يتبعني الحارث غير وان
جذلان لم يحفل بما يعاني
لاهم فلتصدق لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان
كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضا يملأ الفضاء من حوله، نقيا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقرا لا يضطرب فيه إلا هذا الصوت العريض النقي، وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية، ثم تهوي به محتفرة، ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه، ويسمع صوته ويرد عليه رجع هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت:
لاهم فلتصدق لنا الأماني!
حتى إذا امتلأ المكتل حمله بذراعيه الضعيفتين، وأسرع في شيء من الجهد إلى خارج المسجد، فألقى ما فيه ثم عاد، وأبوه يرفع المعول في الجو ويهبط به إلى الأرض، ويملأ فضاء البيت بصوته العريض، والعرق يتصبب على جبينه، ولكنه لا يحس جهدا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداء من النور نقيا، ولكنه ثقيل همد له كل شيء، وأوى له الناس إلى بيوتهم يقيلون، وانقطعت له الحركة، وخفتت الأصوات، إلا هذه الجنادب التي يروقها وهج الشمس، ويسكرها لهب القيظ، فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء. وقد أخذ الغلام يحس لذع الجوع وحر الظمأ، ولكنه لا يقول شيئا، بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأت. وهما في ذلك، إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء، يحمل إلى الرجل والغلام شيئا من طعام وشراب، حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي، هذا غذاؤك وغذاء الصبي، قد أعدته سيدتي العامرية، هيأته بيدها، وهي تعزم عليك لتصيبن منه، ولترفقن بنفسك ولترفهن على هذا الصبي الحدث! لقد قال الناس جميعا، وهدأ كل شيء لهذا الوهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود، وأنت فيما أنت فيه من جد يضني، وجهد يهلك، لا تقيل ولا تستريح، ولا تريح هذا الطفل الذي لم يتعود الجهد والعناء، بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مشيح، إنما هو ماض في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعا في الجو وهبوطا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السلة وما فيها، وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه. وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدده ويحصيه ويتمثله: إن فيها لشواء غريضا وإن فيها للبنا يمازجه عسل هذيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام، وإن فيها لماء عذبا. ومن يدري! لعل سمراء قد نقعت فيه شيئا من زبيب الطائف؛ فإنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماض في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة، وقد امتلأ المكتل، فيهم الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه. ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك، ولكن عبد المطلب ينهره نهرا عنيفا: «إليك يا غلام! فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وابنه.»
ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد انقطع، وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودا وهبوطا، وإنما هو مطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر، ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه، ثم يدير عينيه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئا أو أن يلتمس أحدا، ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضا والإشفاق: هلم يا حارث انظر! أترى ماء؟ - كلا يا أبت! وإنما أرى ذهبا وسلاحا. - ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج. إن وراء هذا الأمر لسرا! ولكن هلم يا بني، فما أرى إلا أن الظمأ والجوع قد أجهداك.
وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهلين واجمين، ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعما أو حسا له ذوقا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة، وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة فيستخرج ما فيها، فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل، وإذا سيوف ودروع فيكبر، ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد، كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ، فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا، ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد، وإذا شباب قريش وشيوخها يقبلون سراعا مزدحمين، يسرع ببعضهم حب الاستطلاع، ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة، ويسرع بفريق منهم باعث ديني غامض، فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة، وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعا، واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزا، وعرفوا حقيقة هذا الكنز، وقوموا ذهبه الخالص، وصناعته البارعة، وما فيه من سيوف ودروع، أداروا أمرهم بينهم: لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة: إنما هو لقريش! فقد وجد في المسجد، وكل ما وجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف خاصة؛ فهم الذين احتفروا وهم الذين ظفروا، وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة.
وتنازع القوم وطال النزاع، واختصم القوم واشتدت الخصومة، وعبد المطلب صامت مطرق، لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز، وأنت أحقنا بأن ترى رأيك فيه؟! قال عبد المطلب في هدوء وأناة: ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة؛ فما حفرت ولا ظفرت إلا بأمر خفي، وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف، وأنكروا جميعا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئا، وما كان لهم أن يقولوا شيئا. ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذا إلى الكعبة. وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح. وها هو ذا يضرب بقداحه، ثم يضرب، ثم يضرب بين قريش والكعبة، فتخرج القداح للكعبة ثلاثا، فيصيح عبد المطلب: لقد ظهر قضاء الله، فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش؛ تفرقوا يا بني عبد مناف! فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب! أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة. وأما هذه السيوف فستعلق عليها. وأما هذه الدروع فستدخر في خزائنها. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلم يا حارث، اتبعني لنمضي فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غل وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر انتحوا ناحية، وأقاموا يرددون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد المطلب، ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا بالكعبة قد جردت مما علق عليها من ذهب وسلاح.
Unknown page