الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Unknown page
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Unknown page
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
خاتمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
Unknown page
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
Unknown page
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
Unknown page
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
خاتمة
عرافة إسطنبول
عرافة إسطنبول
تأليف
مايكل ديفيد لوكاس
Unknown page
ترجمة
سهى الشامي
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
الفصل الأول
وفدت إلينورا كوهين إلى هذا العالم في وقت متأخر في يوم خميس من صيف عام 1877.
وسيذكر أولئك الذين استيقظوا مبكرا في صبيحة ذلك اليوم أنهم رأوا سربا من الهداهد البنفسجية والبيضاء تحلق فوق المرفأ؛ حيث تحوم في حلقات ثم تندفع فجأة كالأسهم كما لو كانت تحاول أن ترتق خرقا في السماء. وسواء أباءت محاولاتها بالفشل أم حالفها النجاح، فإنها كانت تبطئ انقضاضها في نهاية المطاف وتستقر في أنحاء المدينة وعلى أعتاب دار القضاء، وعلى السقف المصنوع من القرميد الأحمر الذي يعلو فندق كونستانتسا، وعلى برج الناقوس الذي يعلو أكاديمية القديس باسيليوس. جثمت الطيور في حجرة الإضاءة بالمنارة، وعلى مئذنة الجامع الحجرية الثمانية الشكل، وعلى السطح الأمامي لسفينة بخارية تنفث دخانها في الأفق الصافي. كست الهداهد المدينة مثل الجليد، وانتقلت عبر مزاريب المطر الناتئة من قصر الحاكم، وغطت القبة المطلية بالذهب للكنيسة الأرثوذكسية. وفي الأشجار المحيطة بمنزل يعقوب وليئة كوهين بدا السرب في حالة جذل ذات طابع خاص؛ إذ أخذت الهداهد تغرد، وترفرف بأجنحتها، وتقفز من غصن إلى غصن كما لو كانت جمعا من الفلاحين المصطفين على جوانب شوارع العاصمة بغية مشاهدة أحد العروض الإمبراطورية. وكثيرا ما ينظر إلى الهداهد على أنها فأل خير، لولا الأحداث المشئومة التي تزامنت مع مولد إلينورا.
ففي وقت مبكر من صباح ذلك اليوم، تحركت الفرقة الثالثة من سلاح الفرسان الملكي التابع للقيصر ألكسندر الثاني من الشمال، وتجمعت على قمة التل المطل على ساحة المدينة، وقد تألفت الفرقة من: ستمائة واثني عشر رجلا، وخمسمائة وسبعة وثلاثين جوادا، وثلاثة مدافع، وأربع وعشرين خيمة رمادية باهتة من قماش القنب، ومطبخ ميداني، وعلم قيصر المخطط أفقيا باللونين الأصفر والأسود. وطوال أسبوعين كانوا يتنقلون معظم الوقت ولا يحصلون إلا على قليل من الطعام والراحة. ساروا وسط مدن كيليا وتولتشيا وباباداج حيث مستنقعات التوت في دلتا الدانوب وحقول القمح الشاسعة التي تركت من غير زرع منذ الشتاء، وكان مقصدهم النهائي هو مدينة بلفن، وهي مركز تجاري في قلب سهل الدانوب؛ حيث كان المشير عثمان باشا وسبعة آلاف من القوات العثمانية يحاولون التصدي لهم. إنها ستكون معركة مهمة، بل وربما نقطة تحول في مسار الحرب، لكن بلفن كانت لا تزال على مسيرة عشرة أيام أخرى، وشعر رجال الفرقة الثالثة بالتململ والاضطراب.
وقد تركت كونستانتسا، التي كانت ترقد تحت أقدامهم كأنها وليمة جاهزة، شبه عارية تماما من الحراسة؛ فعلى بعد مسافة لا تزيد على اثني عشر مترا من حافة قمة التل ترقد أطلال جدار روماني قديم. في القرون الماضية، حمت هذه الأحجار ذات اللون الوردي الباهت المدينة من الخنازير البرية وقطاع الطرق والبربر التراقيين الذين كانوا يحاولون باستمرار شن الغارات على المرفأ. وكان الجدار الذي أعاد الرومانيون بناءه مرتين، ثم البيزنطيون مرة أخرى، في حالة دمار شامل عندما وصل العثمانيون إلى كونستانتسا في نهاية القرن الخامس عشر. وهكذا ترك مقوضا؛ فقد انتزعت أفضل أحجاره لاستخدامها في بناء الطرق والقصور وجدران أخرى حول مدن أخرى أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية. ولو كان أحدهم قد فكر في ترميم الجدار، لربما حمى المدينة من وحشية الفرقة الثالثة، لكنه في حالته الحالية لم يكن سوى حجر عثرة.
طوال هذا الصباح حتى وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة ورجال الفرقة الثالثة يعيثون فسادا في شوارع كونستانتسا؛ يحطمون نوافذ المتاجر، ويروعون الكلاب الضالة، ويدمرون كل ما تطوله أيديهم من تماثيل. أشعلوا النيران في قصر الحاكم، ونهبوا دار القضاء، وحطموا الزجاج الملون الذي يعلو مدخل أكاديمية القديس باسيليوس. نهب متجر الصائغ بكل ما فيه؛ وسرقت كل محتويات حانوت الإسكافي؛ وبعثر البيض المكسور والشاي في متجر العاديات، وحطموا أيضا الواجهة الأمامية لمتجر السجاد الخاص بيعقوب كوهين، وثقبوا الجدار بحرابهم. وباستثناء الكنيسة الأرثوذكسية التي وقفت شامخة في آخر اليوم لم يمسسها أذى، كما لو كان الله نفسه قد حماها، كانت المكتبة هي البناية المحلية الوحيدة التي نجت سالمة من وحشية الفرقة الثالثة؛ لا لأنهم يكنون تقديرا خاصا للمعرفة، وإنما يعود الفضل كله في نجاة مكتبة المدينة إلى شجاعة حارسها؛ فبينما انكمش بقية سكان المدينة رعدة تحت فراشهم، أو جثموا معا في الطوابق السفلية وفي خزانات الملابس، وقف أمين المكتبة في جرأة على الدرج الأمامي لمملكته، حاملا نسخة مهلهلة من رواية «يفجييني أونيجين» فوق رأسه، كما لو كانت تميمة سحرية. ومع أن رجال الفرقة الثالثة كانوا في الغالب على جهل تام بالقراءة والكتابة، فقد استطاعوا تمييز شكل حروف لغتهم الأصلية السيريلية، وكان هذا على ما يبدو كفيلا لهم كي يعفوا عن المبنى ويفلتوه من براثنهم.
Unknown page
في تلك الأثناء، وفي منزل حجري صغير رمادي اللون بالقرب من قمة إيست هيل، اشتدت آلام المخاض بليئة كوهين، وفاحت غرفة المعيشة برائحة خلاصة أزهار الويتشهازل والكحول والعرق. وكان صندوق البياضات مفتوحا، وعلى الطاولة كومة من أغطية الأسرة الملطخة باليود. ولما كان الطبيب المدرب الوحيد في المدينة مشغولا في مهمة أخرى، تولى رعاية ليئة قابلتان تتاريتان تقطنان قرية مجاورة. لقد أحضرتهما العناية الإلهية إلى عتبة منزل كوهين في اللحظة التي كانت ليئة في أمس الاحتياج إليهما؛ فقد قرأتا العلامات وقالتا في ذلك: بحر من الجياد؛ ومحفل من الطيور؛ والنجم الشمالي بمحاذاة القمر. وذكرتا أن هذه كانت نبوءة تنبأ بها ملكهم الأخير وهو يحتضر، لكن لم يكن أمامهما وقت للشرح. طلبت القابلتان أن يصطحبهما أحد إلى غرفة النوم، ثم طلبتا أغطية أسرة نظيفة وكحولا ومياها مغلية، ثم أغلقتا الباب وراءهما؛ وكل عشرين دقيقة تقريبا تهرول صغراهما مندفعة خارج الغرفة حاملة وعاء فارغا أو كومة ملء الذراعين من الأغطية المستعملة. وبخلاف هذه الرحلات القصيرة الخاطفة، ظل الباب مغلقا.
