Verifications
للنظرية. وما من شيء يحدث إلا هو تأييد لها. بذلك بدا صدقها أمرا ظاهرا وبدا أي منكر لها مكابرا مبينا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان «الكبت» التي لم تحلل بعد والتي تصرخ طلبا للعلاج.
هكذا بدأت الشرارة الأولى في ثورة بوبر المنطقية على العلم الزائف. لقد استوقفه التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة، ونظرية أينشتين من جهة أخرى. كان الماركسيون والفرويديون يرون أينما نظروا تأييدات لنظرياتهم، بينما جهد أينشتين غاية الجهد لكي يصوغ تنبؤا بالغ الدقة والتحديد وقابلا للملاحظة، ومن شأنه إذا كذبته الملاحظة أن يدحض النظرية ويأتي عليها. لم يكن الفارق الذي استرعى انتباه بوبر في هذا الأمر فارقا سيكولوجيا يتعلق بالنزاهة العلمية في مقابل العناد والمكابرة وعدم الرغبة في الاعتراف بوجود حالات لا تؤيد النظرية. وإنما الفارق منطقي محض يتعلق بطبيعة البنية المنطقية للنظرية الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها «محصنة» من التكذيب. يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا، فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدا أو لا تمطر» لن تعتبر عبارة تجريبية، لسبب بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من عبارة «ستمطر السماء هنا غدا» التي ستؤخذ على أنها عبارة تجريبية.» أما العلم الزائف فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه، فقضايا التحليل النفسي مثلا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء الملاحظة، ومن ثم لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيء ونقيضه، ولا يقدم لنا ما عسى أن تكون عليه الأشياء الملاحظة لو أن قضاياه كانت كاذبة. إن الفارق يجب أن يحدث فارقا، ولو كانت قضايا التحليل النفسي تقول شيئا محددا عن عالم الواقع لتسنى لها أن تحدد مشاهدات ممكنة كانت حرية أن تقع لو أنها كانت كاذبة؛ أي أن تحدد لنا أي فارق كان يحيق بعالم الشهادة لو أن ما تنبئنا به النظرية كان مجانبا للحق وكانت الأمور تسير في حقيقة الأمر على وتيرة أخرى.
ثمة وجه شبه لا تخطئه العين بين تأويلات المحللين النفسيين وبين أقوال المنجمين، وقد أشار بوبر في قصته إلى أن المنجمين أيضا كانوا مبهورين ومضللين بما كانوا يظنونه أدلة مؤيدة بحيث لم يلتفتوا البتة إلى أي دليل عكسي. وفضلا عن ذلك فقد كان بوسعهم بما يضفونه على تفسيراتهم وتنبؤاتهم من غموض أن يتملصوا من أي شيء كان حقيقا أن يفند النظرية لو أن النظرية والتنبؤات كانت أكثر دقة وتحديدا. فهم لكي يتفادوا تكذيب النظرية قاموا بتحطيم قابليتها للاختبار، ومن الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقة غامضة تجعلها عصية على الإخفاق-تجعلها غير قابلة للدحض.
5 (6) بين مآخذ بوبر على التحليل النفسي ومآخذ السلوكية
يأخذ البعض على فرويد أنه كان يتجنب أية معالجة كمية لمواده التجريبية، وأنه لم يصل إلى نتائجه بواسطة استدلال منطقي واضح، وأن ما نجده في كتاباته هو النتيجة النهائية لتفكيره بدون المادة الأصلية التي يعتمد عليها، ومن ثم يستحيل تكرار أي من بحوثه بدقة علمية. كما أنه لم يستخدم الأساليب التجريبية والتقييمات الموضوعية، وإنما كل نظرياته قائمة على الوقائع والخيالات التي كانت ترويها له شخصياته المريضة، والتي كان يسجلها بعد ساعات من سماعها، مما يجعلها هي ذاتها موضع شك، وهو لم يحاول التحقق من أقوال المرضى بمضاهاتها بأقوال أي من معارفه أو بأي طريقة أخرى اعتمادا على ثقته في التداعي الطليق.
غير أن هذه المآخذ ليست من التكذيبية البوبرية في شيء، والحق أن أغلب هذه المآخذ يعكس التعاليم المنهجية للعلوم الطبيعية والمذهب السلوكي، والتي قد لا تلائم دراسة الإنسان وقد لا تلائم العلوم الإنسانية بعامة. ففي مجال دراسة النفس البشرية يتعذر في كثير من الأحيان التحقق من الفروض أو نفيها بالطريقة العلمية المعيارية من خلال تكرار المواقف وضبط التفاعلات بين الأحداث واستجابات الأشخاص موضوع الدراسة. وفي العلوم الإنسانية بعامة فإن تكرار موقف تاريخي فردي أو جماعي هو أمر مستحيل في الأساس. ورغم ظهور ما يبدو أنه تكرار، فإنه في كل حال نتاج جهد خادع وهمي لتجريد الذات من التاريخ، وهي طريقة أساسية تستخدم لاختزال المسئولية الفردية وما يصاحبها من قلق، وفي محاولة ضبط المتغيرات، فإن النموذج العلمي المعاصر يضفي دورا سلبيا ضمنيا للأشخاص. ففي مثل هذه التجارب يعرض الشخص لمنبه، ويخضع لظروف مضبوطة معينة، والفرد لا ينظر إليه فقط بوصفه «موضوعا»
Object
بل إنه يعامل على أنه كذلك. وتدرس الاستجابة المجزأة المضبوطة بعناية، وليس الفعل الإنساني، ومن ثم فإن السلوك يخطط له بصورة يصعب فيها التعرف عليه. ومن الواضح أن ذلك نوع من «النبوءة المحققة لذاتها»، يتعرض فيه الناس لقواعد تتحكم في التجربة، وتحرمهم من المبادأة والابتكارية أو حرية الفعل، وفي محاولة التحكم في تلك العوامل المشوشة للعلاقات بين الأشخاص، فإن القائم بالتجربة يتجنب الأحداث الإنسانية الفريدة بوصفها الأحداث المركزية الجديرة بالدراسة. وبالتالي فإن الأشخاص الذين يعاملون بهذه الطريقة يغلب أن يستجيبوا طبقا لذلك،
6
Unknown page