وصل إلى لندن بعدما أتم دراسته الجامعية ورأسه مفعم بالنظريات، ثم أحس بشيء من القلق، ولم يطمئن إلى نظرياته كل الاطمئنان، وأدرك أنها لا تعالج مشاكل الحياة الكبرى، فتمم الرأي بالخبرة، والعلم بالتجربة. أدرك أن حجرة المعلم لها جمال البساطة، ولكن بالأرض والسماء كنوزا غنية من المعارف ، لا تخضع لأي نظام فلسفي، ولا يحلم بها رجال الفكر. أدرك هكسلي بعد قدومه إلى لندن أن آراءه لا تقنعه كل الإقناع، واشتغل بالصحافة، ورأى عن كثب سلوك الرجال والنساء، وكيف تسير الأمور، فتعلم ألوف الأشياء التي لم يتطرق إليها منهج الجامعة، فجمع هكسلي بين الثقافة النظرية والخبرة العملية.
وهكسلي من أبناء الطبقة المتوسطة، لا هو بالغني الذي يتوفر له الفراغ، ولا بالمعدم الذي يشغل وقته كله بكسب القوت، وقد تأثر بهذا الوضع الاجتماعي في أدبه، فسخر من أبناء الطبقة الرفيعة، كما عبر عن تقززه واشمئزازه من الفقر المدقع، وإن كان يعطف على الفقراء، وانتهى هكسلي إلى شيء من اليأس، لا يرى نفعا في أي شيء.
ثم مل النقد والسخرية، وانصرف إلى التفكير في مستقبل العلم والعلماء، فكتب من بين ما كتب روايته هذه التي أقدمها إلى قراء العربية «العالم الطريف»
Brave New World ، وفيها يعبر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس، يصور في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، وهو يرى أن العالم الجديد - عالم العقاقير والآلات - تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال، في هذا العالم الجديد كل شيء آلي، وكل شيء مرسوم، أو محفوظ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم، ولعل هكسلي من بين الكتاب الأحياء جميعا الكاتب الوحيد الذي يستطيع أن يصور نتائج العلم بجرأة ووضوح، وهو في هذا الكتاب عالم وشاعر، يرسم لنا صورة مدهشة يتقزز منها القارئ، كما تقزز منها الكاتب.
في هذا الكتاب يتخيل هكسلي أن العلم سوف يصل بنا إلى حد الاستغناء عن الزواج وتكوين الأجنة في القوارير بطريقة علمية بدلا من تكوينها في الأرحام، والأطفال - بحكم تركيبهم الكيمائي - طبقات خمس: «أ، ب، ج، د، ه»، وكل طبقة تعد إعدادا خاصا يلائم تكوينها الجثماني واستعدادها العقلي، وعليها أن تؤدي في الحياة عملا معينا لا تغيره ولا تحيد عنه، وبين أبناء الطبقة الواحدة تشابه كبير في الخلق والخلق، حتى إن الفرد تكاد تنعدم شخصيته انعداما باتا. العالم الجديد ينكر الفردية والاختلاف الشخصي والتقلقل من حال إلى حال، وشعاره الذي يطالعك به الكاتب في الفصل الأول من الكتاب هو: «الجماعة، والتشابه، والاستقرار»، والعالم الجديد تهمه السعادة أكثر مما تهمه المعرفة، وهي سعادة آلية محضة لا توجهها الميول الشخصية، وإنما تفرض على النفوس فرضا.
إذا أردت شيئا في العالم الجديد، فإنك لا تفكر فيه ولا تسعى إليه، وإنما يكفيك أن تضغط على زر أو تدير مقبضا - كما يقول هكسلي - ليكون لك ما تريد، ولا شك أن هذه الحياة - رغم يسرها الشديد - تدعو إلى الملل، كما تؤدي إلى إهمال الفنون الرفيعة، والشعور الديني، والروح العلمية الصحيحة التي تهتم باكتشاف أسرار الطبيعة، أكثر مما تهتم بإسعاد الإنسان وراحته.
كل هذه الآراء يبثها هكسلي في قصة «العالم الطريف»، وهي ليست قصة بالمعنى المألوف؛ فهي تنعدم فيها العقدة أو تكاد، ولا تأبه بتحليل الشخصيات، وإنما هي قصة أساسها علمي، تهتم بشرح الآراء وتحليل الأفكار، وبنقد الحضارة الإنسانية من أساسها، وكثيرا ما يرسل الكاتب فيها نفسه على سجيتها، لا يتقيد بترتيب معين أو منطق خاص، يدون الأفكار وفقا لتواردها في ذهنه، فيجمع بين المتناقضات، ويؤلف بين القريب والبعيد، والعلوي والسفلي في أسطر قلائل، ويؤدي به هذا أحيانا إلى شيء من الغموض.
ونقدي لهذا الكتاب - بل ونقدي لأكثر ما كتب هكسلي - أنه سلبي؛ أي إن الكاتب يسخر ويتقزز دون أن يقدم لنا جديدا، فهو يهدم ولا يبني. إذا ذهب إلى السينما شاهد قصصا يقشعر لها بدنه، والجمهور المحتشد في دار السينما في عينيه قذر بليد في جسمه وعقله، آراؤهم سخيفة، وهم مخدوعون في أنفسهم أكبر خداع، وإن قرأ الكتب ألفاها سخيفة ومليئة بالآراء الوضيعة، وإن رحل إلى بلد جديد ألفى سكانه أغبياء بلهاء، لا يختلفون عن أولئك الذين خلفهم وراءه في أرض الوطن، وإن بحث في السياسة وجدها فاسدة، وفي الأخلاق ألفاها دنسة، وفي الروحية لم يجدها سوى مجرد «انتقال أفكار»
telepathy ، وفي مملكة الحيوان رآها تأكل وتتناسل وتتكاثر بغير فهم أو إدراك، وهكذا الأمر يتعلق بالمدينة الفاضلة العلمية؛ فهي ليست إلا خيال فئة من العلماء تمتلئ رءوسهم بالتفكير المادي، وتخلو قلوبهم من شعلة الروح.
ولا يذكر لنا هكسلي في أكثر ما كتب ما مثله الأعلى الذي يرمي إليه، وهو يفعل ذلك إلى درجة ما في كتابه هذا «العالم الطريف»؛ فهو هنا ينادي بالعودة إلى البساطة القديمة، وإلى الأمومة الصحيحة، إلى الأطفال ترعاهم أمهاتهم، وإلى الريف الذي لم يلوث بالعلم والمادة. ولم يتعرض هكسلي لبحث المثل العليا، وإصلاح عيوب المجتمع بصورة جدية إلا في كتابه «الوسائل والغايات»، الذي سبق لي أن نقلته إلى اللغة العربية ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر. في هذا الكتاب عرض ونقد وإصلاح لوسائل الحكم والإدارة الحديثة وللحروب، وفكرة المساواة، والتعليم والدين والمعتقدات والأخلاق، وغير ذلك من الموضوعات التي تهم جمهور القراء المثقفين.
Unknown page