ولما لم يكن بيد يعقوب زوج ليئة ما يفعله، أو شيء آخر يشغله، فقد استسلم للقلق. وشغل يعقوب - الذي كان ضخم البنية أزرق العينين، ذا شعر أشعث فاحم السواد - نفسه بنتف أطراف لحيته، وخلط إيصالاته، وتعبئة غليونه. وبين الحين والآخر تتناهى إلى مسامعه صرخة، أو بعض الكلمات المكتومة التي تحث على الدفع، أو صوت إطلاق النار والجياد الآتي من بعيد. ولم يكن يعقوب رجلا متدينا بدرجة خاصة أو مؤمنا بالخرافات، ومع ذلك همهم بما استطاع أن يتذكره من صلوات خاصة بولادة الأطفال، وقرع ثلاث مرات على الخشب كي يطرد العين الشريرة. وقد حاول قصارى جهده ألا يستسلم للقلق، لكن ماذا عسى أب ينتظر قدوم مولوده الجديد أن يفعل غير ذلك؟
وبعد الغسق مباشرة، في تلك الساعة البالغة الرقة التي تتحول فيها السماء من اللون البنفسجي إلى الظلام، صمتت الهداهد، وتوقف إطلاق النار، وخف وقع حوافر الجياد حتى توقف تماما؛ وكأنما العالم بأسره توقف ليلتقط أنفاسه. في تلك اللحظة خرج من غرفة النوم صوت تنهيدة متعبة، عقبها صوت صفعة على جسد ثم صرخة المولود الجديد. عندئذ ظهرت القابلة الأكبر سنا، السيدة داماكان، حاملة صرة تحت ذراعها. وباستثناء صوت الرضيع الخافت، غرقت الغرفة في الصمت.
همس يعقوب: «حمدا لله!» ثم مال ليقبل ابنته في جبهتها. كانت الطفلة رائعة، غريرة، تتقد بالحياة الجديدة، ثم مد يده ليحملها بين ذراعيه، ولكن القابلة منعته.
قالت القابلة : «أيها السيد كوهين.»
رفع كوهين عينيه إلى خط فمها الدقيق. «ثمة بعض المتاعب.»
لم يتوقف نزيف ليئة، وكانت واهنة بدرجة خطيرة. وبعد ساعات قلائل فحسب من الولادة أسلمت الروح. وكانت الكلمة الأخيرة التي تفوهت بها هي اسم مولودتها، وما إن نطقت بها حتى انفتحت السماء.
كان هطول المطر كما لم يشهده أحد من قبل في كونستانتسا؛ وابلا لا نهائيا من الأمطار والرعد. تدفقت الأمطار في صورة سيول وأمواج وصفحات من المياه، فأخمدت النيران، وطمست معالم الطرق، وغلفت ساحة المدينة بغطاء من الدخان الرطب. وعندما بلغت العاصفة أشدها، أوت الهداهد إلى فتحات الأشجار اليابسة وتجاويفها. أما الفرقة الثالثة فشدت الرحال جنوبا صوب بلفن، حاملين غنائمهم تتدلى مثل أعشاش العناكب على ظهور جيادهم. أمطرت السماء طوال أربعة أيام اعتنت فيها السيدة داماكان وابنة أخيها بالمولودة الجديدة. ودفنت ليئة في قبر جماعي يضم اثني عشر رجلا تقريبا قتلوا أثناء محاولاتهم الدفاع عن ممتلكاتهم، وملأ يعقوب المنزل عويلا. وبنهاية الأسبوع، كانت النفايات قد سدت المرفأ، واكتسى ميدان المدينة برماد رطب.
لكن الحياة لا بد أن تمضي، فعندما انقشعت السحب أخيرا، استقل يعقوب كوهين عربة إلى تولتشيا، وبعث ببرقيتين؛ إحداهما إلى أخت ليئة في بوخارست، والأخرى إلى صديقه وشريك أعماله في إسطنبول، وهو رجل تركي يدعى منصف باركوس الذي حصل مؤخرا على لقب البكوية. وفي البرقية الأولى أخبر شقيقة زوجته بالمأساة، وطلب منها أن تقدم له ما في استطاعتها من مساعدة. أما البرقية الثانية فقد بعثها بناء على طلب من السيدة داماكان يوصي فيها بتعيينها هي وابنة أخيها في أي وظيفة شاغرة ربما تكون متاحة في منزل منصف بك؛ إذ نوت السيدة داماكان وابنة أخيها - كما الحال مع معظم التتار الذين يقطنون القرى المحيطة بكونستانتسا - الرحيل عما قريب والتطلع إلى حياة جديدة في إسطنبول؛ حيث يلقى المسلمون المزيد من الحفاوة والترحاب. وحتى يأتي ذلك الحين، وافقتا على المكوث مع يعقوب ومساعدته بأقصى استطاعتهما.
بعد بضعة أيام وصل الرد من منصف بك، الذي أشار فيه إلى أنه يسعده استقبال السيدة داماكان، وأنه كان في الواقع يبحث عن خادمة جديدة.
Unknown page
أما الرد على برقية يعقوب الثانية فقد وصل بعدها بأسبوع، بمجيء روكساندرا؛ الأخت الكبرى لزوجته ليئة. كانت الساعة السادسة مساء عندما توقفت عربتها في المرفأ. وكانت روكساندرا، تلك المرأة النحيلة التي ترتدي ملابس السفر وقبعة من اللباد الأخضر الداكن، ذات أنف حاد وذقن صغير وشامة في منتصف وجنتها اليسرى بدت كما لو كانت قمة بركان وشيك الاندلاع. ترجلت روكساندرا من العربة وفي يسراها حقيبة سفر، وفي يمناها برقية مجعدة مبللة بالعرق، ثم حاسبت السائق وبدأت تشق طريقها أعلى التل نحو منزل زوج أختها.
وبينما كانت روكساندرا ترتقي الدرج الأمامي من منزل كوهين، عدلت قبعتها ثم حدقت إلى الوراء في لمعة روث الطيور الذي يغطي الممشى الأمامي، وحملقت في سرب الهداهد البنفسجية والبيضاء الجاثم على شجرة الدلب فوقها، ثم التفتت نحو الباب وقرعته. ولما لم يجب أحد، قرعت مرة أخرى وهي تميل برأسها للأمام كي تنصت إلى صوت أي حركة بالداخل، ومرة أخرى لم يكن من مجيب هناك. ولأنها لم تكن ممن ينتظرون بالخارج في الطقس البارد، فقد عدلت قبعتها وسمحت لنفسها بالدخول.
كان منزل كوهين بأكمله لا يزيد على حجرة الطعام الموجودة في المنزل الذي قضت فيه روكساندرا وليئة طفولتهما في بوخارست. وكان يتألف من ثلاث غرف نوم، وحجرة للمؤن، ومطبخ، وغرفة معيشة جدرانها عارية ما خلا لوحة فحمية صغيرة لليئة فوق المدفأة. وفي أحد أركان الغرفة الرئيسة خزانة ومائدة طعام مصنوعة من خشب البتولا المحبب تغطيها كومة من الأطباق المتسخة، وفي الركن الآخر زوج من المقاعد الجلدية البالية قبالة المدفأة. وكانت أرضية غرفة المعيشة غارقة في بحر من السجاد الشرقي المفروش دون اعتبار للألوان أو الطراز، بل أحيانا تجد ثلاثا من السجاد بعضها فوق بعض، كما لو كانت مدينة قديمة مبنية على أنقاض حضارات أقدم. وبعد أن تخطت روكساندرا العتبة في حذر شديد، أنزلت حقيبة سفرها، ثم أغلقت الباب الأمامي خلفها.
نادت روكساندرا: «مرحبا، هل من أحد هنا؟»
كان يعقوب جالسا طوال الوقت عند الطاولة ورأسه بين ذراعيه خلف كومة من الأوراق. وعندما وقف ليحييها، كان واضحا كم هو في أمس الاحتياج إلى مساعدة روكساندرا؛ فقد كان معطفه الطويل ملطخا ببقع في عدة أماكن، وأطلق لحيته في إهمال واضح، وكانت عيناه شديدتي الحمرة.
قال كوهين مدهوشا لدى رؤيتها في غرفة معيشته: «يا روكساندرا، اجلسي من فضلك.»
سحبت روكساندرا مقعدا عند رأس الطاولة وجلست.
ثم قالت وهي تضع البرقية على المائدة مبرهنة بها على سبب مجيئها: «لقد طلبت المساعدة، وها أنا ذا.»
أجاب يعقوب: «بالطبع. كيف حالك؟»
أجابت: «بالنسبة إلى الظروف الحالية، فأنا بخير. أشكرك. لكن الرحلة كانت طويلة، وأرغب بشدة في تناول قدح من الشاي.»
Unknown page
بينما كانت روكساندرا تتحدث، اندفعت السيدة داماكان بظهرها من المطبخ يتدلى من فمها خيط، حاملة إلينورا في ثنية ذراعها وهي مقمطة. وكانت إلينورا مستغرقة في النوم ورموشها ترفرف مثل أجنحة حشرة اليعسوب، وقد قبضت يديها في سلام عند منتصف صدرها.
قالت روكساندرا وهي تميل فوق اللفافة: «لها فم أمها نفسه.» ثم نظرت إلى أعلى وقالت: «هذه مرضعتها على ما أعتقد.»
رد يعقوب: «نعم، بشكل ما، لقد حضرت السيدة داماكان وابنة أخيها ميلاد إلينورا، وكان من كرم أخلاقهما مساعدتي على مدار الأسابيع القلائل الماضية.»
