Charles Darwin
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
Genres
أعتقد أن جزءا كبيرا من نجاح كتاب «أصل الأنواع» يرجع إلى أنني قد كتبت قبل نشره بفترة طويلة، مسودتين مكثفتين له، وكذلك إلى قيامي في النهاية بتلخيص مخطوطة أكبر بكثير، وهي نفسها التي كانت ملخصا. وبهذه الطريقة، تمكنت من اختيار الحقائق والاستنتاجات الأكثر وضوحا. كما أنني ظللت أتبع قاعدة ذهبية على مدى سنوات عديدة ؛ فكنت كلما مرت علي حقيقة أو ملاحظة أو فكرة جديدة تعارض نتائجي العامة، أسجلها على الفور دون توان؛ إذ إنني اكتشفت بالخبرة أن مثل هذه الحقائق والأفكار تضيع من الذاكرة على الأرجح أكثر من الأفكار والحقائق المتوافقة مع نتائجي. وبفضل هذه العادة، لم يكن هناك سوى عدد قليل جدا من الاعتراضات على آرائي الذي لم أكن على الأقل على علم به وحاولت الإجابة عنه.
ولقد قيل في بعض الأوقات إن نجاح «أصل الأنواع» يثبت «أن الموضوع كان مطروحا» أو «أن العقول كانت مهيأة له»، غير أنني لا أعتقد أن ذلك كان صحيحا تماما؛ إذ إنني كنت أستطلع أحيانا آراء عدد ليس بالقليل من علماء التاريخ الطبيعي، ولم يبد أن أيا منهم كانت لديه أي شكوك بشأن ديمومة الأنواع. وينطبق ذلك أيضا على لايل وهوكر؛ إذ بالرغم من أنهما كانا يستمعان إلي باهتمام، فلم يبد أنهما كانا يوافقان على ما أقول. وقد حاولت مرة أو مرتين أن أشرح لبعض العلماء ما أعنيه بالانتقاء الطبيعي، لكنني فشلت بصورة ملحوظة. أما ما أعتقد أنه صحيح تماما، فهو أن عقول علماء التاريخ الطبيعي قد خزنت عددا لا حصر له من الحقائق التي خضعت للملاحظة المتقنة، وأصبحت على استعداد بأن تأخذ أماكنها المناسبة حالما تظهر أي نظرية تستوعب هذه الحقائق وتطرح لها تفسيرا كافيا. ومن العناصر الأخرى التي ساهمت في نجاح الكتاب هو حجمه المتوسط، وأنا أدين بذلك لظهور مقال السيد والاس؛ فلو كنت قد نشرت الكتاب بالنطاق الذي كنت أكتب به في عام 1856، لزاد حجم الكتاب أربعة أضعاف أو خمسة، ولما صبر على قراءته إلا عدد قليل.
لقد ربحت الكثير من تأجيلي للنشر، منذ عام 1839 تقريبا حين توصلت إلى تصور واضح للنظرية، وحتى عام 1859، ولم أخسر شيئا على الإطلاق؛ إذ إنني لم أهتم كثيرا بقدر ما ينسبه إلي الناس من أصالة، سواء أينسبون معظمها إلي أم إلى والاس، ولا شك في أن مقاله قد ساعد كثيرا في التمهيد لاستقبال النظرية. ولقد غفلت عن نقطة واحدة فحسب طالما ندمت عليها، وهي أن أستخدم الفترة الجليدية في تفسير سبب وجود الأنواع نفسها من النباتات والقليل من الحيوانات على قمم الجبال البعيدة والمناطق القطبية. لقد أعجبني هذا الرأي كثيرا حتى إنني قد كتبت عنه بإسهاب، وأعتقد أن هوكر قد قرأه قبل أن ينشر إي فوربس تقريره الشهير
11
عن الموضوع بسنوات. وما زلت أعتقد أنني كنت على صواب في النقاط القليلة التي اختلفنا فيها. وبالطبع فإنني لم أشر في أي كتابات مطبوعة إلى أنني قد توصلت إلى هذا الرأي منفردا.
لم أشعر بالرضا والسعادة في أثناء عملي على النقاط المختلفة في كتاب «أصل الأنواع» قدر ما كنت أشعر به في أثناء العمل على تفسير السبب في الاختلاف الكبير في العديد من الطوائف بين الجنين والحيوان البالغ، والتشابه الوثيق بين أجنة الحيوانات التي تنتمي إلى الطائفة نفسها. لا أتذكر أن المراجعات المبكرة لكتاب «أصل الأنواع» قد تناولت تلك النقطة، وأتذكر أنني قد عبرت عن دهشتي من هذا الأمر في خطاب إلى آسا جراي. وفي السنوات الأخيرة، نسب العديد من النقاد الفضل في ذلك إلى فريتز مولر وهاكل، اللذين بلا شك قد شرحا هذه النقطة على نحو أكثر تفصيلا، وأكثر صحة مني في بعض الجوانب. لقد كان لدي من المادة العلمية ما يكفي فصلا بأكمله عن هذا الموضوع، وقد كان علي أن أطيل في المناقشة؛ إذ يبدو أنني قد فشلت في إقناع قرائي، وأنا أرى أن من ينجح في ذلك هو من يستحق أن ينسب إليه كل الفضل.
