أنيس ولم يسمر بمكة سامر
قال أخوه الحارث بن هشام:
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا
صروف الليالي والجدود العواثر
قال عمرو بن هشام: «لا والله ما أزالت نسطاس صروف الليالي ولا الجدود العواثر، وإنما أزالته أمور دبرت بليل وكيد يكاد لقريش.» قال القوم: «ويحك أبا الحكم! ماذا تقول؟» قال عمرو: «وأقسم لولا جبن قريش وحرصها على مالها وتجارتها لما قصرت في طلب نسطاس حتى أدركه وحتى أرده عليكم وحتى أذيقه من العذاب ألوانا، ويومئذ تعلمون ما يكاد لكم من الكيد، ويومئذ تعلمون أنكم تسرفون على أنفسكم حين تضيفون هؤلاء الغرباء، وتبسطون لهم وجوهكم، وتغدقون عليهم كريم أموالكم ثمنا لما يفتنونكم به من أقداح الخمر وغناء المغنيات. لا والله ما هؤلاء الغرباء إلا عيون عليكم لقيصر وكسرى؛ ولكنكم أصحاب تجارة تجوبون الأرض ولكم في كل بلد قافلة وأموال، فأنتم تخشون على أموالكم وأنفسكم. وأنتم تبيعون أمنكم وعافيتكم بهذا الربح الذي تتهالكون عليه. ولو قد عشتم كما يعيش العرب من حولكم لكرمتم على أنفسكم وعلى الناس أكثر مما أنتم.»
قال عتبة بن ربيعة: «ما أكثر ما تنعي على قومك منذ اليوم يا عمرو! فدعني أقل لك الآن مثل ما قلته لك في المسجد، فابدأ بنفسك فعش كما يعيش العرب من حولنا.»
قال عمرو بن هشام وفي صوته سخرية حزينة:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
ستستبينون الرشد غدا أو بعد غد. ثم ضرب إحدى يديه بالأخرى وصاح: الخمر يا غلام. وأقبل على شرابه عاكفا عليه مسرفا فيه حتى عربد على أصحابه من ليلته تلك، وعاد إلى أهله سكران لا يكاد يبين. ثم لم تره قريش بعد ذلك إلا مغيظا محنقا، يسخر من كل شيء إن هدأ، ويغضب من كل شيء إن جمحت به نفسه، وما أكثر ما كانت تجمح به نفسه! وما أكثر ما كان يؤذي أصحابه وأترابه في غدوه ورواحه! حتى لقد كانوا يتجنبونه ويتكلفون النأي عنه. ولولا مكانه من مخزوم وموضعه من عمه الوليد بن المغيرة لأصبح خليعا في قريش كما تمنى غير مرة أن يكون.
Unknown page