قالت روكساندرا: «حسنا، لقد فهمت. أنت السيدة دالامان، أليس كذلك؟ هل تمانعين في إعداد قدح من الشاي لي؟ شاي ثقيل من فضلك. لقد كانت رحلة طويلة.»
جلست روكساندرا على مقعدها مرة أخرى وراقبت السيدة داماكان وهي تخرج من الغرفة.
قالت روكساندرا: «إني أفضل بصفة عامة الدخول في صميم الموضوع مباشرة، سواء أكانت هذه هي الطريقة الأكثر تهذيبا أم لا. وهذا أمر ينبغي أن تعرفه عني.»
أومأ يعقوب برأسه موافقا.
استهلت روكساندرا كلامها: «لقد تسلمت برقيتك، وها قد جئت لتقديم المساعدة التي طلبتها. وللقيام بهذا الدور، فإنني مستعدة أن أمكث في كونستانتسا لمدة شهر على الأقل للمساعدة في المهام المنزلية وما إلى ذلك.»
ثم أدارت نظرها في أرجاء غرفة المعيشة. «لقد قلت إن السيدة دالاماتيان سوف تغادر قريبا، أليس كذلك؟»
أجاب يعقوب: «بلى، هي وابنة أخيها ستنتقلان إلى إسطنبول.»
Unknown page
دمدمت روكساندرا: «مدينة قذرة مليئة بالأتراك.»
قال يعقوب: «هما أيضا من الأتراك؛ التتار على وجه التحديد.»
قالت روكساندرا: «حسنا، لا يعنيني كنههما. ستغادران قريبا، أليس كذلك؟» «إنهما تنويان الرحيل في نهاية هذا الأسبوع، مع أن استعداداتهما ضئيلة إلى حد ما.»
قالت روكساندرا: «كما ذكرت، يسعدني أن أمكث هنا لمدة شهر، أو ربما حتى شهرين، لتقديم المساعدة المطلوبة. ولكن إذا كنت تنتظر مني أن أمكث أكثر من بضعة أشهر، فأعتقد أننا سنضطر إلى أن نتزوج.»
لطالما كانت روكساندرا الفتاة الإيثارية والابنة البارة؛ فقد اعتنت بأبويها أثناء مرضهما وشيخوختهما حتى وفاتهما، بينما ذهبت أختها الصغرى إلى المدرسة لتتلقى تعليمها وتزوجت. وبحلول الوقت الذي مات فيه أبوها، منذ ما يزيد قليلا على العام، كانت روكساندرا قد اقتربت على نحو يدعو للقلق من سن الثلاثين، وقد آلمتها الحياة وصارت شديدة الامتعاض. وعلى الرغم من أنها ورثت ثروة هائلة ستخول لمن يتزوجها الحصول على مهر كبير، فإنها لم تستطع العثور على الزوج المناسب. ولم تكن تطمح في هذه المرحلة في إقامة علاقة رومانسية، وإنما كل ما أرادته هو أن يكون لها بيت خاص بها، وزوج يصلح كي تتبادل معه الدعابات بعد العشاء.
رد يعقوب بعد طول صمت: «هل تمانعين إذا احتفظت بردي حتى آخذ بعض الوقت للتفكير؟» «كلا البتة.» «وماذا عن أغراضك؟ أهذا كل شيء؟»
ابتسمت روكساندرا ونظرت نحو الصندوق الصغير ذي الكسوة الجلدية الموضوع أمام ساقيها.
قالت: «لا داعي للقلق بشأن أغراضي، لقد اتخذت ترتيباتي بالفعل.»
وفي صبيحة اليوم التالي وصل من بوخارست صندوقا أمتعة كبيران، وبدأت روكساندرا تتصرف على سجيتها كأنها في منزلها؛ فبعدما أفرغت محتويات الصندوقين في غرفة النوم الثانية، استعانت بمساعدة ابنة أخي السيدة داماكان في تنظيف الأسطح وغسل النوافذ ونفض السجاد وإزالة الأتربة عن خزانات الكتب وإزالة الرماد من المدفأة. وعندما فرغتا من هذه المهام، غسلت روكساندرا الممشى الأمامي، وحاولت ترويع سرب الهداهد التي اتخذت من شجرة الدلب المجاورة للمنزل مأوى لها. ولكن كلما لوحت بذراعيها وألقت بالحجارة، تمسكت الهداهد بمأواها. وبعدها بثلاثة أيام، كان الممشى مغطى بروث الطيور مرة أخرى. ورغم هذا الإزعاج البسيط، استقرت روكساندرا في ارتياح في وضعها الجديد. كانت تطبخ وتنظف، وعندما كانت السيدة داماكان وابنة أخيها منهمكتين في الإعداد لرحلتهما جنوبا بطول ساحل البحر الأسود، اعتنت بإلينورا. وعندما رحلت القابلتان بنهاية الأسبوع الثاني لمجيء روكساندرا إلى كونستانتسا، تولت الشئون المنزلية بالكامل. وبنهاية الأسبوع الثالث، قرع يعقوب باب غرفة نومها، وقال إنه يوافق على الزواج منها؛ لأن في ذلك مصلحة الجميع، والحل الأمثل في ضوء الظروف الراهنة.
أقيمت مراسم الزواج في تولتشيا؛ إذ كان معبد كونستانتسا لا يزال قيد الإصلاح. وقف يعقوب وروكساندرا في مقدمة الغرفة مع الحاخام، وهو شاب ذو لحية حمراء كبيرة. وشهد على زواجهما الأخوان الأصغران للحاخام، وفي مؤخرة الغرفة كانت إلينورا تصرخ بين ذراعي زوجة الحاخام. وبعد مراسم الزواج تفقد يعقوب بعض الأعمال في تولتشيا، ثم استقلا عربة في الساعة السادسة للعودة إلى كونستانتسا، والهداهد تتبعهما على مسافة معقولة فوق رأسيهما.
Unknown page
الفصل الثاني
حدق سلطان الإمبراطورية العثمانية خادم الحرمين الشريفين وخليفة المسلمين وأمير المؤمنين والخاقان الأعظم لممالك متعددة، جلالة السلطان عبد الحميد الثاني، إلى بلاط السقف الأخضر والأزرق المتداخل، في حين رغى حلاق القصر وجهه بالصابون. وتناهى إلى مسامعه من غرفة مجاورة نقر أوتار العود والثرثرة الخافتة للجواري. غرد بلبل من محبسه، ووقعت شمس منتصف الصباح على قدميه في صورة شبكة من الظلال والأضواء. أغمض عبد الحميد عينيه، وأنصت وهو يستنشق رائحة الياسمين المنبعثة من الصابون، إلى صوت نصل شفرة الحلاقة يتحرك على عنقه.
دأب هذا الرجل نفسه على الحلاقة لعبد الحميد كل صباح طوال الثلاثين عاما الماضية، منذ أن نبتت أولى شعيرات الرجولة في ذقنه الملكي، وقبل ذلك الحين خدم سبع سنوات في بلاط والد عبد الحميد. كان الحلاق طاعنا في السن، ولكن يديه كانتا ثابتتين كيد الخطاط، حتى بعد مرور كل تلك السنوات من الممارسة؛ فهو لا يزال يقدم على مهمة الحلاقة الصباحية كما لو كانت أهم مهمة في حياته. وقد قدر عبد الحميد هذه الجدية كثيرا، فمع كثرة المكائد والدسائس التي تحوم حول القصر، كان في حاجة إلى أن يثق في حلاقه ثقة مطلقة؛ إذ لم يكن من المستجد أن يحاول أحد أفراد بلاط السلطان قتل السلطان؛ بل إن ثلاثة من أقاربه البعيدين قد اغتيلوا بالفعل؛ وهم مورات الثاني ومصطفى دوزم وإبراهيم الأول، على يد أفراد من العاملين لديهم ممن يفترض بهم الولاء. فقد اغتيل مورات على يد طباخه، وقتل مصطفى حارسه الخاص، أما إبراهيم فقد كانت نهايته على يد حلاقه.
فتح عبد الحميد عينيه وشاهد حلاقه وهو يمسح شفرته في قطعة من الجلد، ثم أغمض عينيه مرة أخرى وغاص أكثر في مقعده تاركا موسيقى العود الآتية من بعيد تنساب في أوصاله كما لو كانت مياه البحر الدافق. كان ثمة حزن عميق في تلك الأوتار، أعوام عديدة من الأسى. وإذا لم تخنه ذاكرته كان الفارابي هو من روى قصة اختراع العود؛ حيث استلهم مخترعه فكرة العنق المنحني من هيكل عظمي كان متدليا من شجرة خروب. لمن كان هذا الهيكل العظمي؟ هذا ما لا يستطيع عبد الحميد أن يتذكره. ربما كان للامك، أو لأحد أبناء نوح. على أي حال، كان العود آلة موسيقية قديمة تقترن جذورها بالحزن والأسى.