ويقودني ذلك إلى الإشارة إلى أن النقاد طالما عاملوني بصدق في معظم الأوقات، هذا إن أغفلنا من لا يمتلكون القدر الكافي من المعرفة العلمية؛ فهم لا يستحقون الانتباه إليهم على أي حال. وكثيرا ما تعرضت آرائي للتحريف الشديد والمعارضة المريرة والاستهزاء بها، لكنني أعتقد أن كل ذلك قد حدث بنية حسنة بصفة عامة. وفي مجمل الأمر، أنا لا أشك في أن أعمالي قد تلقت أكثر مما تستحق من الثناء مرارا وتكرارا. وأنا سعيد لأنني قد تجنبت الخلافات، وأنا أدين بالفضل في ذلك إلى لايل الذي نصحني بشدة منذ سنوات عديدة، بخصوص أعمالي الجيولوجية، بألا أنخرط في الخلافات؛ إذ إن ذلك نادرا ما يعود بأي نفع، وهو مضيعة عظيمة للوقت والجهد.
كلما اكتشفت أنني قد أخطأت أو أن عملي تشوبه بعض العيوب، وكذلك حين كنت أتعرض للنقد الشديد والازدراء، وحتى حين كنت أتلقى أكثر مما أستحق من الثناء، حتى إنني كنت أرتعب من ذلك، وجدت راحة كبيرة في أن أردد على نفسي مئات المرات أنني «قد بذلت قصارى جهدي وقدمت أفضل ما عندي، وأنه ليس بوسع أي أحد أن يفعل أكثر من ذلك.» وأتذكر أنني رحت أفكر بينما كنت في خليج جود ساكسيس في تييرا ديل فويجو (وأعتقد أنني كتبت خطابا إلى أسرتي يتضمن هذا المعنى.) بأنني لا يمكن أن أوظف حياتي أي توظيف أفضل من المساهمة بالنزر اليسير في الإضافة إلى مجال العلوم الطبيعية. وقد فعلت ذلك بأفضل قدراتي، ويمكن للنقاد أن يقولوا ما يشاءون، لكنهم لن يستطيعوا أن يحطموا هذا الاقتناع.
في الشهرين الأخيرين من عام 1859، انهمكت تماما في إعداد طبعة ثانية من كتاب «أصل الأنواع»، إضافة إلى عدد هائل من المراسلات. وفي الأول من يناير عام 1860، بدأت في ترتيب ملاحظاتي للعمل على كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، لكنه لم ينشر حتى بداية عام 1868؛ ويعود السبب في التأخير بصورة جزئية إلى ما كان ينتابني من نوبات مرض متكررة، تلك التي استمرت إحداها سبعة أشهر، وأما السبب الآخر في تأخر النشر، فهو أنني كنت أشعر أحيانا بالرغبة في النشر عن مواضيع أخرى كانت تثير اهتمامي بصورة أكبر في ذلك الوقت.
في الخامس عشر من مايو 1862، نشر كتابي الصغير عن «تلقيح السحلبيات» والذي استغرق مني عشرة أشهر؛ كانت معظم الحقائق الخاصة به قد تراكمت ببطء على مدى العديد من السنوات السابقة. وفي صيف عام 1839، إضافة إلى الصيف السابق عليه، على ما أعتقد، دفعتني الرغبة إلى دراسة التلقيح المتبادل أو الخلطي للزهور عن طريق الحشرات؛ إذ إنني كنت قد توصلت إلى نتيجة من تأملاتي في موضوع أصل الأنواع مفادها أن التبادل قد أدى دورا مهما في الإبقاء على أشكال معينة ثابتة كما هي. وقد ظللت أبحث في هذا الموضوع على مدى فصول الصيف التالية تقريبا، وزاد اهتمامي به بدرجة كبيرة منذ أن حصلت في نوفمبر 1841، عبر نصيحة روبرت براون، على نسخة من الكتاب الرائع «الكشف عن أسرار الطبيعة» لصاحبه سي كيه سبرينجل وقرأته، وقد كان ذلك بناء على نصيحة روبرت براون. وعلى مدى عدد من السنوات قبل 1862، كنت مهتما بالبحث في موضوع تلقيح السحلبيات البريطانية على وجه التحديد، وقد بدا لي أن الخطة الأنسب هي أن أقوم بإعداد بحث مكتمل قدر الإمكان عن هذه المجموعة من النباتات، وذلك بدلا من استخدام ذلك القدر الهائل من المواد عن النباتات الأخرى، والذي كنت قد جمعته ببطء قبل ذلك.
Unknown page