وفيما هي في ذلك وخيزران واقفة لا تبدي حراكا، سمعت سعالا قويا لم تسمعه في القصر من قبل، فعلمت أنه سعال بابك. وآنست في القصر حركة وجلبة؛ لأن أهله لم يألفوا دخول بابك عليهم، ثم سمعت صوت القهرمانة تخاطب بابك ونظرت من نافذة صغيرة تطل على الرواق فرأت بابك قادما، والخدم على كل من الجانبين يخرون سجدا، والنساء يحنين رءوسهن احتراما، والجميع يحيونه كما يحيون معبودهم، وأكثرهم من المجوس، وهو يمشي مشية المختال الفخور.
فلما وقع نظرها عليه ارتجفت غضبا، وكانت قد ألفت منظر سجود الناس في قصر أبيها فلم تستغربه، ولكنها أبت أن تكون هي أيضا في جملة الساجدين، بل غالت في الترفع شأن الإنسان إذا كان في رفعة وانحطت منزلته بعض الشيء فإنه يصبح أكثر محافظة على مقامه.
وكان بابك ضخم الجثة، عظيم الهامة كبير الوجه، جاحظ العينين ضخم الشفتين، كبير الكتفين بارز الصدر، إذا مشى ترنح في مشيته ترنح الخيلاء والكبرياء. وقد اعتاد الصدارة في موقفه أو مجلسه حتى لو أراد الانثناء لتناول شيء وقع منه لم تطاوعه أعضاؤه. ولا غرابة في أن يكون هذا شأن من لا يفتح عينيه إلا على المسبحين باسمه، المتفانين في طاعته، مثل بابك رئيس الخرمية وقائدهم في حروبهم. فضلا عن أنه كان شجاعا شديد البطش قوي العضل أبي النفس. ولولا انغماسه في الملذات والشهوات لكن من أعاظم الرجال. ولكنه أدمن الخمر وأسرف في احتسائها ولا سيما في أيام السلم. وكان في هذا اليوم قد أعد مائدة الشراب في قصره، وبعث في طلب جهان، وجلس في انتظارها يشرب. فلما جاءته القهرمانة بخبر رفضها كانت الخمر قد لعبت برأسه فأكبر إباءها وجاء غاضبا ليعاقبها.
فلما دنا من غرفتها تقدمت القهرمانة وفتحت الباب وقالت: «هي هنا يا مولاي.» ورجعت وأشارت إلى خيزران أن تخرج معها فخرجت وتباعدت.
وكانت جهان واقفة، فلما رأته داخلا قعدت، فاستنكر استخفافها به، ولكنه لم يكد يرى جمالها الرائع ومهابتها وما ينجلي في عينيها من الذكاء والسحر حتى دهش. وعلى كثرة من رأى من جميلات النساء، الفارسيات منهن والكرجيات والشركسيات والروميات، وبعضهن أجمل من جهان تكوينا وأصفى لونا، شعر بأن عينيه لم تقع على فتاة في مثل جاذبيتها؛ فخف غضبه، وإن أخذته العزة بالإثم، لتعوده خضوع الناس له على طول الخط فقال: «وتقعدين أيضا في حضرتي؟!»
أما جهان فانتفضت كالعصفور بلله القطر؛ لفرط تأثرها رغم رباطة جأشها، ثم تشاغلت بإصلاح شعرها ورفعت بصرها إليه وحدقت وهو ينظر في عينيها، فأحس بسهم اخترق صدره وكأن الغضب تسرب من صدره حتى خرج من أطراف أنامله وسري عنه. وقالت: «هل ينفعك وقوفي إن لم تملك فؤادي؟»
فتوسم من جوابها فرجا، فقعد على وسادة بجانبها وقال: «أرجو أن يكون لي نصيب من ذلك الفؤاد ، فلا أظن أحدا أجدر به مني، وأنت تعلمين من هو بابك صاحب الحول والطول زعيم الخرمية قاهر جنود المسلمين. وإنه ليحزنني أن حملتك إلي قهرا، ولكني لم أقدم على ذلك إلا بعد أن فشلت في نيلك بالحسنى. فكيف ترينني؟»
فلما رأت تلطفه وتقربه قالت: «أراك بطلا باسلا قاهرا، وما أنت إلا أسير.»
فأجفل وقال: «أسير؟! ماذا تقولين؟»
قالت: «نعم إنك أسير شهواتك. فمن كان ملكا عظيما قاهرا لا يليق به أن يكون عبدا لشهواته ... إني أشتم رائحة الخمر منبعثة منك.»
Unknown page