ووسط غمرة هذه الأفكار، شعر السلطان بحضور أحدهم. «جلالة السلطان؟»
كان هذا هو الصدر الأعظم جمال الدين باشا. كان وجهه محمرا من الإجهاد، وشاربه مبروما بما يشبه خيطا من اللعاب.
قال وهو يجفف وجهه بمنديل: «جلالة السلطان، أعتذر عن مقاطعتك أثناء الحلاقة، لكن لدي خبرا مزعجا للغاية.»
قال السلطان وهو يشير إلى الحلاق ليكمل: «تكلم من فضلك، فأخبار مملكتي ليست ضربا من المقاطعة.» «جلالة السلطان، لقد وقعت بلفن منذ ثلاثة أيام في قبضة الروس، وتقهقر عثمان باشا ومن تبقى من رجاله إلى جابروفو.»
كان هذا أسوأ الأخبار حقا، ولم يكن مفاجئا بدرجة خاصة، ولكنه مع ذلك خبر مزعج. تنهد السلطان وهو يشاهد بطرف عينه الحلاق وهو ينتزع الشعر النابت في منطقة عظم وجنته. كانت بلفن هي الأخيرة في سلسلة طويلة من العوائق العسكرية، وعلى الأرجح سيعني هذا نهاية الحرب، ثم عقد مؤتمر آخر للقوى العظمى، واختلاق حجة أخرى لتقسيم إمبراطوريته. في حقيقة الأمر هو لم يكترث لفقدان السيطرة على بلغاريا أو رومانيا؛ فهو لا يأبه حتى إذا ابتلعتهما الأرض، والأمر كذلك مع اليونان ودول البلقان. لم تكن الأرض هي ما يزعجه، بل العار الذي سيلحق به؛ أنياب القوى العظمى التي يسيل لعابها وهي تحوم حول قصره مثل الذئاب. وهو لا يكترث لبلغاريا ورومانيا، لكنه كان على دراية بأن الأمر لن ينتهي عند هذا الحد؛ فالروس ابتغوا الاستيلاء على قارص، ولطالما تاق الفرنسيون إلى اغتنام بلاد الشام، أما اليونانيون، فلن يهدأ لهم بال حتى يحكموا قبضتهم القذرة على إسطنبول. «يرى عثمان باشا أنه من الأفضل سحب رجاله إلى أدرنة، لكنه لن يفعل ذلك دون موافقتك.»
استشار السلطان مستشاره. وكان لجمال الدين باشا، ذلك الرجل القصير السمين ذي الوجه الشديد الحمرة، أنف كبير بدرجة لافتة، على جانبيه عينان تشبهان انحناءة سن القلم، ويختط تحته شارب رفيع. «وماذا ترى أنت؟» «في هذه الحالة، يتحتم علي أن أتفق مع عثمان باشا؛ فأدرنة هي الموقع المثالي الذي سيمكننا منه أن ندافع عن العاصمة إذا لزم الأمر، وأخشى أن هذا وارد الحدوث.» «هذا هو رأيك؟» «هذا هو رأيي يا جلالة السلطان، ولا يمكنني أن أرى غير ذلك.»
Unknown page
كان هذا هو العيب الأكبر في جمال الدين؛ فرغم أنه كان أفضل بمراحل، مشورة وولاء، من الصدر الأعظم السابق لدى عبد الحميد، فإنه كثيرا ما دهسته عجلة الأحداث في خضم وقوعها، وفتنته للغاية مكانته الخاصة في التاريخ. ومن وجهة نظره، كان كل تمرد بداية ثورة، وكل تجسس بداية انقلاب، وكل حرب نقطة تحول في ميزان القوة. ومع أنه كان شديد الذكاء، لم يكن جمال الدين باشا قادرا على النظر على المدى البعيد، والرجوع إلى الوراء ومراجعة موقفه، ولكنه كان صائبا في هذه الواقعة على وجه الخصوص. فعلى المرء أن يدافع عن إسطنبول مهما كلف الأمر.
قال عبد الحميد: «حسنا، لعثمان باشا مطلق الحرية في سحب قواته إلى أدرنة أو أي مكان آخر قد يراه مناسبا. والآن أخبرني يا جمال الدين باشا، ماذا لديك من أخبار أخرى؟»
عدل الصدر الأعظم عمامته، وحدق إلى الدفتر الأسود الصغير الذي يحتفظ به في جيب سترته العلوي، وبدأ يسرد أحداث الأيام الماضية. «نحن مستمرون في تحقيقنا بشأن تمرد الضابط. وصل العميد الجديد لكلية روبرت إلى إسطنبول منذ يومين، وثمة عدد هائل من التقارير حول التوتر الطائفي في سنجق نوفي بازار.»
شعر عبد الحميد بوخزة شفرة الموسى تحت أنفه وطرف بعينيه ليكتم عطسة. «أخبرني المزيد عن هذا العميد الجديد.» «بناء على أوامر جلالتك حاولنا ألا نزعجه أو نثير أي شكوك. وعليه، لم تكن التحريات التي قمنا بها شاملة كما ينبغي أن تكون، ولكننا نعرف الحقائق الأساسية، وهي الآتي: ولد في ولاية اسمها كونيتيكت، وتلقى تعليمه هناك، وبعدما أنهى تعليمه حصل على وظيفة بالجامعة الأمريكية في بيروت، وظل هناك طوال السنوات السبع الماضية، وأحدث وظيفة شغلها هي عميد شئون الطلبة.»
توقف الصدر الأعظم كي ينظر في دفتره.
ثم استطرد قائلا: «ثمة شائعات حوله، ولكنها غير مدعومة بالمرة بأي أدلة حتى الآن. أشار بعض معارفنا إلى أنه جاسوس أمريكي، وأشار البعض الآخر إلى أنه شاذ جنسيا.» «أليس هذان النشاطان متعارضين؟» «نعم يا جلالة السلطان، ليسا بمتعارضين.» «مع أن كليهما يتعارضان إلى حد ما مع مهنته.» «بالفعل يا جلالة السلطان، وأقسمت لي أيضا مدام كورفيل، وهي إحدى معارفنا في القنصلية الأمريكية، أنها التقت العميد من قبل باسم مختلف تماما عندما كانت تعيش في نيويورك، لكنها لا تستطيع أن تتذكر اسمه في ذلك الحين، ولا الظروف التي التقته فيها.»
قال السلطان: «استمر في رصد تحركاته، وأحطني علما إذا اكتشفت أي شيء مثيرا للانتباه.» «سأفعل يا جلالة السلطان.»
وبينما جهز الحلاق وعاء مليئا برغوة الصابون، مال عبد الحميد إلى الوراء ووضع ساقا على الأخرى، وحينها أدرك أنه غفل عن تبديل خفه المنزلي؛ فارتداء خف في هذا الجزء من القصر كان بمنزلة خرق صغير لقواعد الإتيكيت وآداب التصرف. ولكن إذا كان الصدر الأعظم قد لاحظ هذا، فإنه تكتم الأمر. «قبل أن أهم بالرحيل يا جلالة السلطان، ثمة مسألة أخرى قد تكون ذات أهمية.» «تفضل.» «ثمة تقارير تفيد أن منصف باركوس بك قد أنشأ مؤخرا جمعية سرية جديدة، وهو نفسه منصف بك الذي كان له دور نشط في حملة الترويج للدستور الذي كتب في ظل حكم سلفك.»
رد السلطان وهو غارق في التفكير: «منصف بك! أذكر هذا الاسم جيدا. أظن أننا منحناه وظيفة ما في ديار بكر.» «هذا صحيح يا جلالة السلطان. ولعلك تذكر أيضا أن وظيفته انتقلت في اللحظة الأخيرة إلى كونستانتسا.» «التي تقع تحت سيطرة الروس الآن.» «بالضبط، ولكن مدة بقاء منصف بك في منصبه انتهت للأسف العام الماضي، ومنذ ذلك الحين عاد إلى إسطنبول.»
أومأ عبد الحميد برأسه في غموض، وزفر وهو يشاهد الضوء يحيك نسيجا من اللونين الأصفر والأحمر على جفنيه. «هل نعرف طبيعة جماعته الجديدة؟ هل تمثل خطرا؟ أم أنها مجرد حلقة أخرى من حلقات القراءة الثيوصوفية التي يعقدها؟» «من الصعب معرفة ذلك يا جلالة السلطان.» «لننتظر ونر مجريات الأمور.» «حسنا يا فخامة السلطان، ومرة أخرى أعتذر لمقاطعة جلالتك أثناء الحلاقة.» «لا ضير في هذا مطلقا.»
