فأدركت خيزران أنها تريد استقدامهما فسبقتها إلى ذلك وقالت: «أرى أن آتي بخادمك فيروز يسير في ركابك وتأمري الآخر بالذهاب مع بقية الموكب بباب المدينة ينتظرنا مع بقية الخدم هناك.»
فاستحسنت جهان رأيها، فمشت خيزران إلى الرجلين ونادتهما وأومأت إلى فيروز أن يأتي فأسرع مهرولا فأمرته بإبلاغ رفيقه أن يذهب للانتظار مع بقية الركب، وبأن يأتي هو بالجوادين، ويظل في ركابهما ففعل، وانطلق خلفهما لا يدري إلى أين تسيران.
الفصل الرابع
ضرغام وجهان
أدارت جهان رأس جوادها نحو النهر ومضت وعيناها شائعتان في الأفق لعلها ترى حبيبها قادما، وبجانبها خيزران على جوادها. وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ونسيت جهان لفرط انشغالها أنها لم تذق طعاما في ذلك اليوم. وقد يغلب الحب على صاحبه حتى ينسيه وجوده.
وظل الجوادان يسيران بهما في أرض بعضها مزروع وفيه الأجراء الذين يعرفون عروس فرغانة، كما يعرفون جوادها وخادمها. فكانوا يقفون لها احتراما ويبتسمون إعجابا، وهي لا تبتسم لتبلبل بالها. وبينما هي غارقة في تفكيرها صهل فرسها وفرس خيزران فانتبهت ونظرت أمامها فرأت على مقربة منها مزرعة فيها خيام كروية السقف على شكل خيام التركمان - وهم يبنونها مستديرة وسقفها قبة - ورأت بين الخيام بضعة جياد وغلامين يحلبان فرسين على عادة أهل بادية تركستان إذ يغتذون بألبان الخيل كما يتغذى بدو العرب بألبان الإبل.
فلما رأتهم جهان أرادت أن تسلك طريقا آخر لا يمر بهم توفيرا للوقت. ولكن خيزران حولت شكيمة جوادها نحوهم وأشارت إليها أن تتبعها قائلة: «أرى يا مولاتي أن نسأل هؤلاء القوم عن ضرغام لعلهم رأوه مارا فيغنينا ذلك عن تكبد المشقة في الوصول إلى النهر؟»
فاستحسنت جهان رأيها وحولت إليهم شكيمة جوادها أيضا. فلما رآهما أحد الغلامين فنهض وقد علم من قيافة جهان أنها أميرة كبيرة وأسرع إلى أبيه في إحدى الخيام يدعوه إلى استقبال الأضياف. فجاء الرجل وهو فلاح شيخ يتوكأ على عكازه، وما وقع بصره على جهان حتى عرفها. فأمر أولاده بأن يعاونوها على الترجل مبالغة في الحفاوة بها، ولكنها لم تشأ النزول وأثنت على الرجل. ثم التفتت إلى خيزران كأنها تحرضها على السؤال، فقالت لها هذه: «انزلي يا سيدتي للاستراحة هنيهة ثم نركب.» فأطاعتها مرغمة واستلم فيروز زمام الجوادين وابتعد بهما عن المكان لئلا يشوشا الموقف بالصهيل مع بقية الخيل.
ولما ترجلتا خاطبهما الشيخ بلطف وسذاجة قائلا: «ألا تشرفنا بنت المرزبان بجلوسها لحظة في هذا البيت الحقير؟» فخجلت وجلست على جلد افترشوه لها ولرفيقتها. وقبل أن تهم خيزران بالسؤال جاء الغلام يحمل قدحا من الخشب فيه سائل عرفت أنه لبن الأفراس فاعتذرت بأنها لا تشعر بالجوع. فقال الشيخ يخاطب غلامه: «قدم لها قدحا من القومز، وهو لبن الخيل يخمرونه ويقدمونه شرابا للزائرين كما يقدم العرب السويق وكما يقدم أهل هذا الزمان الليمونادة أو الشاي. ونظر إلى جهان وقال: «هذا القومز لا يستدعي جوعا فإنه كالماء ويزيل التعب.»
فلم تستطع جهان رده فتناولته، فاغتنمت خيزران تلك الفترة وخاطبت الشيخ قائلة: «ألم يمر بكم أضياف غيرنا في هذا اليوم؟»
Unknown page