قال «كلكراتيس»: إنه ليأتي من بعيد.
قال «أندروكليس» في شيء يشبه الذهول: ويدعو إلى بعيد.
والتفت الحاكم إلى المغنية وهو يقول: من علمك هذا الصوت يا ابنتي؟ فقد ملأت به أسماعنا وقلوبنا وعقولنا منذ الليلة!
قالت الفتاة في تحفظ شديد، مصدره حياء شديد: لقد أخذته عن أمي يا مولاي، وأخذته أمي عن جدتي، وهو صوت شائع متوارث في مدينتنا منذ الزمان القديم، يتغنى به الفتيات الحسان إذا خرجن مع الصبح يستقبلن الفجر المضيء الرطب بوجوههن المشرقة الوضاءة، ويملأن جرارهن من ماء النيل. يتغنين به فرحات مرحات، كأنما يترجمن به عن فرح الطبيعة المستيقظة، ومرح الصبح النشيط. ومع ذلك فما سمعت أمي تتغنى هذا الصوت مرة إلا رأيت على وجهها كآبة وشحوبا، وأحسست في غنائها حزنا تنفطر له القلوب. وقد سألتها عن ذلك فأعرضت عني مرات، ولكنها كانت تعاود الغناء فتعاودها الكآبة التي تغشي وجهها، ويعاودها الحزن الذي يشيع في صوتها ويفيض على الجو من حولها حسرة وألما، فأعود أنا إلى السؤال وألح فيه. فلما طال عليها ذلك مني أنبأتني نبأ هذا الصوت، وعرفت منها أن جدتي لم تكن تتغناه إلا ثار في نفسها حزن عميق وتحدر من عينيها دمع غزير.
وما أكثر ما تخرج الأشياء عن أطوارها وتجري الأمور في أجيال المحدثين على غير ما كانت تجري عليه في أجيال القدماء! كان هذا الصوت صورة الحسرة واللوعة، وترجمان الجزع واليأس عند جداتنا في الزمان الأول، فإذا هو الآن عند أترابنا من أهل هذا الجيل صورة الفرح والمرح، وترجمان اللذة والغبطة والسرور.
ولقد تغنيت هذا الصوت في كثير من المجالس، وتردد به صوتي في كثير من قصور الحكام والسادة، فما رأيت أحدا سمعه، ثم ذاقه، ثم فهمه على وجهه، ثم شاركني فيما أجد من عاطفة وما يملأ نفسي أثناء غنائه من شعور، قبل أن أراكم الليلة، وقبل أن أسمع سؤالكم عنه وقدركم له وحكمكم عليه.
ثم أمسكت الفتاة عن الحديث، أو انقطع صوتها انقطاعا، حبسته في حلقها عبرة أمسكتها الفتاة إمساكا، ولكنها تفجرت من عينيها دموعا متحدرة على خديها الجميلين.
هنالك أسرع «أندروكليس» في شيء من الدعابة الخفيفة إلى الفتاة فقبل بين عينيها، ومسح هذا الدمع المتحدر وهو يقول: مهلا يا ابنتي! ما ينبغي لهاتين العينين أن تبكيا، ولهذا الوجه الجميل أن يغسله الدمع، ونحن بعد لم نجتمع للبكاء والحزن، وإنما اجتمعنا للغناء واللهو. فانتقلي بنا من هذا الصوت الحزين المحزن إلى لون آخر من ألوان الغناء. خذي في بعض هذه الأغاني التي تملأ جو الساحل بهجة وسرورا، والتي يتنقل بها أولئك الفتيات على مجالس السمار وأصحاب العبث مع ما يتنقلن به من طاقات الورد والياسمين.
قال «كلكراتيس» في صوت هادئ كأنما يملكه صاحبه في شيء من العنف والشدة على نفسه: دعنا من دعابتك ومجونك، وأرحنا من فرحك ومرحك، فما أهون الدعابة والمجون، وما أيسر الفرح والمرح! وإننا لفي ذلك منذ نصبح إلى أن نمسي، وإننا لفي ذلك منذ نمسي إلى أن يتقدم بنا الليل. يا عجبا للذين لا يسأمون اللذة، ولا يضيقون باللهو، ولا يحتاجون بين حين وحين إلى شيء من الحزن يرد نفوسهم إلى بعض أطوار الجد ويصور لهم الحياة على أنها شيء غير هذا الباطل الذي لا ينقضي، والعبث الذي لا يزول. إن لصوتك هذا يا ابنتي لنبأ، فحدثينا به وقصيه علينا! فقد شاركناك في ذوقه وفهمه، فما أجدرنا أن نشاركك في العلم بما له من تاريخ!
قالت الفتاة مترددة متحفظة وقد نظرت إلى حاكم المدينة نظر المستأذنة المستأمنة، فأشار إليها برأسه ويده أن امضي فليس عليك بأس.
Unknown page