Unknown page
وقبل أن يهم جمال الدين باشا بالرحيل أخبر السلطان بمعلومة أخيرة؛ حيث قال هامسا وهو يميل نحو السلطان إن والدة جلالته كانت تبحث عنه طوال الصباح، وقد بدا عليها الاستياء الشديد. شكر عبد الحميد - وهو يلمس انحناء فكه الأملس - مستشاره على هذه المعلومة، ونهض على نحو مفاجئ قاصدا مكانا أكثر انعزالا. ولم يكن هذا لأنه كان يتحاشى لقاء والدته، بل كل ما هنالك أنه أراد أن يفكر بمفرده في سقوط بلفن وعواقبه المتعددة قبلما ينشغل بمخاوف أي شخص آخر. غادر السلطان مجمع الحمامات من باب جانبي، ثم شق طريقه حول حافة حدائق الحريم، ومر بجدران سجن القصر، ثم سار وسط الحظائر الواقعة شمال الحديقة إلى ما يعرف باسم «حديقة الفيل»، التي سميت بهذا الاسم لأسباب يجهلها.
كان مبتغاه الوصول إلى بقعة ضيقة من أشجار المشمش والكريز اللاذع في الركن الشمالي الأقصى للحديقة، وهي بستان منعزل كثيرا ما يذهب إليه قصدا للتفكير. زرعت تلك الأشجار منذ قرنين بناء على أمر من السلطان أحمد الثاني، وأصبحت بمرور السنين المكان المفضل للسناجب والطيور الصغيرة الذي يعج بثرثرتها وضجيجها. اكتشف عبد الحميد البستان الذي كاد يخلو دائما من الزوار من البشر عندما كان أميرا صغيرا في بلاط أبيه. والآن بعدما صار هو نفسه سلطانا، وصار الآن أمره مطاعا من مدينة سالونيك حتى البصرة، يذهب عبد الحميد إلى هناك كثيرا للقراءة ومشاهدة الطيور بموازاة الماء.
بعد أن تأمل السلطان عواقب انسحاب عثمان باشا، حمى عينيه من الشمس، ونظر بعيدا لتلألئ مياه البوسفور؛ راجيا أن يمسك بجمهرة مبكرة من طيور اللقلق أو مجموعة بعيدة المنال من طيور جلم الماء، ثم تتبع بنظراته سربا من طيور السمام وهي تنحني فوق الممرات المائية الممتدة من برج جالاتا إلى محطة قطار حيدر باشا الجديدة في حي قاضيكوي. وبخلاف طائر السمام، لم يكن يوجد ما يسترعي الانتباه بدرجة خاصة سوى التشكيلة المعتادة من طيور النورس وغراب البحر والسنونو. «ها أنت ذا.»
لم يكن عبد الحميد في حاجة لأن يلتفت، فهو يستطيع أن يميز صوت أمه في أي مكان. ومع ذلك استدار بالفعل، وقبل يدها ثم تزحزح ليفسح لها مكانا على المقعد. وعلى الرغم من أنها قد عمدت قصدا إلى قطع حبل أفكاره، وتجاهلت مرة أخرى أن تخاطبه باللقب الذي يليق به، فإنها أمه. «صباح الخير يا أمي. إنه صباح رائع، أليس كذلك؟»
قالت وهي ما زالت واقفة: «بلى، إنه صباح رائع. وأنا نادمة عن جد على مقاطعة استمتاعك به.» «من فضلك يا أمي اجلسي، فأنت تزيدين استمتاعي.»
قالت له: «لدي طلب صغير فحسب يا جلالتك، وعندئذ سأغادر.»
كانت أمه على قدر فائق من الجمال، حتى مع تقدمها في العمر. إنها قطعا فقدت قوامها الرشيق، وسطرت الحياة علامات الخبرة على وجهها، ولكنه ما زال في إمكانه أن يرى آثار ما جذب والده إليها بقوة.
استهلت كلامها وهي تقبض يديها خلف ظهرها قائلة: «كما تعلم، سيقيم القصر الأسبوع المقبل عشاء على شرف السفير الفرنسي وزوجته.»
قطب عبد الحميد حاجبيه؛ لقد كان السفير الفرنسي رجلا متعجرفا واضح الأغراض بدرجة مزعجة. ولم تكن زوجته أفضل منه حالا؛ فهي امرأة حمقاء بدينة كرست حياتها لإقامة الحفلات ورد التفاهات الاجتماعية. «أعلم أنك لا تميل إليه، لكن حفل العشاء تأخر طويلا، ونحن في حاجة إلى كل الدعم الذي يمكننا الحصول عليه إذا ما أردنا أن نكون قوة موازنة للروس.»
قال السلطان: «نعم، بالفعل علينا ذلك.»
Unknown page
لم يستطع أن يستشف من تعليق والدته ما إذا كانت قد تلقت أخبارا عن هزيمة عثمان باشا في بلفن أم لا. وتحسبا لعدم سماعها بالأمر، احتفظ عبد الحميد بأفكاره لنفسه.
استرسلت والدته قائلة: «لعلك تذكر أن السفير مغرم بكافيار البيلوجا على وجه الخصوص؛ فهو كثيرا ما يأتي على ذكر هذه الحقيقة في مراسلاته معي ومع الصدر الأعظم.» «أجل، أذكر أنه ذكر شيئا عن الكافيار. وإني متأكد أنك ستحرصين على تقديمه في العشاء.» «إنه في قائمة الطعام بالفعل يا جلالتك، ولكن لسوء الحظ أخبرني موسى بك هذا الصباح أن كافيار بيلوجا نفد من المخزن، وقال إنه طلب شحنة جديدة، لكنها تأخرت بسبب أعمال العنف المندلعة في المنطقة، ولن تصل إلا بعد انتهاء الحفل.» «يا له من سوء حظ شديد يا أماه!»
لطالما احتدم الخلاف بين والدة السلطان وموسى بك، حارس مخازن القصر، منذ أن كان السلطان أميرا صغيرا. وبالمقارنة بصراعات القصر، لم يكن هذا الخلاف خطرا نسبيا؛ بل مجرد حرب استنزاف رغب كل طرف فيها فيما هو أكثر قليلا من مجرد مضايقة خصمه. وبدأ عبد الحميد يشك مؤخرا أن نفور أمه العام من اليهود نبع من سنوات عراكها مع موسى بك، مع أنه كان يمكن أن يكون العكس تماما بكل سهولة.
قالت: «توجد عشر علب من سمك الحفش في المخزن.» «سيفي سمك الحفش بالغرض.»
واسترسلت قائلة: «هذا سيناريو أسوأ الفروض، وهو ليس شديد السوء في ضوء المعاناة الهائلة حولنا، ولكن في ضوء ما نعرفه من امتداح السفير لكافيار بيلوجا على وجه التحديد، واحتمال احتياجنا إلى مساندة حكومته في المستقبل القريب، رأيت أنه ربما يمكن أن أفتش جيدا عن بضع علب في مخزن حفظ اللحوم خاصتك، غير أن موسى بك لن يسمح لي بالدخول؛ فقد قال إن الدخول إلى هناك يقتضي أمرا صريحا من فخامة السلطان نفسه.»
حك السلطان أصابعه في الحبيبات الخشبية للمقعد. لماذا يأتيه الناس دائما بمثل سفاسف الأمور هذه؟ هل سلطان الإمبراطورية العثمانية في حاجة بحق إلى أن يشغل نفسه ببضع علب من الكافيار؟ لقد كانت لديه شئون أهم ليتفرغ لها؛ مثل شئون الدولة وشئون الحرب والعلاقات الدبلوماسية الدولية.
قال السلطان باذلا قصارى جهده كي يحتوي غضبه: «سأطلب منه ذلك صراحة.» «ثمة أمر آخر يا جلالة السلطان.» «ما هو يا أمي؟»
قالت وهي تحدق إلى قدميه: «يبدو أن خفيك قد أفسدتهما رطوبة الحدائق. وإذا راق لك أن أحضر لك خفا آخر أو حذاء فأنا في خدمتك.» «كلا. شكرا لك يا أمي، لكن أظن أن لا حاجة لي بتغييره الآن.» «حسنا.» هكذا قالت، ثم استدارت لترحل وهي منحنية.
