قال الراهب: فهذه هي الآية التي ستقنعك كما أقنعتني، وستزيل عن نفسك الشك كما محته من نفسي محوا. أنشدك الله أتعلم أني عندك صادق ثقة مأمون؟
قال الراهب الشيخ: اللهم نعم!
قال «بحيرى»: نعم رأيت هذا، ولكني رأيته وحدي، ولم يره أحد من أولئك الذين كانوا يصحبون الصبي. فإذا حدثتك به فإنما أحدثك بما رأيت وبما لم ير غيري من الناس. فأما هؤلاء فقد ظنوا بي الظنون وأما أنت ...
قال الراهب الشيخ: فما أنكر شيئا مما تقول.
قال «بحيرى»: وأعجب من هذا أني كنت قد أنبئت بما رأيت! قد ألقى ذلك في روعي أثناء النوم في صورة مجملة غامضة، ولا أكاد أتبين منها إلا أني أحسست في تلك الليلة أن سيحدث لي حدث ذو بال إذا كان الغد. فأصبحت وإني لأنتظر شيئا، وأضحيت وإني لمستيقن أن سيحدث لي بعض الأمر. وما هي إلا أن يرتفع الضحى وإذا أنا أطلع من أعلى الصومعة فأرى ما يملؤني روعة وروعا: أرى هذا الصبي ينفرد بهذا الظل دون أن يشعر بذلك أحد، ودون أن يلتفت هو نفسه إليه أو يشعر به، حتى إذا دنت القافلة وحطت رحالها، جعل الصبي كلما انتقل انتقلت معه سحابته تلك، تظله وتقيه حر الشمس، ولا يشعر بذلك أحد، ولا يفطن لذلك إنسان. وأسأل من حولي: أيرون ما أرى؟ فإذا هم كغيرهم من الناس لا يرون. وأدعو القوم إلى طعام قد أعددته لهم لما رأيت ولما كان قد ألقي في روعي! فكلهم يستجيب لدعوتي إلا هذا الصبي، فإنهم يخلفونه في رحالهم. فأسأل وألح في السؤال، حتى أعلم أنهم قد حضروا جميعا طعامي إلا هذا الغلام، فألح في حضوره فيحضره القوم، وإنهم ليتلاومون على أن خلفوه! حتى إذا رفع القوم أيديهم عن الطعام، أخذت أحتال حتى أخلو إلى الشيخ الذي يصحب هذا الصبي. فما أزال أسأله وأستقصي أمره، حتى أعرف من حال الصبي ما حدثتك به. ثم أتحدث إلى الصبي نفسه، فيا للوجه المشرق المطمئن ينبئ عن نفس مشرقة مطمئنة! ويا للصوت العذب ينبئ عن خلق عذب! ويا للحديث الكريم ينبئ عن قلب كريم! وإني لأسأل الصبي وأستحلفه بأوثان قومه، فلا أرى منه إلا نفورا وازورارا، وإذا هو ينبئني بأنه لم يبغض شيئا قط كما يبغض هذه الأوثان. فأستحلفه بالله ليصدقني الحديث فيما أسأل عنه، فيجيبني إلى ما أردت. وأنا أسأله عن أمره، جليه وغامضه، وعما ينبغي أن يحدث له يقظان، وعما ينبغي أن يحدث له نائما، وعما ينبغي أن يحدث له مجتمعا إلى الناس، وعما ينبغي أن يحدث له خاليا إلى نفسه، فلا يجيبني إلا بما كنت أنتظر أن يجيبني به.
هنالك لم يبق في نفسي إلا أن أرى هذه الآية المادية بين كتفيه، فأنظر فأرى، فأقبل هذا الخاتم الكريم . وقد امتلأ قلبي حبا للصبي، وبرا به، وإشفاقا عليه من يهود؛ فإنهم يعرفون من أنبائه مثل ما نعرف، وينتظرون من أمره مثل ما ننتظر، ولكنهم يشفقون منه ويريدون به السوء.
وإذا أنا أتقدم إلى عمه الشيخ أن يعود به أدراجه، وأن يبالغ في حمايته وحياطته وصيانته من كيد يهود.
وإذا الشيخ يسمع لي في غير تردد، ويستجيب لي في غير مشقة، ويعود أدراجه بالصبي، ينتحل لذلك العلل والمعاذير، ويكل إلى بعض قومه أن يخلفه في تجارته.
ثم يطرق «بحيرى» شيئا كأنه يفكر فيما يريد أن يقول، وكأنه يريد أن يكره نفسه على كتمان بعض الأمر، ولكنه يعجز عن هذا الكتمان، ويرفع رأسه إلى الراهب الشيخ ويقول في صوت هادئ مطمئن: ولم يكد الشيخ يعود أدراجه بالصبي حتى يقبل علي هؤلاء - ويشير إلى بعض من صحبه - يلومونني أعنف اللوم، ويشاورونني في البغي على هذا الصبي. ولكن الله قد تأذن ليعصمنه من كل شر، وليحمينه من كل مكروه. ولولا ذلك لما رددتهم عما كانوا قد دبروه.
قال الراهب الشيخ: ما أرى يا بني إلا أنك قد حدثتنا حديثا صدقا! فطوبى لهذا الصبي! وطوبى لمن يصحبه! وطوبى لمن يدرك عهده ويؤمن به! وطوبى لك فقد رأيت ما لم نر، وكنت موفقا حين أبيت إلا أن تسبقنا إلى أعماق الصحراء، لتسبقنا إلى العلم بأنبائها. ثم التفت إلى صديقه الفيلسوف الشاب فإذا هو واجم، مغرق في الذهول، فيمس الراهب الشيخ كتفه كالمنبه له، ثم يسأله: أسمعت؟
Unknown page