فأوضح الكاهن: «إنه ماركوس توليوس شيشرون، ربما يعد أعظم خطيب في العالم على الدوام. سوف تقضين أنت وتولي الكثير من الوقت معا على مدار الأشهر القليلة القادمة، وأتوقع أنكما ستصبحان صديقين.»
طبقا للخطة التي أعدها هو والبك، كان الكاهن مولر يأتي إلى المنزل مرتين أسبوعيا يومي الإثنين والخميس بعد الإفطار. ورغم أن إلينورا ظلت متحفظة تجاهه، فقد استمتعت بدروسها؛ تصريف الأفعال والأسماء، والترتيب الثابت لقواعد مبنية على أخرى، وصوت الكاهن الأجش، وتلقت دروسها بسهولة ويسر. وكان بوسعها أن تتذكر كلمات أي نص قرأته منذ أسبوع، وكانت تتابع النصوص الفلسفية المعقدة بإصرار عنيد، وتلاحظ أوجه ترابط لم يفكر فيها الكاهن نفسه. ولكن من بين مواهبها الكثيرة، كان أكثر ما أثار إعجاب معلمها براعتها في تعلم اللغات، فبالنسبة إليها كان تعلم لغة جديدة لا يزيد عن ملء مجموعة من الفراغات. فخلال ثلاثة أسابيع من الدرس الأول، أصبحت على دراية بمبادئ اللغة اللاتينية قراءة وكتابة. وخلال شهرين، أصبح بوسعها أن تترجم فقرات طويلة من «الإنيادة»، وتؤلف الحجج التي تدحض بها آراء تولي. وسرعان ما عرفها الكاهن متشجعا بهذا النجاح في اللغة اللاتينية على اللغة الإغريقية وأرسطو والبطالمة وهيرودوت وأسخيلوس والقديس أوغسطين.
لم تغير دروس الكاهن سوى القليل في عادات إلينورا الخارجية، فظلت تقضي معظم أيامها تقرأ في المقعد المجاور للنافذة البارزة تتناوب على قراءة «الساعة الرملية» والكتب التي حددها لها الكاهن، وظلت ترفض الكلام أو مبارحة المنزل، ولكن حالها على المستوى الداخلي كانت تتحسن تدريجيا، فكانت تستمتع بالمناقشات المشاكسة للقدماء، وتجد قدرا من السحر في النثر حسن الصياغة. فسطر مثل ذلك، من حوار أفلاطون الذي يحمل عنوان «فيدروس»: «ساحرات وجياد مجنحة تنطلق بسرعة»، سيجلب حتما ابتسامة إلى شفتيها. «ساحرات وجياد مجنحة تنطلق بسرعة». ظلت تكرر الكلمات لنفسها عدة مرات حتى أصبحت الساحرات معها، متجهمات الطلعة يحدقن على نحو مخيف، ويتحركن على أحصنة مجنحة.
ورغم استمتاعها الشديد بدروسها، لم تكن إلينورا تثق بالكاهن تمام الثقة. لم يكن ثمة حادث محدد أثار ريبتها، ولكنه مجموع التفاصيل. كان كثيرا ما يغير مواعيد الدروس، متعللا بأن لديه مواعيد مهمة لا يمكنه تغييرها، وكان يوجه لها أسئلة غريبة عن البك، ووجدته أكثر من مرة يفتش في أدراج مكتب الكولونيل. ولكن الحادث الذي أكد شك إلينورا على نحو دائم وقع بعد مرور بضعة أسابيع على بدء تعليمها اللغة الإغريقية. وصل الكاهن متأخرا حوالي ساعة في ذلك الصباح، وعندما وصل بدا شارد الذهن. فتح الستائر وأغلقها مرتين قبل أن يطلب منها أن تبدأ، وأخذ يعض على رأس قلمه وهو يذرع المكان جيئة وذهابا، بينما كانت تقرأ لنفسها وأصبعها يتتبع الكلمات، وأخذ حفيف سرواله يشير إلى مرور الوقت كما لو كان بندول إيقاع قلق.
وبعد فترة وجيزة، سرقت بعض الماشية من جزيرة وابية على يد أوتولايكس، وافترض يوريتوس ...
شعرت إلينورا بلمسة خفيفة من يد الكاهن على كتفها، فتوقفت عن القراءة. «ماذا تذكرين عن أوتولايكس؟»
وبينما كان يغير وضعه، شعرت بكم قميصه يمس ذراعها على نحو أزعجها، فقطبت عينيها ووضعت أصبعها تحت الكلمات. «إنه إحدى شخصيات الأوديسا، جد أوليسيس لأبيه.»
حدقت إلى ورق الحائط الأحمر المزركش أمامها، وتذكرت الفقرة المناسبة، وكتبتها في أسفل الصفحة:
وبالفعل، فور أن بدأت تحمم سيدها، علمت في الحال أن تلك هي الندبة التي سببها له خنزير بري عندما كان يصطاد في جبل بارناسوس مع جده الرائع أوتولايكس، الذي كان أمهر لص وشاهد زور في العالم بأسره.
ابتسم الكاهن قائلا: «نعم، بالضبط.» وتابع قائلا وهو يرفع يده عن كتفها ويغير اتجاهه: «إذا لم يكن لديك مانع، لدي شيء جديد اليوم.»
Unknown page