الفصل الثالث
على الرغم من جهود روكساندرا المتكررة لترويع الهداهد، جثمت الهداهد التي شهدت مولد إلينورا على نحو دائم في شجرة تين خارج منزل كوهين، فأصبح الممر الأمامي مغطى دائما بطبقة لزجة من فضلات الطيور الخضراء والبيضاء. في البداية لم يكن واضحا سبب الإصرار الشديد للسرب على سكنى هذه الشجرة بعينها؛ لماذا يتحملون المكنسة والمواد المبيضة والمياه المغلية في حين كان يوجد عدد كبير من المآوي القريبة الأكثر ترحيبا، ولكن أصبح جليا بمرور الوقت أن انجذابهم ارتبط بطريقة ما بإلينورا، كما لو كانوا يعتبرونها جزءا من سربهم ؛ الملكة التي من دونها تصبح حياتهم بلا معنى؛ فهم ينامون عندما تنام، ويقفون حراسا لها عندما تستحم، وينفصل جمع صغير عن السرب ليتبعها عندما تغادر المنزل. اتسمت هذه الطيور بالغرابة في مظهرها وسلوكياتها، ولكن في نهاية المطاف بات سرب إلينورا جزءا من الحياة اليومية؛ شيئا ثابتا ومألوفا فوق إيست هيل. ولم يكن أهل المدينة يعيرونه انتباها أكثر من الذي يعيرونه للحمام المصطف بطول مزاريب فندق كونستانتسا. وفي نهاية الأمر استسلمت روكساندرا لتنظيف الممر الأمامي كل أسبوع بالماء الساخن والمواد المبيضة.
Unknown page
ربما كان أمر الهداهد سيثير مزيدا من الغرابة ما لم تكن إلينورا نفسها مخلوقا استثنائيا. فعندما كانت رضيعة بين ذراعي مرضعتها، كان يستطيع المرء أن يميز بالفعل اللمحات الأولى التي ستزهر فيما بعد وتتحول إلى جمال أخاذ هادئ؛ متمثل في وجنتيها الجذابتين الحمراوين اللتين تتوجهما بضع خصلات من الشعر المجعد، وعينين خضراوين واسعتين بلون زجاج البحر، وأسنان لبنية كمعكبات العاج الصغيرة. وقلما كانت تصرخ، وقد خطت خطواتها الأولى في الشهر الثامن، وفي عمر السنتين كانت تنطق بجمل كاملة. وكانت تؤثر على المحيطين بها بمنطق طفولي، مع أنه اتسم بالدقة على نحو مذهل، وجذبت قوة حضورها - ذلكم البهاء والنقاء الداخليان اللذان لا يمكن وصفهما - الناس إليها من كل أنحاء السوق محملين برغبة لتقبيل جبهتها فحسب. ورغم هذا التفرد الذي لا شك فيه، كان معظم طفولة إلينورا عاديا للغاية؛ فقد أمضت أيامها تنام وتأكل وتستكشف العالم من حولها، وتلعب باستخدام الملاعق الخشبية والأواني في المطبخ، أو تستغرق في تأمل نقش على إحدى السجاجيد في غرفة المعيشة.
ومن بين ذكريات إلينورا المبكرة الحكايات التي كان والدها يقصها عليها أحيانا بعد العشاء. فعندما كانت تتسلق حجره، كانت تستطيع أن تشعر بملمس سترته الصوفية الخشنة على ذراعها. صوت طقطقة النيران، ورائحة الجلد البالي للمقعد، وروكساندرا ترتق الملابس في زاوية الغرفة. وقبل أن يستهل يعقوب قصته، يضع يده في جيب معطفه، ويخرج حفنة ضئيلة من قطع التوباكو الصغيرة، ثم يحشوها في غليونه بالجانب المسطح من إبهامه . وكانت فوهة الغليون على شكل رأس أسد لونه بني مذهب، منحوت من حجر يسمى المرشوم. حبست إلينورا أنفاسها، بينما أخرج والدها علبة الثقاب من جيب معطفه، وأشعل أحد أعواد الثقاب، وقربه من التاج الذي يعلو رأس الأسد. بدا هذا المشهد كما لو كان طقسا من الطقوس القديمة وهم الوحيدون المتبقون لحراسة أسراره. وبعد أن سحب عدة أنفاس من الغليون لإحمائه، وضع إحدى يديه على كتفها وسألها إن كانت تبتغي أن تسمع قصة. وبالطبع، كانت توافق دائما.
كانت قصص أبيها تدور حول الحكماء والرحالة والتجار والحمقى، وكانت قصصا عن بوخارست وباريس وفيينا وجميع المدن البعيدة الأخرى التي زارها في ريعان شبابه، ومدن أخرى مثل لانتشو وأنديجان وبرسبوليس وسمرقند؛ مدن ذات حدائق معلقة، وبروج شاهقة تطاول عنان السماء، وناس أكثر مما يمكنك أن تتخيل؛ مدن بها نمور تتربص في الظلال، وأفيال تدب وسط الشارع؛ مدن قديمة قدم الجبال تعج بالسحر الخير والشرير. لقد زار والدها كل أنحاء العالم، وشاهد أماكن أكثر مما يستطيع حصرها، لكن مدينته الفضلى عن كل المدن الأخرى كانت محور ارتكاز القارات العريق، موطن آيو وجوستينيان، موضع حسد قنسطنطين وسليم، لؤلؤة البوسفور، الجوهرة المتلألئة في مركز الإمبراطورية العثمانية. كانت مدينته الفضلى هي إسطنبول، وهناك دارت أحداث أفضل حكاياته.
بخلاف قصص والدها، تمثلت أولى ذكريات إلينورا في واقعة حدثت بعد عيد ميلادها الرابع مباشرة. كان عصر يوم كئيب هادئ في مطلع الخريف، عندما لاحظت للمرة الأولى قوة تركيزها. جلست إلينورا القرفصاء تحت أقدام الطماطم المعترشة، وهي حافية القدمين، ترتدي ثوبا بسيطا أحمر اللون مصنوعا من القطن، تحفر بأصابعها حفرة في الأرض الرطبة المتكتلة. هب على التل نسيم دافئ، وكانت الهداهد تلغو فيما بينها، ومن الخلف يمكن للمرء أن يرى الطريق المؤدي إلى نافوداري. وكانت قد أمسكت لتوها بحشرة رمادية لامعة، وأخذت تشاهدها وهي تبسط جسدها في راحة يدها، بينما تناهى إلى مسامعها صوت خشخشة قادم من حافة الحديقة. كان ظبي يطل في تردد برأسه من الغابة. شاهدته وهو يخطو خطوة للأمام نحو رقعة البصل، ثم نصف خطوة إلى الوراء. ولم تكن رؤية ظبي في الحديقة بالشيء الغريب، لكن ثمة شيء ما في هذا الظبي الصغير بعينه لفت انتباهها. وبعد مراقبته لبضع دقائق وهو يتحرك وسط أشجار الطماطم، قررت أن تتبين أمره.
أعادت إلينورا الحشرة إلى حفرتها، ثم نهضت وعبرت الحديقة. لم يتحرك الظبي، مع أنه بدت عليه أمارات القلق لكونه على هذه الدرجة من القرب من إنسان. وقفت إلينورا على حرف رقعة البصل، على مسافة أقل من ذراع من الظبي، فاستطاعت أن تشعر بأنفاسه الدافئة الرطبة على جبهتها. ونظرت إلى ثبات عينيه اللامعتين، ثم مدت يدها ببطء لتضعها عند الجزء السفلي من رقبته. ظل الظبي ساكنا في مكانه. وبخلاف رجفة فتحتي أنفه وانبعاث نفسها الخفيف، وقف كلاهما بلا حراك تماما.
عندئذ، وفي حركة واحدة، أخذ الظبي خطوة إلى الوراء وخفض قرنيه، رافعا ساقه اليسرى كما لو كان جنديا يقدم سلاحه للمعاينة. وعلى الفور أدركت إلينورا سبب انزعاج الظبي، وعرفت ما عليها أن تفعله. كانت توجد فوق حافره مباشرة شوكة؛ قطعة معدنية معقوفة مدفونة على عمق كبير داخل اللحم. بدا الظبي وكأنه قد اخترق أحد الأسوار، أو لعلها أداة صيد علقت به. أزاحت إلينورا خصلة شعر عن عينيها، ثم أمسكت بالطرف المجروح بيدها وتفقدت الجرح. كانت الأوردة المحيطة به تنبض بشدة، وتجمعت رغوة بيضاء على القطعة المعدنية. انتصب شعر ساق الظبي حين قربت إلينورا يدها الأخرى منها. ثم طرفت بعينيها، وبسحبة واحدة سريعة انتزعت الشوكة.
بينما كانت إلينورا تشاهد الظبي وهو يقفز بعيدا عبر الغابة، اقشعر بدنها للتفكير فيما فعلته توا. راحت الهداهد فوقها تغرد بصوت مبحوح، وبدا صوت انسحاق الأعشاب تحتها كأنه تصفيق خفيف، ولكن الاحتفاء بها لم يدم طويلا؛ فبعدها بلحظة أمسكت من تحت إبطيها وحملت إلى الحمام.
قالت روكساندرا وهي تنزع عنها فستانها: «ممنوع منعا باتا أن تفعلي هذا مرة أخرى، فلو عرف هذا الخبر ...»
