Din Insan
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genres
ثالثا:
يبدو أن نثر الأزهار في قبر المتوفى
8
يؤدي معنى البعث الذي يؤديه توجيه رأس الميت نحو المشرق؛ فالأزهار رمز لانبعاث الحياة في الشجر كما هو الشرق رمز لانبعاث الجرمين العظيمين. وقد كان ظهور الأزهار الربيعية بشارة سارة للإنسان النياندرتالي؛ لأنه كان يعتمد في غذائه على جمع ما تجود به الأشجار إضافة إلى حصيلته من لحوم الطرائد.
رابعا:
يبدو أن دماء الحيوانات المذبوحة عند الدفن، كانت في اعتقادهم تطلق طاقة من نوع خاص، تعين التوءم الروحي للمتوفى على عبور البرزخ الفاصل بين العالم المادي والعالم الموازي. ولعل مما يرجح هذا الافتراض أن الإنسان العاقل في الباليوليت الأعلى اللاحق، كان يعتقد بوجود قوة حيوية في الدم، ويقوم بطلاء أجساد المتوفين وجدران قبورهم بمادة حمراء تشبه لون الدم، للإيحاء رمزيا بطاقة الحياة. وربما كان النياندرتاليون يقيمون وليمة جنائزية عند الدفن، يأكلون فيها لحوم حيوانات القربان، ويتركون بعضها للتوءم الذي يستعد لرحلته الطويلة.
خامسا:
استهل النياندرتال عادة الهدايا الجنائزية التي استمرت حتى العهود التاريخية المتأخرة، وقد تألفت هدايا النياندرتال من الأدوات الحجرية، وقطع معينة من عظام الحيوانات. ولما كانت الأدوات قد وجدت في قبور المواليد الجدد، فإن من المستبعد أن تكون لغاية استخدام التوءم الروحي؛ لأن هؤلاء المواليد لم يكونوا قد تعلموا بعد استخدام الأدوات؛ ولذلك نرجح أن يكون لها وظيفة سحرية ورمزية من نوع خاص، ولا نستطيع تكوين فرضية عنها الآن. أما الهدايا الجنائزية المؤلفة من العظام التي يجري توزيعها حول جسد الميت أو يقبض بيده على بعضها، فإنها مختلفة عن عظام الذبيحة، وجرى اختيارها بشكل انتقائي لتحمل قيمة رمزية تشير إلى ما وراءها، فهي على الأغلب مقر لقوة من نوع ما تتصل بالعالم الموازي الذي يرحل إليه الميت. وبشكل خاص فإن قرون الماعز التي زرعت حول هيكل طفل نياندرتالي في أوزبكستان، تردد أصداء بعيدة لطقوس ومعتقدات من العصر النيوليتي اللاحق، تدور حول قرون الماعز أو الثور، والتي اعتبرت رمزا لقوة ما ورائية عظمى ومقرا لها.
لقد استعملت منذ قليل مصطلح «قربان حيواني» لوصف الحيوانات المذبوحة عند الدفن، وهو اصطلاح ينبغي ألا يؤخذ بحرفيته عند وصف أي طقس يتعلق بذبح الحيوانات في العصر الباليوليتي. ففكرة القربان أو الأضحية هي فكرة متأخرة، وطقس الذبائح بمضمونه المعتاد، أي تقديم ذبيحة من أجل استرضاء إله ما، هو طقس متصل بديانات العصور التاريخية بشكل رئيسي، ولا أكاد ألمح له وجودا حتى المراحل المتأخرة من العصر الحجري الحديث (النيوليتي). أما إذا صادفتنا ذبائح طقسية من نوع ما لدى إنسان العصر الباليوليتي ومطالع النيوليتي، فينبغي أن تفسر ضمن السياق الداخلي للمعتقدات والممارسات القديمة، لا استنادا إلى ما نعرفه عن الأديان السائدة اليوم أو أديان العصور التاريخية السالفة. إن مفهوم القربان مرتبط بمفهوم الآلهة المشخصة، أو الكائنات الروحية المقدسة التي صارت إلى ما يشبه الآلهة، مثل أرواح الأسلاف لدى بعض الثقافات. أما عند عتبة الدين هذه، فإن فكرة الإله الذي يعلو على مظاهر الطبيعة ويتحكم فيها باعتباره كيانا روحيا مستقلا، لم تتشكل بعد، ولم يكن الأسلاف المؤلهون قد حازوا تلك المكانة العليا التي سنواجهها لدى الثقافات اللاحقة.
إن ما نواجهه عند هذه المرحلة من عتبة الدين هو قوة قدسية غفلة، تنبعث من عالم ما ورائي مجهول، مواز لعالم المظاهر الطبيعية المحسوسة المتنوعة الذي يعيشه النياندرتالي. وهذه القوة لا تتجسد في أية شخصية روحية ذات كيان معرف ومستقل. فلقد اعتقد الإنسان النياندرتالي، وكما تظهر مخلفات مدافنه، بوجود عالمين متوازيين ومتبادلين في التأثير، يشكلان وحدة متكاملة تضم الوجود بأسره؛ فعالم يراه ويعيشه بحواسه، وعالم لا يراه رغم تأثيره فيه وفعاليته في عالمه. وهو يرحل بين هذين العالمين عبر برزخ الموت، الذي يعبره وفق طقوس خاصة، وجدناها متماثلة إلى حد كبير في كل مكان وجدت فيه آثار النياندرتال. ولسوف أطلق على هذين العالمين، منذ الآن، اسم عالم اللاهوت وعالم الناسوت، وذلك بصرف النظر عن المدلول الدقيق لهذين المصطلحين في الأدبيات الإسلامية. وفي دراستنا المقبلة للمعتقدات الدينية الإنسانية، سوف نرى أنها تنطلق جميعا من التعرف على عالم اللاهوت المفارق من جهة، والمنبث عبر عالم الناسوت من جهة أخرى، وأن النشاط الديني على تعدد أشكاله عبر العصور واختلاف الثقافات ليس إلا إقامة تواصل بين هذين العالمين.
Unknown page