التفت إليه مصعوقا: زينب من؟
أطرق برأسه إلى الأرض: ابنة الشيخ البكري. - يا وقعة سودة! احكي لي. - في البداية لم أكن أراها أو حتى أسمع صوتها. كنت أظل بالحجرة المخصصة لي أسفل مسكن الحريم مباشرة. وتبلغني الوكيلة أوامرها. ثم سمح لي بالصعود إلى الحجرة المجاورة. وصارت تملي علي أوامرها بنفسها عبر باب مفتوح بين الغرفتين. هكذا سمعت صوتها. - رأيتها؟ - لم تكن تخرج إلا لماما. وفي هذه الحالة ترتدي السبلة الواسعة التي تتدلى حتى الأرض، وتغطي وجهها بالبرقع الذي لا يكشف سوى عينيها. في مرة برزت فجأة من حجرتها، كانت سافرة. طالعني وجه مثل القمر في تمامه تحيط به ضفيرتان من الشعر، ويعلوه إكليل مرصع. كانت في ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر فوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمنطقة من الحرير الدمشقي الثمين. وتدلى من أذنيها قرطان تألفا من جوهرتين كبيرتين. لم أعرف النوم من لحظتها. - هذا كل شيء؟ - تكررت رؤيتي لها سافرة. كانت تمر من أمام باب حجرتي دون حجاب. - هل تعرف عمرها؟ - أظنها في السادسة عشرة.
أرادني أن أصحبه حتى بيت البكري في الأزبكية، لكني فضلت العودة.
الجمعة 27 يوليو
توضأت وتهيأت للخروج. كانت رائحة بيت الراحة لا تطاق، لم يصلح البخور في تبديدها . لمحت الجارية السوداء تملأ القلل من مياه البئر بعد أن اختفى السقاءون الذين يمدوننا به. تابعتها وهي تفرغ أكواب المستكة المغلية في القلل لتعطيرها. ولم تبد ما يدل على أنها شعرت بنظراتي. كنت آتيها كل ليلة منذ سافر أستاذي. ترقد تحتي صامتة دون أن نتبادل كلمة واحدة. وعرفت أنهم أسموها ساكتة لأنها لا تتحدث مع أحد.
ظهر جعفر في أعقاب خادم يحمل طاجنا من السمك المتبل. وصاح به عند الباب: قل للفران يرسله مع غلامه أذان العصر.
غادرت البيت إلى الحارة وانحرفت يمينا. مررت بوكالة الجلابة، كان بابها مواربا تتصاعد من خلفه أصوات التجار. خرجت إلى الميدان المقابل لجامع الأزهر. اتجهت إليه ودخلت من باب المزينين الشامخ الذي تعلوه ثلاث من المآذن الخمس للمسجد. أعلاها مئذنة قانصوه الغوري ذات الرأسين.
خلعت حذائي ومضيت فوق البسط المنقوشة بشكل المحاريب. وعبرت الرواق الجديد ذا السقوف المذهبة المحلاة بآيات من القرآن الكريم في الخط الكوفي.
وقفت أتأمل مزولة المواقيت التي أضافها وال كان تلميذا لوالد أستاذي.
انضممت إلى المصلين في صحن الجامع، كانت وجوههم متوجسة تنتظر ما سيقوله الخطيب، لكنه لم يخرج عن المألوف في كل جمعة، ولم يشر بشيء لدخول الفرنساوية، ثم اختتم بالدعوة للسلطان العثماني، وهدر جمع المصلين بكلمة «آمين».
Unknown page