وقفت إلينورا مطأطئة رأسها ترتعش في منتصف الحمام، بينما كانت روكساندرا تعد لوفة الاستحمام. لم يسبق أن رأت إلينورا خالتها في تلك الحالة؛ فقد بدت مرتجفة، بل كادت تكون مرتعدة. «ماذا تقصدين يا روكساندرا؟ ما الذي جنيته؟»
بدلا من أن تجيبها، أخذت روكساندرا تحك جسدها بقوة باستخدام لوفة مبللة بالصابون، بادئة بالذراعين ثم اليدين، ولا سيما بين الأصابع.
Unknown page
قالت إلينورا منتحبة: «من فضلك، أخبريني ما الخطأ الذي اقترفته؟ لا أستطيع أن أكون بحال أفضل ما لم أعرف ما الذي جنيته!»
توقفت روكساندرا عن حك جسدها. «ليس من الجيد أن نلهو مع الحيوانات. أخشى أن يراك أحد من الناس! كفانا ما لدينا من مشكلات بسبب شكوك الناس في اليهود واشتغال والدك في توريد السجاد باستمرار إلى إسطنبول. وآخر ما نرجوه هو لفت المزيد من الأنظار إلينا.»
قالت إلينورا: «لكنه كان مجروحا. كانت توجد قطعة معدنية مغروسة في ساقه، وأرادني أن أساعده.»
غمست روكساندرا اللوفة في الماء البارد، وأخذت تحك جسدها مرة أخرى. «لا يعنيني ما ظننت أن هذا الظبي يريده. لا أريد أبدا أن أراك تفعلين شيئا كهذا مرة أخرى، ولا أريدك أن تخبري أي شخص بهذا الموضوع، ولا حتى والدك. أتفهمينني؟»
كانت إلينورا أذكى من أن تعترض، وعندما فرغت من الاستحمام اعتذرت بشدة لروكساندرا عما بدر منها، ووعدتها ألا تلهو أبدا مع الحيوانات مرة أخرى. وظنت إلينورا أن الموقف قد انتهى عند هذا الحد، وقد كانت محقة من ناحية ما في ذلك؛ إذ لم تأت خالتها قط على ذكر الواقعة مرة أخرى، إلا أن إلينورا لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في أن ثمة علاقة ما بين الظبي وما أعلنته روكساندرا في صبيحة اليوم التالي وقت الإفطار؛ حيث قالت إنه آن الأوان كي تبدأ إلينورا في تعلم مهارات التدبير المنزلي. فهذه المهارات سوف تنفعها أيما نفع لبقية حياتها، وسوف تساعدها في جذب زوج مناسب، والأهم أن اليد البطالة نجسة. ومع أن يعقوب أبدى بعض التحفظات بشأن هذه الخطة، فإنه خول سلطته في هذه المسألة إلى روكساندرا، التي أكدت له أن إلينورا قادرة تماما على أداء المهمة. وهكذا حسم الأمر.
قالت روكساندرا: «سيكون الدرس الأول تعلم الحياكة.»
وضعت روكساندرا يدها في جيب مئزرها الأمامي، وأخرجت أحد مناديل يعقوب القديمة وإبرة وبكرة خيط. «أترين هذا؟»
مالت فوق كتف إلينورا وأشارت إلى غرز عظام السمك الزرقاء بطول الحافة الخارجية للنسيج. أومأت إلينورا برأسها إيجابا، ثم سندت مرفقيها على الطاولة وأسلمت ذقنها إلى راحة يديها. «كرري النقش نفسه بطول الحافة الداخلية. وإن كانت لديك أي استفسارات، فأنا في المطبخ.»
نظرت إلينورا إلى الإبرة والخيط الملتف مثل ثعبان في منتصف النسيج. لن يكون هذا ممتعا على الإطلاق، لكن لم يكن بوسعها أن تفعل أي شيء كي تعترض. أمسكت إلينورا بالإبرة بين إبهامها وسبابتها، ثم حدقت إلى ثقبها. وبعد أن أغمضت عينيها نصف إغماضة، ضغطت طرف الخيط بين الإبهام وسبابة اليد الأخرى، وبتركيز شديد تمكنت من أن تدخل الخيط في ثقب الإبرة. تصير الحياكة سهلة بمجرد إدخال الخيط في الإبرة. صنعت إلينورا الغرزة الأولى وهي حذرة كي لا توخز نفسها ثم سحبت الخيط بإحكام، ثم صنعت غرزة ثانية، وثالثة، ورابعة. لم يكن النقش صعبا للغاية؛ فكل ما هنالك أنها تصنع الصفين نفسيهما مرارا وتكرارا، ثم تكرر الشيء نفسه حول حافة النسيج. كان عملا مثيرا للضجر، لكنه لم يكن شديد الصعوبة.
هكذا كان شكل حياة إلينورا في الأشهر التي أعقبت حادثة الظبي؛ كانت حياة مضجرة لكنها ليست بالغة الصعوبة. كانت تساعد روكساندرا في الأعمال المنزلية؛ تمارس الحياكة وتقشر الخضراوات، تنفض الأتربة وتنظف الممر الأمامي. وفي يوم الأربعاء من كل أسبوع تنظفان معا الأرضيات، وفي أيام الآحاد تغسلان الملابس، أما يوم الإثنين فتنزلان إلى أسفل التل لارتياد السوق حيث علمتها روكساندرا للمرة الأولى فن التفاوض على الأسعار. لم يكن التدبير المنزلي بالسوء الذي توقعته إلينورا، وبصرف النظر عما كان يتعين عليها القيام به في الصباح أو بعد الظهيرة، كانت على الدوام تتطلع إلى حلول الساعة السادسة، تلك الساعة المبهجة التي تسمع فيها دون أن يخيب أملها أبدا صوت مقبض الباب وصرير وقع أقدام والدها على العتبة. كانت إلينورا تركض نحوه وتدفن وجهها في سترته، مستنشقة الرائحة التي تبدو كغبار الصوف الممزوج بشراب الكركديه، وكانت توقن في تلك اللحظات أن كل شيء سيكون على ما يرام.
Unknown page
في الربيع الذي سبق عيد ميلاد إلينورا السادس، ذلك الوقت الذي كانت قد تعلمت بحلوله أساسيات التدبير المنزلي جيدا إلى حد ما، اقترحت روكساندرا أنه ربما حان الوقت لأن تبدأ إلينورا تعليمها الأكاديمي؛ فرجال هذا الزمن يريدون امرأة تستطيع القراءة والكتابة والحساب؛ امرأة بمقدورها أن تراجع الحسابات وتطلب من القوائم. لم يمانع يعقوب في توسيع مدارك ابنته، وهكذا حسم الأمر. وعليه، فقد بدأتا في هذا الصباح نفسه بأول كتاب قراءة كانت تقرؤه روكساندرا في شبابها، وهو كتاب أخضر صغير كان بحالة جيدة على نحو مثير للدهشة. وفي وقت الغداء، كانت إلينورا قد تمكنت من تعلم الحروف الأبجدية، وشكل كل حرف، والأصوات المختلفة لكل حرف طبقا لموقعه في الكلمة. وبحلول وقت العشاء كانت قادرة على تركيب الجمل. وفي مساء هذا اليوم، حفظت درسها الأول، وكان محاضرة حول عادات التماسيح. رددت إلينورا، وهي تدير ظهرها للمدفأة ويداها متعانقتان أمامها، الدرس بأكمله أمام والدها وروكساندرا. «أكان هذا صائبا؟»
التفتت إلينورا إلى خالتها التي كانت تنظر في الكتاب لتتابع ما تقوله.
قالت خالتها ووجهها يكتسي باللون الشاحب الذي يدل على الدهشة: «أجل، بدقة متناهية!»
أخرج يعقوب الغليون من فمه، وأمعن النظر في ابنته في فضول، كما لو كانت شخصا التقاه في مكان ما منذ أمد بعيد ويحاول أن يتذكر اسمه. «متى تعلمت هذا الدرس يا إيلي؟» «اليوم بعد العشاء يا بابا.» «وتعلمت هذه الفقرة بأكملها الآن فحسب؟»
أخذت إلينورا تحول نظرها من والدها إلى روكساندرا جيئة وذهابا. «هل قلت شيئا خطأ؟»
شعرت إلينورا بدفء النيران في مؤخرتي ساقيها بينما كانت تنتظر ردا منهما. «لا يا إيلي، لم تقولي شيئا خطأ على الإطلاق. كل ما هنالك أننا شعرنا بالذهول، أو أنا على الأقل، من سرعة تعلمك للدرس.»
قالت روكساندرا وهي تقلب في صفحات الكتاب: «هذا غير معقول، كان ينبغي أن يستغرق هذا شهرا على الأقل، ربما أسبوعين بالنسبة إلى طفل شديد الذكاء.»
أخذ يعقوب نفسا عميقا من غليونه، ثم التفت إلى ابنته. «أخبرينا كيف فعلت هذا يا إيلي؟»
لم تعرف بم تجيب. كيف لها أن تفسر شيئا غاية في البساطة؟ لقد تعلمت الحروف، وبشيء من التركيز قامت بذلك.
