ثم نظر إلى مسعود وقال له: «امض يا بني إلى غرفة الأضياف إذا أردت طعاما، ثم اذهب إلى رقادك مطمئنا فلا يمضي على هذه الفتاة قليل حتى تصحو وتتحسن صحتها بقوة الله وبركة صاحب هذا الدير.»
فقال مسعود: «إني لا أشعر بالجوع ولا أنا في حاجة إلى الرقاد، وأوثر أن أبقى هنا لأرى ما يصيبها.»
قال: «لا خير في بقائك، ولا بأس عليها لأننا ما مسحنا جريحا أو مريضا بهذا الماء المقدس إلا شفاه الله. اذهب إلى فراشك وإذا شئت البقاء خارج الحجرة فلا بأس.»
فاستحيى مسعود من تكرار الاعتذار، فخرج وجلس على حصير وراء الغرفة.
أما الرئيس فخلا إلى الراهب وأخذا يتساران ويتخاطبان بلسان نصارى العراق الكلداني ويشيران إلى أسماء. وكان مسعود لقلقه لا يغفل عن حركة تحدث فقلق لهذه المسارة، وأصاخ بسمعه فلم يفهم من كلامهما شيئا، فجعل يرصد ما يبدو منهما فإذا بالرئيس قد أمر الراهب فخرج ثم عاد وبيده كتاب ضخم ففتحه فقرأ وتمتم ثم ركع الاثنان، فعلم أنهما يصليان فصبر حتى فرغا من الصلاة وقاما، فرأى الرئيس دنا من أسماء وهو يمسح الماء عن جبينها ويتأملها، ثم جلس إلى جانبها ولبث ينتظر ما يبدو منها. وبعد قليل تحركت كأنها تتقلب من جنب إلى الآخر، وما كادت تفعل حتى صاحت من الألم، فسر مسعود لصياحها لعلمه أنه يدل على اليقظة، فدخل الغرفة فرأى أسماء قد فتحت عينيها ونظرت إلى ما حولها، فوقف بصرها عند وجه الرئيس وحاولت التفرس فيه ولكن الضعف غلب عليها فذبلت أجفانها وأطبقت عينيها وعادت إلى الرقاد. فأومأ الرئيس إلى مسعود بيده وابتسم كأنه يقول: «أبشر! إنها قد أفاقت»، ففرح مسعود وظهر البشر عليه وتوسل إلى الله أن يتم شفاءها. وقضت أسماء ليلتها راقدة وتنفسها هادئ. •••
وفي الصباح جاء مسعود إلى غرفتها فرأى الراهب الشيخ إلى جانبها يهتم بالكشف عن الجرح وتبديل رباطه فخرج، حتى إذا فرغ الراهب من عمله نادى مسعودا فدخل ونظر إلى وجه أسماء فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها فحمد الله ودنا منها، فلما رأته قالت له: «آه من النذل الذي عجز عن لقائي وجها لوجه فأراد قتلي غدرا!» وحرقت أسنانها.
فقال مسعود: «لا بأس عليك يا سيدتي، ولا تعبئي بما فعله ذلك الغادر. على أننا لا ندري من هو.»
قالت: «لا ريب عندي في أنه ذلك الجبان الذي حاول اختطافي، فليس في هذه الديار من يعرفني سواه، قبحه الله!»
قال: «هل أذهب إلى مولاي محمد لأروي له ما وقع؟»
فقطعت عليه الكلام قائلة: «لا، لا تفعل، فإن أخشى ما أخشاه أن يسرع إلي إذا علم بما حدث ويهمل مهمته التي أنفذه فيها أمير المؤمنين وهي تمس المسلمين عامة، فلا يليق أن نشتغل عنها بحياة فرد من أفرادهم، فضلا عن أني بحمد الله في عافية، ولا إخالني إلا راكبة جملا أو جوادا إلى معسكر أم المؤمنين عما قليل لأؤدي المهمة التي ندبت نفسي لها.» ثم صعدت بصرها وأشارت بيدها كأنها تقول: «فقدر لي الله أن أستأخر هنا إلى حين.» وشفعت إشارتها بدمعتين كبيرتين انحدرتا على خديها، ثم التفتت إلى أيقونة معلقة أمامها شغلت نفسها بالنظر إليها.
Unknown page