Din Insan
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genres
وفي عام 1862م نشر سبنسر كتابه المعروف بالمبادئ الأولى، وفيه أعاد صياغة الفكرة نفسها على الوجه الآتي، فيقول: «كما تثبت السجلات والتقاليد القديمة، فإن الحكام والزعماء الأوائل قد اعتبروا شخصيات إلهية، كما اعتبرت أوامرهم ونواهيهم والأعراف التي استنوها في حياتهم بمثابة شرائع مقدسة فرضها على الناس خلفاؤهم، الذين رفعوا أيضا على المرتبة نفسها، وعبدوا إلى جانب سابقيهم؛ وبذلك تم تشكيل مجمع الآلهة الأولى، بحيث أخذ الزعيم الأقدم دور الإله الأكبر، ومن تلاه دور الآلهة الأدنى.»
5
إن هربرت سبنسر هنا لا يقدم أفكاره حول نشوء الآلهة عن الأسلاف المؤلهين لغرض الإشارة إلى مرحلة في سياق تطور الأفكار الدينية، بل لكي يؤسس لنظريته الأشمل في أصول الدين. وهذه النظرية ترى بأن الدين عند الإنسان قد ابتدأ مع ظهور الآلهة، وأن البشرية قد مرت فعلا بمرحلة مبكرة لم تعرف الدين خلالها أبدا، ثم أخذت الأفكار الدينية تتشكل تدريجيا مع تحول الأسلاف إلى آلهة، فتشكل مجمع الآلهة برئاسة كبيرهم، وتطور مفهوم هذا الإله الأكبر نحو مفهوم الوحدانية في النهاية.
من خلال هذا المفهوم التطوري نفسه، يقوم رائد الأنتروبولوجيا النظرية تيلور بصياغة نظريته في أصل الدين، والمعروفة بالأنيميزم
Animism ؛ أي الأرواحية، نسبة إلى الأرواح، والتي أثرت على أجيال عديدة من الباحثين قبل أن يضعف تأثيرها بعد منقلب القرن العشرين. وقد وصف تيلور نظريته بأنها نظرية الحد الأدنى في تعريف الدين، وشرحها مفصلا في كتابه الشهير: المجتمع البدائي
الصادر عام 1871م.
6
يفترض تيلور بأن أقدم شكل للدين يقوم على الإيمان بوجود الأرواح والأشباح؛ فلقد رفض الإنسان الأول فكرة الموت باعتباره نهاية مطاف الحياة الفردية، واعتقد بأن هذه الحياة سوف تستمر بعد الممات عن طريق استمرار الروح في مستوى آخر للوجود. وقد تكونت لدى الإنسان فكرة انقسام الكائن إلى جسد وروح من خلال مراقبته لظاهرة الأحلام؛ ففي الأحلام يرى النائم أقارب له وأصدقاء قد ماتوا منذ زمن بعيد، وها هي خيالاتهم حية تتحرك وتتحدث إليه، كما أنه يرحل هو أيضا أثناء المنام ليزور مناطق نائية أو يتصل بأشخاص غادروه منذ زمن.
ولقد أوصله تأمله في هذه الأمور إلى الاعتقاد بأنه اثنان في واحد؛ فبينما يستلقي جسده المادي بلا حراك في مضجعه، فإن توءمه الأثيري يرحل بحرية تامة عبر المسافات ليلتقي بالتوائم الأثيرية الأخرى. فإذا زاره صديق حي في المنام، فلأن روح ذلك الصديق قد تركته مؤقتا وقامت بالزيارة؛ وإذا رأى نفسه يزور قريبا مرتحلا في مكان بعيد، فلأن روحه قد غادرت جسده وقامت بتلك الرحلة؛ وإذا اجتمع بالراحلين من الأموات، فلأن أرواحهم التي انفصلت عن أجسامها نهائيا قد أحبت لقاءه. وكانت هذه الخصائص الحركية للروح في اعتقاده ناتجة عن طبيعتها اللطيفة وطاقتها الكبيرة في آن معا ؛ فهي تنسل من فتحة الفم وتتحرك دون قيد في أي اتجاه، وتصل بسرعات خيالية إلى أقصى الأماكن.
تزداد قوة الروح وتكتسب قدرات وطاقات إضافية عند استقلالها عن الجسد والتحاقها نهائيا بعالم الأرواح عقب موت الجسد، وهي إذ تستطيع في حالتها الجديدة أن تسكن في أي موضوع من موضوعات العالم الطبيعي أو الحيوي، فإن سكنها هذا هو فعل اختياري تقوم به بمحض إرادتها، وتستطيع في أي وقت أن تغير مكان سكنها، أو أن تبقى هائمة دون مقر. فإذا اختارت الاستقرار في جسد إنسان حي، فإنها تسبب له شتى أنواع الاضطراب النفسي والعقلي، ولا بد من إقناعها بالخروج منه ليستقيم حال المريض. وبشكل عام، تبقى الأرواح المتحررة متصلة بشكل ما بعالم الأحياء، تقدم لهم العون أو تسبب الأذى، وذلك تبعا لنوع علاقاتها السابقة معهم، أو لكيفية تعاملهم معها بعد الموت، وإلى هذه الأرواح يعزو البدائي، في رأي تيلور، كل خير وكل شر. من هنا نشأت عبادة الأرواح؛ لأن الإنسان قد وجد نفسه تدريجيا في حال اعتماد مطلق عليها وعلى عالمها الذي صاغه بخياله الخصب. فإذا كانت الأرواح سببا للمرض أو الصحة، للحظ العاثر أم للحظ الباهر، للنجاح أو للإخفاق، وما إلى ذلك مما يسير في صالح الأحياء أم في غير صالحهم، فإن من الحكمة استرضاءها وتهدئة خواطرها. من هنا أخذ الإنسان بتقريب القرابين وتقديم الذبائح لأرواح الموتى، ويتوجه إليها بالابتهالات، فظهرت الممارسات التي ندعوها اليوم بالدينية. وبما أن أرواح الأسلاف المتميزين من زعماء وقادة وسحرة، هي أقوى الأرواح وأشدها أثرا، فإن الطقوس قد تركزت حول هذه الأرواح أكثر من غيرها.
Unknown page