وقضى القوم بضعة أيام في المأتم وتوابعه من مراسم وتعاز وإحسانات وصلوات . وطال انتظار جهان رجوع ضرغام، وشغلت لإبطائه وزادها هذا حزنا على حزنها، وغم عليها أن المهمة التي ذهب فيها قد تستغرق أسابيع، والمحب كثير القلق سريع التخوف. ولكنها آنست من أخيها سامان تقربا وتلطفا لم تعهدهما فيه قبلا، فلم يعد يفارقها لحظة، وكلما رآها تتضجر خفف عنها. ولم يكن غافلا عن تعلقها بضرغام وإن لم يفاتحها في شأنه من قبل، فأخذ يكثر من ذكره وبالغ في الثناء عليه، مع أنه كثيرا ما كان يحسن لها غيره ولا سيما بابك الخرمي. وكان سامان لا يعرف الحب ولا يشعر بجواذب المحبين ولكنه لذكائه ودهائه لم يكن يخفى عليه أمرهم وأوجه الضعف فيهم.
ورغم قوة فراسة جهان وسوء ظنها بأخيها، كانت تلتذ بحديثه، وسرها أنه يحب حبيبها ويعجب بمناقبه وبسالته، فاستأنست به وأخذت تتناسى ما كانت تعهده من نقائصه أو تخافه من مطامعه.
ذلك هو سلطان الحب، يعمي ويصم فمهما أوتي صاحبه من الحكمة والتعقل فإنه يفقدهما إذا وقع في شراكه، وقد يبقى حكيما في كل شيء، وقد يعد من كبار أهل الدهاء والسياسة أو من كبار العلماء أو الشعراء أو الفلاسفة، ولكنه إزاء الحب يكون كالطفل يقاد بخيط، وقد يغلب عليه الوهم في بعض الأحوال حتى يصدق المستحيل ويعتقد الخرافات إذا كان في ذلك ما يسهل عليه أمنية أو يطمئن له قلبا.
ومن هنا نرى الأب الحنون مهما يبلغ من إثارة الخرافات إذا مرض ابنه وفشلت في علاجه حيل الأطباء قادته رغبته في شفائه إلى تصديق ما يصف الدجالون! •••
بقي الموبذ والأفشين يترددان على قصر المرزبان أثناء المأتم قياما بواجب العزاء، وسامان في شوق إلى معرفة وصية أبيه. فلما انتهى المأتم جاء الموبذ وطلب الاختلاء بجهان وأخيها، فلما اختلوا أخرج من جيبه أسطوانة من فضة فتحها وأخرج منها درجا ملفوفا وقال: «هذه هي وصية أبيكما التي عهد بها إلى مولانا الأفشين بحضوري.» والتفت إلى جهان وقال: «والحق يقال أن أباك قد أحسن الاختيار بإلقاء مقاليد الوصية إلى صديقه الأفشين.»
فأصاخت جهان بسمعها وسامان جامد لا يتحرك. ففتح الموبذ الدرج وقال: «وقد أوصاني مولانا الأفشين بأن أبلغكما الوصية ثم أدفعها إليه فاسمعاها وتفهماها.» ثم أخذ يتلوها متمهلا، وهذه هي:
هذا ما عهد به المرزبان طهماز في فرغانة، في آخر يوم من أيام حياته، إلى الملك الأفشين حيدر بن كاروس صاحب أشروسنة وقائد جند المعتصم، بحضور الموبذ صاحب بيت كارشان شاه وبمعونة أورمزد العظيم، في اليوم العاشر من شهر خرداد ماه من السنة ... للإسكندر.
يعهد المرزبان طهماز إلى الأفشين حيدر بن كاروس ملك أشروسنة وقائد جند المعتصم بأن يكون وصيا على أهله من بعده يتصرف فيما خلفه من مال وعقار، فيما يعود على الورثة بالخير، بمقتضى هذه الوصية. ولم يخلف المرزبان طهماز من الورثة الشرعيين غير ولدين، هما الفتى سامان، والفتاة جهان، وقد أوصى بما يملكه جميعه لابنته جهان وحدها فهي الوريثة للقصر بما فيه والضياع وما فيها من ماشية ودواب ومنشآت، ولها كل ما خلفه من جارية ورفيق وأثاث ومصنوعات وآنية ونقد. يكون ذلك كله ملكا لها بشرط إشراف صديقنا الأفشين عليه وتدبيره بما يلهمه أورمزد إليه من أسباب النفع لها.
أما ولدنا سامان فإنه محروم من هذا الميراث كله، لا يصير إليه منه مال ولا عقار إلا ما يكفي لمعيشته على ما يقدره الوصي. وأما سبب حرماني إياه فلم أشأ أن أدونه في هذه الوصية. ولكن لكيلا يبقى مجهولا ويذهب معي إلى القبر قصصته على الوصي بحضور الموبذ. على أن يبقى مكتوما عندهما إلى حين الحاجة.
هذه وصيتي كتبت أمامي، وقد صدرتها وختمتها بتوقيعي، وشهد فيها الموبذ. ومن أخل بحرف منها كان ملعونا خمسين لعنة. وقد فعلت كل ذلك باختياري وأنا في سلامة العقل.
Unknown page