أجابت إلينورا وهي تخطو خطوة صغيرة مبتعدة عن المدفأة التي صارت شديدة السخونة على نحو غير مريح: «فور أن تعلمت صوت كل حرف، فور أن أتقنت هذا، كنت أنظر إلى الكلمات وأسمعها في رأسي. وما إن استطعت سماع الكلمات في رأسي، حتى كان من السهل حفظ الدرس.»
Unknown page
في تلك الليلة تناهى إلى مسامع إلينورا شجار دار بين والدها وخالتها، ولم تستطع أن تسمع بالتحديد ما كانا يقولانه، لكن بين صوت طرق القبضات وصفق الأبواب، فهمت أن والدها كان مع استمرار تعليمها، في حين أن خالتها كانت تعارض ذلك. وفي صباح اليوم التالي عند الإفطار، صرح والدها أنه سيتولى تعليمها الأكاديمي في حين أن روكساندرا ستظل مسئولة عن تعليمها المنزلي. أومأت روكساندرا برأسها باقتضاب وهي تغطي قطعة من الخبز بالزبد. ومنذ ذلك الصباح، صار يوم إلينورا مقسوما بين هذين العالمين؛ ظلت أوقات الصباح وبعد الظهيرة مشغولة بالإبرة والخيط ومنفضة الريش وفرشاة تنظيف الأرضيات، أما أوقات المساء فقد خصصت للدروس الأكاديمية فحسب.
على مدار الأسابيع القلائل الأولى، انصب تعليم إلينورا الأكاديمي في المقام الأول على حفظ الدروس من كتاب القراءة، ووصف العواصم الشهيرة، ومحاضرات حول عادات الحيوانات المختلفة، وقصص قصيرة عن أطفال تستهويهم إثارة المتاعب والأفعال المشاغبة. لكن سرعان ما بات جليا أنها على استعداد لتلقي مواد قراءة أكثر تقدما. وحينها انتقلا إلى المكتبة التي تقع في ركن غرفة المعيشة؛ وهي ذات تصميم فخم من خشب الدردار يزينه على كلا الجانبين زوج من القطط الصينية الخزفية، وأرففها مليئة عن آخرها بفيض غزير من الكتب المجلدة بالأغلفة الحمراء والزرقاء والخضراء والسوداء، منها الطويل والقصير، والسميك والرفيع، وكعوبها مزخرفة بكل أشكال الكتابة. وطوال الأشهر الستة التالية قرأت إلينورا الكثير من الكتب الموجودة بالرف السفلي، فكانت تجلس على حجر والدها وهو يدخن غليونه ويتخلل شعرها بأصابعه بين الحين والآخر. قرأت إلينورا «خرافات إيسوب»، و«رحلات جليفر»، و«الفرسان الثلاثة»، و«روبنسون كروزو»، و«ألف ليلة وليلة». وبالإضافة إلى القراءة، علمها والدها الكتابة والحساب وأصول اللغة التركية، وقد أتقنتها جميعا بسهولة مذهلة.
ومراعاة لما أطلق عليه والدها مخاوف روكساندرا، أخبرت إلينورا مرارا وتكرارا أنه يحظر عليها تحت أي ظرف التحدث عن دروسها خارج المنزل. ولم تع إلينورا الغرض من هذه القاعدة، لكنها التزمت بها على أي حال؛ حيث إنها تعلمت منذ زمن طويل أنه من الأفضل الامتثال لمخاوف روكساندرا، سواء أكانت منطقية أم لا. وعلى أي حال، لم تكن هذه قاعدة يصعب الالتزام بها كثيرا؛ فبخلاف العطلات والنزهات التي يذهبون إليها بين حين وآخر، لم تكن إلينورا تغادر المنزل سوى مرة واحدة أسبوعيا عندما تذهب روكساندرا للتسوق في سوق يوم الإثنين.
وفي أحد أيام الإثنين، في مطلع الربيع في عام إلينورا السابع، كانت روكساندرا وإلينورا تنهيان تسوقهما في متجر العاديات الخاص بالسيد سيداميت عندما بدأت السماء تمطر. كانت عاصفة مفاجئة وشديدة، دفعت جميع من بالسوق إلى اللجوء إلى مأوى من المطر. وجد باعة الفاكهة مأوى لهم في رواق صغير بعيدا عن ساحة المدينة، أما الهداهد التي كانت تتبع إلينورا عبر التل فقد جثمت تحت سقيفة فندق كونستانتسا. واحتشد عدد من الناس في متجر السيد سيداميت متظاهرين بالتفكير في شراء برطمان الشمندر هذا أو علبة البطارخ هذه. وفاح المتجر برائحة السراويل المبللة، وامتلأ البرميل المتاخم للباب بالمظلات.
قالت روكساندرا وهي تجذب إلينورا نحو الخزينة: «مساء الخير.» ومدت إلينورا عنقها فلفتت نظر موظف شاب يدعى لورنتيو.
قال الموظف: «مساء الخير أيتها السيدة كوهين.» ثم انحنى فوق الخزينة وأعطى إلينورا قطعة حلوى قائلا: «مساء كثير الخيرات أيتها الآنسة كوهين.»
يعمل لورنتيو - ذلك الصبي ذو الشعر الأشعث والابتسامة الودودة - في متجر السيد سيداميت منذ وقت طويل على قدر ما تستطيع أن تذكر إلينورا. وكان يتميز بروح طيبة، رغم أنه كان بطيئا في عمله، وأكثر من مرة وضع بضاعة أخرى خلاف ما تريدان في حقائبهما، وكانتا تضطران أن تهبطا التل مرة أخرى لاستبدالها.
قالت روكساندرا: «نريد كيلوجراما من الفاصوليا، وقطعتين من هذا الصابون الأخضر الموجود هناك بالأعلى، وكيلوجراما من العدس الأصفر، و...» ثم توقفت لتنظر في قائمتها، ثم استرسلت قائلة: «بكرتي خيط، وعلبة حلوى، ومائة جرام من الكمون.» «هل هذا كل شيء أيتها السيدة كوهين؟» «أجل.»
بعد أن كرر لورنتيو القائمة على مسامعه، راح في أرجاء المتجر يجمع كل شيء طلبته روكساندرا، مكوما الأغراض في ذراعه اليسرى، بينما كان يضع البضائع الكبيرة في أكياس بيده اليمنى. وبعدها بلحظات عاد محملا بالأغراض، ملفوفة بإتقان في ورق بني ومربوطة بحبل. «روبلين بالتمام.»
أخرجت روكساندرا حافظة نقودها، وكانت تعد النقود في يدها عندما رفعت إلينورا يدها كي تشد كم ثيابها. «ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا يا خالتي روكساندرا.»
Unknown page
تظاهرت روكساندرا بأنها لم تسمع، وأعطت الفتى النقود. «شكرا لك لورنتيو.»
أصرت إلينورا وهي تشد كم ثيابها بقوة: «لكن يا خالتي روكساندرا ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا فقط.»
قالت روكساندرا وهي ترفع صوتها: «لا تكوني سخيفة. أتظنين أنك تعرفين الأسعار أفضل من لورنتيو؟»
ولأن روكساندرا كانت تعي وجود الزبائن الآخرين، أحكمت قبضتها على إلينورا من مؤخرة ياقة ثوبها، وهمت بجذبها نحو الباب، ولكن صوتا قادما من ناحية الخزينة الأخرى أوقفهما. «كم قلت إنه ينبغي أن يكون الحساب؟»
كان هذا صوت السيد سيداميت، وهو أحد أبناء إقليم دوبروجا، ذو وجه يشبه سدادة القنينة، وكان يزورهم في المنزل بين الحين والآخر لاحتساء الشاي مع يعقوب بعد تناول العشاء.
كرر السيد سيداميت سؤاله وهو ينحني نحوهما بأدب: «كم قلت إنه ينبغي أن يكون الحساب؟ لا نريد أن نغرمك سعرا أكبر من السعر الحقيقي أيتها السيدة كوهين.»
شعرت إلينورا بارتخاء القبضة عن ياقتها.
قالت روكساندرا وهي تمط شفتيها استهجانا: «تكلمي ، أخبريه ماذا قلت.»
رفعت إلينورا عينيها مرة أخرى نحو خالتها قبل أن تهم بالكلام.
قالت إلينورا وهي تعدل ثيابها: «ينبغي أن يكون الحساب روبلا ونصفا فقط؛ فكيلو الفاصوليا ثمنه أربعون قرشا، وثمن قطعة الصابون الواحدة عشرة قروش، والعدس الأصفر ثمنه خمسة وثلاثون قرشا، وثمن بكرتي الخيط عشرون قرشا، وعلبة الحلوى بخمسة عشر قرشا، والمائة جرام من الكمون ثمنها ثلاثون قرشا. إذن الحساب مائة وخمسون قرشا.»
Unknown page