منهما، لدرجة أن العقل البشري يستطيع تطبيقهما بطريقة واعية، بينما في الطبيعة وأيضا في معظم التاريخ البشري حتى الآن، تؤكد هذه القوانين نفسها بطريقة غير واعية، في شكل الضرورة الخارجية، وسط سلسلة لا نهائية من الحوادث التي تبدو كمصادفات في ظاهر الأمر. وبهذه الطريقة أصبح جدل المفاهيم نفسه مجرد انعكاس واع للحركة الجدلية للعالم الحقيقي؛ وبذلك أصبح الجدل الهيجلي مقلوبا على رأسه، أو بالأحرى استعاض عن رأسه، الذي كان يقف عليه، بقدميه (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
في النسخة الأولى لهذه الاستعارة الشهيرة والغريبة جدا، كتب إنجلز (في نقده الذي يعود لعام 1859) أنه في جدل هيجل «انعكست العلاقة الحقيقية وأصبحت مقلوبة.» وفي عام 1872 أضاف ماركس تعليقاته المقتضبة جدا على منهج كتاب «رأس المال» وعلاقته النقدية والمصححة لمنهج هيجل، ولاحظ ماركس أن «منهجه الجدلي» كان «مناقضا» لمنهج هيجل؛ لأن هيجل يرى «العالم الحقيقي مجرد شكل ظاهري خارجي «للفكرة»»، بينما وجهة نظره كانت العكس؛ أي إن: «المثالية ليست سوى انعكاس العالم المادي في العقل البشري، وترجمته إلى أشكال فكرية.» وعلى الرغم من أن ماركس امتنع عن الاستعانة بنظريات إنجلز القائلة بأن القوانين الجدلية واحدة بالنسبة إلى كل من الطبيعة والتاريخ والفكر، وكذلك وجهة نظر إنجلز القائلة بأن الحركة الجدلية لها انعكاس واع في العقل، فقد علق ماركس قائلا إن الجدل مع هيجل «يقف على رأسه.» وكتب: «يجب أن يصحح وضعه مرة أخرى، إذا أردتم اكتشاف القلب العقلاني داخل القوقعة الصوفية» (رأس المال، المجلد الأول)، أو بالأحرى مثلما زعم إنجلز في السابق أن ماركس «استخرج من المنطق الهيجلي القلب الذي يضم اكتشافات هيجل الحقيقة» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). لقد شكلت استعارات إنجلز بشأن الجدل الهيجلي الخاصة بالقلب والوقوف على الرأس والقلوب والقواقع تحديا حتى لمحاولاته تفسيرها، وقادت ماركس على نحو واضح إلى نطاق غامض من الاستعارات المختلطة.
وفي كتاب «لودفيج فيورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية» برر إنجلز قوانين الحركة العامة، من خلال الاستعانة ب «ثلاثة اكتشافات مهمة» في العلوم الطبيعية؛ وهي: اكتشاف الخلية، مما أدى إلى «قانون عام واحد» لتطور كافة الكائنات والأنواع العليا؛ وتحول الطاقة باعتباره تجسيدا وحفظا «للحركة الكونية»؛ و«دليل» داروين على أن كل المنتجات العضوية، بما فيها الإنسان، كانت نتيجة للتطور. وبالرغم من أن تطور المجتمع اختلف في أمر واحد عن تطور الطبيعة، كما قال إنجلز (لأنه في تطور الطبيعة توجد فقط «عناصر فاعلة غير واعية عمياء»)، فإن العناصر الفاعلة الواعية في المجتمع - التي ربما تكون مهمة في «عصور وأحداث معينة» - أنتجت «وضعا متشابها تماما مع ذلك السائد في نطاق الطبيعة غير الواعية.» وكتب إنجلز أنه في كل من الطبيعة والتاريخ «تتحكم الصدفة» في ظاهر الأمر، لكن كلا من الطبيعة والتاريخ «تحكمهما دائما قوانين داخلية خفية»، ومن خلال هذه المعرفة يمكن كشف مسار التاريخ الحديث في ضوء العلاقات التي زعم أنها علاقات سببية:
على الرغم من أنه في كل الفترات السابقة كادت دراسة الأسباب المحركة للتاريخ تكون مستحيلة - نظرا للتداخلات المعقدة والخفية بين تلك الأسباب ونتائجها - فإن فترتنا الحالية بسطت تلك التداخلات إلى حد كبير جعل حل هذا اللغز ممكنا. منذ بداية الصناعات الواسعة النطاق؛ أي على أقل تقدير منذ معاهدة السلام الأوروبية لعام 1815، لم يعد يخفى على أي شخص في إنجلترا أن النضال السياسي كله في إنجلترا قد أيقظ مزاعم السيادة لدى طبقتين هما: الطبقة الأرستقراطية المالكة للأراضي والطبقة البرجوازية [الطبقة الوسطى] ... وثبت في التاريخ المعاصر على الأقل أن كل النضالات السياسية هي نضالات طبقية، وأن كل النضالات الطبقية من أجل التحرر، رغم الطابع السياسي الذي تتخذه تلك النضالات بالضرورة - لأن كل نضال طبقي هو نضال سياسي - تثير في النهاية مسألة التحرر «الاقتصادي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
Unknown page